فمن أوجه النشاط الإنساني التي كثيرا ما تؤخذ على أنها دليل على أن للإنسان «عقلا»، وأن الإنسان ليس مجرد كائن عضوي يمكن تدريبه بردود الأفعال المكتسبة، بحيث يصبح سلوكه كله بمثابة عادات جسدية، قدرته على استدلال نتيجة من مقدمتها، فتسمع قائلا يقول: كيف يتم هذا الاستدلال إذا لم يكن هنالك «عقل» يستدل؟ إن الآلة مهما دقت لا تستدل شيئا من شيء، ولو كان الإنسان آلة ترد على مؤثرات معينة ردودا معينة بالغريزة أو بالتدريب، لما كان الاستدلال في مقدوره.
لكن انظر إلى الأمر نظرة أدق تجد هذا «الاستدلال» إن كان استدلالا قياسيا من النوع الذي أخذ به أرسطو في منطقه، فهو بمثابة إثبات للحقيقة الواحدة في عبارتين مختلفتين، إذ هو تكرار في النتيجة لما جاء في المقدمة، وليس في هذا ما يرفع الإنسان عن مستوى الآلات الحاسبة، وأما إن كان استدلالا استقرائيا مستمدا من الخبرة، فهو يرتد إلى الصورة الآتية، وهي: إن «أ» و«ب» ظاهرتان تلازمتا دائما، فالمرجح أنهما سيظلان دائما متلازمين، بحيث إذا وقعت «أ» أمكن الاستدلال بأن «ب» كذلك ستقع معها؛ مثال ذلك أن أرى وضع الورق في النار، واحتراقه متلازمين دائما، فإذا ما وضعت ورقة في النار توقعت لها أن تحترق.
فإن كانت هذه هي صورة الاستدلال الاستقرائي في صميمه، لم يكن الاستدلال سوى صديقنا القديم، وهو قانون الترابط، أو بعبارة أخرى هو قانون الأفعال المنعكسة الشرطية، ونعيد هنا ذكر هذا القانون، وهو أنه إذا استدعى حادث معين ردا معينا، ثم إذا اقترن هذا الحادث بشيء آخر، فإن هذا الشيء الآخر وحده يصبح كافيا لاستدعاء ذلك الرد الذي لم يكن يستدعيه بادئ ذي بدء إلا الحادث الأول، هذا مبدأ ينطبق على الإنسان في جهازه العضلي، وفي إفراز غدده، ومن ثم فهو يفسر ما للإنسان من سلوك وعواطف. فمثلا لو أنزلت الأذى بطفل وثار فيه الغضب منك، فإن مجرد الطلوع عليه بوجهك بعد ذلك كاف لإثارة غضبه، حتى ولو لم تنزل به أذى، ثم يكون اسمك بعد ذلك - الذي سيرتبط عند الطفل بوجهك - كافيا لإثارة سخطه، وإن اقترن اسمك بعد ذلك بصناعة معينة كطب العيون، كان طب العيون وحده مثيرا لسخطه، وقد يقرأ بعد ذلك فلسفة اسبينوزا، فيعلم عن اسبينوزا أنه كان صانعا لعدسات المناظير فيكرهه ويكره فلسفته معه، وقد تنتقل هذه الكراهية إلى الفلسفة كلها، ثم إلى اليهود؛ لأن اسبينوزا يهودي ... وهكذا يمضي الترابط في سلسلة طويلة، في كل حلقة من حلقاتها يقترن المؤثر الأصلي بمؤثر مصاحب، فينتقل الأثر بعد ذلك إلى هذا المؤثر المصاحب، بحيث يكفي وحده لإثارة رد الفعل الذي كان يثيره المؤثر الأصلي.
وليس في هذا الترابط شيء لا تلاحظ مثله في الحيوان، فيكفي أن تذهب إلى حيوان بطعامه عدة أيام، حتى ترتبط عنده صورتك بالطعام، فإذا ما رآك بعد ذلك جرى وراءك كما يجري وراء الطعام سواء بسواء، والصورة الرمزية لهذه الحالات كلها هي ما يأتي: كان المؤثر «أ» ينتج رد الفعل «ج»، ثم اقترن «أ» بعامل مصاحب هو «ب»، فأصبح «ب » وحده كافيا لاستدعاء رد الفعل «ج»، كما كان يستدعيه «أ» سواء بسواء، وكل شيء يمكن أن ينوب عن كل شيء في إحداث الأثر المطلوب، وكلمات اللغة هي من أحسن الأمثلة التي توضح لنا كيف يمكن أن يقوم شيء مقام شيء آخر في استدعاء رد الفعل نفسه، فإن كان لشيء ما عندك رد فعل معين، كالخوف أو الغضب أو الحب إلخ، ثم اقترن ذلك الشيء باسمه، فإن اسمه بعد ذلك يصبح كافيا لإثارة العاطفة نفسها أو الانفعال نفسه الذي كان يثيره المؤثر الأصلي، فلو قال لك قائل: «إن بيتك قد شبت فيه النار» كان وقع هذه العبارة عندك مساويا لرؤية النار بعينيك وهي تشتعل في بيتك.
والاستدلال الاستقرائي هو هذه العملية الترابطية نفسها، فلك إن شئت أن تسميه بالاستدلال الفسيولوجي؛ لاعتماده على أعضاء الجسد، وما تؤديه من وظائف.
فعملية الاستدلال - ما أخطأ منه وما أصاب - يمكن تحليلها في كثير جدا من الحالات إلى نفس المبدأ الذي رأيناه يفسر لنا جوانب أخرى من سلوك الإنسان، وهو مبدأ ردود الأفعال المكتسبة الذي تتساوى فيه الكائنات العضوية جميعا من إنسان وحيوان. •••
غير أن هذه المبدأ، وإن استطاع تعليل الشطر الأكبر من السلوك الإنساني، فهو - كما رأينا - يعجز عن تفسير نواح من الإنسان، وإذن فلا بد - في رأي «رسل» - من النظر إلى الإنسان نظرة «داخلية» نكمل بها نظرتنا إليه نظرة «خارجية» موضوعية سلوكية، أو بعبارة أخرى، لا بد من إضافة «التأمل الباطني» إلى «الملاحظة الخارجية» لنظفر بالطريقتين متعاونتين بحقيقة الإنسان الشاملة لشتى نواحيه.
كلنا يعرف أن يقين ما نعلمه عن طريق التأمل الباطني هو الأساس الذي بنى عليه ديكارت فلسفته التي كانت فاتحة الفلسفة الحديثة؛ ذلك أن ديكارت كان حريصا على أن يبني فلسفته على يقين بحت لا يداخله الشك؛ لذلك جعل يشك في كل ما أمكن أن يشك فيه، فشك في حقيقة العالم الخارجي كله، لكنه لم يستطع أن يشك في وجود نفسه؛ لأنه مهما تشكك في ذلك فستظل أمامه حقيقة لا مجال للشك فيها، وهي حقيقة كونه في حالة من الشك، ولو لم يكن موجودا لما استطاع أن يشك، وإذن فهو موجود ما دام يشك، أو هو موجود ما دام يفكر ... فلما أدرك هذه الحقيقة اليقينية أخذ يبني العالم من جديد باستدلالات يتلو بعضها بعضا، ومما يلفت النظر أن عالمه الجديد الذي انتهى إليه لم يختلف في كثير عن العالم الذي كان يعتقد في وجوده قبل أن يأخذ في شكه.
وها هنا نلتمس مجالا طريفا للمقارنة إذ نقارن بين «ديكارت» و«واتسن» صاحب المذهب السلوكي، فكلا الرجلين يريد أن يبني على أساس سليم يقيني لا يتطرق إليه الشك، وكلا الرجلين قد أدرك كم يعتقد الناس في صحة أشياء دون أن يقيموا ذلك الاعتقاد على مبرر من المنطق، غير أن الرجلين يختلفان فيما يراه كل منهما جديرا باليقين، وصالحا أن يكون نقطة ابتداء؛ فما اعتقد «واتسن» أنه يقيني لا شك فيه هو بعينه ما اعتقد «ديكارت» أنه موضع للشك، والعكس أيضا صحيح، أي إن الجانب الذي تنكر له «واتسن» واطرحه ونبذه، هو بعينه الجانب الذي جعله «ديكارت» يقينا يؤخذ به في غير ريبة ولا شك، فالدكتور واتسن لا يسلم إلا بالجسد، وما يظهر عليه من سلوك، قاذفا في اليم بكل «الباطنيات» الغيبية التي لا ترتكز على ملاحظة خارجية يشترك فيها كل من أراد أن يلاحظ، «كالشعور» و«الفكر» و«العقل» وما إلى ذلك، على حين أن «ديكارت» قد غض النظر أول ما غضه عن الملاحظة الخارجية وما تأتينا به من علم؛ لأن وسيلة تلك الملاحظة الخارجية هي الحواس، والحواس قد تخدع، وجعل أساسه اليقيني هو ملاحظته الباطنية لما يدور في نفسه، فكان «الشك»، أو قل كان «الفكر» عنده أساس اليقين كله ... فلئن كان «ديكارت» قد برهن على وجود نفسه بفكره، فإن «واتسن» قد برهن على وجود نفسه بما يؤديه جسده من سلوك، فمقدمات اليقين عنده هي الفئران في المتاهات، وهي الغدد والعضلات وما إليها، فماذا نحن قائلون إزاء رجلين كهذين يوقن أحدهما بما يشك فيه الآخر؟ أي الموقفين نختار، أم أن لكل منهما جانبا من الصواب وجانبا من الخطأ؟
هذا الأخير هو موقف «رسل»؛ ليس الصواب كله في الملاحظة الخارجية التي تحصر نفسها في سلوك الإنسان الظاهر، وليس الصواب كله في التأمل الباطني لحالات الشعور، إنما الصواب وسيلته الطريقان معا، وليس هنا مجال النقد التفصيلي «لدريكارت» أو «واتسن»؛ فحسبنا أن نقول إن «ديكارت» خرج على مبدئه في الاعتماد على التأمل الباطني منذ عبارته الأولى: «أنا أفكر»؛ لأن الحالة الباطنية التي بررت له أن يقول هذه العبارة إنما هي حالة واحدة جزئية من حالات التفكير، وإذن فلم يكن هناك «أنا» ولا كان هناك «فكر» بمعناه الكلي، فكل ما كان له الحق في تقريره بناء على خبرته الباطنية المباشرة هو «ثمة حالة شك»، أو «ثمة حالة تفكير»، إن كلمة «أنا» وكلمة «أفكر» كلاهما نتيجة لعملية استدلالية، وليست هي بالمعطى المباشر، فلو اقتصر ديكارت على المعطيات المباشرة وحدها، أعني المعطيات الشعورية الجزئية التي ترد على الذهن واحدة بعد أخرى، دون أن يستخلص من هذه السلسلة «عنصرا» دائما ثابتا يطلق عليه كلمة «أنا»، ودون أن يطلق على مجموعة الجزئيات كلمة واحدة هي «أفكر»، ثم لو جعل هذه المعطيات الشعورية الجزئية يقينية لا يتطرق إليها الشك، لكان موقفه هو موقف «رسل» إزاء المعطيات الشعورية؛ لأنها عنده أساس لليقين، على شرط ألا أستدل من وجودها على وجود مسمياتها الخارجية؛ فاللمعة الضوئية التي تقع في خبرتي حين أصف تلك الخبرة بأنها «رؤية الشمس» يقين لا شك فيه، ما دمت لا أستدل من حدوث هذه الخبرة الداخلية على وجود مؤثر خارجي هو «الشمس»، فإذا فسرنا «الفكر» الذي جعله ديكارت أساس اليقين، بأنه هو الحالات الشعورية التي تقع في خبرتنا الباطنية، فندركها إدراكا مباشرا، كان ديكارت على صواب حين لم يخالجه الشك في يقين تلك الخبرة.
Bog aan la aqoon