كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وكانت العربات عند الباب، فركب الكاواليير «دملفو» والد «ماري» إلى جانب الكونت «ديلار» والد «ڤكتور»، وركب العروسان بعدهما عربة شائقة الزينة، فلما حصلت لهما الخلوة في تلك العربة انكشفت عن سماء فكرهما سحابة الريب، فانجلى لهما الهناء في ذلك اليوم السعيد، فلم يبق في نفسهما عند الوصول إلى القصر غير الأمل والسرور.
والقصر هذا قصر «مرلي» كان من قبل ديرا قديما لبعض الرهبانيين، فاشتراه الكونت «ديلار» من أسقف بواتيه، واتخذه لنفسه دارا، وهو منفرد لم أر مثل وحشته، على أني لم أجد مثل بهجته؛ فإن المبايت والغرف والكنيسة قد بقيت فيه على مثل ما كانت عليه من الوحشة في زمن الرهبان، ولكن أشجاره المتفرقة المحدقة بواديه الضيق البعيد الغور، وسكوت الغابات من حوله، وخرير جدول الوادي المتدفق نهرا كالفضة على حصباء كالجواهر بين الصفصاف الباكي، والنيلوفر الضاحك، كل هذه المناظر البهية كانت في القصر من مظاهر الأنس وتجليات الجمال.
فقضى العروسان في هذا القصر شهر العسل - أي شهرهما الأول بعد الزواج - قصيرا بما طال فيه من السرور والفرح والابتهاج، فكانا يشكران الله على أن أوجدهما، ويحمدانه على أن جمع شملهما، ولا يشعران فيما يمر من أيامهما إلا بالهناء الخالص الذي لا تتقد فيه للوجد نار، ولا تظهر للجوى آثار، فكانت سعادتهما سارية على مهل، والأيام جارية على عجل، لكن هذه الحالة التي هي خير الحالات الدنيوية قل أن يعرف قدرها من يصل إليها، وخصوصا من كان حاد المزاج قوي الطبع؛ فإنه لا يميل إلى الراحة ما لم يعان العناء كثيرا، فإن حصلت له قبل الإعياء كان دائم القلق مما لا يعلم له سرا شديد الاحتياج إلى الحس والانفعال، ولو كان أليما حتى كأنما عند كل من الناس أمانة من الدمع لا بد من ردها يوما. نعم، إن الأحزان مقبلة لا محالة آجلا أو عاجلا على الإنسان، ولكنه يتعجلها بالتصور في غالب الأحيان.
ومن لم يرض نفسه بالقنوع
ولو لبس التاج عاش فقيرا
وبعد القران بعام واحد ولدت «ماري» غلاما بهي الطلعة، بارع الحسن، فاشتدت به رابطة الاتحاد بينها وبين «ڤكتور» فازداد عناية بها، وحبا لها، وسكونا إليها، واجتهادا في خدمتها، فكانت ولادة الغلام بركة جديدة على الزوجين، أما «ماري» فقد وجهت عنايتها، وصرفت قوتها إلى القيام بالواجبات الوالدية حتى ظهر لها المستقبل على شكل جديد، فإنها لم تكن تتصور قبل الولادة غير منزلها وواديه، فلما رزقت ذلك الغلام انفتحت أبواب التأمل في هذه الحياة، وما فيها من الطرق المتشعبة للمطامع والأماني في الثروة والمجد، فكانت كلما نظرت إلى رأس طفلها الجديد وهيئته المماثلة لهيئة أبيه حتى كأنه متقمص فيه، تقول في نفسها على غير اختيار منها إن هذا الغلام جدير بأعلى وأوسع من هذا المقام، ولا ترضى له بالحالة التي هي عليها، وإن كانت أسعد الحالات لديها، وأحبها إليها، بل تروم أن يوجد بحيث يرتفع قدره، ويعظم شأنه بين الناس، حين يكون فيهم قبسا من الأقباس. وجملة القول أن الطفل قد فتح بين يديها أبواب الآمال، فأنقذها من الملال ونقص الكمال:
باتت بلا أمل من فرط ما سعدت
فجاءها ولد أحيا لها الأملا
Bog aan la aqoon