المقدمة
الباب الأول: في ميل الإنسان للحضارة والتقدم بالطبع وحقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع
1 - في قابلية الإنسان للتربية وطلب العمران
2 - في قابلية الأمة الإسلامية للتمدن أكثر ممن عداها
3 - في حقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول
الباب الثاني: في العلوم والمعارف والحث على التمتع بظلها الوارف
1 - في العلوم وأصول التعلم والتعليم وبيان ما في ذلك من النفع العميم
2 - في الحث على طلب المعارف والتمتع بظلها الوارف
الباب الثالث: في واجبات الأوطان والحرية والعدل اللذين هما سبب العمران
1 - في الكلام على الوطن وما في الترحل عنه أو السكن
2 - في الحقوق الوطنية
3 - في الحرية العمومية
4 - في ذكر العدل وأنه سبب العمران
الباب الرابع: الخاتمة
1 - ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي
2 - ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الأوروباوي
المقدمة
الباب الأول: في ميل الإنسان للحضارة والتقدم بالطبع وحقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع
1 - في قابلية الإنسان للتربية وطلب العمران
2 - في قابلية الأمة الإسلامية للتمدن أكثر ممن عداها
3 - في حقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول
الباب الثاني: في العلوم والمعارف والحث على التمتع بظلها الوارف
1 - في العلوم وأصول التعلم والتعليم وبيان ما في ذلك من النفع العميم
2 - في الحث على طلب المعارف والتمتع بظلها الوارف
الباب الثالث: في واجبات الأوطان والحرية والعدل اللذين هما سبب العمران
1 - في الكلام على الوطن وما في الترحل عنه أو السكن
2 - في الحقوق الوطنية
3 - في الحرية العمومية
4 - في ذكر العدل وأنه سبب العمران
الباب الرابع: الخاتمة
1 - ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي
2 - ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الأوروباوي
البيان في التمدن وأسباب العمران
البيان في التمدن وأسباب العمران
تأليف
رفيق العظم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تفضل على هذا النوع البشري بأن زينه بالعقل، وجعله له حجة يرجع إليها إذا اكفهرت ظلمة الجهل. من قضت حكمته بأن التقدم والعمران موقوفان على العدل والإحسان واتباع ما جاءت به الرسل من البيان. وصلى الله على سيدنا محمد أعظم الأنبياء شأنا وأوضحهم محجة وبرهانا، الذي امتدت أشعة نبوته في جميع الأقطار، فأبانت للناس سبل التمدن بما انبعث عنها من الأنوار، وعلى آله شموس الآفاق، وأصحابه المنعوتين بمكارم الأخلاق. وبعد؛ فلما كانت الألفة الجنسية والرابطة الوطنية مما يدعوان الإنسان إلى كل عمل تنشأ عنه فائدة الأوطان، لا سيما وطننا الكريم؛ فإنه باحتياج عظيم لأسباب التمدن والعمران واسترجاع ما استلبته منه حوادث الأزمان. بادرت لجمع هذا الكتاب عسى أن يكون به منفعة أستوجب بها الثواب، مرتبا له على مقدمة وثلاثة أبواب وتسعة فصول وخاتمة. والله - سبحانه وتعالى - هو المسئول أن يجعله بين الناس حائز القبول، ويهدينا جميعا إلى سبل الرشاد، ويرشدنا لما به خير البلاد. آمين.
المقدمة
اعلم أن السبب الحامل على تأليف هذا الكتاب، هو القيام بما يجب على الإنسان من الخدمة الوطنية اللازمة على سائر أفراد الهيئة الاجتماعية التي تسبر عن مهمات مصالحها، بإجراء جميع الوسائل الباعثة على تقدمها وعمران بلادها، والحث لذوي الغيرة من الأمة على اتخاذ الطرق التي لا تنافي وجوب الإصلاحات الوطنية، وترغيب أفراد هيئة الاجتماع في الأسباب الموصلة لتمدن الأوطان وعمرانها وتقدمها وتوفير ثروتها؛ منعا للمضار اللاحقة بها من الإهمال الصادر عن الأهالي الذين أفضى بهم الكسل إلى الاحتياج - حتى في ملابس أبدانهم - إلى غيرهم مع وجود الكفاية فيهم، ودرايتهم بالصنائع والتفنن بنفائس الفنون. وذلك من المصايب الملمة بالأوطان التي جعلت هذه الأمة متأخرة في ميادين الثروة والشهرة، مبيحة للأوروباويين اجتناء ثمرات متاعبها وامتصاص در بلادها، والأهالي في غفلة من زمانهم لا يعرفون من التمدن سوى الإقدام على ما لا ترضاه الهمم البشرية المفطورة على حب التقدم والتعزز وإباء الحقارة والتأخر. حالة كون لا يعد الوطن متمدنا ما لم تتوفر في أهله جميع الأسباب المدنية، كالإقبال على طلب العلوم والمعارف وحب الفنون والصنائع وإنشاء المعامل والمدارس، واستحضار جميع الأدوات الحسية والمعنوية اللازمة للحالة الحضرية، والتمزي بالمزايا الشريفة، ليس التمدن الانهماك في الشهوات الحواسية وحب الراحة والكسل الذي يفضي بالإنسان إلى الدرجة الحيوانية هذا.
ولما كانت الديانة الإسلامية لا تحظر جلب المنفعة ولا درء المفسدة، وجب على رؤساء المملكة وعلمائها تنوير بصائر الناس بإيجاد السبل المؤدية للتمدن والترقي، وإعادة رونق مجد هذه الأمة لما كانت عليه أولا من التقدم والسطوة اللذين سهلا لها في أقل من جيل تعميم شريعتها في غالب الأقطار، وجعلاها أول أمة تفننت باستخراج كنوز المخبآت العلمية، مما شهد لها بذلك غالب الأمم المتمدنة الأوروباوية. لكن ما طرأ عليها في السنين المتوسطة الهجرية من الحوادث العظيمة، وتفريق الكلمة - كما سنبينه في الخاتمة - ذهب ببعض رونقها. على أنه إذا اتحدت رؤساء المملكة على استرجاع ما سلب من مجدها، تيسر لهم بأقل من قليل إعادتها إلى مركزها الأصلي التي كانت تدور عليه معارفهم الناشئة عن حسن السياسة والحكمة والتدبير وتقدمهم بين الأمم باتباعهم خطط التمدن والتقدم الحقيقيين، لا كما يتصوره بعض العامة ممن انطبعت أفكارهم على السذاجة من أنه لمجرد التبهرج والزينة بالملابس الإفرنجية، يحوز الإنسان درجات التقدم والخصال المدنية. على أن ذلك، بعكس ما تقتضيه الحال في هذين الأمرين، بل ومن الأمور التي تلقي الأوطان في وهاد التأخر والاضمحلال، فأما الأول فهو لاكتفائهم بما ذكر عن البحث في الأصول المدنية والاطلاع على ما كانت عليه هذه الأمة من الحضارة والتقدم وما آلت إليه حالها، وكيف انتفعت بها الأمم الأوروباوية بما نقلته عنها من العلوم التي نحن أحق بالتبصر فيها واستردادها.
وأما الثاني فهو عين التأخر كما ذكرنا؛ إذ إنهم يسببون بذلك رواج الأقمشة والبضاعة الأجنبية كما ينشأ عنه كساد بضاعتهم، ويضيق نطاق تجارتهم التي تتوقف على رواجها معيشة ألوف من الوطنيين، وذلك كالديباج مثلا، فإنه لا ينسج ويصير ثوبا ما لم تتداوله بالشغل عدة أيد، كمربي دود القز ومستخرج الحرير وصانع أدواته ومصلحه وصباغه وناسجه وصاقله وتاجره، إلى ما ينفع بعمله جملة أناس ربما تكون أسباب معايشهم مقصورة على هذه الصنعة؛ لأن أغلب الفقراء لا يستطيعون شغل زمن كثير بتعليم عدة كارات أو حرف؛ إذ إن أيامهم محسوبة على أهليهم فيقتصرون على تعليم صنعة واحدة كهذه مثلا، وبتعطيلها يتعطل حالهم. وفضلا عن ذلك، فإنه ينشأ عن وقوف حال التجارة الوطنية، عدم إقدام أرباب الحرف والصناعات على اختراع شكل جديد وعمل مفيد؛ نظرا لرواج البضاعة الأجنبية التي تصدهم عن اقتحام الأتعاب وتكبد المصاريف الآيلة إلى الخسارة. وبالجملة، فإن ما يترتب على ذلك من المضار قل أن يحصى، وهذا للكسل المستحوذ على بعض الأهالي، واكتفائهم من التمدن على الزينة والتبهرج كما ذكرنا، وإنكارهم كل عمل جديد مفيد للوطن بقولهم: إنه مناف للشرع، وينسبون تلك إلى المضار التي يجلبونها للبلاد بقبيح أفعالهم وسفسطة أقوالهم. ومع ذلك يجهلون أن كل أمة متمدنة تجاور أخرى غير متمدنة، توشك أن تكون فريسة لها «يعني للمتمدنة». ومن تأمل أصول الشريعة الإسلامية يجدها تحث الأمة على كل ما يدفع عنها غائلة غيرها، فكيف ونحن الآن في زمن جديد قد اتسعت فيه دائرة المعارف وقرب تواصل الأبدان والبلدان بما اخترعوه من السكك الحديدية والآلات الكهربائية والسفن البخارية، إلى غير ذلك مما سهل الأشغال وسبب رواج التجارات والتسابق إليها في الأقطار؟! فلا بأس من أخذ بعض المعارف التي ندفع بها كيد العدو، وذلك بواسطة العلماء الإسلاميين وبيانهم للناس الطرق السهلة التي لا تنافي الأصول والقواعد الشرعية كما تقدم؛ إذ إن اكتفاء غالب العامة بأمور يزعمونها عين التمدن قد أضر بمصلحة الأمة ضررا بليغا، فهم لا يتركونها ويعودون لمركزهم الأصلي ولا يتممون واجباتها ليتحصلوا على ثمرتها. قلت شعرا:
لقد كنت من هند بسوداء قلبها
تواليك بالإحسان والوصل والود
فملت إلى ليلى تحاول وصلها
فلا سمحت ليلى وأحرمت من هند
لهذا، ولما كان الغرض المقصود من هذا الكتاب هو بيان أصول التمدن الناشئ عنه عمران البلاد، وأن أول درجة من درجات التمدن اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول، وأن تكون الأمة متحدة على نشر العلوم والمعارف، حائزة كمال الحرية المؤسسة على العدل، محبة للمغيرات، مستحوذة على خصال التأنيس، مجتنبة كل ما تمجه الطباع المدنية من العوائد البربرية، منضمة على كلمة الوطن وجلب ما يعود نفعه على البلاد التي يكون أساس ثروتها وسبب تقدمها العدل الذي هو حياة الممالك، اقتضى أن أبين ذلك كل باب على حدته إن شاء الله - تعالى، فأقول:
الباب الأول
في ميل الإنسان للحضارة والتقدم بالطبع وحقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به
الشرع
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في قابلية الإنسان للتربية وطلب العمران
اعلم أننا إذا تأملنا في الإنسان من حيث ناطقيته وعظيم بنيته وبما أودعه الله به من سر القوى العقلية والصفات البشرية، وجدناه قابلا للتربية مائلا بالطبع للتعزز على ما عداه من جميع الحيوان، متسلطنا بصفة إدراكاته العقلية على المواليد الحيوانية والنباتية والمعدنية، محبا للتأنيس والاجتماعات البشرية ليدفع بها غوائل من عداه ويأمن على نفسه؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - كما فضل الإنسان على ما عداه من الحيوان بمزية العقل والإدراك والناطقية التي يتحصل بها على الألفة والجنسية والتأنيس والاجتماعات البشرية التي يدفع بها الغوائل الحيوانية، كذلك خص بقية الحيوانات على اختلاف أجناسها وتباين أشكالها بما لم يخص به الإنسان، فخص بعضها بالقوة والبطش كالأسد ليهابه غيره، وخص بالعدو من هو أضعف منه قوة وأصغر جثة كالغزال لينجو بقوة عدوه من كيد عدوه، ومنها ما خصه بغلظ الجلد ليدفع عنه شر الحر كالفيل وكالسنور بالفراء وكثرة الشعر ليتقي بهما شر البرد، وكالأرنب بكثرة السمع واليقظة ليأمن شر الاغتيال. وهكذا جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها.
فالإنسان بالنسبة لغيره يحتاج في جميع ذلك لاستعمال قواه الفكرية وحواسه العقلية، كما لا يتم له ذلك إلا بقوة الاجتماعات البشرية والألفة التأنيسية التي هي معه غريزة طبيعية، وبها يمكنه إعمال جميع قواه الفكرية للاستحصال على درجات الحضارة والعمران واجتناء ثمرات التمدن والمهارة في سائر أعماله. وإلا فلولا حبه للألفة والاتحاد وتفضيله الامتزاج عن الوحدة والانفراد، لكان فريسة لغيره خائفا على الدوام في نفسه. فبتلك المزايا الشريفة التي خص بها كما ذكرنا، وبقوة الاجتماع وانضمام القوى العقلية البشرية للبحث عما اشتملت عليه الكائنات من العجائب واستقصاء أسباب التمدن والتقدم، يتحصل على نتائج السعادة الدنيوية والأخروية.
ثم إن الإنسان يختلف بعضه بالتمدن والحضارة وحب التقدم، وبعضه بالدعة والسكون وحب الكسل، والبعض لا يكاد يميز عن الحالة الوحشية إلا بالهيئة البشرية وبعض استعمال القوة العقلية. فالنوع الأول من تمكنت منه أسباب التربية البشرية والحالة الحضرية المدنية، والنوع الثاني الذي لعدم استكمال تلك التربية فيه وتمكنها منه يكون غالبا مولعا بحب الدعة مائلا للكسل، والنوع الثالث هو الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط والامتزاج بمن جاوره من الأمم، فيكون في حالة حشمة بعيدا عن التمدن والحضارة مشهورا بالجفاء والقسوة.
فأما النوع الأول؛ فهو غني باستكمال التربية فيه وتمكنها منه عن الحث على طلب أسباب الحضارة والتقدم. وتأثير الهمة الإنسانية فيه كافية له في جميع مقاصده؛ إذ بها يتسلطن على من جاوره ويحوز كمال الشرف وباذخ المقام.
وأما الثاني - يعني: المائل للدعة التي هي في الإنسان غريزة طبيعية - فهو الذي يكون مولعا بالقوة الشهوانية التي هي في الحقيقة خدمة للجسم مذمومة أحيانا في الإنسان. وتلك القوة هي التي تجذب الإنسان عقيب تعب الأعمال الفكرية أو البدنية إلى الراحة والسكون، كما تدفعه قوة العمل عن مركز البطالة وحب النشاط والحركة والأعمال. وهاتان القوتان هما حالتان في الإنسان لا تكاد ترجح إحداهما عن الأخرى، بل هما في الإنسان على حد سواء.
فالأولى تسمى قوة الشهوة والملاذ التي تدعو الإنسان لجميع الملاذ البدنية، فتلقيه في مهاوي التأخر وحب الشهوات الحواسية، وتوصله إلى الدرجة الحيوانية. وأما الثانية فتسمى بقوة الأمل والعمل، وهي التي تبعث الإنسان على حب الأثرة والتقدم وكمال الائتناس، وبها تكون راحة الروح واستكمال فضيلة النفس والروح النورانية أو النفس التي تكون قد حازت الفضيلة التامة؛ حيث تجمع في الإنسان ضروب السلطنة العقلية وتبين له درجات الكمال الكاملة المدنية. وهاتان اللذتان المتباينتان، وإن اشترك فيهما جميع النوع البشري على اختلاف طبقاته وتباين درجاته، إلا أن لذة العمل منحة إلهية ولذة الكسل والدعة محبة شهوانية.
ومن فضل الله - سبحانه وتعالى - على عبده أن علمه وجوه المكاسب وأوقفه على دقائق الفنون والصنائع؛ حيث ذم البطالة ومدح السعي بقوله - تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (النجم: 39)، وقال - تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (الجمعة: 10)، أي: اطلبوا المعاش الذي به قوام حياتكم، وفضل الله هو رزقه الذي تفضل به على عباده، والسعي مشكور في جميع الأحوال والبطالة لا تفيد صاحبها إلا الذل والحرمان، ومن شأن البطالة أن تبطل الهيئات الإنسانية؛ فإن كل عضو أو جزء من أجزاء الجسم إذا ترك استعماله تعطلت حركته، كالعين إذا أغمضت واليد إذا شلت. ولكل عضو في الإنسان حكمة إلهية وحركة جعلها فيه لتتحد الحركات بعضها مع بعض وتصير حركة واحدة، وهي حركة مجموع الأعصاب البدنية التي يقوى بها الإنسان على السعي وطلب الرزق، فإن الله - سبحانه وتعالى - لما جعل للحيوان قوة التحرك العظيمة لم يجعل له رزقا إلا بسعي ما.
ومن هنا لا ينبغي أن يتوهم أن هذا مناف للتوكل، بل التوكل لا بد منه في جميع الأحوال، إنما يكون مع مباشرة الأسباب. فقد ورد في الخبر عن خير البشر أن الله يقول: «يا عبدي، حرك يدك، أنزل عليك الرزق.» وفي قصة السيدة مريم - عليها السلام - أكبر عبرة وأعظم معجزة، لما كفاها - سبحانه وتعالى - مؤنة الطلب بأن أمرها بهز النخلة ولم يجنها لها، وهو قوله - تعالى:
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (مريم: 25)، وقد أشار النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أن التوكل ليس التعطيل، بل لا بد فيه من نوع من السبب، فقال - عليه الصلاة والسلام: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا.» فإن الطير ترزق بالطلب والسعي.
نعم، لا ينبغي الإفراط في الكد والجهد، كما لا ينبغي قطع النظر عن الاستراحة في بعض الأحيان، والاعتدال أليق في جميع الأحوال.
ولنرجع الآن إلى بحثنا الأول، وهو أن نبين النوع الثالث الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط بمن جاوره من الأمم المتمدنة كما تقدم، وهذا النوع لا يكاد يعلم أي الأمرين غالب عليه، أحب الدعة والسكون، أم حب الأمل والعمل؟ فإنك تراه من جهة دائما يكلف نفسه باحتمال المشاق والأتعاب بتجوله بين الجبال والقفار واقتحامه مواقع الشرور والأهوال. ومن جهة أخرى لا تكاد ترى له عملا يحمد أبدا وهو في معزل عن سائر أسباب الحضارة والفلاح، وأفعاله أشبه بأفعال الوحوش؛ وما ذلك إلا لانعزاله عن المخالطة والائتناس بمن جاوره من الأمم المتمدنة. على أنه قابل في كل آن للتربية والتهذيب لاستكمال القوى البشرية فيه وتمام الناطقية التي يمكنه بهم التأنس بالناس واستعمال الوسائل الموصلة للحضارة والتمدن وحب العمران. فإن من منح الله - سبحانه وتعالى - أن خص الإنسان بالصفات المعنوية التي هي أسرار الناطقية، وجعل له العقل سراجا يهتدي به إلى سبل الفوز والنجاح، ويدرك ما اشتملت عليه الكائنات من العجائب الدالة على القدرة الإلهية والحكمة الصمدانية.
ومن أهم ما أنعم الله به على عباده من الأسباب المؤدية إلى التمدن والسعادة الدنيوية والأخروية، إرساله الرسل بالشرائع الحقة وبيانهم للناس أسباب الفوز، وانتشالهم من ورطات التهور والجهل بالحقائق والمصنوعات، وإرشادهم لما به انتظام أحوالهم وتقدمهم وسلوكهم طرق الآداب الإنسانية والتمسك بالأخلاق الحميدة المدنية. ولا شك أن سيدنا محمدا
صلى الله عليه وسلم
أعظم الأنبياء شأنا وأوضحهم محجة وبرهانا، وأن شريعته هي الشريعة المؤسسة على العدل، الداعية لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كما سأبينه في الفصل الآتي إن شاء الله - تعالى.
الفصل الثاني
في قابلية الأمة الإسلامية للتمدن أكثر ممن عداها
وذلك أننا إذا اعتبرنا أصول الشريعة الإسلامية نجدها أساسا لتمدن جميع النوع البشري بما اشتملت عليه من الآداب الدينية والعدالة والحث على التمسك بجميع الخصال الحميدة المندوب إليها كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية. لكن لما كان غالب العامة مكتفيا عن تلك الأصول بتعلم فرائضه الدينية فقط، وكان الوقوف على معرفة تمام الأحكام الدينية مخصوصا بالعلماء والمتفقهين، كان أكثر العامة يجهل تلك الأصول والقواعد المبنية على العدل، الداعية للتمدن المرشدة لسبل العنايات؛ ولذلك إذا طرأ على مسامعهم أن الحاكم أمر بإجراء أمر ما في البلاد لم يطرأ على مسامعهم من قبل، يتألبون ويهيجون بقولهم: إن هذا شيء مغاير للشرع.
على أن الحاكم العاقل يتحقق أن نظام هذه الأمة لا يتم إلا بإجراء تمام الأصول الشرعية؛ لأنهم قد ينفرون من إجراء بعض المستحبات لعدم معرفتهم بالحقيقة التي ربما يظهر لهم أخيرا أنها غير خارجة عما أمر به الشارع، فكيف إذا أراد الإتيان بأمر عقلي ينكرونه عليه كل الإنكار ورام بثه بين الناس؟!
وفضلا عن ذلك، فإن الحاكم العاقل العادل لا يحتاج في جميع أعماله إلى التحسينات والتقبيحات العقلية؛ لأن الشريعة الإسلامية ما تركت شيئا من الأمور الدينية والدنيوية إلا وحصرته مع بيان تفصيل ما يحسن العمل به وما لا يحسن، ومعلوم أن ما لا يحسنه الشرع لا يحسنه العقل. وقد دونت الأئمة المجتهدون في ذلك كتبا لا تحصى فائدتها. غير أنه لما كانت الإصلاحات الخيرية في البلاد، وبيان أسباب التمدن والتقدم منوطة بالحكام دون العلماء، كانت العامة تنكر كل عمل يأتي به الحاكم إلا بإذن الشارع حتى تطمئن قلوبهم للعمل به كما تقدم، وجب على الحكام الاشتراك مع العلماء لبيان أسباب التسهيلات الشرعية وبث أسباب السعادة وأنوار التمدن شيئا فشيئا؛ لتتمكن التربية الأهلية منهم. على أن آدابهم الدينية وواجباتهم الشرعية كافية للتخلق بالأخلاق الحميدة والتأديب بالآداب الإنسانية والتهذب للعقول البشرية، بخلاف ما هو مشاهد الآن، من غالب المدعين بالتمدن وحب الشرف الإنساني من الأفعال التي تأباها النفوس الإسلامية الشريفة التي تضطرهم إلى اجتنابها آدابهم الدينية وشهامتهم الإسلامية، وأخصها صيانة العرض.
وبالجملة، فإن هذه الأمة قابلة للتمدن أكثر ممن عداها من الأمم؛ لما تأسست عليه شريعتها من العدل الذي هو رأس كل فضيلة، ولاتباعهم الأوامر الإلهية والتمسك بالأصول الدينية الداعية لخير ونجاح الدنيا وثواب الآخرة.
فقد قال وحيد عصره أحمد أفندي فارس في كتاب رحلته المسمى ب «كشف المخبا عن فنون أوروبا» عند ذكره وصف باريس وأحوال الفرنسيس ما نصه: «ومن ذلك أنهم لا يزالون ينقرون عن الحقائق ويودون لو يعلمون كل أمر من نصه، وقد خرقوا في كل علم وبرعوا في كل فن. ومع ذلك فقد عزب عنهم أهم الحقائق، وهو ضرورة وجود الدين لكل من السائد والمسود والرئيس والمرءوس، ولو سلم لهم بأن الكيسين وأهل المعارف والآداب غنيون عنه بما فطروا عليه من حسن الأخلاق أو حسنوا به إملاءهم من مطالعة الكتب، لم نسلم بأن الرعاع الذين هم الجمهور الأعظم في كل البلاد غير مفتقرين إلى دين يردعهم عن الشرور والمعاصي ويحثهم على فعل الخيرات؛ ولولا ذلك لأكل القوي الضعيف، فإن قلت: كيف يأكله والحاكم من ورائه؟ ليس في كل الأمور يمكن استحضار الحاكم والاستغاثة به، ألا ترى أنه إذا اجتمع مثلا اثنان وبطش القوي منهم بالضعيف، أفيكون لصاحب الحكم عين باصرة أو أذن سامعة للقصاص؟! فكم من قضية جرت بين الناس وفاتت اجتهاد أهل السياسة والأيالة؟! ولكن إذا كان الناس يستحضرون خالقهم في السر والعلن ويخافون عقابه ويرجون ثوابه، كان لهم بذلك أعظم رادع ووازع، فاتصاف أمة بعدم الدين من أعظم ما يهين شرفها ويخفض قدرها.» انتهى كلامه بحروفه.
الفصل الثالث
في حقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول
اعلم أن أول درجة من درجات التمدن هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول والأخذ بالنواميس الإلهية، وتصديق ما أنزل الله من الكلام على أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام؛ إذ إن كل من خالف الشرائع معرضا عما أمر الله من اتباع سنن المعروف والإذعان للأوامر الإلهية، يعد أول جاهل قد أعمت بصيرته وساوس الشيطان، وهو لا شك عديم التبصر، ما عنده من إدراكات ذوي العقول البشرية المدنية ولا ذرة؛ فإن كل ما تأتي به الرسل هو عين التمدن الحقيقي.
والعاقل البصير لا يشك فيما أنزل الله وسنه الرسول مما يرشد إلى سبل العناية الدنيوية والأخروية، ويبين للإنسان عظم القدرة الإلهية وتصرفها بما تقتضيه المشيئة، وإن ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأصول والأحكام هو الذي نشر التمدن في أقطار العالم بما انبعث عنه من أنوار الهدى والعدالة التي عمت سائر الآفاق فمحت ظلام الجهالة والاستبداد.
ومن تأمل فيما كانت عليه أكثر الأمم السالفة من التهور والسذاجة، وقاسها بمن جاء بعدهم بعد ظهور الأمة الإسلامية، تحقق له صدق ذلك، على أنه لا يختلف فيه عاقلان. فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أتيتكم بشريعة حنيفية بيضاء، لم يأت بها نبي قبلي، ولو كان أخي موسى حيا لم يسعه إلا اتباعي.» وقال - عليه الصلاة والسلام: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال.» وقال - تعالى - في كتابه الكريم:
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (الأحزاب: 45-46)، وقال - تعالى:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 107)، فلا شك أن الله - سبحانه وتعالى - رحم عباده بهذا النبي الكريم، فأتى بما لم يأت به نبي من قبله، مظهرا حقيقة الحق للناس كاشفا لهم عما اشتملت عليه الكائنات من حقائق الحكم الدالة على وحدانية الله - سبحانه وتعالى، مبينا لهم بذلك الطرق المؤدية لخير الدين والدنيا ليميزوا الحسن من القبيح ويفرقوا بين السقيم والصحيح، فانتشل به
صلى الله عليه وسلم
هذا العالم من حضيض الحيرة والضلالة، وكانت شريعته سبب انتظام العالم وأمته خير أمة أخرجت للناس، وبها انتشر التمدن في الأقطار وانبثت في الناس روح الحضارة والتقدم بما رفع عن عاتقهم من ثقل الجور والتهور والاستبداد.
ولما كانت الملوك الإسلامية لا تفتر عن الفتوحات وبث العلوم والمعارف في الناس، كانت الحضارة والتقدم ينتشران شيئا فشيئا في الأرض حتى تيسر لهم بزمن قليل تمدين أكثر العالم بواسطة فتوحاتهم العظيمة وتقدمهم في البلاد التي نالت بحلولهم أسباب السعادة والترقي، وكل ما فتحوه من البلاد رغبوا أهله في الدخول في هذا الدين القويم وترك التهور والضلال، وما مضى على ذلك إلا سنين قلائل حتى انتشر الإسلام من الشرق في الهند إلى الغرب في بلاد الأندلس «إسبانيا». والاستيلاء على هذا كله مما يتعذر على أعظم دولة الاستيلاء عليه بجملة قرون، وهذا أعظم دليل على ما بني عليه هذا الدين من قواعد العدل وأساس التمدن.
ومن نظر في قوانين وأحكام باقي الأمم المتمدنة التي توصلت إليها عقولهم بالاستنباطات التي وضعوها بقوانين مخصوصة للعالم، وجد أن تلك القوانين التي جعلوها أساسا للأحكام قل أن تخرج عن الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات بين الناس. وعبر عن تلك القوانين العلامة رفاعة بك المصري بما معناه ما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم «بالحقوق الطبيعية والنواميس الفطرية»، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسينا وتقبيحا يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية. أقول وهذه القوانين هي القوانين المدنية المستعمل غالبها الآن عند الحكومة المصرية.
وبالجملة، فإن الشريعة الإسلامية هي التي نظمت العالم بالقوانين الإلهية المبنية على العدل والإنصاف كما تقتضيه الأوامر الصمدانية من نظام هذا العالم، وبيان حسن معايشهم ومنعهم عن الجور والتصدي لحقوق بعضهم؛ لأجل أن ينالوا بذلك معاش الدنيا وثواب الآخرة. وإن عين التمدن هو ما جاءت به الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - واتباع ما سنه الشرع وأمر به الرسول، مع اتحاد الأمة على طلب العلوم والمعارف وإحراز التليد منها والطارف.
الباب الثاني
في العلوم والمعارف والحث على التمتع بظلها الوارف
وفيه فصلان
الفصل الأول
في العلوم وأصول التعلم والتعليم وبيان ما في ذلك من النفع العميم
اعلم أن من أقوى أسباب سعادة الأمة وتقدمها تولعها بالعلوم والمعارف الجالبة لخير البلاد وثروة العباد، التي بها يعلو منار التمدن والسعادة وتكسب المملكة رونق المجد والسيادة. وهذان الأمران هما ركنا الأوطان وأساسا غناها وتقدمها، وبهما يتحصل الإنسان على ثمرات المجد والفخار.
ولما كانت العلوم هي التي عليها مدار النجاح وبها يترقى الإنسان إلى درجات المعارف والفلاح، اقتضى أن نبين أولا أصول التعلم والتعليم، معرضين في ذلك عن زيادة التطويل والإسهاب.
فنقول: العلم هو ما يتوصل به الإنسان لمعرفة المجهولات من الأشياء التي لا تتم معرفتها إلا بالبحث والاطلاع، وهو صفة راسخة يدرك بها الكليات والجزئيات. وقيل: العلم وصول النفس إلى معنى الشيء. وقيل: إنه غني عن التعريف، وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه.
والتعلم هو جزء من التربية المعنوية؛ لأن التربية نوعان: التربية الحسية وهي تربية الجسم وتنميته، والتربية المعنوية وهي تربية الروح، يعني تهذيب العقل وترويض الذهن والفكر. وقسم هذه التربية العلامة رفاعة بك المصري إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
تربية النوع البشري، يعني: تربية الإنسان من حيث هو إنسان، يعني: تنمية مواده الجسمية وحواسه العقلية. القسم الثاني: تربية أفراد الإنسان، يعني: تربية الأمم والمال. والقسم الثالث: التربية العمومية لكل إنسان في خاصة نفسه، وهي تربية الإنسان الخصوصية. فالقسم الأول طبيعي إلا أنه كالشجرة الصغيرة التي تكون في أول نموها لا تكبر وتنمو ويطيب ثمرها ما لم تتعهدها بالتقليم والماء في أوقات معينة، وتكون أرضها جيدة التربة طيبة الثرى، فحينئذ تنمو ويحسن شكلها ويطيب ثمرها؛ ولذلك لا يكون هذا القسم غالبا إلا بأيام الشبيبة والصبا اللذين بفواتهما يفوت المرء ما يؤمله من تحصيل أسباب السعادة والسيادة؛ فلذلك ينبغي لكل إنسان ألا يضيع أوقات شبيبته سدى مشتغلا بما يذيقه عاقبة مرارة الندامة والحرمان. شعرا:
إن الصبا فرصة إن كنت تكسبها
نلت المراد وإن أغفلتها تزل
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - قوله:
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا علم وتحسب من عمري
وبالجملة، فالتعلم في سن الشبوبية أسرع لتحصيل العلوم وأليق، ومهما اجتهد الإنسان عند بلوغه سن الكبر لا يستفيد ما يستفيده الشاب بزمن قليل من حياته.
القسم الثاني:
هو تعليم أحكام الدين الواجب معرفتها على كل إنسان، وهذا غالبا يكون بهداية الله - سبحانه وتعالى. ومن رحمته - سبحانه - بالعبد أن ينور بصيرته وقلبه ليعرف حقيقة الحق وقدرته العظيمة التي تحير العقول، ويأخذ بما جاءت به الرسل من البينات، إلا من أضله الجهل بالحقائق وأعماه الغرور.
واعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد شرف دين الإسلام على ما سواه من الأديان بما خصه من المزايا الشريفة العظيمة، وأجلها معرفة الله - سبحانه وتعالى - والإقرار بوحدانيته الصمدية، والوقوف على حقيقة الموجودات الدالة على بديع صنعه، والتمتع بالحقوق الإنسانية بدون اعتداء الناس بعضهم على بعض، بما اشتمل عليه من القوانين الإلهية والأصول الشرعية التي مرجعها القرآن الشريف المنزل بالحق على نبيه الكريم
صلى الله عليه وسلم
فلذلك يجب على المسلم تعليم الأحكام الدينية والأصول الفقهية والوقوف على دقائق العلوم الشرعية، لقوله
صلى الله عليه وسلم : «لغدوة في طلب العلم أحب إلي من مائة غزوة.» وقوله
صلى الله عليه وسلم : «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم.» وما جاء بفضل العلم والعلماء قل أن يحصى.
القسم الثالث:
هو ما يشمل الناس كبيرهم وصغيرهم، ويشترك بمنافعه غنيهم وفقيرهم. وهو على ثلاث مراتب: الأولى: هي العلوم الابتدائية التي قل أن يخلو منها إنسان في الأمم المتمدنة، وهي القراءة والكتابة وأصول الحساب والهندسة والنحو والصرف.
فأما الكتابة فإنه مندوب إليها لحديث: «استعن بيمينك.» أي: بأن تكتب. ولا يخفى ما بها من الفوائد العظيمة والمنافع العميمة؛ فإن الله - جل شأنه - تفضل على عباده بأن ألهمهم الكتابة التي بها ضبطت أحكام الدين ودونت أخبار الأولين. وأما الصرف فهو لإصلاح اللسان ومعرفة تراكيب الجمل الخالية من اللحن، وهو أساس لسائر العلوم. وأما الحساب والهندسة فهما غنيان عن التعريف؛ إذ نفعهما بين الناس معلوم، وهذا التعليم الأولي ضروري لجميع الناس على اختلاف أجناسهم؛ إذ به يحسن حال الهيئة الاجتماعية، ويعم نفعه جميع الرعية سيما أرباب الحرف والصناعات، إذا كان لهم إلمام بالكتابة تسهل عليهم الاختراعات والتفنن في صناعتهم بما يطلعون عليه من الكتب الموافقة، كل على حسب مرغوبه. وبالجملة، فإن احتياج كل الناس لهذه العلوم كاحتياج الطعام للملح، ولا غنى لأحد من العموم عنه.
وأما التعليم الثانوي الذي مرتبته أعلى من مرتبة ما قبله، فهو غالبا لا يلتفت للبراعة فيه أكثر الناس لصعوبة مسلكه. فينبغي للحكومة تشويق الناس إليه وترغيبهم فيه مع إجراء الوسائل المسهلة لتحصيله، كإنشاء مدارس مخصوصة منتظمة وجلب معلمين وأساتذة ماهرين؛ فإن هذا التعليم هو السبب الأعظم لتمدين جمهور الأمة وتنوير أبصارها وتقدمها في ميادين المعارف والحضارة. وأنواع هذا التعليم كثيرة، فما ينبغي تعلمه منها واشتغال الأهالي بالأهم فالأهم؛ منه علم الجغرافية الذي يتوصل به الإنسان لمعرفة ما اشتملت عليه الكرة من البحار والجبال والقرى والبلدان والطبائع وعجائب الحيوان، ولا أقل من أن يتوصل به الإنسان لمعرفة جغرافية بلاده ووطنه. والعلوم الرياضية بأنواعها والتاريخ والمنطق وعلم المواليد الثلاث والطبيعة والكيميا والإدارة الملكية وفنون الزراعة والمحاضرات والإنشاء وبعض الألسنة الأجنبية التي يعود نفعها على الوطن.
وهذه العلوم هي التي عليها مدار أكثر المدارس في الأمم المتمدنة ولمصر فيها بعض الإتقان الآن. وأما مرتبة العلوم العالية؛ فهي اشتغال الإنسان بعلم يتبحر فيه بعد تحصيله علوم المبادئ والتجهيزات، كعلم الفقه والطب والفلك والجغرافية من كل علم يجب تعلمه وجوب عين أو كفاية، وهو أن يجول صاحبه في أصوله وفروعه غاية الجولان، حتى يكون كالمجتهد فيه، فيجب ذلك على أفراد في كل قطر يكون لهم استعداد وقابلية لبلوغ أقصى نهاية المعارف التي بها نظام دين ذلك القطر ودنياه، ليقوموا ببث ذلك ويكونوا كالمجددين فيه.
وكما أن التعليمات الأولية يجب أن تكون عامة لجميع الأهالي شاملة عموم الناس، ينبغي أن تكون أيضا الثانوية منتشرة بين الأمة وأبناء الأهالي القابلين لتعلمها وإتقانها، بخلاف العلوم العالية المعدة لأرباب السياسة والحكومة وأبناء الحل والعقد. فإنه ينبغي جعلها مقصورة على تلامذة وأناس مخصوصين مقيدين بقيود خاصة من الغنى والاعتبار لا يحصلها إلا ذوو اليسار من الناس الذين لا يضر تفرغهم للعلوم العالية وانقطاعهم إليها؛ إذ من العبث ومن الخطر أيضا تفرغ صاحب صنعة ينتفع منها الناس لطلب هذه العلوم المنوطة بأرباب السياسة والاعتبار، وتركه صنعته التي يتعيش منها رغبة في دخول دائرة معالي المعارف التي لا تصلح إلا لأهلها.
فينبغي للحكومة عدم الترخيص للتلامذة الذين درسوا العلوم الأولية والثانوية أن ينتظموا بسلك أرباب المعارف القصوى، إلا من فيه اللياقة لها. كما لا ينبغي حرمان التلامذة ذوي اللياقة من وظائف الحكومة الأهلية؛ إذ ليس من العدل أن تلميذا قضى ريعان شبابه في المدارس وصرف أكثر أيامه بطلب العلوم رغبة الاستخدام في الوظائف المحلية وأن يشارك بما انتفع به عموم الرعية، أن يقطع أمله منها ويحرم مما اكتسبه من العلوم بإبعاده عن أسباب الترقي بالخدمات الملكية، حتى يستولي عليه الأسف ويتضع شأنه بين الأقران وربما أهلكه القنوط، كما يستولي اليأس على غيره من التلامذة الذين لهم ميل لما تقدم ويرون ما حل برفيقهم فتبرد همتهم وتقل عزيمتهم، فينشأ حينئذ الإهمال وعدم رغبة التلاميذ لقنوطهم من اجتناء ثمرات متاعبهم.
ثم إنه متى استكمل التلميذ العلوم الابتدائية والتجهيزية وظهر ميله لخصوصيات تناسب حاله من الصناعة والفنون وغير ذلك مما يتحصل به على نتيجة حسنة، وجب على أهله تمكينه منها وإعانته على مرغوبه، إلا إذا كان مائلا نحو مطامعه الشهوانية فينبغي لهم زجره عنها ومنعه ما استطاعوا وإرشاده للوسائل المؤدية للسعادة والترقي.
هذا وليس من اللازم أن جميع المدارس المعدة لتعليم هذه العلوم أن تكون على نفقة الحكومة، بل إن المدارس التي تكون على نفقة الحكومة ومن خصائصها، هي المدارس الحربية والملكية. والحكومة تكون واسطة لتقوية جمعيات المعارف الخيرية في البلاد وتمد إليهم يد المساعدة مع ملاحظتهم فيما لا بد منه في بعض الأحيان، وعلى حسب استعداد الأهالي للأعمال الخيرية وميلهم للفنون والمعارف، يجب عليهم أن يبذلوا الجهد بإنشاء المدارس ونشر المعارف والعلوم.
كما ينبغي التدقيق بانتخاب المعلمين الماهرين بالعلوم المؤسسة عليها المدرسة المراد إنشاؤها، وأن يكون أولئك المعلمون متحصلين على شهادات تثبت معلوماتهم التامة بتلك الفنون التي تضمن حسن مستقبل التلامذة الراغبين في التعليم؛ فإن وظيفة المعلمين وظيفة مهمة تستدعي دقة النظر.
ثم يجب اختصاص كل عشرة أو عشرين تلميذا بمعلم واحد يقوم بتعليمهم، فإن ذلك أيسر للتعليم وأقرب لتهذيب التلاميذ وتأديبهم، بخلاف ما إذا كان كل مائة أو مائتين يتلقون العلوم عن معلم واحد أو اثنين؛ فإنها لا تتمكن منهم التربية كما ينبغي. بل إذا كان كل عشرة تلاميذ مثلا يقوم بتعليمهم واحد يشتغلون بجانبه أوفق، وعند تمام الدرس يحضر بهم إلى محل التدريس العام الذي يجتمع فيه سائر التلامذة لتلقي دروسهم، وينبغي للتلاميذ الإذعان لأوامر معلميهم وعدم مخالفتهم والنظر إليهم بعين التوقير والاحترام. كما يجب أن يكون المعلم لين العريكة يمزج الشدة باللين، مهذب الأخلاق حسن الخصال، متحليا بحلى الكمال، ليقتبس منه التلميذ السجايا الحميدة؛ إذ ربما يستفيد الغلام من الأستاذ ما لا يستفيده من أبيه من الخصال؛ لأن المعلم هو القائم بتربيته وتأديبه وتعليمه وتهذيبه.
ومن الأسباب المنشطة للتلاميذ رياضتهم في بعض الأوقات، وبإعطائهم الفرص المناسبة للسفر القريب بالسكك الحديدية أو سواها، وتنزههم في بعض الأحيان لتصفو أذهانهم وترتاح قواهم العقلية عقيب تعب الأعمال الفكرية، والتصريح لهم غب الدروس بالألعاب الخفيفة كالجملاستق التي تكون أدواتها معدة لهم في فسحات المدارس، وعند خروجهم في أوقات الفرص من محال التدريس تكون لهم على سبيل الرياضة والتمرين، ويستفيدون منها الرشاقة والنشاط والخفة بالحركات البدنية، فإن مدارس أوروبا عموما قل أن يخلو منها هذا الفن. وبالجملة، فإن الأمة التي تقبل على هذه العلوم والآداب المقدم ذكرها، ينتظم حالها ويعلو منار شأنها وتنبث فيها روح الحضارة والتقدم، واكتساب المعارف الجالبة لتمدن البلاد وحسن حال العباد.
الفصل الثاني
في الحث على طلب المعارف والتمتع بظلها الوارف
اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد جعل في كل زمان أناسا ذوي دراية وذكاء يقومون بواجبات الأوطان، مجددين ما اندرس من معالم الفضل والعلوم، باذلين جميع ما في وسعهم لما به كسب حقائق حوادث المعارف البشرية، فيشاركون الناس بما اجتنته عقولهم من رياض الحكم والفضائل، ويخلدون بين الناس آثارا لا تزال تذكرهم بالثناء العاطر بما يتركونه من التآليف العظيمة والاختراعات النافعة العميمة التي يقوم بها أود البلاد وتزيد مصلحة العباد.
كيف لا؟! والبلاد التي تقبل أهلها مطالعة العلوم واجتناء ثمرات المعارف والفنون يكون لها في أوج السعادة المقام الأسمى، وتنال أهلها في ميادين التقدم والثروة الغاية القصوى، فتتيه بالفخر والغنى على مدى الزمان، ويشار إليها حينئذ بالبنان. وأما البلاد التي يكون أهلها في حضيض الجهل متمسكين بالكسل الذي يفضي بالإنسان إلى التأخر والاضمحلال، فإنها تصبح بعيدة عن الثروة والتقدم، محرومة من أسباب ترقيها وغناها، لا يكاد يكون لها أثر يحمد ولا ذكر يخلد. بخلاف ما إذا كانت الأمة متحدة على نشر العلوم والمعارف، متفقة على إعلاء كلمتها وتوفير ثروتها كي لا تتأخر بين الأمم ولا يفوتها كل ما به السعادتان الدنيوية والأخروية، فتلك هي التي تحلي سطور التواريخ بجميل ذكرها، وتقلد جيد الزمان بدرر فنونها، كما هو مشاهد الآن وفي كل زمان كيف أن البلاد التي تتسع دائرة معارفها وتبلغ غاية الحضارة والتمدن تمتص جميع ما تدره البلاد المقصرة في المعارف القليلة الإلمام بالفنون والصنائع؟
وهاك شاهدا لا يقبل النقيض، وهو أن البلاد المصرية مثلا ما زالت ولم تزل دارا للعلوم منطوقها والمفهوم، لكنها قليلة الصنائع والفنون؛ لأنك إذا نظرت لمحصولاتها القطنية وجدتها كل سنة تبلغ نيفا وثلاثة ملايين قنطار تقريبا، وهذه الأقطان جميعها لا يستفيدون منها سوى أثمان أعيانها، وأما التطويرات العملية المورثة للثروة العظيمة فإنها تكون لأهل أوروبا؛ فمصر إذن في غبن عظيم بالنسبة لأوروبا إذ إن هذه الثلاثة ملايين قنطار من القطن يبلغ ثمنها ستة إلى تسعة ملايين جنيه «ليرة»، فما تأخذه منه أوروبا وترسله بعد تطويراته العملية بما يبلغ العشرين أو الثلاثين مليون جنيه مثلا، فانظر أيهما الرابح وأيهما المغبون؟
فإن قلت: ألا تعلم أنهم لا يتحصلون على هذا الثمن إلا بعد تكبد أضعاف ثمن الأقطان من المصاريف العظيمة والتكاليف الجسيمة كأجر الصناع والحياكين والصباغين والنساجين والشيالين (إلخ)، أقول وهذه هي الأرباح المراد بها للبلاد النافعة للوطنيين. فلو كان المصريون مولعين بحب المعارف التامة مجتهدين في تحصيل الفنون والصنائع، لما احتاج الأمر إلى تكبد الأضرار، بل كانت معاملهم الصناعية تغنيهم عن البضاعة الأوروباوية مع اغتنامهم ثمار ثروتها، وهكذا حال سائر البلاد المتقدمة في الصنائع التي مهر أهلها بالاختراعات والفنون التي لا تستفاد إلا بمزاولة كتبها، ومطالعة وتحصيل العلوم التي دونها ذوو العقول من العلماء الذين صرفوا معظم حياتهم بنفع وطنهم وأمتهم وتعميم فوائد علومهم، لا بالانهماك على الكتب الخرافية والقصص الملفقة الكاذبة التي لا تفيد صاحبها إلا خمول الذهن والبطالة كمل هو مجرب.
ثم ينبغي لمحصل الفنون الصناعية والعلمية أن ينفع الناس بعلومه ومعارفه؛ فإن العالم من ينتفع بعلمه ليس العالم الذي ينفع نفسه وزاوية بيته. ولسوء البخت أن ديارنا السورية والديار المصرية أيضا فيهما من العلماء بكافة العلوم أناس كثيرون، إلا أنهم قليلو العمل، فإنا ما رأينا أحدا منهم اخترع آلة بديعة أو عملا جديدا، أو أي شيء من الاختراعات نافع لأبناء الأوطان ومغن لهم عن الاحتياج للأعمال الأوروباوية. وربما يكون هذا ناشئا عن إهمال الحكومة لذوي المعارف والفنون، مع أن من واجبات الحكومة الالتفات لأولئك القوم ومد يد المساعدة إليهم، وحث الأمة على طلب العلوم والمعارف بالوسائل الحسنة، وإكرام أرباب الاختراع والتآليف المفيدة، والنظر إليهم بعين القبول، ومساعدتهم وإنهاض هممهم بما تقتضيه الحال، كما هو واقع الآن في معارض أوروبا التي تتقاطر إليها عند التئامها أرباب الفنون والصنائع من جميع الأقطار، وتعرض فيها اختراعاتهم العظيمة النافعة لدى وزراء وسفراء الممالك مع جماهير عديدة من الناس لينالوا بذلك مزيد الشهرة والافتخار، وربما تحصل البعض على وسامات «نياشين» الافتخار، والبعض ممن يكون اختراعهم عظيما ومفيدا للغاية يجعلون له رسما مجسما في ذلك المكان لتبقى شهرته وشهرة اختراعه مدى السنين والأيام، وهكذا يكافئون كلا على قدر عمله بعدما تعلن باسمه ونوع مخترعه جميع الجرائد لتروج بضاعته وتعظم شهرته، فتزيد بذلك رغبة الناس بالمعارف، وتميل أنفسهم لطلب الفخر، ويوطد أمل الإنسان باجتناء ثمرات تعبه وكسبه الشهرة العظيمة والصيت الحسن.
فمتى ننتبه نحن أيضا من رقدتنا ونبادر لما به تقدمنا وثروة بلادنا؟ فإن من الواجب على كل وطني - لا سيما في مثل هذه الأزمان الجديدة - أن يبذل جهده لكل ما به نفع الأمة والأوطان واتساع دائرة العلوم والعرفان، ليتحصل الوطن على أسباب التمدن والتقدم وبحسن حال الهيئة الاجتماعية بتمتعها بالخبرات الوطنية.
ولما كانت عمارية الممالك والمسالك تحتاج لاتساع دائرة الفنون والصنائع وأدواتها وآلاتها، يسر الله في كل زمان أناسا ذوي دراية وبراعة تامة يقومون بما به إحياء العلوم والفنون كما ذكرنا. ولم يعدم وطننا من هؤلاء الرجال أناسا قادرين على القيام بمهام الخدمة الوطنية الواجبة على سائر أفراد الأمة. غير أن استنهاض هممهم متوقف على حث الحكومة ومساعدتها وترغيبها الناس بالمعارف؛ لتتقدم بذلك الأوطان، وينال أهلها كمال التمدن والعمران.
الباب الثالث
في واجبات الأوطان والحرية والعدل اللذين هما سبب العمران
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول
في الكلام على الوطن وما في الترحل عنه أو السكن
قد تقدم معنا في الباب الأول أن الإنسان قد خلق مفطورا على الألفة التأنيسية التي تنشأ عنها الاجتماعات البشرية. ولما كان لا بد لكل هيئة اجتماعية من مكان يجمعها ويضم شملها، سمي ذلك المكان بالوطن؛ أي مسقط رأس الإنسان وبلده الذي ربي فيه وانتمى إليه. وهو على ثلاثة أقسام باعتبار النسبة إلى خصوص البلد أو القطر شخصيا كان أو نوعيا، فيقال: فلان دمشقي نسبة إلى بلده دمشق الذي تأصل فيه، ويقال: سوري إلى سورية «بلاد الشام» مجمع الأمة السورية، ويقال أهلي تنسبه إلى الأهل أو نسبة لكونه من أهالي الوطن.
وقد اقتضت الطبيعة البشرية أن كل وطني بعد عن وطنه لا يزال يتشوق إليه ويحن لرؤياه، ولو نال في غيره ما نال من سعادة أو نعيم وترف. والحر لا يؤثر على بلده بلدا ولا يصبر عنه أبدا. وفي الحديث: «حب الوطن من الإيمان.» وقال بعضهم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة. وقيل: «ميلك إلى مولدك من كرم محتدك.» لكن قد يضطر الإنسان أحيانا لمفارقة وطنه ومبارحة عطنه إما لضيق المعيشة ووقوف حال الأسباب، وإما لظلم يناله من قبل الحكام ويضطره لارتياد محل ينتصف فيه ويأمن على ماله ونفسه وينال حرية عمله. ولعمر الحق أن البلاد التي تكون هكذا غير مأمونة السكنى بها ولا الإقامة فيها من الاضطهادات وعدم أمان الرعية على حالهم ومالهم وضيق أسباب التجارة والأشغال، قد يطيب للمرء أحيانا مفارقتها، وإن تكن وطنه العزيز ومسقط رأسه الذي تربى فيه وتغذى بمائه وهوائه؛ لأن الإنسان ميال بالطبع لحب الراحة وارتياد الرزق والتوسع ما أمكنه بالمعيشة أبيا للذل والاضطهاد.
ومع ذلك، فالتنقل في طلب العلم وارتياد الرزق أو العز والشرف حيث وجد، محمود عند أغلب الناس، والبعض يحث على التجول والتنقل كما في قول المرحوم والدي من قصيدة طويلة:
وإن وجدت بدار ذلة عظمت
عليك فاصبر لها أو شئت فارتحل
إن تختر السير عنها تلتقي بدلا
وإن أقمت فعند الذل لم يزل
أما ترى الماء إن يجري يطيب وإن
طال المكوث به أدى إلى الخلل
والأسد عن غابها لوما تسير لما
نالت فريستها بالسهل والجبل
وقال بعضهم:
إن العلا حدثتني وهي صادقة
فيما تحدث: إن العز بالنقل
لو كان في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
وما قيل في الإقامة والتنقل قل أن يحصى، وكل فريق يرجح رأيه على الآخر. وكيفما كان، فللوطن حقوق لا بد من مراعاتها. وحقوق الوطن على الإنسان كحقوق الوالدين، فكما أن الوالد يعتني بتربية ولده وتهذيبه، فإنه أيضا؛ أي: الولد، ينشأ في وطنه متمتعا بخيراته منتعشا بهوائه، رتعا تحت ظله وروائه. فيجب عليه - والحالة هذه - مراعاة الحقوق الوطنية كما سنبينه في الفصل الآتي إن شاء الله - تعالى.
الفصل الثاني
في الحقوق الوطنية
كما أن الوطن هو الذي يجمع الأمة تحت راية واحدة وأحكام واحدة واسترعاء ملك واحد، ينبغي لها أيضا أن تكون متحدة على كلمة واحدة، منقادة لسياسة واحدة حائزة كمال العفة والشجاعة والفضل وصيانة العرض، مستعدة لمقاومة أعداء الأوطان وصد هجمات المتغلبين؛ كي تكون حرة بوطنها متمتعة بحقوقها المدنية، ويكون كل فرد من أفرادها آمنا على نفسه مالكا حرية وطنه لا يخشى هضيمة في ذاته ولا يوصل الأذية لغيره؛ حتى يستحق حينئذ أن يعد فردا من أفراد المدينة التي هي بمنزلة بيت يضم عائلة واحدة بعضهم بالنسبة لبعض كأعضاء الجسم الذي يحتاج كل عضو منه بحركته إلى العضو الآخر.
كما ينبغي أيضا أن أهالي الوطن يكونون مقبلين على طلب العلوم والمعارف، عاقدين الخناصر على جلب كل ما يعود نفعه على الأوطان ومائلين للفنون والصنائع التي هي سبب تقدم البلاد وثروتها، لا يستميلهم الكسل ولا الميل نحو حب الشهوات الجسمانية التي تفضي بالإنسان إلى حضيض الذل والبوار، بل دائما يكونون مهتمين بصوالح بلادهم بإجراء الوسائل الآيلة لنجاحهم وتقدم وطنهم، كإنشاء المدارس العلمية والصناعية وتعميم الشركات التجارية ومد السكك الحديدية، إلى غير ذلك مما يتوقف عليه نمو المرابح المتجرية والسعادة الوطنية.
فمن نظر إلى أوروبا من منذ عدة أجيال وإلى حالتها التي كانت عليها عندما كانت تخبط في ظلام الجهل خبط عشواء، وتفرس فيها الآن وفيما آلت إليه حالها من التقدم في المعارف والغنى، ظهر له كيف تأثير الهمم الإنسانية في الرجال، وكيف تبلغ بالأمة إلى معارج الفضل والكمال، وتجعلها منفردة عن بقية الأمم بالفنون والمعارف واكتساب الشهرة والصيت. وهكذا شأن الرجال من أبناء الأوطان الذي يبذلون مالهم وأرواحهم حبا بفائدة وطنهم وسعادة أنفسهم، ويقومون بحقوق المصلحة الوطنية التي ينتظم بها حال الهيئة الاجتماعية. على أن من أعظم الأسباب التي جعلت أوروبا تتقدم بالثروة والغنى على الأمم تعاضد الناس على الشركات التجارية الوطنية، وتعاونهم على المشروعات المهمة النافعة؛ إذ من المستحيل أن واحدا ذا يسار أو اثنين - ولو مهما كانا غنيين - أن يستطيعا إنشاء سكة حديدية أو بنك «محل للقرض» أو معمل للتشغيل ونحو ذلك من المنافع العميمة، ما لم يتعاضد على ذلك المشروع عدة أناس يكونون مشتركين بدفع ما يحتاج إليها الحال من النقود، كل منهم على حسب استعداده وغناه، ليحصل حينئذ تسهيل الأشغال وينال الجميع جزيل الفائدة والأرباح.
ويستنتج من ذلك ما لقوة الاجتماع من القدرة على الأعمال العادية.
وأن كل وطن يتحد أهله على طلب المنفعة والتقدم، تراهم سائدين على من عداهم كثيري الثروة متمتعين بالخبرات الوطنية حائزين تمام الحرية والأمنية، بخلاف الأمة التي تكون متعددة الأفكار والآراء متفرقة الجماعات والأحزاب؛ فإنها لا تزال في تشاحن وتحاسد، وربما تجلب سوء العاقبة إلى الأوطان، وهي محرومة من أسباب التقدم غير مستحوذة على الحرية الوطنية، بعيدة عن نوال الحقوق العمومية.
لذلك ينبغي لأبناء الأوطان ملازمة أسباب سعادتهم وتقدمهم واتحادهم على دفع كل ما من شأنه أن يضر بالأوطان ويحط بقدر الأمة ويجعلها تتأخر في ميادين الفضل والعرفان، وذلك باستحضار جميع ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة لتحسين الأحوال الحسية والمعنوية والاستعداد بسائر المهمات الحربية برية كانت أو بحرية منعا لما يفاجئ الأوطان من هجمات الأعداء وصدا لمطامع المتغلبين، كما يلزم تجريد أفراد الجمعية من امتيازاتهم المعنوية لدى ممانعة الأخطار المزمعة أن تلم بالأوطان؛ إذ عندها يتساوى بالمصلحة أبناء الوطن كبيرهم والصغير وحقيرهم والأمير، فلا ينبغي لهم حينئذ النظر إلى امتيازاتهم المعنوية والإهمال بالمصلحة الوطنية، بل يكونون متحدين على كلمة واحدة، وتحت راية واحدة، ويكون كل فرد من أفرادها منزه النفس صادق الوطنية، لا يستميله حب الشهوات لما به ضرر بلاده وسوء معاده، وينبغي للحكومة استئصال ذوي الأغراض والغايات الذين يظهر منهم أدنى زلل من شأنه أن يخل براحة الأوطان، كما ينبغي لها أيضا مساعدة الرعية والتحفظ على حقوقها المدنية، ومنهما كمال الحرية المؤسسة على العدل وحسن السياسة.
الفصل الثالث
في الحرية العمومية
قسم بعضهم الحرية إلى معنيين: الأول منها: هو الحرية الشخصية، وهي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه، ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس. والمعنى الثاني: الحرية السياسية، وهي تطلب الرعايا التداخل في السياسيات الملكية والمباحثة في ما هو الأصلح للمملكة بواسطة نواب الأمة.
وقسمها بعضهم إلى خمسة أقسام:
القسم الأول:
الحرية الطبيعية، وهي ما خلقت مع الإنسان وجبل عليها كالأكل والشرب والمشي مثلا، مما لا طاقة للقوة البشرية على دفعه ولا غنى لسائر الإنسان عنه مما يكون سببا لمعاشه وغذاء لجسمه، وما يكون به قوام حياته، لا ما يضره كالتخم والإقدام على شرب المسمات، فإن الإنسان قادر على دفع ذلك بدون أن يعد دافعه ظالما.
الثاني:
الحرية السلوكية، وهي حسن سلوك الإنسان واتباعه سبل العدالة ومكارم الأخلاق اللازمة على كل فرد من أفراد الجمعية، لا كما يتوهمه البعض من أنه إذا أتى شيئا أو أمرا معيبا وسئل عن ذلك، أجاب: إنني حر ولي أن أفعل ما شئت بحريتي. فلعمر الحق إنه لرفيق هوى نفسه، والحر من يتقي بمحاسن أفعاله ومكارم أخلاقه سهام المذمة والملام؛ ليكون أمينا على نفسه مشهورا بحسن معاملته لغيره.
الثالث:
هي الحرية الدينية، وهي اتباع الإنسان آمنا أيا شاء من المذاهب الأربعة والعقائد الدينية، بشرط ألا يكون خارجا عن الأصول الشرعية.
الرابع:
الحرية السياسية، وهي حرية أرباب الإدارات الملكية بوضعهم قوانين على مقتضى مذاهب بلادهم، وإجراء ما تحسن به الرابطة الاجتماعية؛ إذ إن ملوك ووزراء الممالك مصرح لهم بإجراء الروابط السياسية والأحكام القانونية المؤسسة على العدل وحسن السياسة.
الخامس:
الحرية المدنية، وهي عبارة عن اتحاد وتواطؤ جميع الهيئة الاجتماعية كأهالي مملكة واحدة على ضمانة حقوق بعضهم البعض وارتباطهم بقوانين مسنونة وأحكام لا يتعداها أحد منهم. بشرط أن كل فرد من أفراد الأمة يكون مطلق التصرف في ذاته وأشغاله التجارية، مصرحا له بالإقامة أو سواها بدون إكراه مكره أو إجبار مجبر، آمنا على نفسه وماله مباحا له التصرف فيما يملكه، مجريا به جميع التصرفات الشرعية مالكا له بقيود وحجج مرعية. فبهذا تكون الحكومة مريحة كل فرد من أفراد الأمة، ضامنة حفظ حقوقه المدنية، ما دام سالكا مع إخوانه سبيل الخير متمتعا بحقوق وطنه على وجه يضمن له التمتع به وحسن المقام.
وعلى هذا؛ فإن الحرية المؤسسة على العدل وحسن السياسة، تكون كافلة لجميع مصالح الأمة، مسببة سعادة المملكة والبلاد، داعية لحب الوطن، جامعة للرعية على التعاون والتعاضد لما به خير أوطانهم وأنفسهم؛ لذلك لا ينبغي التضييق على أحد أفرد الجمعية ومنعه من التمتع بحقوقه الوطنية وتوقيفه عما يجوز له عمله بغير وجه قانوني؛ فإن كل عضو من أعضاء الأمة مباح له الإتيان بما يجوز له شرعا غير مكلف بما لا تتيحه له القوانين المحلية والأحكام الشرعية.
وبالجملة، فعلى الحاكم إجراء تمام العدالة والإنصاف ومزج اللين بنوع من الشدة؛ ليكون آمنا على المملكة، مريحا للرعية، بعيدا عن نفرتهم، جالبا لسعادة البلاد. كما ينبغي أيضا لكل فرد من أفراد الأمة طاعة حاكمه وإكرامه، وعدم خروجه عن دائرة قوانين بلاده، مع إجراء جميع الوسائل الراجعة بالنفع على وطنه؛ فإن الإنسان مكلف بكل ما من شأنه أن يدفع الضرر عن الأوطان، ويجلب الخير والفائدة لها. فإذا كلف الحاكم الأهالي على دفع العدو عن البلاد، ومقاومة كل من يريد استلاب حريتها، لا يعد هذا من الحاكم تكليفا؛ فالوطني مجبور على المحاماة عن حقوقه الوطنية، لما جبل عليه الإنسان من الأنفة والعزة وإباء الحقارة والذل.
ثم إن من أعظم منافع الحرية، حرية الأعمال الأربعة: التجارة والصناعة والفلاحة والأعمال الفكرية والبدنية التابعة للحرية الشخصية؛ لأنها السبب الأكبر في تقدم البلاد وسعادتها وبها تكون تربية الهمم الإنسانية. فقد ثبت أن كل مملكة حازت تمام هذه الحرية أصبحت ثروتها عظيمة ومنافعها عميقة، فالترخيص بها يجلب المنافع العمومية ويكسب البلاد رونق الجد والترقي إلى الدرجات العلية. فكل عاقل عارف بمنافع هذه الحرية، يرى أن أصعب ما يكون تضييق نطاقها وعدم اكتراث الحكومة بها. وقد يكون في بعض الممالك التضييق بها، وربما كان ذلك لكون الحاكم يرى عدم أهلية الرعية لها منتظرا بذلك تمكن التربية منهم واستكمالها فيهم، وإصلاح حالهم ليبيح لهم التصرف بالعمليات الواسعة، ويرخص لهم باتساع الدوائر الزراعية والصناعية، ويبين لهم أسباب التمدن والتقدم، لتستنير أبصارهم وترشد عقولهم.
وينبغي أن تكون تلك الحرية مؤسسة على العدل وحسن نظام الأمة؛ ليكون المحترف آمنا على نفسه وماله من اغتصاب نتائج أتعابه وتعطيله عن أسباب معيشته لأغراض عدوانية. فما ينفع الناس أن تكون أرضهم خصبة يانعة الثمار، إذا كانوا لا يتحققون الحصول على ثمرات أتعابهم ونتائج أرضهم خوفا من هضمهم حقوق تعبهم، ومن الذي يقدم حينئذ على زراعتها مع ضعف أمله إما لما ذكرنا وإما لتعذر جلب أرزاقها من بلد إلى آخر، لما يطرأ عليها من الفساد في الطريق أو لكون أجرتها أضعاف ثمنها؟! كما هو واقع الآن في ديارنا السورية؛ فإنك إذا أخذت مدا «هو كيل مشهور» من القمح مثلا من حوران - هي بلاد خصبة في جنوب دمشق - فمعظم ثمنه يكون أحيانا سبعة غروش، وإذا أردت إرساله من حوران لأي جهة كانت تدفع أجرة مشاله ونقله كما دفعت في ثمنه أو أكثر. لذلك من أهم ما جنته الدول الأوروباوية من كمال الحرية تسهيل المعاملات التجارية بما اخترعوه من السكك الحديدية وتعاضد الشركات الأهلية، والإقبال على تعلم جميع الفنون العلمية والصناعية.
وبالجملة، فإن الحرية نافعة في كل الوجوه وبها يحصل تمام القدرة على الإدارة المتجرية، وإذا فقد الناس الحرية والأمنية يضطرون بالطبع إلى إخفاء مجتنيات بلادهم، فتتعذر الحركة التي ينشأ عنها تعطيل الأشغال ويستولي على الأهالي الوهن والفقر، ما لم يمنح الرعية حريتها بالأشغال وتساعدها الحكومة على أسباب التسهيل وانتشار المعارف وتقوية الشركات؛ إذ لا يخفى ما بقوة الاجتماع من القدرة على الأعمال العادية. هذا وقد بقي علينا أن نذكر ما لحرية المطابع من الفوائد الجليلة والأهمية العظيمة؛ فإنها هي التي يسرت انتشار العلوم في الأقطار وجاءت للعالم بفوائد لا تحصى ومنافع لا تستقصى، سيما حرية الجرائد «صحف الأخبار» ذات الفوائد الجمة؛ فإنها من أعظم الأسباب المهذبة للعقول والمنورة للأبصار. لكن يشرط أن تكون مقيدة بقوانين لا تتعداها وخطط لا تتخطاها؛ لأن إعطاء الجرائد الحرية المطلقة قد يخل أحيانا بالراحة العمومية بما تنشره من المقالات على مقتضى الأغراض الشخصية التي تستدعي دقة النظر وتهيج أفكار العامة؛ فلذلك ينبغي أن تكون حريتهم متوسطة لا تفريط ولا إفراط حتى تعم بالفائدة مع تحاشي الضرر، كنشر ما يراه البعض ممن لا يتوصلون إلى الإدارات الملكية من الآراء المستحسنة السياسية ودرج المقالات الأدبية والنصائح والوقائع اليومية، والمدافعة عن الحقوق الجنسية والوطنية والحوادث التاريخية التي تنور أبصار الناس ويستنتج منها معرفة الأخبار اليومية. ولا أقل من أن يتحصل منها الإنسان على ما يهمه من معرفة حوادث بلاده ووطنه.
هذا فضلا عما لها من الفائدة بالأشغال التجارية؛ إذ ربما يمكث صنف البضاعة بائرا عند أحد التجار جملة أيام وشهور فيعلن بواسطة الجرائد عن محل وجوده ونوع بضاعته وحسن أقمشته، فيشهر محله في جميع الجهات وتروج بتلك الواسطة بضاعته ويحسن حاله، وهكذا جميع التجار على اختلاف أشغالهم كما هو جار عند الإفرنج الآن؛ فتراهم يزينون أعمدة الجرائد بالنقوش والرسومات المزخرفة مبينين بذلك أشكال بضاعتهم مرغبين الناس بحسن أقمشتهم فتروج تجارهم وتنتهي للأماكن البعيدة شهرتهم، وما ذاك إلا بواسطة الجرائد كما تقدم، ومنافعها من هذا القبيل لا تنكر، وإذا أردنا إحصاء ما ينجم عنها من الفوائد يطول الشرح.
لكن لسوء البخت أن ديارنا السورية محرومة من هذا الامتياز العظيم، فإنها مع احتياجها في مثل هذه الأزمان الجديدة إلى الجرائد الوطنية فهي بالنسبة لغيرها قليلة جدا لا تكاد تزيد عن خمس أو ست جرائد، منها واحدة وهي الرسمية تطبع في دمشق والباقي في بيروت. وهي في الحقيقة عديمة الجدوى؛ لأنه فضلا عن كون صدورها أسبوعيا، فهم لا يقدرون على نشر المقالات السياسية إلا ما ندر، حتى ولا الحوادث المهمة الوطنية والوقائع اليومية التي يستفيد منها الإنسان تنوير بصيرته ووقوفه على حوادث وطنه وأخبار بلاده. وما ذلك إلا لتشديد الحكومة على أرباب الجرائد تشديدا بغير محله، مع أن من الواجب على الحكومة إجراء جميع الوسائل المؤدية لترقي الأهالي وتقدم البلاد لتشترك معهم بالثروة والغنى وتمنحهم حرية وطنهم وتجعل للجرائد نظاما متوسطا لا يتعدونه. كما أنه ينبغي للجرائد الوطنية سلوك سبل الاعتدال وعدم الخروج عن دائرة الآداب الإنسانية وتحاشي القدح والمقالات التي تسود وجوه الصحف بظلمات الأغراض الشخصية إلا ما به فائدة العموم وداعية التعاضد والاتحاد؛ فإن الجرائد هي الواسطة لتهذيب أفكار الأمة وإرشادهم للمصالح الوطنية، ليس لفساد أفكارهم وضرر وطنهم. انتهى.
هذا ولما كان موضوع هذا الكتاب هو بيان أسباب التمدن والعمران، فقد أحببت أن أجعل خاتمة هذه الفصول فصلا مختصرا في العدل الذي هو السبب الأول لتقدم البلاد وتمدن العباد، وإن كنت قد بينت ذلك في فصل الحرية المتقدم غير مرة، لكن زيادة للفائدة وبيانا للمقصود.
الفصل الرابع
في ذكر العدل وأنه سبب العمران
العدل عبارة عن الاستقامة على طريق الحق، وأن ينتصف الإنسان لنفسه ولغيره. وقد جعله بعض الحكماء قاعدة جميع الفضائل كالكرم، والمروءة، والعفة، والشجاعة، وحب الوطن، وصفاء القلب، ونحو ذلك من الفضالأكاسرة أن كسرىائل التي هي من نتائج العدل. والعدل أساس الملك وسبب العمران ووسيلة لتقدم الأوطان؛ فإن الحاكم العادل إذا كان مشهورا بالعدل وحسن السياسة يستميل إليه قلوب رعاياه وتطمئن به البلاد من الجور والاستبداد، فيصبح الناس متحدين على كلمة واحدة آمنين في أوطانهم خاضعين لأوامر حاكمهم غير منفرين من سياسته، بل هم في راحة وسكون من تعدي الأيدي والظلام؛ فتنشأ عندهم الأمنية التي يتسبب عنها عمران المسالك والممالك وتقدم التجارات وحسن الأحوال. بخلاف ما إذا كان الحاكم جائرا على رعيته لا يحسن سياسة مملكته، فتختلف عليه الآراء وتنفر منه الناس، كما تمتد أيدي عماله للظلم والتعدي على الحقوق الإنسانية؛ إذ لا رادع يردعهم عن الظلم وحب الأغراض النفسانية، فيترتب على ذلك خراب البلاد وتنفر العباد ويختل نظام الملك وتقع الناس في أشد الضنك. وأما إذا كان الملك عادلا في رعيته سالكا سبيل الشرع في سياسته، لا يسلم زمام الأحكام إلا لذوي الكفاية والدراية المنزهين عن الغش وحب الأغراض الذاتية، الذين ينظرون لمصلحة بلادهم بعين الصداقة والحكمة والتدبير، أمن على البلاد من الخراب والدولة من الانقلاب.
قيل إنه لما دخل الهرمزان على عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وجده مستلقيا على قفاه بالمسجد موسد الحصى ودرته بين يديه، فقال له: «عدلت فأمنت فنمت.»
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله بحمص أن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى إصلاح، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: «حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم. والسلام.»
وقيل: من جملة عدل الأكاسرة أن كسرى أظهر يوما من أيام مملكته أنه مريض وأنفذ ثقاته وأمناءه ليطوفوا أقطار مملكته وأكناف ولايته، وأن يطلبوا له لبنة عتيقة من خربة ليتداوى بها، وذكر أن الأطباء وصفوها له، فمضوا وطافوا جميع مملكته، وعادوا فقالوا: ما رأينا في جميع المملكة مكانا خربا كي يأخذ منه لبنة عتيقة، فقال لهم الملك: إنما أردت أن أختبر إيالتي لأعلم هل بقي في المملكة موضع خراب لأعمره، فالآن لم يبق مكان إلا عامرا، وقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجات الكمال. فانظر إلى هذا العدل الذي لم يدع في البلاد خربة يؤتى منها للملك بلبنة عتيقة؛ فهذا هو العمران.
ومن عدل نور الدين الشهيد ما قاله ابن الأثير: «إنه بلغ عدل نور الدين الشهيد، وهو أول من بنى دار العدل. وسببه أنه لما أقام في دمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين شيركوه، تعدى كل منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري، فأنصف بعضهم من بعض ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه؛ ولأنه كان أكبر الأمراء، فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل. فلما سمع شيركوه قال لنوابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع عن القاضي كمال الدين، والله، لأن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه، فامضوا إلى كل من بينكم وبينه معاملة وأرضوه ولو أتى على جميع ما بيدي».
قال: «وظلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشق ثوبه واستغاث: «يا نور الدين»، فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته، فبكى الرجل أشد من الأول فسئل عن ذلك، فقال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.» ويحق لعمر الحق لسلطان عادل أن تبكي لفقده العباد؛ فإن العدل حياة الأمة وسبب عمران البلاد. انتهى.
هذا ما أحببت إيراده في هذا الباب وفيه لأولي البصيرة كفاية، وقد جعلت الخاتمة في ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي والتمدن الأوروباوي على حسب الإمكان لكي تتم الفائدة المطلوبة والغاية المرغوبة.
الباب الرابع
الخاتمة
وفيه فصلان
الفصل الأول
ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي
من تأمل في سريان قوة الأمة الإسلامية في مبدأ ظهور الإسلام، وامتداد عنصرها في الأقطار، وتقدم سلطتها وانتشار شريعتها في غالب الأمصار، في مدة لا تزيد عن الثلاثين إلى الثمانين سنة عن يد طائفة من العرب قليلة، قد لبت دعوة نبيها - عليه الصلاة والسلام - حين دعاها للحق، فانتضت أمامه من غمد الحزم والعزم والإيمان سيفا ما قوي على إغماده أحد، بل كافة أمم العالم أخذتها الحيرة والانذهال وتحقق لديه ما لتلك الشريعة من الأسرار الإلهية والسياسية الشرعية التي جعلت العالم ينقاد لأمر بعث الله به نبيه بالحق للناس، ألا وهو الإقرار بوحدانية الله - تعالى - واتباع سنن القوانين الإلهية المبنية على العدل. فأدى - عليه الصلاة والسلام - رسالة ربه للناس وبث في الوجود أنوار العدالة والاهتداء.
ثم قام بعد نبيهم لإتمام تلك الدعوة الخلفاء الراشدون، وسلكوا من السبل ما به قوام وانتشار هذا الدين، وأحسنوا السياسة مع الخلق ونهجوا أقوم السبل التي تؤدي بالإنسان إلى الحق، وبثوا في الوجود روح العدل والإيمان؛ فانتعشت أرواح العباد، ودانت لهم جميع البلاد.
ثم نهج من والاهم من خلفاء الدول الإسلامية منهج سلفائهم باتباع الخطط المؤدية لتقدم هذه الأمة وامتداد شريعتها في الأقطار، حتى أتاح الله لهم من الفتوحات العظيمة والتقدم ما كان أشبه بسيل طمي على آسيا فعم العرب والعجم، وتجاوز حدود تركستان إلى الهند والصين، ودخل أراضي الروم الآسيوية مشرفا على أوروبا، واتخذ له مجرى آخر فانصب نحو فلسطين ثم إلى مصر وإفريقية، واجتاز البحر إلى الأندلس حتى بلغ ممالك المغرب الأوروباوية. وهذا كله مما يتعذر على جميع الدول الأوروباوية تملكه حين ذاك، ما لم تكن عناية من الله - سبحانه وتعالى - أراد بها انتشار هذا الدين، ليكون سبب انتظام العالم وانتشالهم من ورطات التهور والجهل؛ فإنه بينما كانت أوروبا وقتئذ تخبط في ظلمات الجهل خبط عشواء، كان التمدن الإسلامي آخذا بالانتشار شيئا فشيئا في الأرض.
والأمة العربية منتضية سيف العدل لاستئصال جراثيم الجهالة من عنصر الوجود، حتى تسنى لها في أقل من قليل تمدين أكثر الأمم وإرشادهم لطرق الصواب. وكان تحت الخلافة الإسلامية حينئذاك في دمشق الشام «أعني دولة الأمويين»، ثم الأنبار، ثم انتقل إلى بغداد «أعني دولة العباسيين»، وكانت عواصم المسلمين وقتئذ تزهو بالعلماء وأرباب الفنون والصنائع، كما كانت بغداد محطا لرجال التجارات المشرقية والمغربية، تلوح في سمائها نجوم العلماء وتتباهى بتقدمها على جميع البلاد.
قال المؤرخون: كانت بغداد تشتمل على ثلاثين ألفا من القصور، وثمانية جسور رخامية على دجلة، واثني عشر ألف طاحون بجانبيه، وثمانمائة مسجد وثلاثمائة جامع وثمانمائة مدرسة، واثني عشر ألف مكتب، وثمانية عشر ألف حمام ونيف. وكانت بما أنها كرسي الخلافة مركز التجارة بين المشرق والمغرب، فكان فيها أكثر من ألف خان للقوافل وأربعمائة سوق للأقمشة. وهذا دليل على ما كان لها من سعة دائرة التجارة والخيرات.
قالوا: ولم يوجد مدينة كبغداد لا في العلوم ولا في الصنائع ونحوها في مدة أجيالها الخمسة، فلا الكوفة ولا المدينة ولا الشام قاعدة الخلافة الأموية ولا القاهرة تحت العلويين ولا سمرقند ولا دلهي ولا قرطبة ولا القسطنطينية مع عظم بنائها وشهرتها.
وفي الحقيقة كانت بغداد خصوصا وسائر الممالك الإسلامية عموما في زمن الدولة العباسية تتمايل كالعرائس بسعة دائرة المعارف والعلوم، فإن الله لما صرف الملك عن الأمويين إلى هذه الدولة الهاشمية، ثابت الهمم من غفلتها وثارت الفطن من رقدتها، وكان أول من عن منهم بالعلوم أبا جعفر المنصور، قالوا: «وكان مع براعته بالفقه، كلفا بعلم الفلسفة وخاصة في علم النجوم، ثم تلاه الرشيد، وهو باعتبار بدء الخلافة من إبراهيم الإمام سادسهم وباعتبارها من السفاح خامسهم.» وقام هذا الخليفة أيضا بخدمة العلوم والدين أتم قيام، وهو الذي أهدي بزمانه لشارلمان ملك فرانسا الساعة الدقاقة التي عدت في وقتها من فضائل العرب كما سيأتي تفصيل وصفها. ثم لما أفضت الخلافة لابنه المأمون تمم ما بدأ فيه جده المنصور، وأقبل على طلب العلوم وسام ملوك الروم صلته بما لديهم عن كتب الفلسفة، فأرسلوا له ما استحضرهم منها، وكلف لترجمتها مهرة العلماء، فترجمت له على غاية ما أمكن، وجعل يحث الناس على قراءتها ويرغبهم فيها. وكان لا يزال مجالسا للعلماء آنسا بالحكماء حتى بلغت شمس الخلافة في زمانه أقصى درجة الصعود ونال العالم الإسلامي غاية السؤدد والمجد.
وكان المأمون يحب العلماء من كل نوع ويكرمهم لاسيما علماء الأفلاك. ومن المنجمين في أيامه كان حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار، وله ثلاثة أزياج أولها المؤلف على مذهب السند هند، والثاني الممتحن وهو أشهرها، ألفه بعد أن رجع إلى معاناة الرصد وأوجبه الامتحان في زمانه، والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاه، وله خلافها وبلغ من العمر مائة سنة. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى علم الأفلاك يحتوي على جوامع كتب بطليموس بأعذب لفظ وأبين عبارة. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت كبير القوم في فن النجوم، ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، ومنهم ما شاء الله اليهودي كان في زمن المنصور وعاش إلى أيام المأمون. ومنهم يحيى بن أبي منصور رجل فاضل كبير القدر مكين المكان. ولما عزم المأمون على رصد الكواكب، تقدم إليه وإلى جماعة من العلماء فأصلحوا آلاته بشماسية بغداد وجبل قاسيون بدمشق، ومن الحكماء يوحنا البطريق الترجمان مولى المأمون، أمينا على ترجمة الكتب الحكيمة حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.
ومن الأطباء سهل بن شابور ويعرف بالكوسج، كان بالأهواز في لسانه خوزية وتقدم بالطب في أيام المأمون، وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطينوري قصر عنهم في العبارة لا في العلاج.
وكان المأمون قد قرأ في كتب الأوائل أن دور الأرض يكون أربعة وعشرين ألف ميل، فأراد تحقيق ذلك فأمر بني موسى الثلاث المشهورين وهم: محمد وأحمد والحسين أولاد موسى بن شاكر، وكانوا يعلمون جيدا علم الهندسة والحبل والموسيقى، بأن يحققوا ذلك ويحرروه فسألوا عن الأرض المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار وحققوا ذلك بارتفاع القطب الشمالي بعد عملية طويلة لا محل لذكرها هنا.
وكان المأمون أكرم الخلفاء وأحبهم للعلم والعلماء، وأقام بزمانه في بغداد مرصدا فلكيا ما زال إلى زمن هلاكو فدرس مع ما درس منها.
وهكذا نالت هذه الأمة في زمن هذا الملك وغيره من الخلفاء ما جعلها أن تفوق العالم بأسره بتقدمها في العلوم والمعارف، إلى درجة ما أدركتها أمة قط؛ فإن همم الخلفاء الإسلامية كانت موجهة نحو تقدم هذه الأمة وترقيها بكل ما أمكن من الوسائل اللازمة والأسباب، فكم منحوا من الجوائز للمترجمين والأدباء وقربوا منهم من الحكماء والعلماء! وكان إذا امتدح أحدهم بقصيدة شعر أجاز منشئها بكذا وكذا دينارا، وإذا ألف أحد كتابا وأهداه لخزائنهم يكافئونه إما بوظيفة من وظائف الديوان الخاص ويدنونه منهم ويقربونه، وإما أن يقطعوه من الضياع ما يكفيه ويكفي ذريته من بعده. وما ذلك إلا لترغيب الأمة في العلوم وحثها على طلب المجد، حتى تقاطرت نحو أبوابهم العلماء، واستنارت العقول، وأصبح كل يتسابق إلى التأليف والتصنيف. وما مضى على ذلك إلا جيلان أو ثلاثة حتى انبثت بواسطة هذه الأمة روح العلوم والمعارف في الأقطار، ونال ملوكها بسياستهم من الشهرة ما طبق الآفاق، وأصبحت الممالك الإسلامية كالشموس بالإشراق وقد شهد بتقدمها بالفضل وعظم سطوتها غالب مؤرخي الإفرنج وملوكها أيضا.
ومن ذلك ما نقله صاحب «كشف المخبا عن فنون أوروبا» عن فلتير أحد المؤرخين المشهورين قال: «وكان ملوك الإفرنج جميعا تستخدم الأطباء من العرب واليهود، والتزم البابا يوحنا الثامن أن يدفع للمسلمين في كل سنة خمسة وعشرين ألف رطل من الفضة وذلك سنة 877، وقد دخلوا إيطاليا ونهبوا كنيسة مار بطرس، وفتكوا بالجيوش الفرانساوية الذين كانوا ساروا إلى رومية لإجارة أهلها تحت راية القائد لوتاريوس. وفي القرن الثاني عشر كان المسلمون مستولين في إسبانيا على أحسن البلدان منها بورتغال ومرسية والأندلس وبلنسية وغرناطة وطرطوشة، وامتد ملكهم حتى إلى وراء جمال قسطيل وسيرقوسه. أما دار الخلفاء «يعني: الأمويين» فكانت في قرطبة، وفيها بنوا المسجد العظيم المشهور قبوه، مرفوعا على ثلاثمائة وخمسة وستين عمودا وهو من مرمر غريب الصنعة بديع الإتقان. ولم يزل معروفا إلى الآن باسم مسك «أي مسجد» مع أنه حول كنيسة. وكانت الصنائع والفروسية والأبهة في عهدهم في مزيد، وكان عندهم مواضع شتى للفرح واللهو.
أما علم المساحة والفلك والهندسة والكيميا والطب فلم يكن إلا في قربطة دون غيرها من سائر المدن «وأظنه أشار بذلك إلى مدن الأندلس»، حتى إن صانكو ملك ليون الملقب بالسمين اضطر إلى أن يسافر إليها ليأخذ الطب عن رجل كان مشهورا في عصره، فلما استدعى به الملك أجابه قائلا: إن كان للملك حاجة إلي فليقدم علي. وقال بعض المؤلفين إن المسلمين ملكوا من البلاد في مدة ثمانين سنة بعد الهجرة ما لم يملكه الرومانيون في ثمانمائة سنة. وقال أيضا في «كشف المخبا» نقلا عن «فلتير» المذكور قبلا: «إن أول ساعة دقاقة عرفت في فرانسا هي الساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا.» وقال في أبجدية الأوقات: علم الحساب إنما أخذ عن العرب في إسبانيا ثم شهر في إنكلترا سنة 1253، وقال صاحب معجم الجغرافية إن البابا سلوستروس الثاني، وكان يعرف أولا باسم جربرت، سار إلى الأندلس وأخذ العلم عن العرب، وكانت ولادته في سنة 930 وانتخب بابا في سنة 999، وكان ماهرا في علم المساحة وجر الأثقال والفلك، وهو الذي بث رقم الحساب العربي في أوروبا وأول من عمل ساعة ذات رقاص.
وحيث جرى ذكر الساعة فلا بد من استيفاء الكلام عليها. قال مؤلف المخترعات العجيبة: «ذكر المؤرخون من الفرنسيس: إن أول ساعة عرفت في بلادهم هي الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا وذلك في سنة 807، وكان بدعا في ذلك العصر. حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولا، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر وكان له اثنا عشر بابا صغيرا تنقسم بها الساعات، فكلما مضت ساعة انفتح باب وخرج منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة وحينئذ تخرج صور اثني عشر فارسا على خيل وتدور على صفحة الساعة. انتهى ملخصا ما ذكره في كشف المخبا.
وقد ناسب هنا أن نذكر ما نقله عن مؤرخي الإفرنج أيضا، صاحب الشرف والمجد الوزير الأعظم خير الدين باشا التونسي في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، فقال:
ففي تاريخ دروي وزير المعارف العمومية الآن ما معناه: بينما أهل أوروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سم الخياط؛ إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك؛ حيث كانت مدينة بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفاس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف. ومنها انتشرت في الأمم واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونا علمية يأتي بيانها.
وفيها يقول: كانت الآداب قبل انتشار العرب من جزيرتهم متأصلة فيهم مؤداة بلغتين الحميرية في اليمن والقرشية في الحجاز وبالأخيرة جاء القرآن، «ولا يخفى عليك أن الذي يقابل الحميرية هو المضرية، وإن وقع الإجماع في القراءة علي خصوص القرشية»؛ ولذلك اشتهرت واستمر خلوصها إلى وقتنا هذا باستمرار كتب العلم والديانة. وما دخلت العجمة في اللسان إلا بدخول الأمم في الإسلام وتطاول السنين. وللغة المذكورة من الاتساع وسعة المجال ما لا يخفى على مثافنها لا سيما في الأشياء التي بها قوام المعيشة في البادية، أو لتكرار رؤيتهم لها أو تكثر حاجتهم إليها، فقد يكون للشيء الواحد عندهم عدة أسماء باعتبار تعدد صفاته وأحواله. وبكثرة الترادف عندهم اتسعت لهم دوائر الآداب الشعرية؛ إذ يقال: إن للعسل عندهم ثمانين اسما، وللثعبان مائتين، وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفا، وكذا السيف، وللداهية أربعة آلاف اسم.
ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحدة الفكر ما لا يسع أحدا إنكاره. فمن مشاهيرهم حماد الراوية الذي ذكر يوما للخليفة الوليد أنه ينشد له في الحال مائة قصيدة والقصيدة من عشرين إلى مائة بيت فتعب المستمع قبل المنشد. إلى أن قال: «ولم يكن للعرب في أول الأمر إلا تلك الآداب. ثم لما اتسعت لهم دوائر الفتوحات واختلطوا بالأمم الذين سبقوهم في الحضارة، اتسع لهم نطاق المعارف، فأخذوا من اليونان تآليف أرسطو وشرحوها بإمعان نظر. لكن من سوء البخت لم يأخذوا الفلسفة من كتب اليونان الأصلية، وإنما تعلموها من الكتب المترجمة بلغة أهل الشام، فهم ترجموا المترجمة. فلذلك لما نقلها الفيلسوف العربي حفيد ابن رشد في أوروبا في القرون المتوسطة وجد بها من التحريف أكثر مما وقع فيها أولا.
وأما العلوم الرياضية فقد صادف العرب المرمى فيها، والفضل في ذلك للعلماء الذين جلبهم الخليفة المأمون من القسطنطينية. وفي أوائل القرن التاسع المسيحي أمر الخليفة المذكور عالمين من فلكية بغداد أن يقيسا مسافة درجة واحدة من خط الطول بصحراء سنجار ويزناها ليثبت بذلك تكوير الأرض بالمشاهدة، وقد تبين ذلك باختلاف ارتفاع القطب الشمالي عن طرف الخط المقيس. وقد شرح العرب كتاب إقليدوس وهذبوا زيج بطليموس وحرروا حساب تعريج منطقة البروج، كما حرروا الفرق بين أوقات الاعتدال والفرق بين السنين الشمسية والزمنية، فوجدوا بين السنة الشمسية والسنة الزمنية عدة دقائق، واخترعوا للتحريرات آلات جديدة، إلى غير ذلك مما يدل على ما للعرب من قابلية العلوم الرياضية، ومنهم حازت مدينة سمرقند قبل أوروبا بكثير محل رصد عجيب.
وأما ما ينسب للعرب من اختراع الجبر والمقابلة والأرقام الحسابية المسماة عندنا بالأرقام العربية، فلم يثبت، بل إنما تعلموا ذلك مع فلسفة أرسطو بالتلقي من غيرهم، وهي من العلوم التي وجدوها في إسكندرية. ويمكن أنهم نقلوا إلينا على ذلك الوجه البوصلة «أي: بيت الإبرة ويقال له: الحك». والبارود الذي تعلموه من أهل الصين، كما يعترف لهم أوروبا بمزية اختراع الكاغد من القماش، وبذلك كثرت الكتب ودنت أسعارها وسهل الطبع وتوفرت نتائجه بعد وجوده.
وقد اشتهرت العرب أيضا بمعرفة الطب الذي كانوا نقلوه من كتب اليونان. ولابن رشد تعليقات عديدة على كتاب جالينوس شاهدة بما ذكر. ومن فلاسفتهم عدة أشخاص صاروا في وقت واحد حكماء وأطباء مشهورين، مثل: أبي علي بن سينا المتوفى سنة ستة وعشرين وأربعمائة هجرية، وابن رشد المذكور. وقد بلغوا من الشهرة إلى حيث صار أعداؤهم في ذلك الوقت يرغبون معالجتهم إياهم، كما يحكى أن بعض ملوك قسطلية كان اعتراه مرض الاستسقاء فاشتهى أن تكون معالجته في قرطبة، وحصل من لطف الخليفة على الإذن في أن يذهب ويداويه المسلمون. ومن مآثر حكماء العرب كيفية تقطير المياه واستعمال الراوند وأدوية كثيرة.
ومن العلوم التي لهم الفضل فيها الجغرافية؛ وسبب تقدمهم فيها أن اتساع فتوحاتهم ورغبتهم في الأسفار الخطيرة لافتراض الحج عليهم انتخب لهم المعرفة بكثير من البلدان الشاسعة التي لم يصل إليها أهل أوروبا أو نسوها بعدما كانت معروفة لهم. ومن مشاهيره في هذا الفن أبو الفداء والمسعودي والإدريسي، وهذا الأخير هو الذي استدعاه روجير ملك صقلية وألف عنده كتابه الغريب الذي سماه: «نزهة المشتاق».
وأما علم التاريخ فمن تآليفهم فيه تاريخا المسعودي وأبي الفداء المذكورين وتاريخ المقريزي، غير أنها تواريخ مختصة بأبناء جنسهم وقل أن يوجد بها الكرينيك بمعنى أنهم لا يسبرون منقولاتهم بمسبار العقل كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، ولا يخرجون عن دائرة الوقائع المجردة. ولا سبب لذلك إلا ما حكاه «سدليو» في تاريخه الآتي ذكره من أن وجود التسلط من الملوك في بلاد المشرق هو الذي كان يمنع المؤرخين من شرح جميع الوقائع ببيان أسبابها للخطر الذي كان يلحقهم في حكاية الحق.
وأما صناعة «الأرشتكتور»؛ أي هندسة البناء في اصطناع الهيئات، فلم يشتغل العرب منها إلا بما يرجع إلى إتقان الأبنية؛ حيث إن شريعتهم تمنع التصوير، على أن البناء نفسه لم تظهر لهم فيه اختراعات غريبة، فالأصل عندهم في الأقواس المرفوعة على الأسطوانات أن تكون أكبر من نصف دائرة وهذا الشكل أخذوه من أبنية البزنتيين وهم أمة من اليونان، واعتاض العرب عن الصور الذهنية والمجسدة التزين بالنقش المسمى عندهم بنقش حديدة. وكان في الأصل رسوما لها مدلولات ثم مجرد خطوط متقاطعة شبيهة بالحروف العربية التي يمكن أن يصور منها أشكال جيدة ظريفة، وكثيرا ما تتعجب من إتقان تلك الحروف حين تراها على الزرابي والأقمشة المشرقية.
ومن مآثر العرب اصطناع الجوابي والفوارات والتزويق بالذهب والأحجار الثمينة كالمرمر التي كانوا يجلبونها من المشرق ومن مقاطيع إسبانيا الجنوبية.
ومن أشهر أبنيتهم الجامع العظيم الذي بناه عبد الرحمن الأول في قرطبة وكان به ألف وثلاثة وتسعون أسطوانة وأربعة آلاف وسبعمائة قنديل. ثم قصر الزهراء الذي لا يتأخر عن الجامع المذكور في العظم وقد بناه عبد الرحمن الثالث على شاطئ الوادي الكبير، وبه ينبوع عظيم يفور منه شبه باقة من الزئبق ثم ينعكس في قصعة من المرمر. ومن بديع أبنيتهم حمراء غرناطة التي هي في آن واحد قصر وحصن، وبها عدة أمور تصلح أن تكون مثالا للطافة البناء وحسنه خصوصا وسطها المسمى ببطحاء الأسود.
وأما التجارة، فقد كان للعرب حسن رغبة فيها في سائر الأوقات، ثم لما امتدت سلطتهم من البريني، وهي جبال بين فرانسا وإسبانيا، إلى جبال هملاي التي بأقصى شمال الهند، صاروا أكبر تجار الأرض. وأما الفلاحة، فلا يعلم لهم نظير فيها؛ إذ ليس لغيرهم ما لهم من الاقتدار على جلب المياه وتوزيعها بلطف في مزارعهم الواسعة تحت شمسهم المحرقة، فسيرتهم في ذلك السائر بها إلى الآن أهل بلنسية روضة إسبانيا صالحة أن نجعلها أسوة نقتدي بها في فلاحتنا الفرانساوية.
وأما الصناعات، فإن العرب تعلموا جميعها لما دخلوا بلدان الرومانيين العظيمة حتى صاروا من أحذق أربابها، وكفاهم شهرة في ذلك سلاح طليطلة التي كانت تحت سلطانهم بإسبانيا، وحريريات غرناطة والجوخ الأخضر والأزرق بمدينة كونسة، والسروج والخروج والجلود بقرطبة. وكان أهل أوروبا يشترون هذه المهمات بأغلى ثمن ويتنافسون فيها مع شدة نفرتهم من أهلها المخالفين لديانتهم.
وبالجملة فقد بلغت إسبانيا من العمران إلى هذه الشهرة في القرون الأولى من مدة الخلفاء؛ حيث كانت الفتن عنها أسكن من المشرق، وقد تزايد نمو سكانها إلى أن صار بمدينة قرطبة وحدها مائتا ألف دار وستمائة جامع وخمسون مارستانا وثمانون مكتبا عموميا وتسعمائة حمام ومليون نفس.
فهاك برنامجا إجماليا للتمدن الذي نشره العرب من شاطئ تاج، وهو واد كبير بإسبانيا، إلى وادي هندوس بالهند. تمدنا يكاد يخطف نوره الأبصار، ولكنه لسرعة نموه كان معرضا للعطب. قال: «وتمدن أوروبا اليوم كان أبطأ في النمو، ولكنهم حصلوا بعد انقلابات وكسوفات على ما يمكن به طول البقاء المعتاد في كل بطيء النمو.»
وقال في بيان امتداد ملك العرب: «قد امتد ملكهم في ظرف مائة سنة من ظهور الإسلام مثل ما يمتد عظيم الخلقة فاتحا ذراعيه لالتقاط شيء، فبلغ من أقصى الهند إلى بيريني الكائنة بين فرانسا وألمانيا، وقدر امتداد هذا الملك من سبعة عشر إلى ثمانية عشر ألف فرسخ، ولم يبلغ هذا المبلغ دولة من الدول الماضية. وقد استمرت الديانة واللسان وأحكام القرآن نافذة في غالب البلدان التي فتحوها، واغتنمت أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصنائع وعلوما، وإن كان منها ما أخذوه من غيرهم، لكن لهم الفضل في تهذيب ذلك وتخليده بعدهم. ثم في النصف الثاني من القرن العاشر المسيحي توجه الراهب الفرانساوي جربير الذي جلس على الكرسي البابوي باسم سلفستر الثاني إلى مسلمي إسبانيا. وقرأ هناك علم الجبر والفلك وأجرى لأهل أوروبا النصرانية منهلا جديدا من معارف العرب، وجمع خزانة جليلة من الكتب وصنع كرتي السماء والأرض.» انتهى ما أمكن تلخيصه من كلام الوزير المشار إليه - أي: دروي وزير المعارف بفرانسا.
وفي تاريخ العرب لسدليو، مدرس علوم التاريخ بإحدى مدارس فرانسا وأحد أعضاء جمعية المعارف بها، ما معناه: «إني منذ مدة طويلة تنيف على العشرين سنة، وأنا مشتغل ببيان مزايا العرب على غيرهم من الأمم فيما يتعلق بالعلوم والقدم في التمدن مدة قرون متطاولة من أيام اليونان بالإسكندرية إلى أيام العصر الجديد، فلزمني أن أجمع ما تيسر لي من الأدلة على عظم هذه الأمة التي لم يعرف قدرها إلى الآن، وأعرضه على ما لغيري ممن تكلم عليها، فيتأسس تاريخ لها عمومي وإن كان ذلك مما لا تفي به طاقة إنسان واحد.
وقبل الشروع في ذلك على وجه الاختصار يلزمني أن أندب الناس إلى التأمل في أحوال هذا الجنس الذي كان كثير الفتوحات عديم الاستيلاء عليه في سائر مغازيه، ولم يزل مدة أربعة آلاف سنة على حال واحد في اكتساب الفضائل والمزايا التي تميز بها على غيره والتراتيب والعادات الخاصة به . ومن حجج ذلك أن الوقت الذي كانت فيه الممالك القديمة في مبدأ تكوينها ذات حيرة، كان هذا الجنس إذ ذاك قائما بنفسه قادرا على الإغارة على غيره. فقد كانت ملوك بابل ومصر من ذلك الجنس مدة تسعة عشر قرنا قبل التاريخ المسيحي، ثم بعد أن رجع إلى حدوده الأصلية، دفع عن نفسه سلطة الفراعنة وملوك الشام وامتنع من تسلط قيصر وإسكندر، ودام في استقلاله ضد الرومان الذين كانوا ملكوا الدنيا وبعد ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
الذي جمع العرب أمة واحدة تقصد مقصدا واحدا، ظهرت للعيان أمة كثيرة مدت جناح ملكها من نهر طاج في إسبانيا إلى نهر الغانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، كأنها نسيت بالمرة ما كان عندها من التمدن الروماني واليوناني. وبعد انقسام ممالك الإسلام لم تتعطل العلوم والآداب التي نتجت على أيديهم، فإن خلفاء بغداد وقرطبة ومصر وإن ضعفت قوتهم الملكية والسياسية، فإن سلطتهم الروحانية لم تزل قوية مطاعة في كل جهة لاجتهادهم في توسيع دوائرها بقدر طاقتهم، وقد نال النصارى، الذين استطاعوا إخراج العرب من إسبانيا بالخلطة معهم في الحروب معارفهم وصنائعهم واختراعاتهم، ثم المغل والترك الذين تسلطوا على آسيا وتداولوها كانوا خدمة في العلوم لمن تغلبوا عليها من فرق العرب.
وإلى الآن لم نطلع في أوروبا على الأصول التي تبين لنا عادات العرب اطلاعا تاما؛ إذ لم يعرف عندنا عن تواريخهم إلا تواريخ أبي الفداء وأبي الفرج والمقريزي وابن الأثير ونبذة من تاريخ ابن خلدون، ونجهل بالمرة تواريخ كثيرة نود لو نجد من يترجمها لنا، وإن كان المقدار الذي عندنا كافيا في رد غلط من غلط من أهل أوروبا في شأن العرب. ثم إني ذكرت في تاريخنا هذا ما يتعلق بفتوحات الخلفاء الأولين بتاريخ بني أمية في دمشق وقرطبة وبتاريخ دولة بني العباس في بغداد والفاطميين بمصر. وبانقسام الممالك الإسلامية بالمشرق بعد تسلط الترك والمغل عليهم، فبينت جميع ذلك بقدر الطاقة، وزدت عليه شيئا لم يوجد في التواريخ السالفة، وهو: برنامج التمدن العربي الذي توشحت عروقه في الدنيا القديمة واستمرت آثاره ظاهرة إلى الآن لكل من يبحث بالجد من أصل المعارف منا.
وفي أوائل القرن الثامن من تاريخنا تبدل ولوعهم بالفتوحات بالجد في المعارف والعلوم، فكانت إذ ذاك قرطبة ومصر وطليطلة وفاس والرقة وأصبهان تتسابق في ميدان العلوم مع بغداد تحت بني العباس. وترجمت في تلك المدة كتب اليونان وقدمت في المدارس وشرحت، وسرت حركات عقولهم في جميع مواد المعارف الإنسانية فنتج عنها من الاختراعات الغريبة ما شاع صيته في أوروبا، فتبين بلا إشكال أن العرب هم أساتيذنا بلا إنكار؛ لأنهم جمعوا الأدوات المؤسسة عليها تواريخنا المتوسطة، وبدءوا بكتابة الرحلات واخترعوا التآليف في تاريخ وفيات الأعيان. ووصلوا في صناعة اليد إلى غاية لا تحد، وبقية آثار أبنيتهم مما يدل على اتساع معارفهم، وكذلك اختراعاتهم الغريبة تزيد بيانا لفضائلهم التي لم ينزلوا إلى الآن منزلتهم التي يستحقونها بسببها. فإن علوم الفيزيك والطب والتاريخ الطبيعي والكيميا والفلاحة لما جاءت في أيديهم زاد فيها الغريب مع كونها من المحسوسات التي لا تصرف لها هممهم صرفا تاما، فكيف بالعلوم العقلية التي اجتهدوا فيها اجتهادا يفوق الحد من مبدأ القرن التاسع إلى انتهاء القرن الخامس عشر؟!
ثم نقول ما نسبة ما عرفناه الآن منهم ببحثنا إلى ما بقي مجهولا لنا من ذلك؟ وبالجملة، فالعرب هم منبع فهومنا ومعارفنا ولم نزل إلى الآن نطلع على أشياء من مخترعاتهم التي كانت منسوبة لغيرهم كلما قرأنا كتبهم. ثم قال في شأن التمدن العربي: «إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم مصائب البربرية التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دوائرها وفتحوا طرقا جديدة لتأمل العقول في عجائبها.»
ثم استشهد بقول إسكندر هميلط: «إن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم المنتشرة من شواطئ نهر الفرات إلى الوادي الكبير في إسبانيا وبين العلوم وأسباب التمدن، فتناولتها تلك الأمم على أيديهم؛ لأن لهم بمقتضى طبيعتهم حركة تخصهم أثرت في الدنيا تأثيرا لا يشبه بغيره، فكانوا في طبيعتهم مخالفين لبني إسرائيل الذين لا يطيقون خلطة أحد من الناس فيخالطون غيرهم من غير أن يختلطوا به ولا يتبدل طبعهم بكثرة المخالطة، ولا ينسون أصلهم الذي خرجوا منه. وما أخذت أمم ألمانيا في التمدن إلا بعد مدة طويلة من فتوحاتهم بخلاف العرب، فإنهم كانوا يحملون التمدن معهم فحينما حلوا حل معهم، فيبثون في الناس دينهم وعلومهم ولغتهم الشريفة وتهذيباتهم وأشعارهم الشهيرة التي هي أساس بني عليه «المنسنقر والتربدور».
ثم قال بعد ذلك: «ونعود الآن فنقول إنه ثبت عندنا بما صنفه العرب واخترعوه برجحان عقولهم الغريب في ذلك الوقت الذي وصل صيته إلى أوروبا النصرانية، وهذا حجة على أنهم - كما قال غيرنا ونحن نعترف به - أساتيذنا ومعلمونا.» انتهى ما نقله الوزير الأعظم خير الدين باشا عن هذين المؤرخين الشهيرين وفيه لأولي الألباب كفاية.
وما كان لهذه الأمة من سعة المعارف والتقدم في ميادين الفضل إنما كان ناشئا عن اتحاد ممالكها، وسياسة ملوكها، ووضعهم الأمور في مواضعها، واحترامهم للأصول الشرعية، وتفويضهم أزمة الأحكام لذوي الدراية والكفاية، ونظرهم في أهميات السياسة نظر العاقل الحكيم، وعدم استبدادهم في أمور الأمة، ومشاركتهم لأرباب الحل والعقد من الرؤساء والعلماء فيما ينبغي إجراؤه في أحوال المملكة وسياستها من جلب نفع أو دفع مكروه.
لا كما يتوهمه البعض من أن الملوك في صدر الدولة الإسلامية كانوا مستبدين بالأمر دون أرباب الحل والعقد، بل الأمر بخلاف ذلك، فإن مهمات السياسة والإدارة في المملكة لا يتم نظامها ما لم تطرح في ميدان التأمل والتدبر وتبدي أرباب الحل والعقد آراءهم في ذلك على مقتضى الظروف ومناسبات الحال، فإنهم على كل حال أدرى بأحوال الرعية لتردد نظرهم للناس والوقوف على ما يناسب حالهم وأطوارهم. فإن الملك ما دام ملتزما قصره دون مائة حجاب لا يتمكن من رؤية أحد إلا الوزراء والكبراء، قل أن يقف على حقيقة أطوار عامة الناس وأحوالهم، ولو مهما عرفوه بذلك وليس الخبر كالعيان. لذلك كانت سياسة الخلفاء غير خارجة عن اتحاد الآراء وإقرار العلماء والوزراء، سواء على جلب نفع أو دفع مكروه. ومما يحقق ما قلناه مسير السياسة العربية على منهج واحد وثبات ملكها وتوالي نمو نجاحها حينما كانت أمور الأمة لا تصدر عن الملك ما لم يقر عليها أرباب الحل والعقد بعد التروي والاختبار، إلى قيام المتوكل الخليفة العاشر من العباسيين (وذلك في سنة 332 هجرية)، لما أراد الاستبداد بالأمر وكسر شوكة أمراء المملكة وانفراده بمهام السياسة سبب انقسام هذه الدولة وتفرق كلمتها، إلى أن نشأ عن ذلك ضياع الملك من أيدي العباسيين وخراب البلاد وتشتت الكلمة، وذلك بأن استدعى من أمراء الأتراك ورعاعهم من سلمهم قيادة الجيوش وولاهم الحرس وسلم بعضهم أزمة الأحكام وقربهم منه وأدناهم وأبعد أمراء العرب وصادرهم، ومنهم من قتله كالوزير محمد بن عبد الملك الزيات فإنه أخذ جميع ماله وعذبه في السجن ثم قتله شر قتلة، وقوى شوكة هؤلاء الأغراب إلى أن صارت بيدهم مفاتيح الأمور، وعظم محلهم في قلوب الناس لما رأوا من مكانتهم من الخليفة، حتى خالفوا الأحكام ومدوا يد التعدي على الناس، وأول ما فتكوا بعد تمردهم كان بنفس الخليفة المتوكل وهجموا عليه في مجلسه ليلا يتقدمهم أحد أمرائهم المدعو ببغى الصغير وهبروه بالسيوف ثم أقيمت بعده البيعة لابنه المنتصر.
ثم أخذت أمور الخلافة السياسية بالانحطاط وتراجعت تلك الأمة عن مركزها الأصلي إلى الوراء عندما عظمت شوكة الأغراب، وتلاعبت بالملك يد الأغراض والأهواء واستبد الأمراء بالأطراف، وأوجب الأمر واختلاف الآراء إلى انقسام هذه الدولة إلى عدة دول لا محل لذكرها هنا ما بين أمير مستقل وعاص مستبد وملك متغلب، إلى غير ذلك من الانقلابات التي كان سبب منشئها التفريط وحب الاستبداد بالأمر وتداخل يد الأغراب بالملك. على أن أول انقسام حصل في دول الإسلام انقسامها إلى ثلاث: العباسيين في بغداد، والعلويين في مصر، والأمويين في الأندلس - أي: الغرب - لكن كانت كل دولة قادرة حينئذاك على الاستحصال على أسباب التقدم والفتوحات والمدافعة عن الملك، إنما الخلل الذي طرأ عليها وسبب تلاشيها هو انقسام الانقسام أيضا في المشرق، وأما الغرب فإنها صارت أشبه بملوك الطوائف بعد ما نالت في زمن الأمويين من العز والمنعة والتقدم في المعارف ما طبق بصيته الآفاق، ثم ترتب على انقسامها سقوط الأندلس من يد المسلمين.
وفضلا عن تلك الانقسامات، وبينما جروح هذه الأمة تقطر بالدم وما اندملت بعد من جرا هذه الانقلابات؛ إذ دهمها هلاكو بجيوش التتار سنة 655 هجرية فخرب ممالك الإسلام وانقرضت عن يده الخلافة العباسية في بغداد، وكان آخرها المستعصم، ثم تلا ذلك نكبة تيمور التي فعلت بالممالك الإسلامية ما سود صحف التاريخ بذكره الشنيع، وأفقد الإسلام بقية ما كان لهم إثر تلك الأهوال من الصنائع والمعارف ودرس أعلام الفضل وذهب بأرباب الفنون إلى بلاده فيما وراء النهر.
ثم في أثناء ذلك صدم المسلمين تيار أعظم من ذلك وأشد، وهي الحروب الصليبية التي دامت حروبها في الشرق متواترة، وجيوش الإفرنج إليها متقاطرة مدة جيلين، حتى هلكت العباد وضاق بالناس الزرع وتعطلت أسباب العمران، إلى أن سخر الله رجال الدولة الأيوبية التي أطفأت تلك الفتنة العظيمة، وانتهى من ثم الخصام بعد مواقع وحروب بين المسلمين والإفرنج، دارت بها الدائرة أخيرا على الإفرنج، وطردهم المسلمون من الشرق وارتاحت بعدها نوعا الخلق.
فهذه كانت عاقبة الانقسام وتعدي السلاجقة على النصارى والأجانب الزوار جلب هذه الحرب العظيمة التي كانت سببا لفقدان أعظم المعارف الإسلامية، ووسيلة توصل بها الإفرنج إلى أسباب التمدن والوقوف على المعارف الإسلامية بكثرة المخالطة التي أدتهم إليها هذي الحرب العظيمة.
ثم بعد تلاشي واضمحلال دول الخلفاء وغيرهم من ملوك العرب، ما زالت الدول التي تشعبت بعدها في صعود وهبوط إلى أن تأسست سنة 699 الدولة العثمانية وضمت إليها جميع الممالك الإسلامية المتفرقة وأحسنت السياسة مع الناس وسارت أمور ملكها على قدم النجاح باحترام ملوكها للأصول الشرعية، وردت للعالم الإسلامي روح القوة والمجد. ولم تزل إلى الآن صاحبة السيادة في كل مكان ومن مشاهير ملوكهم السلطان سليمان. ثم لما أفضت الخلافة في وقتنا هذا إلى السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان أشرقت شمس الخلافة في برج جديد، وقوم هذا الملك العادل أود ممالكه بما سنه من القوانين العدلية وبث أسباب التمدن وروح العلوم والمعارف بين الناس، ولم يزل أدام الله سلطانه باذلا جهده في تقدم ممالكه المحروسة بما يجريه فيها من الإصلاحات والتنظيمات وإنشاء المدارس وتعميم المعارف رغما عن مقاومة المكابرين، وما يحول دون ذلك من الصعوبات مما هو مشاهد بالعيان وما يؤمل به تقدم ممالكه إلى درجة الكمال من التمدن والعمران أيد الله سرير سلطنته وشيد بالعز أركانها ونصر مدى الزمان أعوانها. ا.ه.
الفصل الثاني
ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الأوروباوي
اعلم أن انتشار التمدن في أوروبا إنما كان ابتداؤه في إسبانيا حينما كان المسلمون مستولين عليها، وقبل ذلك كان أهالي أوروبا لا يعرفون سوى الفتك ولا يتفاخرون بغير السلب والنهب. لكن لكثرة مخالطة الإسبانيول والإفرنج لمسلمي الأندلس وغيرهم، أخذوا عنهم بعض عوائد حميدة وعلوم مفيدة ومن ثم امتد التمدن إلى فرانسا وإنكلترا حتى عم جميع أوروبا.
وذكر في مقدمة «أقوم المسالك» أن الإمبراطور شارلمان الذي أسس دعائم السياسة والأحكام كان أول ملك ظهر في أوروبا من وقت سقوط الدولة الرومانية إلى سقوط دولة الإغريق التي كان تخت مملكتها القسطنطينية العظمى، وهو الذي أدخل العلوم والأعمال لممالكه، وكان يفني غالب أوقاته في قراءة العلوم وكان مجلسه محفوفا بالعلماء وأسس في باريس مدرسة جامعة لسائر المعارف. وبمثل هاته المآثر حصل من السمعة في أقطار الأرض ما استمال الخليفة هارون الرشيد إلى صحبته ومهاداته بتحف منها ساعة لم تزل إلى الآن في أحد قصور فرانسا - وهي الساعة التي مر معنا ذكرها - قال: «ثم بعد وفاة الإمبراطور المذكور وفقدان تدبيره، تعطلت تلك المصالح وتنازلت أوروبا وبقيت مغمورة في دجا الجهل ستمائة سنة، وفي هاته المدة كانت وطأ لأقدام البرابرة الذين كانت دولهم تتداول عليها. ومع ذلك الفشل التام فإن أهل الكنيسة منهم كانوا محافظين على المعارف وعلى اللسانين اللذين لولاهما ما انتفع بتلك الكتب وهما اليوناني واللاتيني، فالناس ممنونون لهم بذلك.
وفي القرن الحادي عشر الذي هو خامس قرون الهجرة النبوية، ظهرت مبادئ علوم وصناعات وهندسة في الأبنية، فانتشت بها هياكل في الناحية الغربية من أوروبا. وأخذ علم الفلسفة في النمو بين محاورات كلامية ومنازعات جدلية. وظهر حزب الفرسان الذين اشتهروا باسم «الكفاليير» وهم جماعة من وجوه الناس تحالفوا على أن يحاربوا في الله للمدافعة عن حرية النسوة والمستضعفين من سائر الأهالي، وأن لا يلاحظوا في أفعالهم لا سيما المحاربة سوى مقتضيات الشرف الإنساني وعلو الهمة ولو مع أعدى الأعادي مثلا، يرحمون من يسترحمهم ولا يجهزون على جريحهم ولا يبتزون سلب قتيلهم.
ومن أواخر هذا القرن إلى أواسط القرن الثالث عشر، كانت حروب الصليبيبن مع المسلمين لافتكاك بيت المقدس وقطع استيلائهم على الأمم في زعمهم. قال: وإنما أشرنا لهاته الحروب والفرسان، لبيان ما لها من الدخل في التمدن الأوروباوي، فإن مؤرخيهم يقولون: إن تلك الحروب، وإن هلكت فيها نفوس عديدة وأموال غزيرة بدون الحصول على المقصود بالذات، فإنها أعقبت نتائج نافعة لهم، منها أنهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر، وتعلموا بمواصلتهم لأهل المشرق صناعة التجارة والزراعة ونحو ذلك، وتخلقوا بأخلاق الحضر، وتعودوا بالأسفار لاستكشاف أحوال الأقطار، فاطلعوا على أحوال آسيا المتوسطة وأحوال الصين كما ذلك مبين بتآليف «ماركو بولو». وبالجملة فبالسبب المذكور، وهو مخالطة الأوروباويين للأمة الإسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة، كان ابتداء التمدن عندهم لا سيما في القرن الثالث عشر، ثم تهذب حتى وصل إلى ما هو مشاهد اليوم.
ومن أعظم الأسباب التي أعانت أوروبا على التمدن اختراع الطبع الذي سبب انتشار العلوم، ونشأ عنه من المنفعة بين الأمم ما لا يوصف. قيل: إن الذي اخترع طبع الكتب غتمبرغ من أهالي ميانس بألمانيا. وأول ما طبع منها كتاب في أشعار اللغة اللاتينية، وذلك في أواسط القرن الخامس عشر . وقال بعض المؤرخين: صناعة الطبع قد اختلف الأقوال في مخترعها؛ فبعضهم نسبها إلى منتزو وبعضهم إلى إسترابورغ وهارلم وبعضهم إلى فينسيا ورومية، وبعضهم إلى فلورنسة وبلسيل. وفي رواية أدريان جونيوس أن مخترع الطبع هو يوحنا كستر من هارلم طبع على خشب كتابا فيه حروف وصور على وجه واحد، وذلك في سنة 1438. قال: وفي سنة 1442 أنشأ يوحنا فوست مطبعة في منتزو طبع فيها كتابا، وزعم بعض أن أول كتاب طبعه كان كتاب المزامير. وقال آخر: لا شك أن الطبع كان معروفا عند أهل الصين، وذلك قبل تاريخ المسيح بأحقاب عديدة، والأقوال في ذلك كثيرة، والأصح أن انتشار الطبع لم يكن إلا في الأزمان الأخيرة.
وبالجملة فالطبع هو السبب الأعظم لانتشار المعارف والعلوم وقد أعان أوروبا على إنشاء المدارس الكثيرة، وتعميم الفوائد والعلوم حتى أضحت مدارسها لا يعزب عنها علم من العلوم ولا فن من الفنون، وحازت أهاليها من التمدن أسمى مكان، وقد تفننوا في كل شيء وبرعوا في كل فن، وأصبحوا أحسن العالم ثروة وأعظمهم تجارة بعدما كانوا أسوأهم حالا وأقلهم مالا، وتسابقت علماؤهم ومؤلفوهم إلى الاختراعات العجيبة والتآليف الغريبة وتعميم المعارف وتأسيس المدارس والمعامل واصطناع الأدوات والآلات لتشغيل الصنائع، وأخصها المنسوجات التي بها توسعت دائرة التجارات الأوروباوية.
وحازت أوروبا تمام الثروة والغنى حتى قيل - كما في «كشف المخبا»: إنه بلغ في سنة 1874 عدد المعامل في إنكلترا ووالس وسكوتلاند وإرلاند (1274) معملا وعدد المستخدمين والصناع فيها (1005685) منهم (394044) ذكور، (611641) إناث، وبلغت البضاعة التي خرجت من إنكلترا إلى الخارج في سنة 1879 (591531758) ليرة، وبلغت قيمة المجلوب لفرانسا في السنة المذكورة (183793480) ليرة إنكليزية «جنيه»، وبلغت جملة المخارج منها في السنة المذكورة (126523600) ليرة. وفي الإحصائيات أن قيمة المجلوب إلى بلاد الروسيا بلغت في سنة 1860 (101183) روبلا، وكل روبل عبارة عن أربع فرنكات، وقيمة الخارج منها بلغت (52854021). وبلغت قيمة المجلوب إلى أوستريا في السنة المذكورة (229631472) فلورينا وكل فلورين عبارة عن فرنكين ونصف، وبلغت قيمة الخارج منها على ما ذكره في كشف المخبا (306829716).
وهذا كله عن إحصائيات سنة 1860 وسنة 1879 مسيحية ، فكم تكون تحسنت الحال من وقتها إلى الآن؟ يعني سنة 1887، وأظنه أضعاف ما ذكر؛ لأن الأشغال والتجارات الأوروباوية آخذة بالنمو والازدياد يوما عن يوم، وقال: إنه يوجد محل في إرلاند يخص أحد الإنكليز فيه أربعة آلاف شخص مستخدمين في عمل القمصان يصنعونها بأدوات النار، وهذا القدر بمنزلة سبعة آلاف شخص. فأي فرق يرى الآن في بلاد الإنكليز وقد صارت تمد جميع الدنيا بمصنوعاتها وتكسو الناس والديار والحيوان بمنسوجاتها؟ بعد أن كانت تبعث الثياب إلى هولاند لتصبغ هناك وتعاد إليها لتبيعها، وبعد أن كانت تنتظر أحد الفارين من فرانسا وغيرها أن يأتي إليها ويبث فيها صنعة من الصنائع، فإن هذا الديباج الذي يسمونه دامسك «دامسقو» أصل صنعه كان في دمشق ثم حاكاهم فيه أهل هولاند، وفي سنة 1571 هرب منهم جماعة بسبب ظلم الأمير ألفا وجوره عليهم، فجاءوا إلى بلاد الإنكليز وصنعوه فيها.
قال مؤلف «المخترعات العجيبة»: أما صنعة النسج، فقد كانت معروفة في بلاد الصين من قبل أن تعرف في أوروبا بدهر طويل، والغزل عندهم والنسيج إنما هو من شغل النساء. وأول من صنع ثياب الصوف في بلاد الإنكليز رجلان قدما من برايان، ثم قدم من هولاند صباغون وبزازون وصناع للحرير، وشهروا هذه الصنائع بين الأهلين وذلك في سنة 1567. ثم قال في عبارة أخرى: «وإذا نظرنا في أحوال إنكلترا هذا القديم وجدنا أن ملابس أهلها إنما كانت من جلود الحيوانات، وإن ثياب زعمائهم لم تكن إلا من الكرباس الخشن كأنما هو مسح حتى إن الفرسان الذين تنوه بهم التورايخ كانوا إذا نزعوا عنهم الدروع اللماعة يشف عنها ثياب الجلد. فلما عرف النسج في الأعصر المتأخرة كان الغزل كما لا يخفى من صنع النساء، وبقي الحال على ذلك دهرا طويلا إلى أن قيض الله أرك ريت وألقى في روعه استنباط آلة للغزل تكون دائمة الحركة، فوفق إلى ذلك ونجح ما أمكن. » قال: «ولد أرك ريت المذكور في سنة 1732 وبقي إلى سن ستة وثلاثين من عمره خامل الذكر مشتغلا بالحلاقة، ولم يكد يحصل من حرفته شيئا زائدا على قوت يومه، إلا أنه كان ذا فكر صائب في جر الأثقال، فما زال يعمل فكره في اختراع آلة الغزل حتى تسنى له ما قصده لكن بعد صعوبات شتى. فلما اشتهر مخترعه أجازت له الدولة أن يستبد بمنافعه إلى مدة مديدة، فأنشأ معملا في دربي. ولم تمض عليه مدة حتى أحرز أموالا طائلة وطار ذكره بين الناس فحدث في استنباطه هذا في أشغال النسيج تغيير عظيم من تنقيص الصناع وترخيص سعر الثياب.» ا.ه.
أقول إنما أحببت إيراد هذه الجملة لما بها من العبرة لكل عاقل يرى كيف أن الإنكليز، والأجدر أن يقال جميع أوروبا بعد لبسهم المسوح والصوف الخشن، أصبحوا من التمدن في درجة خولتهم التفنن بملابس الحرير والتنعم في ظلال الرفاهية ورغد العيش، وكيف أن الهمم البشرية تخرج بالإنسان من حضيض الجهل إلى ذرا المجد وكمال التقدم، فإن ما بلغته الأمم الأوروباوية الآن من التمدن والمعارف والتفنن بالعلوم والصنائع قد جعلها أغنى العالم وأعظمهم قوة، والفضل في ذلك لذوي العقول الفادحة من علمائهم ومخترعيهم الذين ما تركوا من صعاب الأمور شيئا إلا وذللوه بما اخترعوه من الآلات والأدوات والصنع العجيبة والتسهيلات الغريبة، وأخصها قوة البخار التي سارت بها السفن البخارية والسكك الحديدية وتوفرت بسببها نتائج الأشغال التجارية، وكثرت المعامل الصناعية وقرب تواصل الأبدان والبلدان إلى غير ذلك من المنافع التي تبرهن عن مزيد تقدمهم بالمعارف وعلو هممهم.
قالوا: إن أول مخترع لآلة البخار مركيز ورسستر الإنكليزي، وذلك في زمن شارلس الأول في سنة 1663، وأول تجربة أجراها كانت في مدفع وذلك بأن ملأ نحو ثلاثة أرباعه ماء ثم سد خرقه وفمه وأدناه من النار نحو أربع وعشرين ساعة فانفلق بدفع شديد فدله ذلك على أن قوة البخار أعظم مما يدركه الإنسان. وروي عنه أنه قال: «قد جعلت الماء ينبعث من الجدول ارتفاع أربعين قدما والإناء الذي فيه بخار يرفع أربعين إناء ملئت ماء.» إلا أن ما أنتجته فكرته لم يكن كافيا للحصول على تمام تلك القوة، أو لأن الناس في زمانه لم يكترثوا بذلك . ثم في سنة 1690 فكر في شأنها المهندس داينس بابين الفرانساوي الذي ينسب له الفرنسيس ذلك الاختراع، إلى أن ركب في سنة 1695 الآلة البخارية يلبستون وهو شيء يشبه مدق المكحلة، ثم قام مترنيسو كومن ومستر كين فتزجرالد وهودون بلور ووط وبلطون، وبعد ذلك قام القبطان شانك فأنشأ سفينة لتسافر إلى كندة في مدة حرب الأمريكانيين ونجح. وفي سنة 1681 اخترع يابان آلة من هذا القبيل، ثم قام صفري فصنع أداة لإصعاد الماء وذلك في سنة 1698. ثم قام غيرهم وكل منهم أتقن شيئا أو زاد فيه.
قالوا: وأول باخرة أنشئت في إنكلترا كانت في سنة 1815، وفي إرلاندا سنة 1820، وأول باخرة سافرت إلى بلاد الهند كانت في سنة 1828، وكان إنشاء البواخر الحربية في إنكلترا سنة 1833. وفي سنة 1775 صنع الماكنجي بريا الفرانساوي الآلة المذكورة وألقاها على وادي دوب بفرانسا، وفي سنة 1781 ألقى على وادي صون بفرانسا أيضا سفينة كبيرة من ذلك النوع. وفي سنة 1803 قام بباريس فلطن الأمريكاني ووضع على وادي سون أول وابور تام بالعجلات وذلك بمعونة أحد أبناء وطنه ويدعى ليونسطن. ولكن لم يتم هذا العمل المفيد بفرانسا لعدم اعتناء الدولة به في ذلك الوقت، ولما آيس فلطن من نجاح سعيه هناك حمل مخترعه إلى وطنه في أمريكا وأشهره بها، ويقول أهل فرانسا: إن من سوء البخت عدم انجذاب بال الدولة في ذلك الوقت لهذه النتيجة الباهرة. ا.ه.
وحيث ورد معنا في معرض الكلام ذكر المدفع، فلا بد من إيراد بعض أقوال تتعلق بتاريخ اختراعه. قال في «كشف المخبا»: «زعم بعض أن استعمال المدافع كان في سنة 1338، وزعم بعض أنها عرفت في حرب كرسي وذلك في سنة 1346، وقيل: إن الإنكليز استعملوها في حصار كالي سنة 1347. وقال بعضهم: إن برنس والس المعروف بالأسود لسواد درعه وريشته انتصر على فيليب فلوي ملك فرانسا عند نهر سم، وكان من أقوى الأسباب التي أعانته على ذلك بعض مدافع كانت مع عسكره، فإن المدافع لم يشهر استعمالها قبل تلك الواقعة إلا بنحو اثنتي عشرة سنة ولم يعلم من كان المخترع لها.» ا.ه.
وفيليب المشار إليه ولي الملك في سنة 1328. ويوجد في برج جرمانيا مدفع طوله ثمان وعشرون قدما ونصف قدم ووسع قطريه قدم ونصف، ووزن كلته مائة وثمانون رطلا وملؤه من البارود أربعة وتسعون رطلا ويعلم من نقش رسم عليه أنه صنع في سنة 1529.
فأما إحداث البارود فكان قبل استعمال المدافع بعشر سنين وذلك في سنة 1336، يعني إحداثه في أوروبا؛ لأن البارود كان معروفا عند الصينيين من قبل المسيح، لكن كان استعماله للصلاح لا للتدمير كتمهيد الطرق ودك التلال ونحو ذلك. وظن بعضهم أن مخترع البارود راهب من بروسيا اسمه مخائيل شوارتز، ولعله نقله عن العرب كما نسب البعض اختراعه إليهم، وإن صح ذلك فإنهم هم أيضا نقلوه عن الصينيين.
هذا وفي سنة 1544 استعمل فرسان الإنكليز الفرد - أي: الطبنجة - ومن أعجب ما اخترعه الأوروباويون سلك البرق - التلغراف - الذي نشأ عنه من الفوائد وتسهيل الأشغال ما لا ينكر فضله، فمن كان يصدق أن خبرا يستدعي تبليغه من بلد لآخر سفر عشرة أو خمسة أيام أو أقل أو أكثر يبلغ ويأتي جوابه بدقائق قليلة من الزمن؟! فهذا لعمر الحق لمن أعظم ما يحق لمخترعه الذكر وألا ينكر فضل اختراعه مدى الدهر لما به من الفائدة العظيمة بتبليغ الأخبار تجارية كانت أو سياسية بأسرع من شرب الطير. وإذا أردنا استقصاء فوائده يكل عنها القلم مع أنها أشهر من نار على علم.
وأما اختراعه فقد كان على ما ذكره في «كشف المخبا» بعد تعب فكر وجهد روية، ففي سنة 1794 نصب ريزر تلغرافا يمكن استعماله إلا إنه أقل فائدة من المستعمل الآن، وقد كان قبل ذلك استدل العلماء على إمكان تبليغ خبر من بلد إلى آخر بأسرع وقت حين استعمل فرنكلين الأمريكاني الطيارة المعروفة بالبالون وظهر له خاصية الكهربائية البرقية، وذلك إنه صعد بتلك الطيارة في يوم ذي دجن وكان قد ربط مرستها إلى وتدين وأناط بها مفتاحا، فلما غشيها الغمام وجد أن بعض خيوطها قد تنفش وتجافى عن بعض منتصبا فأدنى برجمته من المفتاح فأحس بشرر البرق. فتبحر العلماء من ثم في إيجاد طريقة لتبليغ الأخبار للمحلات الشاسعة بواسطة أداة، واكتشفوا على أشياء تناسب ذلك. إلى أن وضع ريزر التلغراف المقدم ذكره.
ثم قام بعده من صحح وأتقن هذه العملية إلى سنة 1837 قام الدكتور كوك وويتسطون وأخذا رخصة من الدولة لإجراء هذه العملية في بلاد الإنكليز. وفي سنة 1842 نصب المستر ود الأسلاك على دعائم، وقد كانت من قبل في الأرض تمر من حلق من الفخار وبذلك سهل نصب الأسلاك غليظة من الحديد بدل النحاس فنقصت المصاريف نحو النصف، وهكذا ما زال العلماء يجتهدون بتحسينه وإتقانه حتى استعمل كما نراه الآن، وامتد استعماله في إنكلترا ثم فرانسا وجميع أوروبا، إلى أن وصل إلى المشرق، وهم لم يزالوا يوجدون طرقا سهلة لاستعماله ويتفننون بتنظيمه وإتقانه. ويا لها من مأثرة عظيمة وفائدة عميمة!
ولما كانت اكتشافات واختراعات الأوروباويين التي من هذا القبيل كثيرة جدا فقد اقتصرنا على ما أوردناه منها في هذا الباب نظرا لأهميته، وهو دليل كاف على ما لهم من سعة دائرة المعارف التي بلغوا بها أقصى درجة التمدن وحازوا مزيد الشهرة والتقدم، وآثارهم بالفنون والمعارف لا تنكر وهي أشهر من أن تذكر. وما ذاك إلا من إقبالهم على العلوم، وتأسيسهم المدارس العظيمة المنتظمة، وتعاضدهم على المصالح الوطنية، بكل ما تقتضيه الهمم البشرية والواجبات الإنسانية. ومن أراد الاطلاع على تمام أحوالهم وأصول تمدنهم وعمران ممالكهم وتقدم بلادهم وتوفير ثروتهم؛ فليراجع كتب التاريخ والرحلات الحديثة التي تحتوي على أخبارهم المشاهدة بالعيان. فسبحان خالق الإنسان ومزينه بالعقل وهو الهادي إلى أقوم السبل. انتهى.
يقول الفقير رفيق ابن المرحوم محمود بك ابن المرحوم خليل بك الشهير بابن العظم الدمشقي: هذا ما تيسر لي جمعه وإيراده في هذا الكتاب، فلعل أن تكون به لأبناء الوطن فائدة ترشد إلى الصواب. وقد استعنت على تصحيحه بالعالم الفاضل والبحر الحبر الفهامة الكامل صاحب الغيرة والفضيلة الشيخ عبد الهادي نجا المصري الإبياري، حفظه العزيز الباري، فأرجو ممن اطلع عليه وحل محل القبول لديه أن يعامل قصوري بالغفران؛ إذ إنه أول ما تصديت له التأليف، وكان الفراغ من تبييضه نهار الإثنين الواقع في 28 جمادى الأولى سنة 1304 هجرية، على صاحبها وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التحية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل التمدن والعمران سببا في بقاء نوع الإنسان، والصلاة والسلام الأتمان على سيدنا محمد أشرف بني عدنان وعلى آله ذوي البراعة الفائقة وأصحابه ذوي الهمم العالية والصفات الرائقة. أما بعد؛ فيقول الفقير إلى الله مصطفى محمد قشيشة قد تم طبع كتاب «البيان في التمدن وأسباب العمران» وهو كتاب جليل المزية كبير الأهمية، وإن صغر حجمه فقد غزر علمه فلله در مؤلفه ومحرره ومصنفه، فقد أهدى فيه دررا وأوضح غررا حتى استحق المدح بكل لسان على ما أسداه من البيان، وكان تمام طبعه بالمطبعة الإعلامية ذات المآثر البهية في يوم الجمعة الموافق 14 رجب الأصب من عام أربعة وثلاثمائة وألف من هجرة من خلفه الله على أكمل وصف.
Bog aan la aqoon