الفصل الثاني
ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الأوروباوي
اعلم أن انتشار التمدن في أوروبا إنما كان ابتداؤه في إسبانيا حينما كان المسلمون مستولين عليها، وقبل ذلك كان أهالي أوروبا لا يعرفون سوى الفتك ولا يتفاخرون بغير السلب والنهب. لكن لكثرة مخالطة الإسبانيول والإفرنج لمسلمي الأندلس وغيرهم، أخذوا عنهم بعض عوائد حميدة وعلوم مفيدة ومن ثم امتد التمدن إلى فرانسا وإنكلترا حتى عم جميع أوروبا.
وذكر في مقدمة «أقوم المسالك» أن الإمبراطور شارلمان الذي أسس دعائم السياسة والأحكام كان أول ملك ظهر في أوروبا من وقت سقوط الدولة الرومانية إلى سقوط دولة الإغريق التي كان تخت مملكتها القسطنطينية العظمى، وهو الذي أدخل العلوم والأعمال لممالكه، وكان يفني غالب أوقاته في قراءة العلوم وكان مجلسه محفوفا بالعلماء وأسس في باريس مدرسة جامعة لسائر المعارف. وبمثل هاته المآثر حصل من السمعة في أقطار الأرض ما استمال الخليفة هارون الرشيد إلى صحبته ومهاداته بتحف منها ساعة لم تزل إلى الآن في أحد قصور فرانسا - وهي الساعة التي مر معنا ذكرها - قال: «ثم بعد وفاة الإمبراطور المذكور وفقدان تدبيره، تعطلت تلك المصالح وتنازلت أوروبا وبقيت مغمورة في دجا الجهل ستمائة سنة، وفي هاته المدة كانت وطأ لأقدام البرابرة الذين كانت دولهم تتداول عليها. ومع ذلك الفشل التام فإن أهل الكنيسة منهم كانوا محافظين على المعارف وعلى اللسانين اللذين لولاهما ما انتفع بتلك الكتب وهما اليوناني واللاتيني، فالناس ممنونون لهم بذلك.
وفي القرن الحادي عشر الذي هو خامس قرون الهجرة النبوية، ظهرت مبادئ علوم وصناعات وهندسة في الأبنية، فانتشت بها هياكل في الناحية الغربية من أوروبا. وأخذ علم الفلسفة في النمو بين محاورات كلامية ومنازعات جدلية. وظهر حزب الفرسان الذين اشتهروا باسم «الكفاليير» وهم جماعة من وجوه الناس تحالفوا على أن يحاربوا في الله للمدافعة عن حرية النسوة والمستضعفين من سائر الأهالي، وأن لا يلاحظوا في أفعالهم لا سيما المحاربة سوى مقتضيات الشرف الإنساني وعلو الهمة ولو مع أعدى الأعادي مثلا، يرحمون من يسترحمهم ولا يجهزون على جريحهم ولا يبتزون سلب قتيلهم.
ومن أواخر هذا القرن إلى أواسط القرن الثالث عشر، كانت حروب الصليبيبن مع المسلمين لافتكاك بيت المقدس وقطع استيلائهم على الأمم في زعمهم. قال: وإنما أشرنا لهاته الحروب والفرسان، لبيان ما لها من الدخل في التمدن الأوروباوي، فإن مؤرخيهم يقولون: إن تلك الحروب، وإن هلكت فيها نفوس عديدة وأموال غزيرة بدون الحصول على المقصود بالذات، فإنها أعقبت نتائج نافعة لهم، منها أنهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر، وتعلموا بمواصلتهم لأهل المشرق صناعة التجارة والزراعة ونحو ذلك، وتخلقوا بأخلاق الحضر، وتعودوا بالأسفار لاستكشاف أحوال الأقطار، فاطلعوا على أحوال آسيا المتوسطة وأحوال الصين كما ذلك مبين بتآليف «ماركو بولو». وبالجملة فبالسبب المذكور، وهو مخالطة الأوروباويين للأمة الإسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة، كان ابتداء التمدن عندهم لا سيما في القرن الثالث عشر، ثم تهذب حتى وصل إلى ما هو مشاهد اليوم.
ومن أعظم الأسباب التي أعانت أوروبا على التمدن اختراع الطبع الذي سبب انتشار العلوم، ونشأ عنه من المنفعة بين الأمم ما لا يوصف. قيل: إن الذي اخترع طبع الكتب غتمبرغ من أهالي ميانس بألمانيا. وأول ما طبع منها كتاب في أشعار اللغة اللاتينية، وذلك في أواسط القرن الخامس عشر . وقال بعض المؤرخين: صناعة الطبع قد اختلف الأقوال في مخترعها؛ فبعضهم نسبها إلى منتزو وبعضهم إلى إسترابورغ وهارلم وبعضهم إلى فينسيا ورومية، وبعضهم إلى فلورنسة وبلسيل. وفي رواية أدريان جونيوس أن مخترع الطبع هو يوحنا كستر من هارلم طبع على خشب كتابا فيه حروف وصور على وجه واحد، وذلك في سنة 1438. قال: وفي سنة 1442 أنشأ يوحنا فوست مطبعة في منتزو طبع فيها كتابا، وزعم بعض أن أول كتاب طبعه كان كتاب المزامير. وقال آخر: لا شك أن الطبع كان معروفا عند أهل الصين، وذلك قبل تاريخ المسيح بأحقاب عديدة، والأقوال في ذلك كثيرة، والأصح أن انتشار الطبع لم يكن إلا في الأزمان الأخيرة.
وبالجملة فالطبع هو السبب الأعظم لانتشار المعارف والعلوم وقد أعان أوروبا على إنشاء المدارس الكثيرة، وتعميم الفوائد والعلوم حتى أضحت مدارسها لا يعزب عنها علم من العلوم ولا فن من الفنون، وحازت أهاليها من التمدن أسمى مكان، وقد تفننوا في كل شيء وبرعوا في كل فن، وأصبحوا أحسن العالم ثروة وأعظمهم تجارة بعدما كانوا أسوأهم حالا وأقلهم مالا، وتسابقت علماؤهم ومؤلفوهم إلى الاختراعات العجيبة والتآليف الغريبة وتعميم المعارف وتأسيس المدارس والمعامل واصطناع الأدوات والآلات لتشغيل الصنائع، وأخصها المنسوجات التي بها توسعت دائرة التجارات الأوروباوية.
وحازت أوروبا تمام الثروة والغنى حتى قيل - كما في «كشف المخبا»: إنه بلغ في سنة 1874 عدد المعامل في إنكلترا ووالس وسكوتلاند وإرلاند (1274) معملا وعدد المستخدمين والصناع فيها (1005685) منهم (394044) ذكور، (611641) إناث، وبلغت البضاعة التي خرجت من إنكلترا إلى الخارج في سنة 1879 (591531758) ليرة، وبلغت قيمة المجلوب لفرانسا في السنة المذكورة (183793480) ليرة إنكليزية «جنيه»، وبلغت جملة المخارج منها في السنة المذكورة (126523600) ليرة. وفي الإحصائيات أن قيمة المجلوب إلى بلاد الروسيا بلغت في سنة 1860 (101183) روبلا، وكل روبل عبارة عن أربع فرنكات، وقيمة الخارج منها بلغت (52854021). وبلغت قيمة المجلوب إلى أوستريا في السنة المذكورة (229631472) فلورينا وكل فلورين عبارة عن فرنكين ونصف، وبلغت قيمة الخارج منها على ما ذكره في كشف المخبا (306829716).
وهذا كله عن إحصائيات سنة 1860 وسنة 1879 مسيحية ، فكم تكون تحسنت الحال من وقتها إلى الآن؟ يعني سنة 1887، وأظنه أضعاف ما ذكر؛ لأن الأشغال والتجارات الأوروباوية آخذة بالنمو والازدياد يوما عن يوم، وقال: إنه يوجد محل في إرلاند يخص أحد الإنكليز فيه أربعة آلاف شخص مستخدمين في عمل القمصان يصنعونها بأدوات النار، وهذا القدر بمنزلة سبعة آلاف شخص. فأي فرق يرى الآن في بلاد الإنكليز وقد صارت تمد جميع الدنيا بمصنوعاتها وتكسو الناس والديار والحيوان بمنسوجاتها؟ بعد أن كانت تبعث الثياب إلى هولاند لتصبغ هناك وتعاد إليها لتبيعها، وبعد أن كانت تنتظر أحد الفارين من فرانسا وغيرها أن يأتي إليها ويبث فيها صنعة من الصنائع، فإن هذا الديباج الذي يسمونه دامسك «دامسقو» أصل صنعه كان في دمشق ثم حاكاهم فيه أهل هولاند، وفي سنة 1571 هرب منهم جماعة بسبب ظلم الأمير ألفا وجوره عليهم، فجاءوا إلى بلاد الإنكليز وصنعوه فيها.
Bog aan la aqoon