ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحدة الفكر ما لا يسع أحدا إنكاره. فمن مشاهيرهم حماد الراوية الذي ذكر يوما للخليفة الوليد أنه ينشد له في الحال مائة قصيدة والقصيدة من عشرين إلى مائة بيت فتعب المستمع قبل المنشد. إلى أن قال: «ولم يكن للعرب في أول الأمر إلا تلك الآداب. ثم لما اتسعت لهم دوائر الفتوحات واختلطوا بالأمم الذين سبقوهم في الحضارة، اتسع لهم نطاق المعارف، فأخذوا من اليونان تآليف أرسطو وشرحوها بإمعان نظر. لكن من سوء البخت لم يأخذوا الفلسفة من كتب اليونان الأصلية، وإنما تعلموها من الكتب المترجمة بلغة أهل الشام، فهم ترجموا المترجمة. فلذلك لما نقلها الفيلسوف العربي حفيد ابن رشد في أوروبا في القرون المتوسطة وجد بها من التحريف أكثر مما وقع فيها أولا.
وأما العلوم الرياضية فقد صادف العرب المرمى فيها، والفضل في ذلك للعلماء الذين جلبهم الخليفة المأمون من القسطنطينية. وفي أوائل القرن التاسع المسيحي أمر الخليفة المذكور عالمين من فلكية بغداد أن يقيسا مسافة درجة واحدة من خط الطول بصحراء سنجار ويزناها ليثبت بذلك تكوير الأرض بالمشاهدة، وقد تبين ذلك باختلاف ارتفاع القطب الشمالي عن طرف الخط المقيس. وقد شرح العرب كتاب إقليدوس وهذبوا زيج بطليموس وحرروا حساب تعريج منطقة البروج، كما حرروا الفرق بين أوقات الاعتدال والفرق بين السنين الشمسية والزمنية، فوجدوا بين السنة الشمسية والسنة الزمنية عدة دقائق، واخترعوا للتحريرات آلات جديدة، إلى غير ذلك مما يدل على ما للعرب من قابلية العلوم الرياضية، ومنهم حازت مدينة سمرقند قبل أوروبا بكثير محل رصد عجيب.
وأما ما ينسب للعرب من اختراع الجبر والمقابلة والأرقام الحسابية المسماة عندنا بالأرقام العربية، فلم يثبت، بل إنما تعلموا ذلك مع فلسفة أرسطو بالتلقي من غيرهم، وهي من العلوم التي وجدوها في إسكندرية. ويمكن أنهم نقلوا إلينا على ذلك الوجه البوصلة «أي: بيت الإبرة ويقال له: الحك». والبارود الذي تعلموه من أهل الصين، كما يعترف لهم أوروبا بمزية اختراع الكاغد من القماش، وبذلك كثرت الكتب ودنت أسعارها وسهل الطبع وتوفرت نتائجه بعد وجوده.
وقد اشتهرت العرب أيضا بمعرفة الطب الذي كانوا نقلوه من كتب اليونان. ولابن رشد تعليقات عديدة على كتاب جالينوس شاهدة بما ذكر. ومن فلاسفتهم عدة أشخاص صاروا في وقت واحد حكماء وأطباء مشهورين، مثل: أبي علي بن سينا المتوفى سنة ستة وعشرين وأربعمائة هجرية، وابن رشد المذكور. وقد بلغوا من الشهرة إلى حيث صار أعداؤهم في ذلك الوقت يرغبون معالجتهم إياهم، كما يحكى أن بعض ملوك قسطلية كان اعتراه مرض الاستسقاء فاشتهى أن تكون معالجته في قرطبة، وحصل من لطف الخليفة على الإذن في أن يذهب ويداويه المسلمون. ومن مآثر حكماء العرب كيفية تقطير المياه واستعمال الراوند وأدوية كثيرة.
ومن العلوم التي لهم الفضل فيها الجغرافية؛ وسبب تقدمهم فيها أن اتساع فتوحاتهم ورغبتهم في الأسفار الخطيرة لافتراض الحج عليهم انتخب لهم المعرفة بكثير من البلدان الشاسعة التي لم يصل إليها أهل أوروبا أو نسوها بعدما كانت معروفة لهم. ومن مشاهيره في هذا الفن أبو الفداء والمسعودي والإدريسي، وهذا الأخير هو الذي استدعاه روجير ملك صقلية وألف عنده كتابه الغريب الذي سماه: «نزهة المشتاق».
وأما علم التاريخ فمن تآليفهم فيه تاريخا المسعودي وأبي الفداء المذكورين وتاريخ المقريزي، غير أنها تواريخ مختصة بأبناء جنسهم وقل أن يوجد بها الكرينيك بمعنى أنهم لا يسبرون منقولاتهم بمسبار العقل كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، ولا يخرجون عن دائرة الوقائع المجردة. ولا سبب لذلك إلا ما حكاه «سدليو» في تاريخه الآتي ذكره من أن وجود التسلط من الملوك في بلاد المشرق هو الذي كان يمنع المؤرخين من شرح جميع الوقائع ببيان أسبابها للخطر الذي كان يلحقهم في حكاية الحق.
وأما صناعة «الأرشتكتور»؛ أي هندسة البناء في اصطناع الهيئات، فلم يشتغل العرب منها إلا بما يرجع إلى إتقان الأبنية؛ حيث إن شريعتهم تمنع التصوير، على أن البناء نفسه لم تظهر لهم فيه اختراعات غريبة، فالأصل عندهم في الأقواس المرفوعة على الأسطوانات أن تكون أكبر من نصف دائرة وهذا الشكل أخذوه من أبنية البزنتيين وهم أمة من اليونان، واعتاض العرب عن الصور الذهنية والمجسدة التزين بالنقش المسمى عندهم بنقش حديدة. وكان في الأصل رسوما لها مدلولات ثم مجرد خطوط متقاطعة شبيهة بالحروف العربية التي يمكن أن يصور منها أشكال جيدة ظريفة، وكثيرا ما تتعجب من إتقان تلك الحروف حين تراها على الزرابي والأقمشة المشرقية.
ومن مآثر العرب اصطناع الجوابي والفوارات والتزويق بالذهب والأحجار الثمينة كالمرمر التي كانوا يجلبونها من المشرق ومن مقاطيع إسبانيا الجنوبية.
ومن أشهر أبنيتهم الجامع العظيم الذي بناه عبد الرحمن الأول في قرطبة وكان به ألف وثلاثة وتسعون أسطوانة وأربعة آلاف وسبعمائة قنديل. ثم قصر الزهراء الذي لا يتأخر عن الجامع المذكور في العظم وقد بناه عبد الرحمن الثالث على شاطئ الوادي الكبير، وبه ينبوع عظيم يفور منه شبه باقة من الزئبق ثم ينعكس في قصعة من المرمر. ومن بديع أبنيتهم حمراء غرناطة التي هي في آن واحد قصر وحصن، وبها عدة أمور تصلح أن تكون مثالا للطافة البناء وحسنه خصوصا وسطها المسمى ببطحاء الأسود.
وأما التجارة، فقد كان للعرب حسن رغبة فيها في سائر الأوقات، ثم لما امتدت سلطتهم من البريني، وهي جبال بين فرانسا وإسبانيا، إلى جبال هملاي التي بأقصى شمال الهند، صاروا أكبر تجار الأرض. وأما الفلاحة، فلا يعلم لهم نظير فيها؛ إذ ليس لغيرهم ما لهم من الاقتدار على جلب المياه وتوزيعها بلطف في مزارعهم الواسعة تحت شمسهم المحرقة، فسيرتهم في ذلك السائر بها إلى الآن أهل بلنسية روضة إسبانيا صالحة أن نجعلها أسوة نقتدي بها في فلاحتنا الفرانساوية.
Bog aan la aqoon