كل ما حدث أني بدأت - كما يقولون - أفيق لنفسي قليلا، بدأت أستعيد ذاكرتي ووعيي بعملي وبما علي من واجبات. وجاء شوقي وتحدثنا، والواقع لم يكن حديثا، كان تأنيبا على طريقة شوقي المؤدبة الموجعة الحاسمة. وكان موقفي من المجلة يتدهور من سيئ إلى أسوأ حتى إني لم أكن قد حضرت طبع عددين متتاليين، وكان حضورنا جميعا واجبا مقدسا؛ فقد كنا نكمل تحرير المجلة و«نوضبها» صفحات في يوم واحد، وفي حجرة صغيرة كالزنزانة كانت تجود علينا بها الجريدة الكبيرة التي كنا نطبع المجلة في دارها، ولم نكن كثيرين، وعدد الذين كانوا يفهمون منا في تلك العملية كان محدودا جدا لا يتعدانا أنا وشوقي واثنين آخرين من الزملاء. وأعجب شيء أن الدار التي نطبع فيها كانت خصما لدودا لنا ولاتجاهنا؛ ولهذا كان صاحب الدار لا يسمح بدوران الماكينة وبدء الطبع إلا بعد أن ندفع تكاليف العدد كلها، وتكاليف العدد كانت هي مشكلتنا الرئيسية التي نظل طوال الأسبوع نئن تحت وطأتها ونحاول تدبير أمرها، وغالبا ما كنا نفشل، وتأتي نهاية الأسبوع ويأتي يوم الطبع ونحن ما زلنا لم نجمع ثمن العدد بعد. وصاحب الدار أوامره صريحة ومشددة، والمواد قد انتهى جمعها وتوضيبها، والمسألة كلها متوقفة على جنيه أو اثنين، نجري هنا وهناك كالمسعورين يكاد يذهب بعقولنا إدراكنا أن جهودنا الضخمة الكبيرة التي بذلناها طوال أيام وليال موشكة على الضياع من أجل هذا المبلغ التافه.
ولهذا فيوم الطبع كان هو يومنا الأكبر الذي نحشد له قوانا كلها، ونظل واضعين أيدينا على قلوبنا خوفا من صاحب الدار تارة وخوفا من مصادرة العدد تارة أخرى، حتى تأتي الساعة الثانية أو الثالثة من صباح يوم الصدور، وغالبا ما كانت تأتي ونحن قد توصلنا بوسائل لا يكاد يصدقها العقل لدفع ثمن العدد والحصول على أمر الطبع، حينئذ نخرج ملوثين بحبر «البروفات»، جوعى، كادت تنفد سجائرنا، ولكن الشيء الأهم أننا نخرج وقد تأبطنا الأربع «كرتونات» التي قد تبلورت فيها وتجمعت جهود وكفاح العشرات من الناس لعشرات دستات من الساعات.
وكانت المطبعة تبعد من مكان جمع الحروف مسافة ليست بالقليلة كنا نقطعها سيرا على أقدامنا، نفتح صدورنا لنسمات الفجر، وكل منا تحت إبطه «كرتونة» يضمها إلى صدره ويتحسس حروفها البارزة كما يتحمس الكنز الثمين، ويتخيل أثرها حين تصدر في الغد وقد أصبح الحرف منها ألوفا وتحولت آلاف حروفها إلى ملايين الأصابع والأيدي والقبضات التي تهز الشعب وتوقظه وتدفعه للحركة، نحس بهذا كله ونحن في طريقنا إلى المطبعة كالجيش الصغير الذي برغم كل ما هو فيه من إرهاق وتمزق وإجهاد؛ إلا أنه قد خرج ظافرا من معركته الأسبوعية الفاصلة، ذلك الظفر الذي لم نكن نطمئن إلى أنه قد أصبح حقيقة واقعة إلا حين تدمدم المطبعة وتدور أسطواناتها الضخمة وتقذف بأول دفعة من أعداد المجلة، فنتناولها بشغف جشع، ونلوث بياضها الطازج بما في أيدينا من بقايا الحبر، ونطبع عناوينها الحمراء والسوداء الطازجة اللزجة على أكتافنا وأيدينا، ونقرأ العدد من أوله لآخره وكأنما نرى كلماته ومقالاته لأول مرة بعيون نهمة تكاد من فرط ما قاست لا تصدق أبدا أنها نجحت، وأن كل ما خطر لها من أفكار وآراء قد أصبح كلمات ثابتة خالدة لا تزول.
كان تأنيب شوقي مؤدبا موجعا حاسما، ولم أكن أستطيع الرد عليه، لا لإحساسي بالذنب لأن إهمالي كان بسبب مشغوليتي بسانتي ، ولكن لأسباب أكثر عمقا وتأصلا في نفسي، أسباب كانت لا تزال حتى ذلك الوقت مبهمة غامضة لم تجد لها بعد جسدا من الكلمات أستطيع معه أن أعبر عنها وأقولها. آثرت الصمت إذن، وآثرت أن أسمع وأهز رأسي هزة المعترف بتقصيره، وأن أعد شوقي في النهاية بأن كل شيء سيعود على ما يرام.
غير أن شوقي لم يقتنع بهزات رأسي وأخذ يسألني إن كنت أعاني من مشكلة ما هي السبب فيما أنا فيه، وهكذا كان الحال دائما مع شوقي وأمثاله من المسئولين عن المجلة وعن الجماعة؛ فالإنسان في نظرهم لا يمكن أن يقصر أو يتخاذل إلا إذا كانت في حياته «مشكلة»، وحتى إذا اعترض على رأي أو قرار لا يناقش اعتراضه هذا مناقشة موضوعية، ولكن لا بد أنه يفعل هذا لأنه يعاني من مشكلة ما عائلية أو شخصية. كان لا يمكنهم أبدا أن يتصوروا أن الإنسان قد يعارض الشيء لأنه خطأ لمجرد أنه خطأ.
وأصر شوقي كعادته على أن سبب الارتباك الذي يسود حياتي أني لم أتزوج، وأنني بالزواج سأحل مشاكلي الشخصية كلها.
وكعادتي أيضا هززت أكتافي لرأيه؛ فلم أكن قد فكرت في الزواج كحل للفراغ العميق الذي يملأ نفسي. لم أكن أستطيع أن أتصور أن شيئا ممكن أن يملأ هذا الفراغ إلا إنسانة خارقة للعادة، إنسانة لم أكن قد حددت ملامحها تماما، ولكنني واثق أنها موجودة وأنني حتما سألقاها يوما، حتى سانتي - وهذا هو العجيب - لم أكن أعتقد أنها تلك الإنسانة التي أتصورها، وأبدا لم أفكر فيها كزوجة للحظة واحدة.
ولكن المهم أنها أصبحت عندي أهم من أية إنسانة كنت أحلم بها، بل كان يخيل إلي أنني حتى لو وجدت الإنسانة التي أحلم بها ووضعت سانتي بجوارها فقطعا سأختار سانتي، لا لأن فيها كل ما كنت أحلم به من النساء، ولكن لأنها - وهي الحقيقة المكونة من لحم ودم - أصبحت في نظري أروع من كل من حلمت بهن من النساء، حتى اقترابها مني في الحقيقة والواقع كان لا يفعل شيئا أكثر من أن يغور بها في خيالها ويبعدها ويجعلها أصعب ما تكون منالا.
ونفض شوقي رماد سيجارته بسبابته كثيرا كعادته، وقال بوجه جاد، ووجهه كان دائما جادا، ذلك النوع السمح اللطيف من الجد: يا بني مش ح يحل مشاكلك إلا الجواز.
ولا أعرف لماذا انفجرت ضاحكا وأنا أراه يقول هذا. وحين اكتشفت السبب الذي جعلني أضحك واندفعت إلى مزيد من الضحك الأجوف العالي، أدرك هو الآخر بذكائه السبب، وقال وقد انقلب وجهه الجاد إلى ابتسامة صريحة صافية: صحيح الجواز ما حلش مشاكلي أنا، وإنما ... إنما يمكن يحل مشاكلك أنت.
Bog aan la aqoon