على أن هذا الفارق بين الكائن الحي وبين الشيء المادي الحساس قد يعترض عليه بأننا قد نصل بمقدرتنا العلمية في المستقبل إلى حد يمكننا من صنع الجهاز الآلي الذي يشتمل على مجموعة «الحواس» في آن واحد، ويربط تأثراتها ربطا شبيها بما يتم عند الكائن الحي، فها هنا نضيف فارقا آخر - لعله الفارق الأساسي، أو ربما كان الفارق الوحيد - بين الكائن الحي والآلة الحساسة، وهو القدرة على القيام بأفعال منعكسة شرطية، فانظر - مثلا - إلى آلة أعدت لتكون حساسة للقروش، بحيث يوضع فيها القرش فترد عليه بإخراج قطعة من الحلوى، ثم حاول أن تكون فيها فعلا منعكسا شرطيا، بحيث يكفي أن تبرز أمامها قرشا، أو تنطق أمامها بكلمة قرش لتخرج لك قطعة الحلوى، فالأفعال المنعكسة التي تؤديها الآلة ستظل دائما أفعالا مباشرة لا يمكن أن تتم إلا نتيجة للمؤثر الأصلي، وما كذلك الكائن الحي، الذي إذا قرنت له الطعام بصوت الجرس عدة مرات، كان صوت الجرس بعد ذلك كافيا وحده لإحداث رد الفعل، وهو إفراز اللعاب.
الأفعال المنعكسة الشرطية، أو ردود الأفعال المكتسبة، هي من أهم المبادئ التي تستطيع بها أن تفهم الإنسان فهما يقوم على التجارب العلمية، ولا يعتمد على الضرب في غيب مجهول وروحانيات غامضة ملغزة، لكن «رسل» على الرغم من أنه يتجه هذا الاتجاه في تفسير الإنسان وسلوكه، إلا أنه لا يراه وحده كافيا، ومن الجوانب التي يقصر فيها ذلك المبدأ عن التعليل المقبول - في رأي «رسل» - جانب الذاكرة؛ كيف يتذكر الإنسان حادثا مضى؟
تستعمل كلمة «الذاكرة» بمعان مختلفة، فهي أحيانا تستعمل بمعنى واسع حين يراد بها القدرة على تكرار عادة اعتدناها، فأنت مثلا تستعين بالذاكرة على ربط رباط الرقبة، وعلى السباحة والمشي والكلام، لكنها أحيانا أخرى تستعمل بمعنى ضيق، بحيث يراد بها القدرة على استعادة حادثة مضت، فبينا ترى المعنى الواسع للكلمة يبيح للناس أن يستخدموها في حالة الحيوان - كالكلب مثلا - حين «يتذكر» وجه صاحبه، أو يتذكر اسمه حين ينادي به، بل يبيح لهم أن يعللوا الأفعال الغريزية بالذاكرة؛ إذ هي في رأيهم تذكر الفرد الواحد لتجارب أسلافه، وإن «دارون» ليذهب في هذا الاستعمال للكلمة بمعناها الواسع إلى حد يستبيح معه لنفسه أن يتحدث عن «ذاكرة النبات»، ترى فيلسوفا مثل «برجسون» يرفض هذا الاستعمال للكلمة، ولا يجعل «العادة» نوعا من الذاكرة، ويصر على أن الكلمة لا تعني معناها الحقيقي، إلا إذا أردنا بها استعادة حادثة وقعت في الماضي، وربما وقعت مرة واحدة، بحيث لم ينشأ عنها «عادة»؛ لأن العادة تتطلب التكرار.
عند أصحاب المذهب السلوكي - وعلى رأسهم الدكتور واتسن - أن «الذاكرة» ليست إلا عادات، حتى ليرون أن موضوع الذاكرة لا يحتاج إلى دراسة خاصة؛ لأنه فرع من موضوع أشمل هو «العادة»، وحتى ليحرم السلوكي على نفسه أن يستخدم كلمة «ذاكرة»، حتى لا يختلط عليه الأمر، فيظن أن لها معنى خاصا بها غير المعنى المفهوم من كلمة «عادة».
54
ومن الأمثلة التي يسوقها السلوكيون ليبينوا أن «الذاكرة» ليست إلا عادة جسدية تكونت، تجربة أجريت على فأر في متاهة، فقد احتاج الفأر في المرة الأولى إلى أربعين دقيقة ليخرج من المتاهة، وبعد خمس وثلاثين محاولة تعلم أن يخرج من المتاهة في ست ثوان دون أن يخطئ مرة واحدة في التماس طريقه داخل المتاهة، ثم أبعد عن المتاهة ستة أشهر، فلما أعيد إليها خرج منها في دقيقتين، وأخطأ في محاولته ست مرات، فهذا مثل يوضح إلى أي حد استطاع الفأر أن يحتفظ بما تعلمه في المرة الأولى.
ومثل تجريبي آخر؛ قرد وضع في صندوق من صناديق التجارب، فاحتاج أول مرة إلى عشرين دقيقة ليفتح الصندوق، وظل القائمون بالتجربة يعيدونه إلى الصندوق مرة بعد مرة، وفي كل مرة يقل الزمن الذي يتطلبه القرد لفتح الصندوق، حتى كانت المرة العشرون استطاع أن يفتحه بعد ثانيتين، ثم أبعد عن الصندوق ستة أشهر، فلما أعيد إليه استطاع أن يفتحه في أربع ثوان.
هكذا يتعلم الحيوان، ويحتفظ بما تعلمه، وإنما الذي تعلمه واحتفظ به هو عادات جسدية، فإن قلنا عن الفأر أو عن القرد إنه بعد ستة أشهر «تذكر» خبرة الماضي، كان معنى قولنا هذا هو أن العادة التي تعودها بقيت لديه، وكذلك الحال في الإنسان؛ فهكذا يتعلم، وهكذا يحتفظ بتجاربه، وفي هذا الاحتفاظ بعاداته التي تعودها يكون ما نسميه بالذاكرة، ولم يكن «برجسون» على صواب حين اعترض بالحادثة التي تحدث مرة واحدة، ويستعيدها الإنسان بعد ذلك؛ لأن «العادة» قد يكفي لتكوينها فعل الشيء مرة واحدة، بحيث إذا عاد المؤثر مرة ثانية عاد الفعل على النحو الذي تم به في المرة الأولى.
هذه خلاصة ما قاله السلوكيون، وهو رأي في الذاكرة لا يوافق عليه رسل إلا إلى حد محدود، إذ يرى أن هنالك حالات كثيرة يصعب تفسيرها بمجرد الترابط الحركي في الجسد؛ فقد أتذكر حادثة وأعبر عنها بصور لفظية مختلفة، فلو كان التذكر مجرد ترابط آلي ربط بين الحادثة وعادات كلامية، لاقتضى الأمر أن أعبر عن الحادثة الماضية بصيغة كلامية واحدة هي التي اقترنت بها عند حدوثها أول مرة.
إنه إذا كانت الأمانة العلمية تقتضينا ألا نندفع في انتصارنا لمبدأ بعينه - كمبدأ السلوكيين في الأفعال المنعكسة الشرطية وتفسيره للسلوك الإنساني - بحيث نغض النظر عن الاستثناءات التي تعترض إطلاقنا لذلك المبدأ إطلاقا بغير قيد، فإنه كذلك ينبغي لنا ألا نقلل من شأن مبدأ بعينه إذا رأيناه منافيا لما نود أن يثبت صوابه، فما أكثر الناس الذين يتمنون أن يقال لهم عن الإنسان إنه كائن روحاني ملغز، ويكرهون أن يزعم لهم زاعم بألا روحانية في الإنسان ولا إلغاز، وأنه ممكن التفسير والتعليل بمبدأ تجريبي علمي كمبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية الذي أخذ به السلوكيون، وموقف «رسل» من هذا المبدأ هو أن يأخذ به إلى آخر حد يستطيع أن يذهب معه إليه، حتى إذا ما بقيت بقية من جوانب الإنسان يتعذر تعليلها بهذا المبدأ، حاول تعليلها على أساس آخر.
Bog aan la aqoon