وأما مسائل الاعتقاد كالتفسيق وما ترتب عليه فلا يبعد وجوب التوقف عليه عند التعارض بين صالحين لأن العالم يعمل بعلم قطعي ، والجاهل يعمل بعلم ظني ، والمسألة قطعية بخلاف القتل والجهاد ونحوه ، فيجوز لأنه وإن كان تحريم الدماء قطعيا فقد أبيح بالدليل الظني مثل حكم الحاكم بالقود بقيام الشهادة ولا تفيد إلا ظنا، وكذلك الحدود تثبت بالبينة ولا تفيد إلا ظنا، حتى نصوا على إقامة حد الشرب بالشم ، ونصوا على جواز قتل من لا يؤمن ضرره على المسلمين ، وتلك الخشية لا تفيد إلا الظن لتعذر العلم في الأمور المستقبلة ، ولما ثبت من أنها كانت تترتب الحروب في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة برجوع جواباتهم ، أو رسلهم بالمخالفة ، وذلك لا يفيد إلا ظنا، فصارت أدلة جواز القتل بالطريق الشرعية الظنية في تلك الجزئيات كالمخصصة لأدلة عموم تحريم الدماء والأموال، وقد ثبت في الأصول أنه يصح تخصيص القطعي العملي بالظني، ومنه تخصيص الكتاب بالسنة [أي الأحادية]، لأنه نوع من الجمع بين الأدلة المقدم على الترجيح وطرح أحد الدليلين ، ومن هنا نصوا أنه يجوز امتثال أمر الحاكم بالحدود والقصاص، ويجب بأمر الإمام من غير أن يبحث الممتثل عن المستند ما لم يكن المأمور به ظاهرا يخالف ما يعلمه الممتثل في الباطن .
وما ذكره السائل من أنه يقدم على ما لا يؤمن خطاؤه لا يلزم بعد وجود المستند الشرعي ، ولهذا نصوا أن خطأ الحاكم في بيت المال ولم يبطلوا ولايته إلا إذا تعمد ، وكما ودى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قتلهم خالد بن الوليد ولم يعزله عن الإمارة .
وما ذكره السائل من قوله هل يجوز للإمام التمكين من الجهاد ونحوه لمن يعلم أنه لا يعمل إلا لغرض دنيوي، فنقول: نعم يجوز، لأن نفس الجهاد وإقامة الحدود والقصاص أمر شرعي يجب إقامته والدعاء إليه، والممتثل إنما خالف مقصد الشارع بمجرد النية ، وأما العمل فلا مخالفة فيه ، فحينئذ بطل الثواب على العامل فيما يرجع إلى نفسه، وأما مقصد الشارع من الفعل فقد تم، ولهذا نصوا على جواز إقامة فاسق على معين، وعلى جواز الاستعانة بالكفار والفساق، بل استعان بالكفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع العلم بأنه لا نية لهم مطابقة ، ونص الشارع على جواز التأليف لجلب منفعة، أو دفع مفسدة ، مع العلم بأن الفاعل لم يعمل لله تعالى خالصا بل لأجل العوض.
Bogga 16