فنظرت إلي نظرا حادا وقالت: إني أتشرف بمعرفتك، وأشكر البارون الذي قدمك لي.
أما رفيقتها فكانت خوخية اللون ذات مقاطع جميلة تامة، وعينين سنجابيتين، وكانت إذ كنت أنظر إليها تخلع أكف يديها وبرنيطتها حسب عوائد الباريسيات، فقال البارون لجوزيفا: إنك لم تعرفينا برفيقتك فالتفتت إليه وقالت: أعرفك بالمدموازيل كورلي دي فرنسوا، إحدى أعضاء لجنة الموسيقى، وعشاقها يسمونها كوكو للاختصار، وقالت لها: أعرفك بالمسيو جستاف فركنباك الصيرفي الشهير، وبكاتم أسراره المسيو مكسيم جوشران ... ولكن كيف لم يؤت بعد بالطعام؟
وإذا بالخادم داخل وفي يده ألوان الطعام فوضعها على المائدة، فقالت جوزيفا: والله إن بطني المحبوب لم يذق الطعام حتى الآن، فوالله لأملأنه من هذا الطعام اللذيذ فأجابها البارون: أراك تقسمين بالله مثل هنري الرابع فمنذ كم سنة تتبعين خطته. - من يوم قرأت تاريخ غرامه، وقد كان ملكا عظيما. فضحك البارون.
أما جوزيفا فكانت تشغل الكل بالحديث، وكانت زهوتها تتزايد من دقيقة إلى أخرى، وكنت أفكر في البارون، هذا الرجل العاقل كيف كان مسرورا بمغازلة جوزيفا، وكيف كان يحتمل مزاحها وسخريتها وامرأته من أنضر النساء وأجملهن، وأفضلهن عقلا وذكاء؟! وهو مع ذلك يخدعها ويهوى غيرها، ومع أن الله قد أمره أن يهبها قلبه، فقد وهبه لمن هي دونها، وإنما كان ذلك ليصدق قول القائل: «وللناس فيما يعشقون مذاهب.»
فقالت لي جوزيفا: كيف لا تمازح كوكو في حين ترى أن البارون يعطيك المثل؟! فأخذت أقص على كوكو أحاديث ونوادر أعرفها عن النساء، فضحكت ضحكا شديدا وسرت لبساطة كلامي، وضحك البارون أيضا، وقال: كنت لا أشك في مهارتك بهذا الفن، وكأنك كنت خجلا منا ، وإذا كان ذلك فنحن ذاهبان عنكما، فأجابته جوزيفا: نعم، إننا في حاجة لاستنشاق الهواء النقي، فأستودعك الله يا مكسيم، وأوصيك يا كوكو بتقبيل مكسيم؛ لأنه شاب لطيف جميل، ثم رفعت يديها كالكاهن وقالت: أيها الرب، الإله بالمجد والكرامة، كللهما، فليبارككما الرب الإله آمين.
وبعد أن ذهبا جعلت أفكر في وسيلة أتخلص بها من كوكو لأمضي إلى ريتا، فرأيت أن من المنكر أن أعامل ريتا بخلاف معاملتها، وأن من الواجب أن لا أدع لها سبيلا للغيرة والنفور، فقلت أتأذنين لي يا عزيزتي أن أزورك غدا أو بعد غد، فقالت بتنهد: ولكن كيف لا تذهب معي الآن؟ فقلت: إني قبل أن يدعوني البارون ضربت موعدا لإحدى السيدات، ويصعب علي أن أخلف موعدي، فقالت: لا بأس وإذا شئت أن تزورني غدا فأنا أسكن شارع جوروت دي مورو اتجاه الأوبرا، وإذ قد اضطررت لأن تفارقني الآن فقبلني إذن قبلة الحب والوداع.
فقبلتها قبلة من كل خد، ولكن لا أعرف مقدار الفرق بين قبلتها وقبلات ريتا، ثم أرسلت إلي كلماتها الأخيرة وقالت لا تنس ... واكتب إلي.
وإذا كانت الساعة لم تبلغ العاشرة بعد، ركبت عربة وسرت إلى شارع كوبنهاك، فلما وصلت رأيتها في انتظاري، وكانت أشبه بجندي على مقدم مركبه، تسرح النظر في الطريق الذي كنت مزمعا أن آتي منه، ولما رأتني قالت مغضبة من أين أنت آت؟ - قد تركت البارون وأتيت. - لم أسألك إذا كنت معه أم لا، بل أسألك أين كنت؟ - عند بنيون. - كنتم هناك ... أربعة؟ - كنا اثنين. - كنتم اثنين في اثنين. - إنك يا حبيبتي غير عادلة، وتجسمين الأشياء حتى لا تكاد تعقل. - أتظن أني أصدق كلامك؟
وكانت دلائل الغضب بادية على وجهها الحسن، وزفرات صدرها تدل على اضطراب فكرها، فاستلقت على المقعد واغرورقت عيناها بالدموع، ثم قالت: آه، ما أقوى حبك، وما أقسى قلبك! ليتك تعلم ما أقاسي في هواك.
فقمت إليها وجلست إلى أقدامها، وجعلت ألاطفها ملاطفة الشيخ العاقل لولده المريض، رجاء أن تتعزى بأطايب الكلام، فقلت: إنك غير محقة فيما تدعين علي يا حبيبتي، والبرهان على عدم وجود النساء معنا في البار، أني جئت في الساعة التي عينتها لي دون أن أتأخر ثم إلا أن قوة الحب التي تصلني بك إرادية، هي والعبودية التي كلفت بها أليست اختيارية، إذن كيف أراعي بوقت واحد الأمانة والخيانة؟ فإما أن أكون خائنا، وإما أن أكون أمينا، ومعاذ الله أن أخونك بعد أن وليتك على قلبي، فنهنهي دموعك إذن، واستنتجي من كل ما أفعل وأقول نتيجة واحدة، وهي أني أحبك ولا أحبك سواك، فارتاحت لكلامي واجتهدت في أن تبتسم، وقالت بصوت مترجرج: إذن اعذرني لاعتدائي عليك يا حبيبي، ولا تلمني على غيرتي عليك، فكل غانية تغار، وقد اعتدت من صغري أن أبث ما في قلبي، وإلا لذاب من الحزن والأسى لولا الزفرات والعبرات التي تخفف علي، وأنا قد جعلتك سيدي، وأصبحت أمتك، وتركت زوجي لأهتم بك وأنعم بحبك، وقد قال لي قوم: إن البارون يحب غادة من الغادات تدعى جوزيفا، فأجبتهم فليحب من يشاء، وإذا سمحت لزوجي فلا أسمح لك، بل أود أن تكون لي وحدي يا ملكي وسيدي، وأود أن يشتغل فكرك بي كاشتغال فكري بك دوما، وأود أن يكون حبنا أشبه بتلك القناديل المعلقة في الكنيسة، التي يزاد إلى زيتها دائما بحيث لا تنطفئ، وأود أن نكون كلانا عبدا للغرام، آه ثم آه، هل تحبني كما أحبك؟
Bog aan la aqoon