عبث الأقدار
عبث الأقدار
عبث الأقدار
عبث الأقدار
تأليف
نجيب محفوظ
عبث الأقدار
1
جلس صاحب العظمة الإلهية والهيبة الربانية خوفو بن خنوم على أريكته الذهبية، بشرفة مخدعه التي تطل على حديقة قصره المترامية الغناء - جنة منف الخالدة ذات الأسوار البيضاء - بين رهط من أبنائه وخاصته المقربين، وكانت عباءته الحريرية تلمع حاشيتها الذهبية تحت أشعة الشمس التي بدأت برحلتها نحو الغرب، وكانت جلسته هادئة وديعة، فكان يسلم ظهره إلى وسادة محشوة بريش النعام، ويتكئ بمرفقه على نمرقة ذات غطاء من الحرير المنمنم بالذهب، وقد تجلت آي عظمته في جبهته العالية ونظرته الرفيعة، وتبدت قوته الخارقة في صدره الواسع وساعديه المفتولين وأنفه الأشم، فأحاطت به مهابة من سن الأربعين، وهالة من مجد الفراعنة.
وكان يقلب عينيه الثاقبتين بين أبنائه وصحابته، ويرسل بناظريه إلى الأمام حيث يغيب الأفق خلف رءوس النخيل والأشجار، أو ينحرف بها ذات اليمين فيشهد عن بعد تلك الهضبة الخالدة التي يرقب مشرقها أبو الهول العظيم، ويسكن جوفها رفات الآباء والأجداد، ويملأ سطحها مئات الألوف من الخلق يزيلون كثبانها، ويشقون صخورها، ويحفرون الأساس الهائل لهرم فرعون، الذي أراد أن يجعله آية للناس على كر الأيام وتوالي الأزمان.
Bog aan la aqoon
وكان فرعون يحب تلك الجلسات العائلية التي تعفيه من أثقال الرسميات، وترفع عن كاهله أعباء التقاليد، فيغدو فيها أبا رفيقا وصديقا ودودا، ويخلص وصحبه إلى النجوى والحديث، ويطرقون تافه المواضيع وهامها، فتلوك ألسنتهم الفكاهات، وتبرم الأمور وتقرر المصائر ... وفي ذلك اليوم المدرج في طوايا الزمان - الذي أرادت الآلهة أن تجعله مبدأ لقصتنا - بدأ الحديث بالهرم الذي شاء خوفو أن يقيمه مثوى لخلده ومستقرا لجثمانه، وكان ميرابو، المعمار النابغة الذي تسنمت به مصر ذروة المجد الفني، يتولى شرح عمله المجيد لمولاه الملك، فأسهب في تبيان دلائل العظمة المرجوة لذياك العمل الخالد الذي يشرف على بنائه وابتكار خططه. ومضى الملك يستمع إلى صديقه الفنان، ثم ذكر السنوات العشر التي تقضت على البدء في العمل فلم يخف تململه، وقال للفنان: أي ميرابو العزيز، إني أومن بنبوغك ، ولكن حتام تستنظرني؟ إنك لا تفتأ تحدثني عن عظمة الهرم الذي لم أر من بنيانه مدرجا واحدا، وقد مضت على بدء العمل عشرة أعوام طوال، حشدت لك فيها الملايين من الرجال الأشداء، وعبأت لك خير الكفايات الفنية من شعبي العظيم، ومع ذلك فلا أرى لذاك الهرم الموعود أثرا على ظهر الأرض، وكأني بهاتيك المصاطب التي تحفظ أجساد أصحابها، ولم تكلفهم عشر معشار ما نكلف أنفسنا، تسخر من جهدنا الضائع وعملنا العابث.
فبدا الجزع على وجه ميرابو الأسمر الأقتم، وارتسمت تجاعيد الارتباك على جبهته العريضة، وقال بصوته الرفيع الناعم: مولاي! حاش أن أصرف الوقت عبثا أو أضيع الجهد لعبا، فإني لمقدر التبعة التي تحملتها حين أخذت على نفسي موثقا أن أشيد لفرعون مثوى خلده، وأن أجعله آية للناس تنسيهم ما تقدم من آيات مصر وعجائبها. ونحن لم نضع الأعوام العشرة عبثا، بل صنعنا فيها ما تعجز عن صنعه الجبابرة والشياطين، فشققنا في الصخر الجلمود مجرى ماء يصل ما بين النيل وهضبة الهرم، وقطعنا من الجبل صخورا شاهقة كالتلال، وسويناها فكانت في أيدينا أطوع من العجين ... ونقلناها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فانظر يا مولاي إلى السفن كيف تمخر النهر حاملة أكوام الصخور كأنها جبال عالية تسيرها تعاويذ ساحر جبار ... وانظر إلى العمال المنهمكين كيف يكبون على أرض الهضبة كأن ظاهرها انشق عمن يحتويهم منذ آلاف السنين!
فابتسم الملك وقال متهكما: يا عجبا ... أمرناك أن تشيد لنا هرما فشققت نهرا! فهل تظن مولاك ملكا على الأسماك؟
وضحك الملك وابتسم الصحابة، إلا الأمير رعخعوف ولي العهد، فقد جد في الأمر، وكان على حداثة سنه جبارا صارما شديد القسوة، ورث عن أبيه جبروته دون رقته، فقال يسأل الفنان: الحق أني أعجب لتلك السنين التي ذهبت في التمهيد والتحضير، وقد علمت أن هرم المقدسة روحه الملك سنفرو بلغ كماله في أقل من هذا العهد الطويل ...
فوضع ميرابو يده على جبهته وقال بأدب جم: ها هنا يا صاحب السمو الملكي يسكن عقل عجيب دائب على الثورة، نزاع إلى الكمال، خلاق للمثل العليا، وقد أبدع لي بعد جهد جهيد خيالا جبارا، أنا باذل روحي لتجسيمه وتحقيقه، فصبرا يا صاحب الجلالة ... وصبرا يا صاحب السمو!
وساد الصمت لحظة لما شاع في الجو من نغم موسيقى الحرس الفرعوني، التي كانت تتقدم فريقا من الحرس إلى أماكن حراستهم، وتعود بإخوانهم إلى الثكنات، وكان فرعون يفكر في كلام ميرابو، فلما خفتت أصوات الموسيقى نظر إلى وزيره خوميني كاهن المعبود بتاح رب منف، وسأله والابتسامة الجليلة لا تفارق شفتيه: هل الصبر من شيم الملوك يا خوميني؟
فتخلل الرجل لحيته بأنامله وقال بصوته الهادئ: مولاي، يقول فيلسوفنا الخالد قاقمنا وزير الملك حوني: إن الصبر ملاذ الإنسان من القنوط، ودرعه ضد الشدائد.
فضحك فرعون وسأله: هذا ما يقول قاقمنا وزير الملك حوني ... فما عسى أن يقول خوميني وزير الملك خوفو؟
فبدا التفكير على وجه الوزير الخطير وتأهب للكلام، ولكن الأمير رعخعوف لم يمهله حتى يتكلم، وقال بحماس أمير في العشرين من عمره: مولاي، إن الصبر فضيلة، كما قال الفيلسوف قاقمنا، ولكنه فضيلة لا تليق بالملوك؛ لأن الصبر تحمل للأرزاء وإذعان للشدائد، وعظمة الملوك في التغلب لا في التصبر، وقد عوضتهم الآلهة عن الصبر فضيلة القوة.
فاعتدل فرعون في جلسته، ولمعت عيناه لمعانا خاطفا، لولا الابتسامة المرسومة على شفتيه لكان قضاء مبرما، ومضى يتذكر ماضي حياته على ضوء هذه الفضيلة مليا، ثم قال بصوت حماسي كر به من الأربعين إلى ذروة العشرين: ما أجمل قولك يا بني، وما أسعدني بك! حقا أن القوة فضيلة الملوك بل فضيلة الناس كافة لو يعلمون ... لقد كنت أمير ولاية صغيرة ثم خلقت ملكا من ملوك مصر، وما سما بي من الإمارة إلى العرش إلا القوة، وكان الطامعون والمتمردون والحاقدون لا يفتئون يتربصون بي الدوائر، ويتحفزون للقضاء علي، فما أشل ألسنتهم وقطع أيديهم وأذهب ريحهم إلا القوة. وهم النوبيون مرة بشق عصا الطاعة، وزين لهم الجهل التمرد والعصيان، فهل كسر شوكتهم وألزمهم الطاعة إلا القوة؟ بل ما الذي رفعني إلى مرتبة القداسة فجعل كلمتي قانونا نافذا ورأيي حكمة إلهية وطاعتي عبادة؟ أليست هي القوة؟
Bog aan la aqoon
هنا بادر الفنان ميرابو يقول كأنه يكمل حديث الملك: والألوهية يا مولاي؟
فهز فرعون رأسه استهانة وسأله: وما الألوهية يا ميرابو؟ إن هي إلا قوة.
فقال المعمار بثقة وطمأنينة: ورحمة ومحبة يا مولاي.
فقال الملك وهو يشير بسبابته إلى الفنان: هكذا أنتم أيها الفنانون! تروضون الصخور العاتيات، وقلوبكم أندى من نسيم الصباح. وما أحب أن أجادلك، ولكني ألقي عليك سؤالا ستجد في الجواب عليه فصل الخطاب: إنك يا ميرابو تخالط - منذ عشرة أعوام - جيوش هؤلاء العمال الأشداء، وإنك لذلك حقيق بأن تطلع على خبايا ضلوعهم، وما تختلج به نفوسهم في السر والنجوى ... فما الذي تظن أنه يلزمهم طاعتي ويصبرهم على أهوال العمل؟ قل الحق صراحة يا ميرابو ...
فصمت المعمار ساعة يعمل فكره، ويدعو الذكريات. وقد اتجهت إليه الأنظار في اهتمام شديد، ثم قال بتؤدة بلهجته الطبيعية المفعمة حماسة ويقينا: العمال يا مولاي طائفتان؛ طائفة الأسرى والمستوطنين، وهؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون، ويروحون ويغدون بلا شعور سام كما يدور الثور حول الساقية، ولولا قسوة العصا ويقظة الجند ما وقفنا لهم على أثر.
أما طائفة المصريين، وغالبيتهم من مصر العليا، فهم أناس ذوو عزة وكبرياء وجلد وإيمان، تحملهم للعذاب عجيب، وصبرهم على الشدائد صارم، وهم يعلمون ماذا يفعلون، وتؤمن قلوبهم بأن العمل الشاق الذي يهبونه حياتهم واجب ديني جليل وزلفى للرب المعبود، وطاعة لعنوان مجدهم الجالس على العرش؛ فمنحتهم عبادة، وعذابهم لذة، وتضحياتهم الجبارة فرض لإرادة الإنسان السامي على الزمان الخالد. تراهم يا مولاي في وهج الظهيرة وتحت نيران الشمس المحرقة يضربون الصخر بسواعد كالصواعق وعزائم كالأقدار، وهم ينشدون الأغاني ويترنمون بالأشعار.
فانبسطت أسارير السامعين وسرت في دمائهم نشوة الفرح والفخار، وتبدى الرضا على قسمات فرعون البارزة القوية، وقام عن أريكته - وقد بعث قيامه الجالسين قياما - وسار في الشرفة الواسعة على مهل واتزان حتى بلغ حافتها الجنوبية، وألقى النظر بعيدا إلى تلك الهضبة الخالدة التي ترسم على رقعتها المقدسة خطوط العمال الطويلة، وتأمل منظرها الجليل ومشهدهم الرائع. أي مجد وأي جلال! أي عذاب وأي جهاد في سبيله هو! هل ينبغي أن تشقى ملايين النفوس الشريفة من أجل مجده! هل ينبغي أن يولي ذاك الشعب النبيل وجهه قبلة واحدة هي سعادته هو؟
كان ذلك الوسواس هو القلق الوحيد الذي يضطرب أحيانا في ذلك الصدر المليء بالقوة والإيمان، مثله كمثل قطعة من السحاب التائه في سماء زرقاء صافية الزرقة، وكان يعذبه - إذا اضطرب - فيضيق به صدره وينغص عليه صفوه وسعادته، وقد اشتد به العذاب فولى الهضبة ظهره، وطالع صحابته بوجه غاضب دهشوا له، وطرح عليهم هذا السؤال: من الذي ينبغي أن تبذل حياته لصاحبه؟ الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟!
فوجموا جميعا واستولى عليهم الارتباك، وكان القائد أربو أربطهم جأشا، فقال بصوته القوي النبرات: إننا جميعا - شعبا وقادة وكهنة - فداء لفرعون!
وقال الأمير حرسادف أحد أبناء الملك بحماس شديد: والأمراء أيضا.
Bog aan la aqoon
فابتسم الملك في غموض، ولبث القلق واضحا على وجهه الجليل، فقال وزيره خوميني: مولاي صاحب الجلالة الربانية! لماذا تفرقون بين ذاتكم العالية وبين شعب مصر، وأنتم منه كالرأس من القلب، والروح من الجسد؟ إنكم يا مولاي عنوان مجده، وآي فخاره، وحصن عزته، ووحي قوته، ولئن وهبكم حياته فإنما يهبها لمجده وعزته وسعادته، وما في هذه المحبة ذل أو عبودية، إن هي إلا وفاء جميل وحب عتيد ووطنية سامية.
فابتسم الملك ارتياحا، وعاد بخطى واسعة إلى الأريكة الذهبية، وجلس فجلس القوم، ولم يكن الأمير رعخعوف ولي العهد بمرتاح إلى وساوس والده فقال له: لماذا تكدرون صفوكم يا مولاي بأمثال هذه الوساوس؟ لقد وليت الحكم بمشيئة الآلهة لا بإرادة إنسان، ولك أن تحكم الناس كيف تشاء لا تسأل عما تفعل وهم يسألون!
فقال خوفو: أيها الأمير، إن أباك إذا تفاخرت الملوك يقول: «أنا فرعون مصر.»
ثم تنهد بصوت مسموع، وقال وكأنه يحدث نفسه: إن كلام رعخعوف حري بأن يوجه إلى حاكم ضعيف، لا إلى خوفو الجبار ... خوفو فرعون مصر ... وما مصر إلا عمل عظيم لا تقام لبناته إلا على تضحيات الأفراد، وما قيمة حياة الفرد؟ إنها لا تساوي دمعة جافة لمن ينظر إلى المستقبل البعيد والعمل المجيد ... لهذا أقسو دون تردد، وأضرب بيد من حديد، وأسوق مئات الألوف إلى الشدائد لا لبلادة طبع أو تحكم أثرة، وكأن عيني تنفذان خلل سجف الأفق فتطلعان على مجد هذا الوطن المنتظر. لقد اتهمتني الملكة مرة بالقسوة والظلم، كلا، ما خوفو إلا حكيم بعيد النظر، يرتدي جلد نمر مفترس، ويخفق في صدره قلب ملاك كريم.
وساد صمت طويل. وكان الصحابة يمنون أنفسهم بسمر طريف ينسيهم أثقال تبعاتهم الجسام، وكانوا جميعا يرجون أن يقترح الملك عليهم رياضة جميلة أو يدعوهم إلى مجلس شراب وغناء، بعد أن شبعوا من أحاديث الأعمال والمهام، ولكن الملك كان في تلك الأيام يشكو من ملل أوقات الفراغ على قصرها وندرتها، فلما علم أنه قد آن له أن يستريح، وأن يلهو ران على قلبه السأم، ونظر إلى صحبه في حيرة، وقد قال له خوميني: هل أملأ لمولاي كأسا من الشراب؟
فهز فرعون رأسه وقال: شربت اليوم وشربت بالأمس ...
فقال أربو: هل ندعو العازفات يا مولاي؟
فقال بملل: إني أستمع إلى موسيقاهن صباح مساء.
فقال ميرابو: ما رأي مولاي في الخروج إلى الصيد؟
فقال الملك بنفس اللهجة: شبعت من صيد البر والبحر. - إذن فهل من سير بين الأشجار والأزهار؟
Bog aan la aqoon
فقال: وهل في الوادي مشهد جميل لم أره؟
وساءت شكوى الملك خلصاءه وتكدرت نفوسهم، إلا الأمير هورداديف فإنه كان يدخر لوالده مفاجأة سارة لا عهد له بها، فقال: أبي الملك، إني أستطيع أن أقدم بين يديك لو تشاء ساحرا عجيبا يعلم الغيب، ويميت ويحيي، ويقول للشيء كن، فيكون.
فصمت فرعون ولم يسارع هذه المرة إلى الرفض والتململ، ونظر إلى ابنه باهتمام. وكان الملك يسمع كثيرا عن أخبار السحرة ومعجزاتهم، ويتسلى بما يروى عن نوادرهم، فسره أن يوعد برؤية واحد منهم محضرا بين يديه، وسأل ابنه: ومن هو هذا الساحر أيها الأمير هورداديف؟
فقال الأمير : هو الساحر ديدي يا مولاي، وقد بلغ من العمر مائة عام وعشرة، ولا يزال محتفظا بقوة الشباب وفتوة الصبا، وله قدرة عجيبة يتسلط بها على الإنسان والحيوان، وبصيرة نافذة تهتك حجب الغيب.
فازداد اهتمام الملك وسرى عنه الضيق والملل وقال: هل تستطيع أن تأتي به الآن؟
فقال الأمير بفرح: أمهلني دقائق يا مولاي.
ثم قام واقفا وحيا والده بانحناءة طويلة، وذهب ليحضر الساحر العجيب ...
2
وبعد حين قليل رجع الأمير هورداديف يسير بين يدي رجل طويل القامة عريض المنكبين، حاد البصر نافذ النظرات، يكلل رأسه شعر أبيض هش، وتغطي صدره لحية كثة، وقد تلفح بعباءة فضفاضة وتوكأ على عصا طويلة غليظة، وانحنى الأمير وقال: مولاي! أقدم بين يديك عبدك القانت الساحر ديدي.
فسجد الساحر بين يدي الملك، وقبل الأرض بين قدميه، ثم قال بصوت ذي نبرات مؤثرة خفقت لوقعه القلوب: مولاي ابن خنوم، نور الشمس المشرقة ورب العالمين، دام له المجد وحلت به السعادة!
Bog aan la aqoon
فرعاه الملك بالعطف، وأجلسه على كرسي قريب منه، وقال له: كيف لم أرك من قبل، وقد سبقتني إلى نور هذه الدنيا بسبعين عاما؟
فأجابه الساحر المعمر بامتنان قائلا: وهبك الرب الحياة والصحة والقوة، إن مثلي لا يحظى بالمثول بين يديك إلا إذا دعوته.
فابتسم الملك، ثم نظر إليه باهتمام وسأله: أحقا أن لك معجزات يا ديدي؟ أحقا أنك تستطيع أن تذعن لإرادتك الإنسان والحيوان، وأن تجلو عن وجه الزمان غشاوة الغيب؟
فأحنى الرجل رأسه حتى انثنت لحيته على صدره، وقال: هذا حق وصدق يا مولاي.
فقال الملك: أريد أن أشهد بعض هذه المعجزات يا ديدي.
وجاءت الساعة الرهيبة، فاتسعت العيون وبدا الاهتمام على الوجوه، ولم يبادر ديدي إلى عمله، ولكنه جمد مليا كأنما تحول إلى تمثال، ثم ابتسم عن أنياب حادة وألقى نظرة سريعة على الوجوه.
وقال للملك: عن يميني يخفق قلب لا يؤمن بي.
فدهش الصحابة وتبادلوا نظرات الحيرة، وسر الملك لفراسة الساحر وسأل رجاله قائلا: هل بينكم من ينكر على ديدي معجزاته؟
وهز القائد أربو منكبيه استهانة، وتقدم بين يدي الملك وقال: مولاي، إني لا أومن بألاعيب السحر، وأرى أنها نوع من المهارة يحذقه المتفرغون له.
فقال الملك: وما جدوى الكلام وأمامنا الرجل؟ هاتوا له أسدا مفترسا نطلقه عليه، ولنر كيف يروضه بسحره ويذعنه لإرادته.
Bog aan la aqoon
ولكن القائد لم يقنع وقال لمولاه: عفوا يا مولاي لا شأن لي بالأسود، وها أنا ذا واقف بين يديه فليجرب في سحره وفنه، وله إن شاء - وشاء أن يجعلني أومن به - أن يخضعني لإرادته ويتسلط على قوتي ...
وساد صمت ثقيل، واعتلى الوجوم وجوها، وتبدت الغبطة وحب الاستطلاع على وجوه أخرى. ونظر كلا الفريقين إلى الساحر؛ ليروا ما فعل به تحدي القائد العنيد، فألفوه هادئا ساكنا لا تفارق ابتسامة الثقة شفتيه الرقيقتين الحادتين. وضحك الملك ضحكة عالية وقال لأربو بلهجة لم تخل من السخرية: أهانت عليك نفسك يا أربو؟
فقال القائد بثبات عجيب: إن نفسي يا مولاي عزيزة علي عزة عقلي الذي يهزأ بألاعيب السحر.
وتجلى الغضب على وجه الأمير هورداديف، فوجه كلامه للقائد قائلا بلهجة حادة: فليكن ما تريد. وليتفضل مولاي الملك ويأذن لديدي بالرد على هذا التحدي.
ونظر الملك لابنه الغاضب، ثم إلى الساحر وقال: هيا أرنا كيف يقاوم سحرك جبروت صديقنا أربو.
ولحظ القائد أربو الساحر بعين متعالية، وأراد أن يولي عنه وجهه باحتقار، ولكنه أحس بقوة تجذبه من عينيه إلى الرجل، ولفحه الغضب وشد بقوة على رقبته، وحاول أن ينتزع عينيه من القوة الهائلة التي تجذبهما فآب بالخيبة والعجز، وثبتت عيناه على عيني ديدي الجاحظتين البراقتين اللتين كانتا تلتمعان وتلتهبان كبلورتين تعكسان أشعة الشمس. فكسف نورهما عيني أربو فأظلمتا وغاب عنهما نور الدنيا، وخارت قوى الرجل الجبار فألقى السلم والإذعان.
ولما اطمأن ديدي إلى فعل قوته الخارقة، قام واقفا وأشار إلى مقعده وصاح بالقائد بلهجة آمرة شديدة: «اجلس» ... وصدع القائد بالأمر في خنوع فسار يترنح كالثمل، وارتمى على الكرسي في استسلام المشفي على الهلاك. فصدرت من أفواه الناظرين آهة دهشة، وابتسم الأمير هورداديف ابتسامة ارتياح وتشف، أما ديدي فقد نظر إلى فرعون باحترام وقال بأدب جم: مولاي أستطيع أن آمره بما أشاء ولن يخالف لي أمرا، ولكنني أشفق من أن أمثل بقائد من قواد الوطن العظام وحواري من حواري فرعون، فهل يقنع مولاي بما رأى؟
وهز فرعون رأسه دلالة الموافقة.
فبادر الساحر إلى القائد المذهول وجرى على جبهته بأصابعه الخفيفة، وقرأ بصوت خافت تعويذة غريبة، فأخذ الرجل يفيق رويدا رويدا، ومضت الحياة تدب في حواسه حتى استعاد وعيه، ولبث زمنا كالحائر ينظر فيما حوله، وكأنه لا يدرك مما يرى شيئا، ثم استقرت عيناه على وجه ديدي فتذكر والتهب جبينه وخداه بالاحمرار، وتحاشى النظر إلى الرجل الرهيب، وقام إلى مقعده يرسم على أرض الشرفة خطى الارتباك والقهر المتعثرة.
وابتسم الملك إليه وقال برقة: ما صاحبك بكاذب!
Bog aan la aqoon
فأحنى القائد رأسه وقال بصوت خافت: جلت قدرة الآلهة، وتعالت معجزاتها في السموات والأرض!
ثم قال الملك للساحر: أحسنت أيها الرجل القادر، ولكن هل لك على الغيب سلطان كالذي لك على الخلق؟
فقال الرجل بثقة واطمئنان: نعم يا مولاي.
وفكر الملك مليا، وساءل نفسه عما عسى يطرح عليه من الأسئلة، وأضاء وجهه بنور الهدى فقال للساحر: تستطيع أن تقول لي حتام يجلس على عرش مصر ملوك من ذريتي؟
وبدا على الرجل القلق والتهيب، ففطن فرعون إلى ما يختلج في صدره فقال: إني أطلق لك حرية القول، وآمنك من عاقبة ما تقول.
فألقى الرجل بنظرة عميقة على وجه مولاه، ثم صعد رأسه إلى السماء واستغرق في صلاة حارة ولبث ساعة لا يتحرك ولا يتكلم، فلما أن عاد بوجهه إلى الملك وصحابته، كان شاحب اللون ممتقع الشفتين حائر النظرة، فجفلت قلوب القوم وأحسوا بدنو شر مستطير، ونفد صبر الأمير رعخعوف فقال له: ما لك لا تتكلم وقد أمنك فرعون؟
فكتم الرجل أنفاسه اللاهثة وقال للملك: مولاي، لن يجلس على عرش مصر من بعدك أحد من ذريتك!
وأحدث قوله في النفوس اضطرابا كأنه هبة ريح مباغتة أصابت دوحا ساكنا، فحدجوه بنظرات قاسية كأنها عيون حمئة يتطاير منها الشهب، وقطب فرعون جبينه واربد وجهه فحاكى وجه أسد ضار أجنه الغضب، واصفر وجه الأمير رعخعوف وأطبق شفتيه القاسيتين، فأنذرت هيئته بالويل والهلاك.
وكأن الساحر أراد أن يخفف من وقع نبوءته فقال: سوف تحكم يا مولاي آمنا مطمئنا حتى نهاية عمرك الطويل السعيد.
فهز فرعون كتفيه استهانة وقال بصوت رهيب: إن من يعمل لنفسه فكأنما يعمل للفناء، فدع عنك تعزيتي وخبرني: هل تعرف من تدخره الآلهة ليخلفها على عرش مصر؟
Bog aan la aqoon
فقال الساحر: نعم يا مولاي، هو طفل حديث العهد بالوجود، لم ير نور الدنيا إلا صباح اليوم. - فمن أبواه؟ - أما أبوه فهو من رع الكاهن الأكبر لرع معبود أون، وأما أمه فالسيدة الشابة رده ديديت التي تزوجها الكاهن على كبر لتلد له هذا الطفل الذي كتب في سجل الأقدار من الحاكمين.
فقام فرعون هائجا كالأسد المتوثب، وقام لقيامه القاعدون، ودنا من الساحر خطوتين فزاغ بصر الرجل وكتمت أنفاسه، وقال له: أواثق أنت مما تقول يا ديدي؟
فرد الساحر قائلا بصوت مبحوح: لقد كاشفتك يا مولاي بما طالعتني به صفحة الغيب!
فقال له الملك: لا تخف ولا تحزن؛ فلقد بلغت رسالتك، وستنال ما تستحق من الجزاء الحسن.
ونودي على حاجب من حجاب القصر، وأمر أن يكرم الساحر ديدي ويعطيه خمسين قطعة من الذهب، فاصطحبه الرجل ومضيا معا ...
وكان الأمير رعخعوف في حالة من البلاء شديدة، وقد طفحت عيناه بقسوة قلبه، وبدا وجهه الحديدي كرسول للموت، وأما فرعون فلم تتبدد غضبته انفعالات وزئيرا، ولكنها كتمت وصبت في دفين إرادته فتحولت إلى وثبة عزيمة تدك الجبال دكا وتحرك الأهوال، وقد تحول إلى وزيره خوميني وسأله بصوت عظيم: ما رأيك أيها الحكيم خوميني، هل يغني الحذر عن القدر؟
فرفع خوميني حاجبيه في تأمل، ولكن شفتيه المنطبقتين لم تنفرجا حيرة وحزنا، فقال الملك معاتبا: أرى أنك تخشى في قولة الحق، وتهم بإنكار الحكمة لترضيني، كلا يا خوميني، إن مولاك أجل من أن يضيق بقول الحق ...
وما كان خوميني جبانا ولا مداهنا، ولكنه كان مخلصا للملك وولي عهده ويشفق من إيلامهما، فلما لم ير بدا من القول قال بصوت خافت: مولاي! لقد اتفقت كلمة الحكمة المصرية التي لقنتها الأرباب للسلف وأذاعها قاقمنا على الخلف، بأن الحذر لا يغني عن القدر.
فنظر خوفو إلى ولي عهده وسأله: وأنت أيها الأمير ما رأيك في القدر؟
فنظر الأمير إلى والده بعينين متقدتين كأسد في شرك، فابتسم فرعون وقال: أيها السادة، لو كان القدر كما تقولون، لسخف معنى الخلق، واندثرت حكمة الحياة، وهانت كرامة الإنسان، وساوى الاجتهاد الاقتداء، والعمل الكسل، واليقظة النوم، والقوة الضعف، والثورة الخنوع. كلا أيها السادة، إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء التسليم به ...
Bog aan la aqoon
فاشتعل الحماس بقلب القائد أربو وصاح: تعالت حكمتك يا مولاي ...
فابتسم فرعون وقال باطمئنان: أمامنا طفل رضيع على بعد منا يسير، فيا أيها القائد أربو أعد حملة من العربات الحربية سأقودها إلى أون، لأشهد بنفسي مخلوق الأقدار الصغير.
فقال خوميني دهشا: هل يذهب فرعون بذاته؟
فضحك الملك وقال: إذا لم أذهب للدفاع عن عرشي فمتى يحق لي الذهاب؟ ... هيا أيها السادة ... إني أدعوكم إلى ركابي لتشهدوا معركة هائلة بين خوفو والأقدار ...
3
وخرجت الحملة الفرعونية في مائة عربة حربية، عليها مائتا فارس من فرسان الحرس الفرعوني الأشداء، يتقدم صفوفهم الملك وسط هالة من الأمراء والصحابة، وإلى يمينه الأمير رعخعوف وإلى يساره القائد أربو.
وقد انطلقت تعدو شمالا شرقي فرع النيل الأيمن صوب مدينة أون، تنهب الأرض نهبا، وتزلزل الوادي زلزالا، وتبعث من صلصلة عجلاتها ما يشبه الرعد، وتثير من خلفها جبالا من الغبار تحجب عن عيني منف الجميلة العربات المنطلقة، والجياد المطهمة، والراكبين الجبابرة الذين ينتصبون كالتماثيل متقلدين سيوفهم، مدججين بقسيهم ونبالهم، مدرعين بتروسهم، يذكرون نائم الأرض بجنود مينا الذين أثاروا غبارها منذ مئتين من السنين، حاملين إلى الشمال نصرا مبينا ووحدة عزيزة وتاريخا مجيدا.
ساروا بقضهم وقضيضهم، يقودهم الجبار الذي تخشع القلوب لذكر اسمه وتنكس الأبصار، لا لغزو بلد ولا لقتال جيش، ولكن لحصار طفل رضيع ما يزال طاهرا قماطه ، وتجفل عيناه من رؤية نور الدنيا، وقد غدا بكلمة ساحر يهدد أكبر عروش الدنيا ويزلزل أشد قلوب الخليقة ...
وكانوا يقطعون أرض الوادي بسرعة جبارة، ويمرون بالقرى والدساكر، مر السهم الخاطف، ويرسلون بأبصارهم إلى الأفق الرهيب المنطبق على الطفل الرضيع الذي اصطنعته الأقدار لتمثيل دور خطير ...
وتبدى لهم في الأفق البعيد غبار ثائر لم تستطع أعينهم رؤية ما يظله من الخلائق، ومضت المسافة بينه وبينهم تقصر رويدا رويدا؛ فاستطاعوا أن يروا شرذمة من الفرسان تعدو في اتجاههم، فلم يشكوا في أنها فرقة من مقاطعة رع.
Bog aan la aqoon
وازدادوا منهم قربا، فوضح لأعينهم أنهم فوارس يعدون خلف واحد منهم، إما أنه يتقدمهم وإما أنهم يطاردونه. فلما أن دنا من هدفهم صحصح لهم ما كانوا منه في شك مريب، فإذا بالمتقدم امرأة على ظهر جواد عار، وقد انحلت ضفائرها وبعثرت وطارت خلفها مع الهواء، كأنها أعلام في رأس شراع، وقد أنهكها التعب فخارت قواها، ولحق بها العادون خلفها وأحاطوا بها من كل جانب ...
وتصادف حدوث ذلك مع وصول فرعون وجنوده، وكان الركب الفرعوني قد اضطر إلى تهدئة عدوه تفاديا للصدام، ولم يحفل فرعون ولا أحد من رجاله بالمطاردين والمطاردة، وظنوا أنهم شرطة يؤدون واجبا من واجباتهم، وكادوا يمرون بهم مر الكرام لولا أن صاحت بهم المرأة قائلة: الغوث أيها الجنود ... الغوث! إن هؤلاء يقطعون علي الطريق إلى فرعون ...
هنا توقف فرعون فتوقفت العربات من ورائه، ونظر إلى الرجال المحيطين بالمرأة وصاح بهم بصوته الآمر: دعوا هذه المرأة.
ولكنهم لم يصدعوا بالأمر الذي جهلوا آمره، وتقدم فارس منهم برتبة ضابط إليه وقال بخشونة: نحن قوة من حرس أون جئنا ننفذ أمر كاهنها الأعظم، فمن أي مدينة أنتم، وماذا تريدون؟
وتبدى الغضب على الوجوه لحماقة الضابط، وهم أربو بانتهاره وتحذيره، ولكن فرعون أشار إليه إشارة خفية فسكت وهو كظيم، وصرف ذكر كاهن رع فرعون عن الغضب إلى التفكير والتأمل، وأراد أن يستدرج الضابط إلى الكلام فسأله قائلا: ولماذا تطاردون هذه المرأة؟
فقال الضابط بصلف: أنا لا أؤدي حسابا عن مهمتي إلا أمام رئيسي.
فصاح فرعون غاضبا بصوت كالرعد: أطلقوا سراح هذه المرأة.
وذعر الجنود وأيقنوا أنهم أمام رئيس خطير، فتركوا التي هرولت إلى عربة الملك وارتمت تحتها في خوف ووجل وهي تصيح: الغوث ... يا سيدي الغوث ...
وترجل القائد أربو عن عربته، وتقدم من ضابط القوة، فلما رأى هذا علامة النسر والشارة الفرعونية على كتفه تولاه الرعب، ووقف وقفة نظامية وسل سيفه وأدى عليه التحية العسكرية، وصاح بجنده: حيوا قائد الحرس الفرعوني.
فسل الجنود سيوفهم ووقفوا كالتماثيل.
Bog aan la aqoon
ولما سمعت المرأة قول الضابط علمت أنها أمام رئيس حرس فرعون، فقامت إليه وقالت له بتوسل: سيدي ... أأنت حقا رئيس حرس مولانا الملك؟ بحق الأرباب إلا قدتني إليه، لقد فررت يا سيدي مولية وجهي نحو القصر الفرعوني ... إلى أعتاب فرعون التي لا يعجز عطفه شفتي أي مصري أو مصرية لثمها. فسألها أربو: ألك حاجة يا سيدتي تريدين قضاءها؟
فقالت المرأة وهي تلهث: نعم يا سيدي، في صدري سر خطير أريد أن أبوح به لذاته المعبودة.
فأرهف فرعون السمع، وسألها أربو: وما هذا السر الخطير يا سيدتي؟
فقالت بتوسل: سأبوح به إلى ذاته المقدسة. - إني خادمه المخلص الأمين على سره.
فترددت المرأة وقلق بصرها بين الحاضرين، وكانت شاحبة اللون زائغة العينين مضطربة الصدر، فرأى القائد أن يستدرجها بالتي هي أحسن فسألها: ما اسمك؟ وأين تقيمين؟ - أدعى سرجا يا سيدي، وكنت إلى صباح اليوم خادمة في قصر كاهن رع الأكبر. - ولماذا كانوا يطاردونك؟ هل وجه مولاك لك إحدى التهم؟ - إني امرأة شريفة يا سيدي، ولكن كان سيدي يسيء معاملتي ... - وهل هربت فرارا من معاملته لك؟ هل تلتمسين رفع شكواك إلى فرعون؟ - كلا يا سيدي، إن الأمر لأعظم خطورة مما تظن، لقد وقفت على سر خطير فيه ما ينذر مولاي الملك بالخطر، فهربت لأحذر ذاته المعبودة كما يقضي الواجب علي، فأرسل سيدي هؤلاء الجنود ورائي ليقبضوا علي ويحولوا بيني وبين واجبي المقدس.
فارتعدت فرائص الضابط وقال بسرعة يدفع عن نفسه التهمة: لقد أمرنا صاحب القداسة بالقبض على امرأة فارة على ظهر جواد في طريق منف، فصدعنا بما أمرنا دون أن نعلم من أمره ولا أمرها شيئا.
فقال أربو لسرجا: إنك تكادين أن تتهمي كاهن رع بالخيانة!
فقالت المرأة: دعني يا سيدي أصل إلى أعتاب فرعون كي أبوح له بما يضيق عنه صدري.
ونفد صبر فرعون وأشفق من ضياع الوقت الثمين، فقال للمرأة فورا: هل رزق الكاهن بطفل هذا الصباح؟
فتحولت إليه المرأة مدهوشة ذاهلة وتمتمت: ومن أدراكم بهذا يا سيدي، وقد تكتموا الخبر؟ حقا إن هذا عجيب!
Bog aan la aqoon
وبدا الاهتمام على حاشية الملك، وتبادلوا النظر في صمت، أما الملك فسألها بصوته المهيب: هل هذا هو السر الذي تريدين إبلاغه لفرعون؟
فهزت رأسها قائلة ولم يفارقها ذهولها: نعم يا سيدي، ولكن ليس هذا جميع ما أريد قوله.
فقال لها فرعون بحدة وبلهجة آمرة شديدة الوقع لا تبقي على التردد: فما الذي ينبغي أن يقال؟ تكلمي.
فاندفعت المرأة إلى الكلام بخوف قائلة: لقد أحست مولاتي السيدة رده ديديت بدبيب آلام الوضع منذ الفجر، وكنت ضمن الوصيفات اللائي أحطن بفراشها يخففن عنها العذاب بالحديث تارة وبالعقاقير أخرى، وقبيل الوضع بزمن يسير دخل علينا الكاهن الأكبر، وبارك سيدتي وصلى للرب رع صلاة حارة، وكأنه أراد أن يشرح صدر سيدتي المعذب ويخفف عنها ويلات الساعة، فبشرها بأنها ستلد طفلا ذكرا، وأنه سوف يرث عرش مصر المكين، ويحكم وادي النيل خليفة للإله رع أتوم.
وقال لها وهو لا يملك نفسه من الفرح حتى لكأنه نسي وجودي، أنا التي لا تحظى مثلي غيرها بثقته: إن تمثال الرب المقدس زف إليه هذه البشرى بصوته الرباني. ولما وقع بصر سيدي علي انقبض صدره، وارتسم القلق على وجهه، ولكي يأمن شر الوساوس قبض علي وحبسني في مخزن الحبوب، ولكني تمكنت من الفرار، وامتطيت جوادا وانطلقت به في الطريق إلى منف لأبلغ الملك ما سمعت. والظاهر أن سيدي أحس بفراري، فأرسل في طلبي هؤلاء الجنود الذين لولاكم لقادوني إلى حتفي.
وكان الملك وصحابته يستمعون إلى قصة سرجا بانتباه وإمعان ودهشة، فتحققت لديهم نبوءة الساحر ديدي العجيبة، وكان الأمير رعخعوف شديد الجزع فقال لفرعون: لن يذهب تحذيرنا سدى!
فقال فرعون: نعم يا بني ... ولكن ينبغي ألا نضيع الوقت.
والتفت إلى المرأة وقال لها: سوف يجزيك فرعون عن إخلاصك خير الجزاء، وما عليك الآن إلا أن تقولي لنا عن الوجهة التي تولينها؟
فقالت سرجا: أرجو يا سيدي أن أذهب آمنة إلى قرية قونا حيث يقيم والداي.
فقال فرعون للضابط: أنت مسئول عن حياة هذه المرأة حتى تبلغ دارها.
Bog aan la aqoon
فأحنى الضابط هامته طاعة، وأشار فرعون إلى القائد أربو فصعد إلى عربته، ثم أمر الملك قائد عربته بالسير فانطلقت كالقضاء ومن ورائها العربات إلى أون، التي بدا للعين سورها المحيط ورءوس أعمدة معبدها الكبير: معبد رع أتوم.
4
كان كاهن رع في تلك الأثناء يجثو إلى جانب سرير زوجه ويصلي صلاة حارة، ويقول: رع، أيها الرب الخالق الموجود منذ الأزل، والوجود بعد ماء جار في فضاء محيط يجثم عليه ظلام ثقيل، فخلقت أيها الرب بقدرتك كونا جليلا جميلا، شملته بنظام فاتن يسري حكمه الواحد على الأفلاك الدائرة في السموات، وعلى ذرات الثرى المنتثرة على وجه البسيطة، وجعلت من الماء كل شيء حي؛ فالطير يحلق في السماء، والسمك يسبح في الماء، والإنسان يضرب في الأرض، والنخل ينبت في جوف الصحراء القاحلة، وبثثت في الظلمات نورا بهيا يتجلى فيه وجهك ذو الجلال والإكرام، يبعث الدفء وينشر الحياة. أيها الرب الخالق أبث إليك همي وحزني، وأضرع إليك أن تكشف عني الضر والبلوى، أنا عبدك المؤمن وخادمك الأمين، اللهم إني ضعيف فهبني من لدنك قوة، اللهم إني خائف فأنزل علي الطمأنينة والسلام، اللهم إني مهدد بشر عظيم فاشملني برعايتك ورحمتك. اللهم إنك وهبتني على الكبر طفلا باركته وكتبت له في سجل الأقدار ملكا وحكما، فادفع عنه السوء وقه شر العدا.
نطق من رع بهذا الدعاء بصوت متهدج، وقد سحت عيناه دمعا ساخنا انحدر على خديه الناحلين وبلل لحيته البيضاء، ثم رفع رأسه الكبير ونظر بعطف إلى وجه زوجه النفساء الشاحب اللون، ثم نظر إلى الطفل الصغير وكان ساكنا هادئا يرفع جفنيه عن عينين صغيرتين سوداوين، ويسبلهما جفولا من نور ذاك العالم الغريب.
ولما أحست زوجه رده ديديت بفراغه من الصلاة قالت له بصوت ضعيف خافت: أما من خبر عن سرجا؟
فتنهد الرجل وقال: سيلحق بها الجنود بأمر الرب.
فقالت بقلق: أواه يا مولاي! أتعلق خيط حياة طفلنا باحتمال قد يصيب وقد يخيب؟ - كيف تقولين هذا يا رده ديديت؟ إني لم أنفك - مذ هربت سرجا - أفكر في وسيلة تقيكما السوء، وقد هداني الرب إلى حيلة، ولكني أخشى عليك وأنت نفساء لا تحتملين الشدة.
فمدت إليه يدا ضارعة، وقالت بتوسل: افعل يا زوجي ما فيه نجاة طفلنا، ولا يهولنك ضعفي فإني أستمد من أمومتي قوة دونها قوة الأصحاء ...
فقال الكاهن المتألم: اعلمي يا رده ديديت أني أعددت عربة وملأتها بالحنطة، وجعلت لك في ركن منها مكانا ترقدين فيه مع الطفل، وجهزت صوانا من الخشب ونزعت قعره، فإذا وضع عليكما أخفاكما عن الأنظار، وستسير بها وصيفتك الأمينة كاتا إلى عمك في قرية سنكا ... - ناد الخادمة زايا لأن كاتا نفساء كسيدتها، وقد ولدت طفلا ضحى اليوم ...
فدهش الرجل وقال: أولدت كاتا؟ وعلى كل حال فزايا لا تقل إخلاصا عن كاتا ... - وأنت يا زوجي؟! هب أن الحظ عثر وباء، وأن سر طفلنا بلغ فرعون فأرسل إليك بجنده، فبم تجيبهم لو سألوك عن الطفل وأمه؟
Bog aan la aqoon
ولم يكن الكاهن قد أعد العدة لنفسه فيما لو وقع المحذور، ولكنه لم يقم لذلك وزنا لأن همه كان محصورا في إنقاذ الطفل وأمه؛ ولذلك كذب على زوجه قائلا: اطمئني يا رده ديديت فلن تفلت سرجا من رسلي، وما تهريبي لك خفية إلا حذرا وحيطة، ومهما يكن من أمر فلن تباغتني الطوارئ ولسوف تصلك أخباري عما قريب.
وخشي أن تزداد مخاوفها فأراد أن يصرفها عن التفكير، فقام واقفا ونادى بصوته الجهوري على زايا، فأتت الخادمة سريعا، وانحنت له في احترام، فقال لها: سأعهد لك بسيدتك والطفل المولود لتسيري بهما إلى قرية سنكا ... وعليك بالحذر فأنت تعلمين بالخطر الذي يتهددهما.
فقالت الخادمة بإخلاص: إني فداء لمولاتي وطفلها المبارك.
وطلب منها الكاهن أن تعينه على حمل سيدتها إلى مخزن الحبوب، ودهشت الخادمة لذاك الطلب، ولكنها صدعت بما أمرت، ووضع الرجل زوجه على اللحاف الوثير، ووضع يده تحت منكبيها ورأسها، ورفعتها زايا من تحت ظهرها وفخذيها، وسارا بها إلى البهو الخارجي، وهبطا الدرج إلى الفناء ودخلا إلى المخزن وأرقداها في المكان الذي أعده لها الرجل في العربة، ثم صعد الكاهن وأتى بطفله وكان يعول ويصرخ، فقبله قبلة حارة ووضعه في حضن أمه، وأطل عليهما هنيهة من جدار العربة، ورأى رده ديديت تنتحب وتضطرب فقال لها وقلبه يتقطع: ثبتي قلبك من أجل طفلنا العزيز ولا تدعي للخوف إلى نفسك سبيلا.
فقالت المرأة وهي تبكي: إنك لم تسمه بعد ...
فقال وهو يبتسم: ادعيه باسم أبي الراقد إلى جوار أوزوريس ... ددف ... ددف رع ... ددف بن من رع، اللهم اجعل اسمه مباركا وادفع عنه كيد الكائدين.
وأتى الرجل بالصوان ووضعه على العزيزين، وأقعد زايا مقعد السائق ووضع زمام الثورين بين يديها، وقال لها: سيري على بركة الرب الحافظ.
وما إن تحركت العربة حركتها البطيئة حتى فاضت عيناه بالدمع الغزير، وجعل يرقبها خلال دموعه وهي تقطع أرض الفناء حتى غيبها الباب عن ناظريه، وهرول إلى السلم وصعده بقوة شاب، وذهب إلى النافذة التي تطل على الطريق وراقب العربة التي تحمل قلبه ووجدانه ...
وبغته باغت مخيف لم يكن يتوقع حدوثه بمثل السرعة التي حدث بها، فلما أن نفذ قضاؤه ملأه رعبا يعجز البيان والتعبير، فنسي حزن الفراق وجوى الوداع وحنين الأبوة، واحترق رعبا وخوفا حتى فقد الشعور والإدراك، فشبك كفيه وجعل يضرب بهما صدره وهو يقول بذهول: «أيها الرب رع. أيها الرب رع.» ويكررها بلا وعي وعيناه تنظران إلى كتيبة العربات الفرعونية التي ظهرت فجأة من منعرج طريق المعبد، وتقدمت إلى قصره، وهي تقوم بحركة حصار بديعة في سرعة ونظام دقيقين، حالا بين العربة وبين التقدم خطوة أخرى.
يا رب السماء، لقد جاءت جنود فرعون بأسرع مما دار له بخلد، ينبئ مجيئها عن توفيق سرجا في مهمتها وهربها من جنوده، وإلا ما استطاعت أن ترسل رسل الموت الزؤام بمثل هذه السرعة.
Bog aan la aqoon
وجاء جند فرعون كالمردة الجبابرة تصهل جيادهم، وتصلصل عجلاتهم، وتتوهج خوذاتهم في شعاع الشمس المائل، ماذا جاءوا يفعلون؟ جاءوا ليقتلوا الطفل البريء والابن الحبيب الذي شرح الرب به صدره على الكبر واليأس.
وكان من رع ما يزال يضرب صدره بكفيه المشتبكتين ويهز رأسه هزات الذهول والبله، ويقول بلهجة الثكلى التي تندب ولدها: «أيها الرب ... إن جماعة منهم تحيط بالعربة، وواحدا منهم يطرح الأسئلة الصارمة على زايا البائسة، ترى عم يسألها! وبم تجيبه؟ وما عسى أن تكون عقبى هذا التحقيق؟ وإن حياة طفلي وزوجي لرهن بكلمة واحدة تنطق بها زايا. رباه! يا رع المعبود! ... ثبت قلبها وطمئن نفسها وأجر على لسانها كلمة الحياة لا الموت، وأنقذ طفلك الحبيب لتقضي قضاءك الذي قضيت به وبشرت.»
وجن جنونه من الجزع، وخيل إليه أن ساعات طويلة تمر ثقيلة متباطئة على هذا الجندي وهو لا يفتأ يسأل زايا ويسد عليها المنافذ. أواه لو يحرك واحد منهم الصوان أو يداخله شك فيما يشتمل عليه؟ بل أواه لو يعلو صوت الطفل بآهة أو صراخ. - صه يا بني ... اللهم ألهم أمه أن تضع ثديها في فمه ... صه يا بني ... إن آهة تخرج من فمك كفيلة بالقضاء عليك ... رباه إن قلبي يتفتت وروحي تصعد في السماء ...
وسكت الكاهن فجأة، واتسعت عيناه وصاح ولكن بفرح شديد هذه المرة: الحمد لرع ... إنهم يتقدمون والعربة تسير في طريقها آمنة من غير سوء ... باسم رع مسيرها وحطها ... الحمد لك أيها الرب الرحيم ...
5
تنفس الكاهن الصعداء وأحس - لفرحه - بحنين إلى البكاء، لولا أن تذكر ما ينتظره من الأهوال والشدائد، فلم ينعم بالطمأنينة إلا لحظات سريعة، ودلف إلى منضدة عليها إبريق من الفضة صب منه من الماء القراح ما روى به غلته.
وما لبثت أن صكت أذنيه جلجلة القوة التي صارت بفناء قصره، والتي جاءت خصيصى للقضاء على المولود الذي كان خطر الموت منه قاب قوسين أو أدنى.
وجاءه خادم يسعى مضطربا خائفا، وأخبره بأن قوة من حرس الملك تحتل القصر وترقب منافذه، وجاء آخر يبلغه أن رئيس القوة أرسله في طلبه سريعا، فتظاهر الكاهن بالثبات ورباطة الجأش، ووضع العباءة المقدسة على منكبيه والقلنسوة الكهنوتية على رأسه، ثم غادر حجرته في خطوات وئيدة تحف به المهابة والجلال الحقيقان بشخصية أون الدينية الكبرى. ولم يتهاون الكاهن في حق هيبته، فوقف على عتبة بهو الاستقبال ووجهه إلى الفناء، وألقى نظرة سطحية على جنود القوة الواقفين في أماكنهم لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل منصوبة من العهد القديم، ثم رفع يده تحية وقال بصوته الرقيق الجليل دون أن يقر نظره على وجه بذاته: يا بني ... حللتم أهلا وسهلا، وليبارككم رع المعبود بارئ الكون وخالق الحياة.
فسمع صوتا مهيبا يرد عليه قائلا: الشكر لك يا كاهن رع المعبود.
فانتفض جسمه لدى سماعه كما ينتفض الحمل لزئير الأسد، وذهبت عيناه زائغتين تبحثان عن صاحب الصوت العظيم حتى استقرتا على قلب القوة، فتولاه العجب والرعب أن يأتي فرعون بذاته إلى بيته. ولم يتردد عن أداء واجبه، فهرع إلى سدته لا يلوي على شيء، فلما بلغ عربته سجد بين يديه، وقال بصوت متهدج: مولاي فرعون ابن الرب خنوم، نور الشمس المشرقة وواهب الحياة والقوة، إني يا مولاي أضرع إلى الرب أن يوحي إلى قلبك الكبير بالإغضاء عن سهوي وجهلي، كي أفوز بعفوك ورضاك.
Bog aan la aqoon
فقال له الملك: إني أعفو عن هفوات الصادقين.
فخفق قلب الكاهن وقال: أما وقد تفضل مولاي بزيارة قصري الوضيع فليتفضل ويحل أشرفه.
فابتسم فرعون وترجل عن عربته، وتبعه الأمير رعخعوف وإخوته الأمراء وخوميني وأربو وميرابو، وسار الكاهن بظهره يتبعه الملك ويتبعه الأمراء، والصحبة حتى حلوا بهو الاستقبال، وجلس الملك في الصدر وحوله حاشيته، واستأذن من رع في الذهاب لإعداد ما يجب إكراما لهم، ولكن فرعون قال له: نحن نعفيك من واجب ضيافتنا لأننا جئنا في أمر خطير لا يحتمل الأناة.
فانحنى الرجل وقال: إني رهن إشارة مولاي.
اعتدل الملك في جلسته وسأل الكاهن بصوته النفاذ المهيب: أنت رجل من صفوة رجال المملكة، ومقدم عليهم بالعلم والحكمة، فهل تستطيع أن تقول لي لماذا تولي الآلهة الفراعنة على عرش مصر؟
فقال الرجل بثبات وإيمان: إنها تختارهم من بين أبنائها، وتبعث فيهم روحها الإلهي ليصلحوا البلاد ويسعدوا العباد. - أحسنت أيها الكاهن، فكل مصري يسعى في الحياة لنفسه أو لأسرته، أما فرعون فينهض بحمل أعباء الملايين ويسأل عنها جميعا أمام الرب، فهل تستطيع أن تقول لي عما ينبغي لفرعون نحو عرشه؟
وأجاب من رع بشجاعة فائقة: إن ما ينبغي لفرعون نحو عرشه هو ما ينبغي للإنسان الأمين نحو وديعة الآلهة المكرمين بين يديه، أن يقوم بواجباته ويؤدي له حقوقه، ويحافظ عليه محافظته على شرفه.
فهز فرعون رأسه راضيا وقال: أحسنت أيها الكاهن الفاضل، والآن خبرني، ماذا ينبغي أن يفعل فرعون لو هدد عرشه مهدد؟
فخفق قلب الكاهن الشجاع، وأيقن أنه يحكم على نفسه بجوابه، ولكنه - وهو رجل الدين والتقوى والعزة - أبى إلا أن يقول الحق، فقال: ينبغي لجلالته أن يبيد الطامعين.
فابتسم فرعون والتمعت عينا الأمير رعخعوف ببريق قاس، وقال للكاهن: أحسنت ... أحسنت ... لأنه إن لم يفعل، خان عهد الرب وفرط في وديعته الإلهية وأضاع حقوق العباد.
Bog aan la aqoon
ثم تصلب وجه الملك وبدا عليه عزم يميد الجبال، وقال بصوت رهيب: أيها الكاهن، لقد وجد الذي يهدد العرش.
فنكس الكاهن عينيه وغلبه الصمت، فاستطرد فرعون: وهزأت الأقدار كعادتها فجعلته طفلا.
فتساءل الكاهن بصوت خافت: طفلا يا مولاي؟
فطفر الغضب من عيني فرعون شررا وصاح: كيف تتجاهل أيها الكاهن؟ لقد حرصت على الصراحة والصدق في حديثك؛ فلم تترك الكذب يتسلل إلى قلبك في حضرة مولاك؟ وإنك لتعلم علم اليقين أنك أبو الطفل ونبيه!
فتدفق الدم إلى وجه الكاهن وعصر الألم قلبه الكبير، وقال بتسليم وحزن: ابني طفل رضيع لم يجاوز عمره بضع ساعات.
فقال فرعون: لكنه آلة في يد الأقدار، والأقدار إذا أرادت أن تفعل استوى لديها الطفل والرشيد.
وساد الصمت والسكون هنيهة، وتولى الجميع رهبة غريبة فكتموا الأنفاس في انتظار الكلمة التي ستطلق سهم الموت إلى الطفل البائس. ونفد صبر الأمير رعخعوف فقطب جبينه وازدادت قساوة وجهه الطبيعية شدة وصلابة ...
ثم قال فرعون: أيها الكاهن، لقد أقررت منذ لحظة بأنه ينبغي لفرعون أن يهلك من يهدد عرشه، أليس كذلك؟
فقال الكاهن بقنوط: بلى يا مولاي. - ولا شك أن الآلهة قد قست عليك بخلقها هذا الطفل، ولكن القسوة عليك أخف من القسوة على مصر وعرشها.
فقال الكاهن: هذا حق يا مولاي.
Bog aan la aqoon
فقال فرعون: إذن فأد واجبك أيها الكاهن!
فوجم من رع وأرتج عليه القول، أما فرعون فقد استطرد: إن لنا - معشر الفراعنة - تقاليد موروثة في احترام الكهنوت ورعايته. لا أحب أن تضطرني إلى خرقها.
يا عجبا! ماذا يريد فرعون بقوله هذا؟ أيريد أن يفهم الكاهن أنه يحترمه ولا يحب أن يقتل ابنه، وأنه لذلك ينبغي أن يقوم هو بالمهمة التي يجفل منها الملك؟ وكيف يتأتى له أن يذبح طفله بيده؟ حقا إن الإخلاص الذي يكنه لفرعون يقضي عليه بتحقيق رغبته الربانية دون أدنى تردد، وإنه ليعلم علم اليقين أن أي فرد من شعب مصر لا يتوانى عن إزهاق روحه لو أحس بأن موته يلقى رضاء فرعونيا ساميا، فهل يلحق بطفله العزيز ويغمد خنجره في قلبه؟
ولكن من الذي قضى أن يكون ابنه خليفة خوفو على عرش مصر؟ أليس هو الرب رع؟ أوليس يعد سعيه لقتل الابن البريء تحديا لإرادة الرب الخالق؟ ومن الذي يجب أن يؤثر بطاعته خوفو أم رع؟ لا يحتاج الجواب إلى روية، ولكن ما عسى أن يفعل وفرعون وزملاؤه ينتظرون كلمته؟ ماذا ينبغي أن يفعل وقد بدءوا يتململون ويغضبون؟
وتراءى له خاطر سريع وسط لجة الحيرة والارتباك كما يلتمع البرق في السحاب المظلم المكفهر، تذكر كاتا وطفلها الذي ولدته في الصباح! وتذكر أنها نائمة في الغرفة التي تواجه غرفة سيدتها على كثب منه، حقا إنها فكرة جهنمية شيطانية يبرأ منها قلب كاهن مثله، ولكن القلب لا يتيقظ إذا تسلط عليه ما يتسلط على قلبه من الانفعالات والاضطرابات، وهيهات أن يصحو ضمير أمام رهبة فرعون ورجاله، كلا لا يستطيع أن يتردد.
وأحنى الكاهن رأسه المثقل احتراما، وذهب ليرتكب أشنع جريمة، فتبعه فرعون، وتبع فرعون الأمراء والكبراء، وصعدوا خلفه إلى الطابق الأعلى، ولكنهم حين رأوا الكاهن يهم بولوج باب الحجرة وقفوا في الردهة وهم سكوت، وتردد من رع لحظة ثم التفت إلى مولاه وقال: مولاي، ليس لي سلاح أقاتل به، فأعرني خنجرا ...
ونظر إليه فرعون دون أن يبدي حراكا ...
وضاق صدر الأمير رعخعوف، فاستل خنجره وأعطاه الكاهن بعنف، فأخذه الرجل بيد مرتجفة وأخفاه في عباءته، ودخل الحجرة لا تكاد تحمله قدماه ...
وانتبهت إليه كاتا فابتسمت ابتسامة امتنان وشكران، واعتقدت أن سيدها جاءها يباركها، فكشفت عن وجه الطفل البريء، وقالت له بصوت ضعيف: اشكر الرب بقلبك الصغير، الذي عوضك عن موت أبيك حنانا مقدسا ...
فجفل الكاهن مذعورا وخذلته نفسه فانقلب مدحورا، وفاضت عواطف قلبه فجرف سيلها زبد الإثم ... ولكن أين المفر؟ وكيف الخلاص؟ إن فرعون واقف بالباب، وليس لديه مهلة للتفكير والروية، واشتدت به الحيرة حتى أذهلته عن وعيه، فزأر زئيرا مخيفا، ونفس عن صدره بتنهدة عميقة، واستل الخنجر يائسا قنوطا وطعن به نفسه فاستقر في قلبه، وانتفض جسمه انتفاضة هائلة، وسقط على أرض الحجرة جثة هامدة ...
Bog aan la aqoon
ودخل الملك الحجرة غاضبا وتبعه رجاله، وجعلوا ينظرون إلى جثة الكاهن والنفساء المرتعبة بعيون من زجاج ... إلا الأمير رعخعوف فلم يلهه شيء عن هدفه، وأشفق من ضياع الفرصة السانحة فاستل سيفه من غمده ورفعه بقوة في الهواء، وهوى به على الطفل ... إلا أن الأم أدركت بغريزتها غرضه، فألقت بسرعة البرق نفسها على طفلها ... ولكنها لم تمنع القضاء، فأطاح السيف رأسها ورأس الطفل بضربة جبارة واحدة ...
ونظر الأب إلى ابنه ونظر الابن إلى أبيه، وغلبهما وجوم شديد، لم ينقذهما منه إلا الوزير خوميني إذ قال: فليتفضل مولاي بمغادرة هذا المكان الدامي.
وخرجوا جميعا وهم سكوت .
واقترح الوزير على مولاه أن يشدوا الرحال إلى منف ليبلغوها قبل جثوم الليل، ولكن الملك قال: إني لا أفر كالمجرمين، ولكن سأدعو كهنة رع وأقص عليهم قصة الأقدار التي ختمت بفاجعة رئيسهم البائس، ولن أعود قبل ذلك إلى منف.
6
سارت العربة على خطى الثورين البطيئة تقودها زايا، فقطعت طريق أون في ساعة من الزمان، ثم اجتازت باب المدينة الشرقي وانحرفت إلى الطريق الصحراوي الذي يؤدي إلى قرية سنكا، حيث يقيم أصهار سيدها الكاهن.
وما كانت زايا تستطيع أن تنسى تلك الساعة الرهيبة التي أحاط بها الجند فيها يسألونها، ويمعنون النظر في وجهها، ولكنها تشعر - فخورا - بأنها حافظت على رباطة جأشها رغم هول الموقف، وأنها أقنعتهم بثباتها فتركوها تسير بسلام، وآه لو أنهم علموا بما تحمل عربتها!
وإنها لتذكر أنهم جنود أشداء، ولن تنسى ما حييت عظمة ذلك الرجل الذي يتقدمهم ولا هيبته ولا جلاله، حتى لكأنه تمثال إله ودبت فيه حياة إنسانية.
ولكن يا للعجب! لقد أتى ذلك الرجل الجليل لقتال طفل لم ير نور الدنيا إلا هذا الصباح!
وهنالك نظرت إلى الوراء لترى سيدتها، ولكنها وجدتها كما أنامها سيدها الكاهن تحت الصوان ... يا لها من امرأة بائسة لم يدر بخلد إنسان أنها تنام هذه النومة الشنعاء، وهي نفساء! وما كان زوجها العظيم يحلم بتلك المتاعب التي ساقتها الأقدار بين يدي طفله، ولو تكشف له الغيب ما تمنى الأبوة، ولا تزوج من السيدة رده ديديت التي تصغره بعشرين عاما!
Bog aan la aqoon