وماذا يصنع الشرق الأقصى هنالك؟ أحقا أن ذلك الرجل الصغير الذي يدل منظره على المكر هو ياباني؟ كلا، وإنما هو الكونت كورتي الذي يمثل إيطالية بذكاء أكثر مما يبديه جاره الكونت لوني، وبالقرب منه يجلس عسكري ألماني مرتزق أزرق العينين لابس طربوشا، ويلوح كل شيء حول تلك المائدة مقلوبا رأسا على عقب، ويدلنا كل شيء حول المائدة على سخافة أي حديث عن الشعوب والعروق، وذلك التوتوني المليح هو الفريق الأول علي باشا وإن كان يحمل في صباه بمغدبرغ اسما آخر، وإن كان في مغدبرغ نوتيا فأبق
3
فغدا غلاما لدى الصدر الأعظم علي - كما أشيع - فصار ذلك الصدر الأعظم حاميا له، وقد قتل الأفاق الألماني علي باشا بخنجر ألباني بعد المؤتمر بشهرين، والممثل التركي الآخر هو قره تيودوري باشا، وهو لطيف الأنف محكم الفم شاحب الوجه متحفظ مولود في الشرق الأدنى ، وهو يوناني حسيب.
ومن هو ذلك الجالس هنالك عن اليمين قريبا من البارون الفيني؟ أهو عضو آخر من الوفد الألماني؟ كلا، وإنما هو السفير البريطاني ببرلين اللورد أودو رسل، وهو يبدو أريبا لطيفا نشيطا بسيطا، ويجلس بجانبه رجل ذو لحية شقراء عريضة وجبين عال، وهو اللورد سالسبري الخبير في المسألة الشرقية، وما كان طرفنا ليرتد عن ملامح هذا الرجل الإنسانية إلا ليبصر الممثل البريطاني الثالث الذي هو أكثر رجال المؤتمر وقفا للنظر على ما يحتمل، ولا يكاد منظره ينم على جنسيته، ولا يدل مظهره على أنه إنكليزي، وديسرائيلي هذا، قبل أن يصبح اللورد بيكونسفيلد بزمن؛ أي حين اشتهر بأنه كاتب روائي، كان شابا يهوديا ذا ظرف مثالي، والآن يبدو ديسرائيلي ميفيستوفليا موسيقيا، وهو يشابه كاتبا صوره رنبرانت بأنفه الكبير وارتخاء شفته السفلى وخشنة شاربيه وجبينه العالي المزين بخصل من الشعر، واليوم يظهر شائبا منهوكا متوكئا على عصاه عند ذهابه إلى مقعده، ولا أحد ممن ينظرون إليه يظن أنه هو الرجل الذي فتن قلب الملكة فيكتورية.
وأين غورشاكوف الذي له ما لديسرائيلي من الشهرة؟ وهل هذا هو الرجل القصير المتكرش هنالك؟ هو في الثمانين من سنيه، وهو على خلاف الإمبراطور ولهلم الذي لا يزال منتصب القامة كضابط شاب، وهو يألم من النقرس
4
فيحمل إلى مقعده، وإذا رجعنا البصر إليه عن كثب لم نجد وجهه متكرشا بمقدار تكرش جسمه، ولا يزال فمه باديا حساسا، ويظهر ناعم الخدين حاد الأنف، وهو إذا تلفت ذات اليمين وذات الشمال ألقى في روعنا أنه نصف ألماني، وذكرنا بصورة ألماني غريب الأطوال لسبيتزفيغ، ويدل محياه على أنه رجل لهو لا رجل كيد وإن كان جامعا للأمرين في الحقيقة، وهو قد أقنع مولاه بأن يأذن له في الجلوس حول تلك المائدة على أن يكون حق التصويت لسفيره ببرلين بول دوربيل وأن يقوم بالنقاش في الأمور جارهما الأهيف الكونت بطرس شوالوف الذي هو صاحب فكرة عقد المؤتمر والذي يشابه ماريشالا فرنسيا مظهرا، والذي يبدو نبيها نبيلا مفاوضا منقطع النظير .
وفي البداءة تصل سيوف الخصوم حينا من الزمن، ومع أن الرئيس ألقى خطبة الافتتاح باللغة الفرنسية في أرض ألمانية ألقى ديسرائيلي جوابه باللغة الإنكليزية وقورا متخذا لهجة أوكسفورد الخالصة، ولكن على وجه لم يفهمه غير القليل من الحضور، وبعد ذلك نطق غورشاكوف باللغة الفرنسية - خلافا لما كان يتوقعه بسمارك - لا باللغة الروسية بطائفة من الأمور التي لا تعد جوابا فأدى هذا إلى جعل الرئيس الملول يكتب على ورقة الألفاظ «بونبوس، بونبو، بونب، بو»، ثم انتقل الجميع إلى غرفة مجاورة حيث مدت مائدة مشتملة على مرطبات، وحيث أتم برشارد «أعظم نجاح في كل واحدة من اجتماعات المؤتمر العشرين».
ويساور الغضب بسمارك حتى قبل افتتاح المؤتمر؛ وذلك لأن جميع الممثلين حينما ردوا إليه زيارته «أبدوا من الروح الريفية ما أتعبوه به»، وبسمارك بعد ذلك أخذ يهزأ بضيوفه منكتا، وصار يحاول في الجلسات القادمة أن يدير كل شيء وفق منهاجه، ومن ذلك أن قدم إليه سالسبري مشروعا جديدا فقال له: «وشيء آخر أيضا!» ومما جاء في التقرير اليوناني «أنه لا يلتفت إلى الاعتراضات، ولكنه يمعن في الإسراع فيضغط الجميع بتبرمه العصبي، مشعرا كل واحد بهيمنته شيئا فشيئا»، وهو مع إتقانه التكلم باللغة الفرنسية كان لا ينطق بها إلا بهزات سريعة أو بطيئة على حسب حال أعصابه - شأنه عندما يتكلم بالألمانية - ومن قوله: «إن من النادر أن أنام قبل الساعة السادسة صباحا، وأنام في الساعة الثامنة غالبا؛ وذلك لساعة أو ساعتين، ولا يقابلني أحد قبل الظهر، ويمكنكم أن تتصوروا الحال النفسية التي أكون عليها عند افتتاح الجلسات، وأشرب قبل كل جلسة ثلاثة - أو أربعة - قعبة
5
Bog aan la aqoon