مقدمة المترجم
المقدمة
تمهيد
القصة
مقدمة المترجم
المقدمة
تمهيد
القصة
الباريسية الحسناء
الباريسية الحسناء
Bog aan la aqoon
تأليف
أديب إسحق
مقدمة المترجم
لا يجهل أحد من ذوي الاطلاع أن للأوربيين عناية عظيمة بهذه الأحاديث المدونة المسماة قصصا، باعتبار أنها من وسائل تهذيب الأفكار، ووسائط تدميث الأخلاق، وذرائع إصلاح العادات، وقد كثر فيهم كتابها بكثرة طلابها، فما يمر يوم إلا وتظهر في مدنهم قصص جديدة يتداعى الناس إليها تداعي الجياع إلى القصاع، ويقبلون عليها إقبال الظمآن إلى موارد الماء.
وقد صار إنشاء هذه القصص عنهم فنا مستقلا برأسه، له أحكام معلومة، وقواعد مرسومة، وحد معين، وتاريخ مبين، فلولا ضيق المقام عن موضوعه الواسع لبسطنا الكلام عليه بيانا لماهيته، وإيضاحا لما كان عليه، وما صار إليه في الشرق والغرب، فإنه مبحث ما ألمت به أقلام كتابنا إلى الآن، ولكنا نأتي على ما يحتمله المقام من جملته فنقول: القصة في اللغة: «الحديث»، و«الأمر» و«التي تكتب»، والمعنى الأخير هو المشهور والمأثور عرفا، فالقصة أمر أو حديث يكتب على أسلوب من الرواية، ولا يشترط فيه صحة الخبر، وهي قديمة العهد من وراء زمن التاريخ المعروف.
نشأت مع الأوائل في مهاد تمدنهم، وكانت ديوان معارفهم وآدابهم، فامتزجت بتواريخهم واختلطت بأديانهم وعلومهم، حتى أوشكت أن توجد آثارها في كل ما كتبوه، وما برحت تتبع الأقوام في مدارج تمدنهم وعرفانهم متنقلة من طور إلى طور، منصرفة عن حال إلى حال، حتى وضعت حدود العلوم والفنون، وميز بعضها من بعض تمييزا يحفظها من الشبهات واللبس؛ فسلم التاريخ من القصص، ومحصت كتب العلم من أحاديث الخرافة، وصار تأليف القصة فنا معروفا معلوم القواعد والأحكام كما تقدم القول.
وقد اختلفت أحوال القصص باختلاف أحوال الأمم وعاداتهم وأخلاقهم، فكانت حماسية في حالة الفروسة والبداوة، أدبية في حالة التمدن وانتشار الأدب والمعارف، غرامية في حالة الترف والرفاهة والانغماس في اللذات، وهي اليوم بين بين، ولكن الغالب على أصحابها أنهم يقصدون بها إلى وصف الأحوال والذوات وانتقاد الأخلاق والعادات.
وهذه القصة الصغيرة غرامية الحديث، أدبية النتيجة، وهي لخاتون من نبلائهم يقال لها «الكونتة داش» وقد ترجمتها والشباب في عنفوانه، وجواد الصبا في أول ميدانه، ثم أمررتها على النظر في هذه الأيام، ومثلتها بالطبع إجابة لدعوة بعض الأصدقاء وأنا بين أشغال شاغلة وأحوال دون المراد حائلة، فأتت كما يجيء، لا كما يجب، وكما استطعت، لا كما أحب.
وكنت قد التزمت في ترجمتها حفظ المعاني، كما وجدت في الأصل، غير مبال أن يكون منها ما يخالف مشربي أو مشرب غيري من الناس؛ فإني ناقل، وما على الناقل من سبيل، وسلكت في التعريب مسلك المطابقة بقدر الإمكان، فتبعت أسلوب المؤلفة حريصا على مفردات ألفاظها وقوالب عباراتها أن تضيع وتفسد بالنقل عامدا إلى ترجمتها بما يشاكلها من اللفظ والعبارة العربية، إلا فيما لم أجد له مثيلا في معلومي اليسير من اللغة.
وما أكتم على القارئ الكريم أن هذا السبيل لم يكن سهلا، فإن عادات الأوربيين وأخلاقهم وخواطرهم، بل وقائعهم وأحوالهم وأشياء عندهم من الملبس والمفرش وغير ذلك مما يذكر في القصص، مباين بالجملة لما كان من مثله عند أصحاب هذا اللسان، بل منه ما لم يوجد عندهم البتة، وإنما وجد عندنا في هذه الأيام التي قضي بها على الناطقين بالضاد أن تكون لديهم مسميات ليس لها في لغتهم أسماء، وأن يتغاضى علماؤهم وأدباؤهم عن هذا الخلل، فلا يجدوا غير طمطمانية الأعاجم للدلالة على الكثير مما يستعملونه لباسا وطعاما وفراشا وزينة للبيت.
Bog aan la aqoon
وقد نمقت هذه القصة بشيء من النظم منه ما صدر عن الخاطر الفاتر - وهو الأكثر - ومنه القديم المنقول، وأشرت إلى هذا في بعض الأماكن بنحو: قال الشاعر، أو رحم الله من قال، أو لله در القائل.
وأهملت الإشارة في بعضها اكتفاء بالشهرة أو سهوا، ولا أذهل ههنا عن إيضاح نسبة الأبيات الأخيرة التي جعلتها ختاما للقصة، فهي لصديقي الأديب المتفنن الكاتب اللوذعي: إسكندر أفندي العازار.
وقد كان السبب في نظمه لها أني رويت له القصة في بعض أحاديثنا، فأعجبته نتيجتها الأدبية، فاستنشدته فيها أبياتا من رقيق شعره، فأجاب وأرسل إلي في اليوم الثاني تلك الأبيات، فضمنت بها للقصة حسن الختام.
المقدمة
حسب المرأة قوم آفة
من يدانيها من الناس هلك
ورآها غيرهم أمنية
فاز بالنعمة فيها من ملك
فتمنى معشر لو نبذت
وظلام الليل مشتد الحلك
Bog aan la aqoon
وتمنى غيرهم لو جعلت
في جبين الليث أو قلب الفلك
وصواب القول لا يجهله
حاكم في مسلك الحق سلك
إنما المرأة مرآة بها
كل ما تنظره منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك
أجل، ومن أسوأ الأمور تصريفا بين الناس أمر الزواج؛ فقد كثرت فيه المصائب، وتلونت من جراء اختلاله النوائب، وأكثر ما تكون مرارته في أيامه الأولى على كونها المسماة بأيام العسل؛ لأن الغالب فيها اقتران فتاة سليمة النية، ساذجة النفس، معرضة القلب لأنواع التأثر وضروب الانفعال برجل علم ورأى، وامتحن الأشياء حتى لم يبق في نفسه شعة من النور، فصار قاسيا فظا محبا لذاته ولن يبرح كذلك ما دام حيا، أو برجل لا يزال في نفسه بقية من الصبابة، يثيرها ما يجد في عرسه من عواطف الشباب الطاهرة النقية، فيكشف لها سر الحب، وقوة الوجد، ولذاذات الهوى، حتى إذا مالت بكليتها إليه، وعولت في مستقبل سعادتها عليه، وانخدعت بما عرفت من لذة الحياة، واغترت بما علمت من سر المحبة، أغلق من دونها باب هذا الفردوس، وأهبطها منه قائلا: لقد رأيت أحلاما، وصار هذا المقام عليك حراما، نعم، إنك لم تتجاوزي العشرين سنا، ولم يزل شبابك غضا، ولكن قلبي قد جف، بل مات، ولست بقادر على رد ما فات، فاصبري على اليأس الموجود، أو اندبي الرجاء المفقود، وحذار أن تلتمسي منه بدلا عند غيري من الناس؛ فإنك لن تفوزي بحلم ساعة من هذا البدل أو تفقدي فيه الراحة والسعادة وبقية الأمل، وتكوني هدفا لسهام الاحتقار مني ومن نفسك ومن سائر الأنام، ويكون ما تذرفين من الدمع غشاوة على ما ترين من الابتسام، ثم تزادي على ما فيك من الندم قلقا واضطرابا، وعلى ما أسومك من الهجر بأسا واكتئابا . نعم، هذا مصير النساء في كثير من أحوال هذا الزمان، وهن مع ذلك متهمات مذمومات بكل لسان. آه لو علم المنصفون بما يعانين من العناء، ولو رأى العادلون ما يقاسين من البأساء، ولو درى أهل الحق بما يقاومن من عاديات البلاء، لبذلوا لهن الرحمة والشفقة بدل الملام والتعنيف، وقالوا فيهن قول الإنجيل الشريف: «من كان منكم بلا وزر فليرجم الخاطئ بالحجر الأول.» وهيهات أن يوجد في الناس من يتجرأ على ذلك ولا يكون من الكاذبين.
تمهيد
Bog aan la aqoon
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
والهنا غير مستحيل ولكن
دونه في سبيلنا عقبات
فكلنا يريد إدراك السعادة، وما أحد يبلغ منها مراده، ولكل في سير أحواله طريقة، وما أحد يرى حاله من وجه الحقيقة، وقد يلتمس المرء المحال، فتنقضي أيامه بتقليب الآمال، تجيئه فيرتاح إليها، وتنقضي فيبكي عليها، والله - سبحانه وتعالى - قسم على الناس الحظوظ وأسباب الهناء، كما يقسم الأب العادل ماله على أولاده بالسواء، فمنا من يفتح كفه ويلقي سهمه في البحر، ومنا من ينفق في الساعة ما أعطي لكل العمر، ومنا أجواد سذج كرام يبذلون سعادتهم في سبيل الحب بلا عوض ثم يرونها مداسة بالأقدام، فالحكيم الجدير بآلاء السماء الخليق بنعماء الهناء من ستر لذته عن أعين الحاسدين والرقباء، فهو في نعيم مقيم، وعلى أمل عظيم، يبتسم لآتيه، ولا يندم على ماضيه؛ فينعم باللذة المستمرة، ويموت على فراش المسرة.
القصة
1
الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
كان يوم ابتداء قصتنا يوم عيد سعيد في قرية «بروغ» بمقاطعة «بواتو» بفرنسا، قد احتفل فيه أهل تلك الناحية بزواج «ڤكتور ديلار» ب «ماري دملفو»، وكان الفتيان كريمين عليهم محببين إليهم، وكانا متآلفين متعاشقين على صغر، ربيا متجاورين وشبا متعارفين متلازمين، فاتحد قلباهما حبا على انتظار ساعة الاتحاد قالبا وقلبا، وكان والد «ڤكتور» غنيا، كثير العقار، يسكن قصرا فسيحا قديما في «غور» واد بهيج ظليل، أما والد «ماري» فكان من الشرفاء الذين أنحت الثورة الفرنسوية - عام 1789م - على أموالهم، وكدرت صفو أحوالهم؛ فكان لذلك فقيرا يسكن في قرية «بروغ» بيتا حقيرا، ولا يملك غيره من العقار، غير أن هذا الفرق الواضح بين ثروة الرجلين لم يمنع الكونت ديلار والد «ڤكتور» من قبول الفتاة التي اختارها ابنه أهلا، بل كان يقول: إن مال «ڤكتور» كاف للاثنين، إن «ماري» لخير من كنوز الأموال.
Bog aan la aqoon
وكان «ڤكتور» فتى مليح الشباب، جميلا، فائق الحسن، حاد المزاج، قابلا للانفعالات الشديدة، لم يتجاوز الثانية والعشرين من سنيه.
وقد جمع قواه إلى ذلك اليوم في محبة «ماري»، فكانت شهواته راقدة تحت ظلال التربية الحسنة، مستورة برماد الملاينة له فيما ينعطف إليه، فلم يكن يعلم من أحوال الحياة غير التي حصلت له بالتصور، وانطبعت منه في المخيلة، فمال إلى صرف العمر براحة وسلام بين والديه وزوجته وأولاده والكتب، ولم يكن أتى المدينة - أي بواتو - غير ثلاث مرات، ولم يلبث فيهن غير بضع ساعات، إذ كان يلم به الشوق إلى المنزل والوادي والغاب والروض النضير، فيعود متمنيا لو كان له جناحان ليطير، وجملة القول أنه كان قوي الطباع ذكيا، ولكنه غير مخرج بأساليب الحياة المدنية، فقد تصرف في تهذيبه أناس منحطون عنه عقلا وذكاء، فما علموه غير ما يعلمون، ثم جعلوا لخاطره حدا، وأقاموا من دون تصوره سدا؛ فبات لا يعرف مقدار نفسه، ولا يدري بما هو محتاج إليه. وكان الذي علمه مبادئ العلم والأدب قسا تقيا يقال له «برنار»؛ لهذا القس لم يكن واقفا على أسرار القلوب، ولم يكن عارفا بأحوال الرجال، فكان يحمد الله سبحانه على أن يسر له مثل هذا التلميذ اللين العريكة الصادق الإرادة، ولا يعلم أن من وراء تلك الأزهار بركانا، إن مسته شرارة أوقدت فيه نارا تهدم في طرفة عين ما بناه له من قصور الهناء والسلام لمستقبل الأيام.
أما «ماري» فكانت ساذجة كغيرها من بنات القرى، مماثلة لأليفها في عدم المعرفة بمقدار نفسها، جامعة بين فضائل النساء وشجاعة الرجل، وقد صرفت أيام طفولتها وأوقات صباها في حجر والدها وكان شيخا عاجزا ، فلم يكشف لها من أسرار الحياة غير المعروف والإحسان والحب الخالص، فكانت تهمل نفسها تفرغا للعناية بشأن من يحتاج إليها، وتبذل حياتها في سبيل من تميل نفسها إليه، وكانت جذابة العينين، معتدلة القد، زاهرة الطلعة، مليحة الجملة على أن الجمال كان أظهر من الحسن فيها. وقد جعلت نفسها وقفا على حب «ڤكتور»؛ لما ظهر لها بالبداهة من شجاعته وكرم سليقته، فكانت هائمة فيه مدلهة به وجدا وإعجابا على علم منها بحقيقة الحب، وعلى غير علم بسر الإعجاب.
فاقتران «ڤكتور» و«ماري» على هذه الملاءمة الظاهرية قد بشر البيتين بنعيم مستمر وعيشة مرضية؛ فلم يحذرا معه شيئا من عواقب الحالتين المشار إليهما في مقدمة الكتاب: حالة خلو قلب الرجل من الحب، وحالة دنوه من حد الملال، ولكن ذلك الاقتران قد صادف منهما حالة ثالثة غير مأمونة المآل، ألا وهي حالة عدم الاختبار؛ فإن الحب هو الوفاء، ولا بد في الوفاء من تمام العلم بالموعود، وما يحول دونه من العقاب والأمور الصعاب، فإن الخطر المجهول عسير الاجتناب.
وكان المتفق عليه بين البيتين أن «ماري» ووالدها يسكنان بعد الزواج قصر الكونت «ديلار» بوادي «مرلي»، فلما عقد القران في البيعة عادت العروس إلى بيت أبيها لتودع أحبابها وأترابها وأول أرض مس جسمها ترابها؛ فطافت مع زوجها بحديقة المنزل ثم دخلت غرفتها فيه لتنظر لآخر مرة ستائرها البيضاء وما حولها من أغصان الياسمين والريحان، وتودع الصورة التي كانت تستقبلها في الصلاة، فأثر فيها الوداع، فقالت ل «ڤكتور»: لن أعود بعد إلى هذا المكان ... وأنت تعلم أني سائرة عنه باختيار وقبول، ومع ذلك فبي من وداعه غصة لا أستطيع لها منعا، ولا أدرك لها سرا، وأني ذاهبة معك مستصحبة والدي إلى منزلك، فلست مبقية هنا غير هذا المنزل الصغير، وهذه الأزهار التي غرستها بيدي، ومع هذا فقلبي يكاد يذوب التياعا، فقل لي فديتك ما سر هذا الانفعال؟! فقال: إنك تجلبين علي الغم واليأس بما تتشاءمين، فإن ذلك يدل على ارتيابك بي وضعف اتكالك علي، يا شقيقة الروح أما تثقين بحبي؟ أما تعتمدين على شرفي؟ أوما تعلمين أني أحبك حب كرام الرجال؟!
فكفكفت الفتاة دمعها وتجلدت وسعها لتدفع الكدر عن «ڤكتور»، ثم تقدمت إلى قفص فيه بلبل غرد كانت قد علمته ضروبا من الألحان الشجية، فحلت رباط القفص وحملته إلى الحديقة، ثم نادت بابنة البستاني وأهدت إليها القفص وهي تقول: احفظيه يا خليلتي تذكارا وحينئذ:
سمعت فتاة الحي شدو البلبل
فبكت مودعة بدمع مسبل
فكأنما سمعته يشدو قائلا
قول المتيم في الحبيب الأول
Bog aan la aqoon
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وكانت العربات عند الباب، فركب الكاواليير «دملفو» والد «ماري» إلى جانب الكونت «ديلار» والد «ڤكتور»، وركب العروسان بعدهما عربة شائقة الزينة، فلما حصلت لهما الخلوة في تلك العربة انكشفت عن سماء فكرهما سحابة الريب، فانجلى لهما الهناء في ذلك اليوم السعيد، فلم يبق في نفسهما عند الوصول إلى القصر غير الأمل والسرور.
والقصر هذا قصر «مرلي» كان من قبل ديرا قديما لبعض الرهبانيين، فاشتراه الكونت «ديلار» من أسقف بواتيه، واتخذه لنفسه دارا، وهو منفرد لم أر مثل وحشته، على أني لم أجد مثل بهجته؛ فإن المبايت والغرف والكنيسة قد بقيت فيه على مثل ما كانت عليه من الوحشة في زمن الرهبان، ولكن أشجاره المتفرقة المحدقة بواديه الضيق البعيد الغور، وسكوت الغابات من حوله، وخرير جدول الوادي المتدفق نهرا كالفضة على حصباء كالجواهر بين الصفصاف الباكي، والنيلوفر الضاحك، كل هذه المناظر البهية كانت في القصر من مظاهر الأنس وتجليات الجمال.
فقضى العروسان في هذا القصر شهر العسل - أي شهرهما الأول بعد الزواج - قصيرا بما طال فيه من السرور والفرح والابتهاج، فكانا يشكران الله على أن أوجدهما، ويحمدانه على أن جمع شملهما، ولا يشعران فيما يمر من أيامهما إلا بالهناء الخالص الذي لا تتقد فيه للوجد نار، ولا تظهر للجوى آثار، فكانت سعادتهما سارية على مهل، والأيام جارية على عجل، لكن هذه الحالة التي هي خير الحالات الدنيوية قل أن يعرف قدرها من يصل إليها، وخصوصا من كان حاد المزاج قوي الطبع؛ فإنه لا يميل إلى الراحة ما لم يعان العناء كثيرا، فإن حصلت له قبل الإعياء كان دائم القلق مما لا يعلم له سرا شديد الاحتياج إلى الحس والانفعال، ولو كان أليما حتى كأنما عند كل من الناس أمانة من الدمع لا بد من ردها يوما. نعم، إن الأحزان مقبلة لا محالة آجلا أو عاجلا على الإنسان، ولكنه يتعجلها بالتصور في غالب الأحيان.
ومن لم يرض نفسه بالقنوع
ولو لبس التاج عاش فقيرا
وبعد القران بعام واحد ولدت «ماري» غلاما بهي الطلعة، بارع الحسن، فاشتدت به رابطة الاتحاد بينها وبين «ڤكتور» فازداد عناية بها، وحبا لها، وسكونا إليها، واجتهادا في خدمتها، فكانت ولادة الغلام بركة جديدة على الزوجين، أما «ماري» فقد وجهت عنايتها، وصرفت قوتها إلى القيام بالواجبات الوالدية حتى ظهر لها المستقبل على شكل جديد، فإنها لم تكن تتصور قبل الولادة غير منزلها وواديه، فلما رزقت ذلك الغلام انفتحت أبواب التأمل في هذه الحياة، وما فيها من الطرق المتشعبة للمطامع والأماني في الثروة والمجد، فكانت كلما نظرت إلى رأس طفلها الجديد وهيئته المماثلة لهيئة أبيه حتى كأنه متقمص فيه، تقول في نفسها على غير اختيار منها إن هذا الغلام جدير بأعلى وأوسع من هذا المقام، ولا ترضى له بالحالة التي هي عليها، وإن كانت أسعد الحالات لديها، وأحبها إليها، بل تروم أن يوجد بحيث يرتفع قدره، ويعظم شأنه بين الناس، حين يكون فيهم قبسا من الأقباس. وجملة القول أن الطفل قد فتح بين يديها أبواب الآمال، فأنقذها من الملال ونقص الكمال:
باتت بلا أمل من فرط ما سعدت
فجاءها ولد أحيا لها الأملا
Bog aan la aqoon
وما تطيب حياة ما بها أمل
بالنقص يتلو سرور النفس أن كملا
أما «ڤكتور» فكان يشعر من نفسه بامتلاء ذهنه خواطر لا يجد لها كشفا، ولا يدرك لها كنها، فيسرح في غابات «مرلي» من الصباح إلى المساء متنزها، بل هائما في ذلك الوادي معتقلا بندقيته وهو لا يطلب صيدا، متعجبا من نفسه كمن اكتشف أرضا جديدة، وكان قد قرأ الكتب التي في خزانته ثلاثا ، وجمع من شذرات الألباب وخطرات الأفكار ما يؤلف منه عدة أسفار، حتى اعتراه الضجر وتولته السآمة؛ فبات لا يحفل بهذه الأشغال، ولا يجد فيها راحة للبال فينطلق فكره في مجال الخيال، ويهيم في أودية الأماني والآمال على اختلاف بينه وبين زوجته في ذلك من حيث أن هاجسه لم يكن متعلقا بولده، ولكن بالمجد والحب وبهارج الحياة، فكان يتصور لنفسه سؤددا عاليا، ويتمنى لها صيتا باقيا ويتخيل إدراك اللذات، ويهجس بقضاء الشهوات، وكان في عناصر وجوده من هذه العواطف جراثيم ترتفع وتنمو وتطلب الامتداد فيضيق عليها ذلك الوادي:
فيقول والآمال ملء ضميره
وبقلبه من عزمه أسرار
لي في ضمير الدهر سر كامن
لا بد أن تستله الأقدار
وفي تلك الأيام قدم إلى عمالة «بواتو» بيت من نبلاء باريس الوجهاء، واشتروا هناك قصرا يقال له قصر «سرڤيل» على مسافة ميلين من قصر «مرلي» ليقيموا فيه فصل الربيع؛ فإنه في تلك البلاد بهيج بديع، فتحدث الناس في قدومهم كثيرا، واختلفت في أمرهم الأقوال والآراء، وما كان ذلك لغرابة شأنهم، ولكن لأن سكان «بواتو» من أهل التقليد الحراص على عادات البيوتات ومبادئهم في هيئة الاجتماع، ولا سيما أهل المقامات المعروفة فيهم، فإن أكثرهم من قدماء النبلاء الذين لم يخرجوا من أوطانهم إلا للمهاجرة مع آبائهم يوم غلبت الثورة الفرنسوية على أحزاب الملك، وسار هؤلاء الأحزاب يستنجدون الملوك عليها، ومن أجل هذا كان في أولئك النبلاء احترام بالغ للعادات القديمة، وكراهية شديدة للحالات الجديدة، ونوع من الاحتراز والاعتزال عن مخالفيهم في الأدب يشبه أن يكون جفوة وخشونة، فكانوا لا يعرفون منزلة أهل الكياسة، ولا يعلمون قدر الفنون، ولا يقبلون شيئا يجيء من الطريق، بل ربما ناطوا السوء بما لا يفهمون مع سلامة نياتهم من سوء القصد، ومعاذ الله أن أريد انتقاد هذه المبادئ عليهم، فإني لا أرى في الناس خلقا أشرف وأقدس من حرص المرء على ما ربي عليه، ووقع من السلف إليه، ولكني أبسط واقع الحال تمهيدا لما سأذكره من خبر هذا البيت الباريسي، الذي قدم إلى «بواتو» كما سبقت الإشارة إليه.
فقد كان هذا البيت عبارة عن برزة نصف من النساء، يقال لها «المركيزة درميل»، وبنات لها فتيات عذارى، ولم يصادف عند أهل «بواتو» إقبالا، بل سرى بين جماعة النبلاء منهم أن أولئك النساء غير جديرات بالقبول رأسا، فإن الأم منهم كثيرة التذكر لحسنها الماضي، شديدة العناية بحفظ بقاياه، والبنات متبرجات غير مصونات يظهرن بأثواب لا تستر الأكتاف، ولا تحجب الصدور عن الأنظار، ومع ذلك فقد خاطر بعضهم بزيارة هؤلاء الضيوف، وغلب حب الاستطلاع على غيرهم، فمالوا إلى رؤيتهم لتحقيق ما يقال فيهم، فأتوهم زائرين فاجتمع بذلك من حول «المركيزة درميل» وبناتها عصابة من الشبان والفتيات الحسان، فبالغن في مؤانستهم وإكرامهم، وأقمن لهم المراقص والأعياد، فأقبل الناس عليهم أزواجا وفرادى، وصار قصر «سرڤيل» مجلس الذوق وملتقى إخوان الأنس والصفاء، فاغتفر الناس لأهله غرابة أحوالهم في جنب ما جلبوه لهم من السرور والهناء.
ولم يكن بين قصر «مرلي» وقصر «سرڤيل» غير ميلين كما تقدم القول، فلما استقر بالباريسيات المقام وفدن على قصر «مرلي» زائرات مسلمات، وكان «ڤكتور» وزوجته غائبين عن المنزل، فاستقبلهن الوالدان الشيخان بما ينبغي لمقامهن من القبول والإكرام، ثم حان وقت رد هذه الزيارة، فاهتم أهل «مرلي» بذلك غاية الاهتمام، واجتمعوا للمشاورة في الأمر، فقال «ڤكتور»: لا بد من طلب ثوب جديد من المدينة ل «ماري»، فإن أثوابها قديمة الزي لا تصلح لزيارة مثل هؤلاء القوم، فقالت «ماري»: لا حاجة بي إلى ذلك، فإن ثوب إكليلي الأبيض - وهو ثوب الزواج - لم يلبس غير مرتين، فإذا لبسته وجعلت على رأسي عصابة مكللة بالزهر الغض كنت كما يحسن أن أكون. ثم أشارت إلى أنها حامل لا تقوى على ضنك اللباس الجديد، فقال الكونت «ديلار» والموسيو «دملفو»: إن «ماري» مليحة على كل حال، وفي كل ثوب، فلتفعل ما تشاء، فصمت «ڤكتور» مغالبا نفسه في قبول هذا الرأي، فبقيت المذاكرة عند هذا الحد .
Bog aan la aqoon
وبينما أهل «مرلي» يتهيئون لزيارة أهل «سرڤيل» إذ جاءهم من هؤلاء كتاب دعوة إليه، فلم يبق لهم من سبيل إلى تأخير الزيارة، فلبست «ماري» ثوب الإكليل، وتزينت ما استطاعت، ولكنها لم تكن منشرحة الصدر، فإنها كانت تجد من نفسها انقباضا عن معاشرة الناس.
ولقد خبرت بني الزمان فلم أجد
في قربهم لرضى الكريم طريقا
وبلوتهم فرأيت لامع قولهم
زورا وخادع ودهم تمليقا
ورأيت أني إن كذبت منافق
وإذا صدقت فقد عدمت صديقا
فهجرتهم واخترت فكري صاحبا
لا خوف منه والفؤاد رفيقا
ثم سار الأربعة: «ڤكتور» و«ماري» ووالداهما على عربة من اللاتي يراها أهل القرى بعين الاستحسان، ولا تصادف عند الباريسيين وأمثالهم غير الاستهجان، فلما وصلت بهم العربة إلى مدخل قصر «سرڤيل» ورأتها فتياته الثلاث تبسمن استهزاء بها أو استخفافا بأصحابها، ثم دخل الجماعة القصر، وكانت أثواب الرجال منهم - أي أثواب الشيخين و«ڤكتور» - مجعدة ظاهرة الطيات؛ لما أنها كانت محفوظة في الخزائن من يوم العرس، وأما ثوب «ماري» الأبيض فإنه كان أبعد من تلك الأثواب عن الزي الجديد، ولما انتهوا إلى القاعة نظرت الفتيات إلى «ماري»، ثم نظرن إلى «ڤكتور» فأكبرن حسنه وجماله العجيب وقلن متلهفات: ما أضيع هذا الجمال!
Bog aan la aqoon
وأحست «ماري» بانحطاطها عنهن، وبعدها عما رأت بهن من الرشاقة وحسن الزي، شأن النبيه الذكي، فلاذت بأطراف الصمت والخفاء، فلم تنطق بكلمة ولم تبد إشارة، وظهر ذلك ل «ڤكتور»، فأخذته فيه عزة النفس، ورأى أن المقام ضنك عليه وعلى زوجته غير أنه تجلد مخافة الهوان، واستعمل ما فيه من النباهة والذكاء في اجتناب الاستهجان، فأعانه الجمال على ما أراد، فارتفعت منزلته عند الفتيات ارتفاعا عظيما، وصح عندهن بعد انقضاء الزيارة فيما حكموا به على أهل «مرلي» أن الشيخين محو مطلق - أي لا شيء - وأن «ماري» غبية بلهاء، وأما «ڤكتور» فلو انفصل عن هذه الجماعة وتخرج بآداب الاجتماع ولبس مما يفصله «بلين» - خياط كان مشهورا - لكان من أحسن رجال الفرنسيس وأحقهم بحب الغانيات.
ولما عاد أهل «مرلي» إلى منزلهم تذاكر الشيخان فيما رأياه وما سمعاه من أهل «سرڤيل»، أما «ڤكتور» و«ماري» فكانا متفكرين صامتين يسمعان ولا يجيبان، حتى جاء وقت الرقاد وهم كل منهم بالانصراف إلى مخدعه ، فقالت الفتاة لزوجها: لست بذاهبة بعد هذه المرة إلى مجامع الناس. - لك الاختيار، فافعلي يا صديقتي ما تريدين.
1
وظهرت علائم الوحشة على «ڤكتور» بعد زيارته لأهل «سرڤيل»، واشتد به الميل إلى الانفراد والتغيب عن المنزل؛ حتى قلقت «ماري» لذلك وألم بها الغم، فكانت كلما غاب زوجها وأدركه المساء قبل الرجوع تقف له في طرف حديقة القصر عند شبكة البركة، فبينما هي في ذلك الموقف لعدة أيام مضت من تلك الزيارة إذ طرق سمعها صوت حوافر خيل على الطريق، فأخرجها ذلك من عالم الهيمان الذي كانت فيه، فرأت الجو أدكن والسحائب سوداء، والمطر متدفقا كأفواه القرب، وقد هبت العاصفة، وجلجلت الرعود القاصفة، ولمعت سيوف البرق على صفحات الأفق، ثم توارت حركة الحوافر متوجهة نحو القصر؛ فعلمت أن القادمين وافدون عليه لاجئون من النوء إليه، فحدقت لتراهم، فإذا بامرأة ورجل من ورائهما خادم، وكانت المرأة فتاة فائقة الجمال قائمة على صهوة الجواد، كأنها من فرسان الرجال، فجبنت «ماري» عند رؤيتها وارتدت إلى مدخل الدهليز، فأقبلت المرأة عليها وهي تقول: عفوا يا سيدتي عن وفودنا فجأة عليك، فإنا تائهون في هذا الوادي بين هذه الغابات، وقد أدركنا المطر، واشتدت الأنواء علينا، فهل في هذه الأرض من مبيت نلوذ به من العاصفة. - أنتم بالقرب من «مرلي» وأنا صاحبة المكان، فإن شئتم اتباعي إليه وجدتم الملاذ الأمين وكنت لكم من الشاكرين.
فأثنت المرأة والرجل عليها ثناء جميلا، ثم قالت المرأة: المقام يا سيدتي لا يحتمل الكلفة، فها أنا أعرفك بنفسي: إني ابنة «المركيزة درميل» التي تشرفت برؤيتك في منزلها في الأسبوع الماضي، وهذا زوجي «المركيز دي ڤلمورين»، وهو لا شك مسرور بما سرني من سنوح هذه الفرصة للائتناس بلقائك.
فانحنت «ماري» لهذا الكلام شكرا، وسارت أمام الضيفين في طريق القصر، فعادت الفتاة إلى حديثها فقالت: أتيت هذا البلد أول أمس، فرأيت من بهجة منظره ما حبب إلي التجول فيه، فأصابني ما رأيتني عليه من التيه.
وما برحوا سائرين بين صفوف الأشجار الملتفة، والرعد يهزم، والمطر يهمع، و«ماري » قلقة مضطربة على زوجها تلتفت المرة بعد المرة لعلها تراه مقبلا، ولا تعير السمع حديث مدام «ڤلمورين» إلا قليلا، ثم خافت أن تحسب ذلك منها إعراضا أو كراهية للضيافة، فقالت لها: لا تؤاخذيني يا سيدتي، فإني مترقبة رجوع الموسيو «ديلار» - تعني زوجها - من الصيد، فقد مضى ميعاده، وأخاف أن يدركه المطر، ويظلم عليه الليل وأنا لذلك على ما ترين من القلق والانزعاج.
ثم اشتدت العاصفة، وهمى الغيث وابلا، حتى نفذ الماء في ثوب «ماري» وثوب ضيفتها الحسناء مع أنه من الجوخ،
2
فلم تصلا إلى القصر إلا وقد ثقل الثوبان بالماء، وتلوثت أطرافهما بالوحول، وكان الليل قد أقبل بجيوش الظلام، وضرب في الآفاق خيام القتام، فصار من حق الضيافة على «ماري» أن تعير ضيفتها ثوبا تلبسه إلى أن يجف ثوبها المبلول، فسارت بها إلى غرفة النوم، وتركت زوجها «المركيز دي ڤلمورين» لدى حميها يعتني بشأنه ويتدارك ما يحتاج إليه، وحينئذ لمع البرق دراكا، فتلاه الرعد والصاعقة، وانصب البرد كالحجارة وثارت العواصف، فزلزل القصر من أساسه حتى كأن عناصر الطبيعة قد هجمت عليه لتجعله دكا، فاشتد القلق ب «ماري» من جراء غياب «ڤكتور» فكانت تصلح شأن ضيفتها وهي كالآلة الصماء لا تنطق ببنت شفة، وغلب الخوف على الضيفة أيضا فالتزمت السكوت وجلا، ثم طال عليها الصمت، فقالت الباريسية الغريبة: أرى أن الإنسان يشعر بالحاجة إلى الصلاة والدعاء لله في مثل هذه الأوقات، فما قولك في ذلك يا سيدتي؟! - إن رمت الصلاة، فهلم ندخل الكنيسة قبل الرجوع إلى القاعة.
Bog aan la aqoon
وكانت كنيسة القصر على ما تركها الرهبان قديمة رهيبة خالية عن بهارج الزينة، في صدرها تمثال ملكين كبيرين ناشرين على المقدس لواء من تحت نافذة حمراء الزجاج، وليس فيها من الضوء غير قنديل ضعيف يرمي كبد الدجى بسهام دقيقة صفراء من الشعاع، فكانت لذلك مهيبة بل مخوفة للمتأملين، فخرت المرأتان ساجدتين مرتعدتين وجلا، ولكن «ماري» لم تكن خائفة على نفسها ولكن على «ڤكتور»، وبينما هما على تلك الحال إذ فاجأهما برق خاطف، وتلاه رعد قاصف، فانخلع قلباهما خوفا ، وصاحت مدام «دي ڤلمورين» صيحة شديدة، ووقفت مذعورة فاقدة الرشد، وحينئذ فتح الباب وكان الداخل «ڤكتور»، فبقيت «ماري» ساجدة تحمد الله، والتقى ناظر الفتى بناظر الباريسية الحسناء، فلم تكن هي التي غضت من طرفها أولا، وأعاد النظر فاندهش من مجلى ذلك الحسن العجيب، حتى خيل له ابتداء أن ملكا كريما نزل من السماء إلى ذلك المكان، ثم نهضت «ماري» فرحة برؤية زوجها مسرورة بسلامته، وتقدمت إليه وهي تعيد الحمد لله وعلى أثرها الباريسية الحسناء، فعرفتها ل «ڤكتور» على ما جرت به العادة، فأحس الفتى بالرهبة لأول مرة من حياته، فإن لحظ الباريسية قد فعل فيه ما يفعل السحر، فشعر من نفسه بالفرح والاضطراب معا، وما ألطف قول القائل:
بطرفك والمسحور يقسم بالسحر
أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
رنا للحظة الأولى ولست مجربا
وكررها أخرى فأحسست بالشر
أما هي فلم تكن قادرة على تحقيق انفعالات نفسها في تلك الحال، بل كان كل ما لديها عجيبا غريبا بالنظر إليها، فإن سذاجة ذلك المقام وخلوه عما تعودت رؤيته من الزخرف والزينة، وتلك المرأة الصافية النية، الكثيرة الحياء، وهذا الرجل البارع الحسن، الظاهر الخجل، الغريب الزي، كل ذلك حصل منه في مخيلتها صورة عجيبة غير معينة، وأورثها انشغالا من حيث لا تكاد تدري، فالتزمت الصمت حتى استأنف «ڤكتور» الكلام فقال: كنت أفتش عليكما يا سيدتي، فقد أعد الطعام وجئت لأتشرف بصحبة ضيفتنا إلى المائدة.
ثم تناول يدها من غير أن تجيبه بشيء، فتوكأت عليه كما جرت العادة، فانطلق بها وسارت «ماري» على أثرهما حتى بلغوا القاعة، ورأوا بقية الجماعة فحيوهم التحية المألوفة، وهدأ سر المركيزة الحسناء، فعادت إليها سرعة الخاطر، وهزتها الرقة والظرف فقالت خطابا للجمع:
لله منزلكم ما أبهجه وأبهاه! إنه في غاية الرونق والحسن، وإن كان مخوفا ولا سيما في أوقات الأنواء.
فأجابها الكونت والد «ڤكتور» متلطفا: صدقت يا سيدتي، غير أننا قد ألفنا هياج الأنواء، فلسنا نخافه، فإن من تعود الشيء هان عليه، أما المنزل فلا شك أنه لم يتزين كما ينبغي لاستقبال ضيوف مثلكم كرام، فقد كان الواجب عليه أن يتلقاكم مكللا بالأزهار مطوقا بقلائد الأنوار. - إن منزلكم غني عن الزينة بما فيه من المحاسن، وكأني منه في قصر شائق مما يتخيل الشعراء وأصحاب القصص في حكاياتهم. - نحن يا سيدتي لا نقرأ القصص والحكايات؛ لأنا نخاف هواجس الأفكار. - ما ذلك اللواء الذي يحمله الملكان من فوق مقدس الكنيسة؟ - علم منقوش عليه هذا القول الرهيب «أيها الإنسان هو ذا قاضيك». - هذا يحمل على الظن بأن الرهبان الذين كانوا هنا من قبلكم قد ارتكبوا كثيرا من الآثام حتى عظم خوفهم من قضاء الله سبحانه وتعالى. - بل الأجمل أن يظن يا سيدتي المركيزة أنهم خافوا كثيرا من ارتكاب الإثم.
وفي خلال هذه المحاورة سكن الهواء، وهدأت الأنواء، وأوشك الجو أن يصفو؛ فرام الضيفان أن يعودا إلى منزلهما «قصر سرڤيل»، فقال لهما الكونت: إني أخاف على المركيزة من صعوبة الطريق ومشقة السير، فلو بقيتما عندنا إلى الغد لكان ذلك أولى، فإنا بوجودكم سعداء، فقالت المركيزة: لك الشكر يا سيدي الكونت ألفا، ولكني أخاف على والدتي من القلق واشتغال البال، فإنها لن تطمئن نفسها حتى تراني، ولن يسكن روعها علي ولو جاءها مني كتاب أو رسول.
Bog aan la aqoon
ولذلك لا بد لي من الرجوع إلى المنزل، وإن طاب لنا ههنا المقام، فإن رمتم إتمام الجميل فأسعفونا بدليل يسلك بنا سواء السبيل، فإنا غرباء لأنا من التيه. - فقال «ڤكتور» متهيبا مترددا وجلا: إن شئت يا سيدتي كنت بنفسي لكم دليلا. - تلطفت وتفضلت ولكن يسوءني أن أزعجك في مثل هذه الساعة، وأجعل مدام «ديلار» - تريد زوجته - في قلق وبلبال، ففي رجل من خدامكم غناء. - إني أعرف الناس بمسالك هذه الناحية، وقد ألفت التنزه ليلا فلست أنزعج منه، أما زوجتي فلا تقلق ولا تخاف علي. - إن كان الأمر كذلك فقد رضيت بما قضيت، إنا نكون معك آمن منا مع سواك، ولسنا نروم التيه مرة ثانية في نواحيكم؛ فإن التائه لا يجد في كل حين ما وجدناه عندكم من حسن الضيافة، فما بقي إلا أن أستعيد ثوبي لنسير معا.
ولقد مر هذا الحديث كله بسمع «ماري» وهي صامتة لا تخرج عن حد ما يجب على ربة المنزل في هذه الحال، ولا تزيد على الإيماء أو الإشارة بما يناسب قول زوجها مما يفيد الرضى والقبول، ثم صحبت الباريسية إلى غرفتها لإعانتها على تبديل الثوب المستعار، وهي على حالها من السكون والاحتشام، لكنه كان من طي احتشامها ضرب من الجزع والنفور تشعر به وتغالب نفسها فيه، فإنها قد رأت المركيزة على حالة ممتازة لم ترها من قبل، وتأملت ما عليه من الرشاقة وما تعنى به من صغار أمور الزينة التي لا تخطر لها ببال، فقابلت بين نفسها وهذه المرأة الحسناء ذات البهجة والرواء، فتولاها الخجل والأسف، ثم قطعت المركيزة السكوت، وقالت على نية التحبب إلى «ماري»: هل لك يا سيدتي من ولد؟ - رزقت ولدين، وأنا حامل بالثالث. - أتم الله نعمته عليك، أما أنا فالغالب أني لا أرزق ولدا.
وتنهدت إثر هذا القول تنهد الآسف الآيس؛ فأجابتها «ماري»: لا تقنطي يا سيدتي من رحمة الله، فأنت صبية والله كريم منان.
وكان في هذا المقال من التوكل والإيمان، وعلى محيا «أوچيني» من سيماء الطهر وصفاء النية ما أثر في طبيعة المركيزة على كونها عسيرة الانفعال، فقالت: ما أحسن هذا التوكل وما أسعد هذه الحال!
ثم جاء الخادم يخبر الباريسية أنه قد استكمل الأهبة وشد على الخيل، فخرجت من الغرفة وودعت أهل المنزل متلطفة مبالغة في الشكر، ثم امتطت صهوة الجواد، وراضته على الرغم من الظلام حول الدرابزين، ثم أطلقته فجرى خببا، وسار على أثرها زوجها و«ڤكتور»، فلما غابت عن الأبصار قال الكافالير والد «ماري»: لو كنت في عمر العشرين لفتنت بهذه الحسناء. - فقال الكونت: لا بدع إن فتنت كثيرا من الناس، وأنشد معه لسان الحال قول من قال:
وحسناء تزري بالغزالة في الضحى
إذا برزت لم تبق يوما بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة
كأن أباها الظبي أو أمها مها
فقالت «ماري»: وما فائدتها من افتتان الناس بها وهي محصنة ذات بعل؟!
Bog aan la aqoon
فتغامز الشيخان وابتسما متعجبين من سلامة نية «ماري» وصفاء طينها، ثم عادا إلى القاعة يعيدان من لعب النرد - الطاولة - ما قطعه عليهما قدوم الزائرين، وكل امرئ بشأن نفسه لاه وكل يغني على ليلاه.
2
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وانصرفت «ماري» إلى غرفة طفليها، ولبثت هناك ترعاهما حتى أخذها الرقاد، فعادت إلى القاعة والشيخان فيها يلعبان «ويلعب بهما الزمان»، فجلست على مقربة منهما متلهية بالزركشة عن خطرات البال، ولكنها لم تستطع قرارا، بل كانت تنهض المرة بعد المرة إلى الشباك، فتنظر إلى السماء، فترى بقايا الغيوم مبددة في فضاء الأفق، وفضالات البروق متكسرة على صفحات الجو، وتنظر إلى الأرض، فتبصر الماء والوحول مما تخلف من السيول، فتطير نفسها شعاعا وينخلع قلبها ارتياعا، فتدعو الله في سرها أن يذهب عنها الخوف والقلق، ويعيد زوجها بالسلامة، فلما أتت الساعة العاشرة ليلا غلب عليها الاضطراب وتولاها الاكتئاب؛ فقالت موجهة إلى والدها الخطاب: لم يعد بعد «ڤكتور» يا أبتاه. - لا تجزعي يا بنية، فلعله اختار أن يبيت في «سرڤيل». - وقال الكونت: لو كنت في سنه لفعلت ذلك لا محالة. - ولم يا سيدي؟!
فتواردت خواطر الشيخين عند سماعهما هذا السؤال من «ماري»، فضحكا منه معا فاستنفرت، وأعادته ملحة في طلب الجواب؛ فقال الكونت: تسألين عما يدعو «ڤكتور» إلى أن يبيت في «سرڤيل»؟ فاعلمي أن هناك نساء حسانا يسألنه ذلك لا محالة، وما يهون على الفتى مخالفة أمر الحسان.
فأصابها سهم هذا الجواب في قلبها فجرح وبرح؛ لأنه لم يخالج فكرها من قبله أن في الدنيا امرأة غيرها يرتاح «ڤكتور» إلى رضاها، ويسره أن يبيت في مغناها، ولم تكن تعرف الغيرة ولا العادة الفاسدة التي تجيز للرجال على وجه ما خيانة نسائهم؛ فعظم تأثير هذا الخاطر فيها غير أنه كان لحسن حظها سريع الزوال، فإن «ڤكتور» لم يبت في «سرڤيل» بل عاد إلى المنزل في تلك الساعة فسكن جأش «ماري»، ولكن لم تزل من نفسها آثار الانفعال، أما هو فلم يلبث في القاعة إلا قليلا، ثم طلب الانصراف معتذرا بما ناله من التعب والمشقة في النهار، ودخل مخدعه من غير أن يمر بغرفة زوجته خلافا لما جرت به عادته من يوم عرسها إلى ذلك اليوم.
ومذ حينئذ أيقنت «ماري» بفتور محبة «ڤكتور» واستيلاء الملل منها عليه، فكان محصل ما يمر بها من الخواطر مماثلا لقول الشاعر:
لعيني كل يوم فيها عبرة
تصيرني لأهل الحب عبرة
Bog aan la aqoon
علامة شقوتي في الحب أني
ثقلت عليه لا من طول عشرة
فكأن للأنفس الطاهرة والقلوب الرحيمة دليلا منها على فتور المحبة قبل حصوله، أو أن للفتور أسهما دقيقة خافية تمس القلب متوالية عليه فتخدشه خدوشا يتصل بعضها ببعض، فتصير جرحا كبيرا. نعم، إن الرجل الأديب إذا أحس من نفسه بفتور المحبة حاول إخفاءه، وتمالك ما استطاع خوفا على المرأة التي لا تزال تحبه، أن يصيبها سهم الصدود، ولكنه ربما وقع غير مختار فيما يدل على فتور حبه، ولا يكاد يبين فترى منه عين محبة ما لا يراه سائر الناظرين.
إن العيون على القلوب شواهد
فبغيضها لك بين وحبيبها
وإذا تلاحظت العيون تفاوضت
وتحدثت عما تجن قلوبها
ينطقن والأفواه صامتة فما
يخفى عليك بريئها ومريبها
وإذا كان الأمر كذلك فيمن يحاول الكتمان ولا يجهر بالصدود والهجران، فما الظن بمن يصد جهرا ولا يلقي على الهجر سترا؟! ولا جرم أنه يصيب مهجة محبه بسهم ما لجرحه التئام، ويوقد في قلبه من اليأس نارا ذات ضرام، ولكثر ما تصيب هذه السهام قلوب النساء فتقطع منها أسباب الهناء والرجاء، وما يلزمهن في معرفة الإعراض والفتور غير كلمة أو إشارة مما يشف عن ذات الصدور.
Bog aan la aqoon
ولما كان الغد وجاء وقت الطعام صباحا واجتمع آل البيت على المائدة أنبأهم «ڤكتور» بعزمه على السفر إلى مدينة بواتيه، فقالت «ماري» بانكسار واحتشام: لعلك تروم السفر لشأن يدعوك إليه؟!
فقال: نعم. ثم حول وجهه عن زوجته لكيلا يقع نظرها عليه، فتلمح علامة الارتباك فيه؛ فقال له والده: ومتى تعود يا بني؟ - بعد ثلاثة أيام!
فشق ذلك على «ماري»، ولم تتمالك أن صاحت مستفهمة منكرة : ثلاثة أيام؟! - نعم، وما موجب العجب والاستنكار؟
فأثر هذا الجواب في نفس «ماري» تأثيرا شديدا، فبكت وقالت: آه يا «ڤكتور»! إنا لم نمتحن بعد بمثل هذا الفراق، ثم ضجت بالبكاء وألقت بنفسها على زوجها، فتلقاها وضمها متأثرا مما ألم بها من الغم، ثم رام تطييب خاطرها، فقال: إن كنت لا تصبرين على فراقي، فلست براحل عنك يا شقيقة الروح. - أحق ما تقول؟! - حق لا ريب فيه ... فقال الكونت «ديلار»: إن كان في سفرك مصلحة، فلا ينبغي العدول عنه يا بني. - نعم، فقد أنبأني وكيلنا بالمدينة أن بعض الناس طلب منه مقدارا من المال قرضا، فرأيت من المصلحة أن أسير إلى المدينة بنفسي لأنظر في الأمر وأفعل ما يقتضيه. - إن كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تمنعي زوجك من السفر وتعارضيه في قضاء ما يجب عليه، فأنت أم ولد صغار مسئولة عنهم في الحال والمآل، فلا تذهلي عن ذلك، ولا تميلي مع هوى النفس. - فأجابت وهي آسفة كاسفة البال: صدق والدك يا «ڤكتور» فلا بد من ذهابك إلى المدينة. - وهل تغالبين الأسى وتجلدين؟! - نعم، أتجلد ما استطعت. - إذن أسافر بعد الطعام شاكرا لكم هذا القبول، وستعلمون أني لست بأقلكم رغبة في قرب اللقاء.
وسار «ڤكتور» بعد ذلك مخلفا عند زوجته وحشة الفراق، وكان قد حدث منذ الأمس في ذلك البيت ما غير حالة أهله تغييرا سيئا، إذ وجد في نفس كل منهم شيء يخفيه، وسر يكتمه على الباقين. نعم، إن ذلك السر كان خفيفا غير ذي بال، ولكن أول خاطر يكتمه المرء عن ذويه يكون كالحبة تدفن في الأرض، فتنبت وتنمو فتصير شجرة ذات فروع وجراثيم، فلو كشف أهل هذا البيت أسرارهم، وأزالوا حجب الكتمان عن أنفسهم أول الأمر لأمكن رجوع الهناء والأنس إليهم، ولكنهم كتموا خواطرهم وحجبوا سرائرهم؛ فتفرقوا مبتئسين متفكرين، فلم يعاودهم الصفاء، ووقفت «ماري» تنظر إلى العربة وهي سائرة بزوجها على عجل حتى غابت عن نظرها، فرجعت إلى غرفة أطفالها ينشد لسان حالها:
مستجير الهوى بغير مجير
ومضيم النوى بغير نصير
فهو ما بين عمر يوم طويل
يلتظي وعمر يوم قصير
لا أقول المسير أرق عيني
Bog aan la aqoon
كان هذا العذاب قبل المسير
واستولت الكآبة على أهل «مرلي» في غياب «ڤكتور»، فانقطعت «ماري» عن الغناء وهي تشتغل، وامتنعت من مداعبة طفلها في المرج الأخضر على بساط النبات الغض كما جرت به عادتها إلى ذلك الحين، بل كانت تطوف دهاليز القصر مكتئبة متمشية على مهل، وتدخل البيعة فتدعو الله وهي ناظرة إلى الطريق، ويلح عليها والدها وحموها بالذهاب إلى «سرڤيل» لرد زيارة الباريسيات فتأبى، ولكن يعود «ڤكتور» فتسير معه، إنها قد واعدته بألا تخرج من البيت قبل رجوعه.
ثم عاد «ڤكتور» ومن خلفه في العربة صندوق فيه أثواب جديدة، وأسباب زينة لم يكن يلتمسها من قبل، فلما وقع نظر «ماري» على ذلك الصندوق وعلمت بما فيه، سألت زوجها عما دعاه إلى شراء تلك الأثواب فقال: إني أخجل من جيراننا أن أزورهم بثوبي القديم، فأكون فيه كالرجل الباقي من عهد الطوفان، وقد علمت أنهم يستهزئون بي من أجل ذلك، ولست أريد أن يستهزئ بي أحد من الناس.
فلم تجبه «ماري»، ولكنها لم تقنع بما قال، فبقي في نفسها شيء من سوء الظن، فلما أصبحت ورأته بلباس غرفة النوم معتدل القوم صبيحا متأنقا لم تعجب به كما تعودت إلى ذلك اليوم، بل داخلها الظن بأنه لم يتأنق في ملبسه ليحسن في عينها، وإنما تكلف ذلك لشيء جديد في نفسه لم تحط به علما.
والريب للنفس داء
إن طال أعيا شفاؤه
كالسم في الجسم يسري
حتى يعز دواؤه
ثم جاء وقت الغذاء، واجتمع له أهل البيت على المائدة، فتجاذبوا هناك أطراف الكلام ، فساقهم الكونت «ديلار» إلى الحديث عن جيرانهم سكان «سرڤيل»، وزعم أن لم يبق مانع من زيارتهم، بل إنها وجبت فلا ينبغي تأخيرها إلى ما بعد الغد، فالتمست «ماري» أن تتخلف عن أسرتها بدعوى انحراف المزاج، فأبى «ڤكتور» ووالده إلا أن تسير معهم وما زالا بها حتى أجابت.
ولما أتى الوقت المعين للزيارة نشط لها أهل المنزل وخرجوا إلى موقف العربة، فكان اختلاف أحوالهم ومناظرهم من أغرب ما رأته العين؛ فإن الشيخين كانا بزيهما القديم، كأنهما من بقايا أمة قد خلت، و«ماري» على حالها من السذاجة التي تلازم نساء القرى، وتجعلهن مغمزا للمدنيات ولو كن حسانا، أما «ڤكتور» فإن ثوبه الجديد لم يكن منطبقا عليه تمام الانطباق، ولكن اعتداله الطبيعي كان ساترا لهذا العيب فلم تذهب جدة الثوب برونق بهائه، وحسن روائه، ولكنه ظهر فيه محتاجا إلى شيء من العادة ليكون رشيقا.
Bog aan la aqoon
ولما وصل القوم إلى «سرڤيل» تلقاهم أهل القصر، وخصوصا مدام «مرسيل» - أم الفتيات - ومدام «ڤلمورين» - الباريسية الحسناء - بأحسن مما لقوه في المرة الأولى من القبول والإكرام، وكانت مدام «ڤلمورين» لابسة لفافا من الحرير الهندي والتفتاء الوردي مطرفا بالكشاكش ترفل فيه بلا كلفة ولا قلق، فيعلم الناظر إليها أنها ليست بدخيلة على الرونق والزينة وأبهة النعيم، وكانت يداها الجميلتان مستورتين بكفوف صفراء تسر الناظرين، وشعرها اللامع الأسود كجناح الغراب مسترسلا على كتفيها غير معقوص ولا مضفور، وكان على صدرها من الجواهر الكريمة ما يروق للعين حسنا ونفاسة، وعلى جملتها من آثار النعمة والشرف والكياسة الباريسية ما لا يقلد ولا يوصف بلسان، فهي على حد قول سكريب «أحسن ما فيها أن حسنها غير محدود».
من حسنها أن ليس يوصف حسنها
وجمالها ألا يحد جمالها
هي آية الحسن التي قد أعجزت
وصافها من حيث عز مثالها
ترنو بمقلة جؤذر نبالة
وارحمتاه لمن تصيب نبالها
وتهز من تحت الغلائل قامة
من غير شك قاتل عسالها
ومن استجار بعطفها من طرفها
Bog aan la aqoon
ألقى له شرك الغرام دلالها
فإذا رنت وإذا انثنت وإذا دنت
فتنت فما من حيلة نحتالها
وكان «ڤكتور» ينظر إليها نظر الحائر المندهش، وهي تتصباه غير عامدة بما تظهر من الرشاقة، وما تبدي من حركات الدلال، فتارة تفتح حنجور عطرها فتشمه، وهي غنية عن الطيب، وطورا تنزع الكف الأصفر عن يدها الرشيقة، فيظهر بياض أناملها تحت سواد خاتم من الميناء، حتى عظمت بها فتنة «ڤكتور»، واشتدت منها غيرة «ماري»، وهي مع ذلك تعطف من رياض الحديث كل فن، وتقطف منه لكل سامع زهرة تنفي عن القلب الحزن حتى انشرحت بمعاني كلامها الصدور كما قرت بمحاسن وجهها الأنظار.
فحديثها السحر الحلال لو انه
لم يجن قتل السامع المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
فأحست «ماري» بانحطاطها عن هذه المليحة حسنا وجمالا ورشاقة وظرفا، فأخذتها الغيرة على «ڤكتور»، ونالها من ذلك ألم عظيم، فعقدت نيتها على أن تلزم البيت من بعد هذه الزيارة؛ فلا تكون عرضة للغبن في الموازنة بينها وبين الباريسية الحسناء، ثم بذلت مجهودها في تقصير الزيارة حتى خف قومها للانصراف، ولما خلت بهم في العربة غلب الكمد عليها فبكت بكاء مرا، فأثر بكاؤها في نفس «ڤكتور» فصاح: ما بالك تبكين؟! ماذا أصابك؟! - لا شيء، إن الحر قد اشتد علي، فأورثني صداعا أليما، عدمت به الجلد لا جرم أني غير صالحة لمعاشرة الناس، فلن أحضر بعد هذه المرة مجلس اجتماع.
فقال الكونت «ديلار»: نعم رأيتك في منزلنا ب «مرلي» أسعد منك الآن وأهنأ، ولكنك مخطئة فيما عزمت عليه، فأنت في ريعان الشباب، ولا تليق وحشة العزلة بهذا العمر، ثم إنك أم ولد صغار، فإن لم تخرجي من المنزل، ولم تدخلي مجالس المعاشرة؛ فمن ذا الذي يتولى تهذيب أولادك كما يقتضيه أدب الاجتماع. - «ڤكتور» يفعل ذلك ويحضر المجالس عني. - لا، لست أرضى بهذا لست أرضى.
Bog aan la aqoon
فعاودها البكاء، فقالت: سوف نرى. ولم تزد.
ومرت بهم بعد ذلك عدة أيام، وهم بحسب الظاهر على سابق حالهم من الراحة والسكينة، و«ڤكتور» يخرج كل يوم للتنزه ويعود قبل المساء ، فيكب على قراءة بعض الكتب، ولا ينظر إلى شيء آخر مما بين يديه، أما «ماري» فكانت أشد تفكيرا وأعظم قلقا واضطرابا من ذي قبل، تتأمل في أحوال زوجها وترقب أعماله الغريبة؛ فيحصل في وهمها من التصورات وفي نفسها من الانفعالات ما لم تشعر بمثله إلى ذلك الحين، وكان الحب دليلها في سبيل الاعتبار والاختبار، فعلمت أن «ڤكتور» قد مسه الضجر، وتولاه الملل؛ فصار من همها أن تسليه وتواليه.
وهيهات لا يرجى السلو بحالة
لطفل هوى فيه الغرام محكم
دعته إلى حجر المحبة غادة
رآها عن الدر المنضد تبسم
وذاق حلاوات الحديث وشاقه
بوجه التي يهوى جمال منمنم
وليس له صبر فيرجى فطامه
إذا بعدت والطفل بالصبر يفطم
Bog aan la aqoon
وبينما هم ذات ليلة على المائدة، إذ جاءهم رسول بكتاب من «سرڤيل» تدعوهم فيه مدام «مرسيل» إلى ليلة أنس ورقص وصفاء تمثل فيها بعض الروايات، ثم تكون مأدبة شائقة تحت سرادقات مما يذكر بعجائب ألف ليلة وليلة، وكان اهتمام أهل «مرسيل» بإعداد أسباب الحسن والبهجة لتلك الليلة الموعودة قد عرف واشتهر بين أهل الناحية حتى صار موضوع أحاديثهم وسمرهم نهارا وليلا، فقال الكونت: إن الخياطات في هذه الناحية غير صنع الأيدي وغير قادرات على إحكام الزي، فينبغي أن نكتب إلى باريس بطلب ثوب جديد إلى «ماري»، فإني أريد أن تكون مثل مدام «ڤلمورين» حسنا ورواء. - لا حاجة بي إلى ذلك يا والدي؛ إذ لست بذاهبة إلى «سرڤيل».
فقال «ڤكتور»: وكيف هذا؟ - إني مثقلة، متعبة بالحمل؛ فلا أستطيع الذهاب، ولا أصبر على ضيق الثوب الجديد، فسر أنت لتحدثنا بما تراه هناك من العجائب والغرائب.
فألح «ڤكتور» والشيخان عليها في العدول عن هذا العزم، فصرفت الحديث إلى المزاح، وتضاحكت من عناد نفسها كثيرا على أنها لم تتحول عنه، وكان الضجر مستحوذا على «ڤكتور»؛ فاتخذ عناد زوجته وسيلة لإظهار الكدر فنهض وهو يقول: افعلي ما تريدين.
ثم ألقى البندقية على كتفه، وخرج من المنزل متوجها نحو «بروغ»، متنزها بين المروج والآثار القديمة، وكانت ناحية «بواتو» إلى ذلك العهد مرقشة بأطلال بالية ورسوم منازل عافية، منها ما هو باق من عهد الرومانيين، ومنها - ولعله الأكثر - من بقايا الأعصر المتوسطة، وسكان هذه الناحية يتناقلون عن تلك الأطلال أحاديث خرافة تدل على أن ذكرى بيت «لوزينيان» الشهيرة محفوظة عندهم بالرواية، ينقلها الأبناء عن الآباء حتى كأن ذلك البيت لا يزال في عالم الوجود، فهم يسمون كل طلل في ناحيتهم «مرلوزين» نسبة إلى امرأة من بيت «لوزينيان» يحسبونها من الجن، وهي في الواقع زوجة «مل» و«لوزينيان» فركبوا في تسميتها الاسمين، وقالوا «ملوزين» ثم حرفوا هذا المركب فصار «مرلوزين» وسموا به الأطلال كما تقدم القول.
وكان بالقرب من «بروغ» برج قديم منفرد من بقايا قصر عظيم، كان في الحقيقة ل «مرلوزين» المذكورة تصرف وقتا من العام فيه، وتقيم سائره بقصرها الكبير المعروف، وذلك البرج عال، حسن الموقع، يطل منه على ما حوله من الأرض، ويرى الجالس فيه نواقيس كثير من قرى الناحية، ويشرف على السواقي المتفرقة من الجدول وما يليها من البروج والبساتين.
وكان «ڤكتور» كثيرا ما يقصد هذه الجهة في تنزهاته، فيهيم تحت قناطر القباب الخالية، أو يجلس على تلال هذه الجدران البالية، فيذكر مجدها السابق وعزها القديم، ففي اليوم الذي ذكرناه وصل هذا المكان، وهو أضيق صدرا منه في كل يوم، فصعد الهضبة المؤدية إلى البرج على مهل، فسمع من فوقه صوت غناء، فوقف له ورعاه السمع، فعلم أنه صوت امرأة غير قروية، وذلك بما وجد فيه من حسن التوقيع، والتلحين، والرقة التي يلزم فيها من العلم بفن الألحان ما لا يتحصل إلا في المدن الكبيرة، وكان اللحن شجيا يثير الأشجان، فأثر في نفس «ڤكتور» حتى كاد يبكيه، وما برح واقفا حتى انقطع الصوت عنه، فمشى متفكرا فيه إلى أن بلغ رصفة كالدرج تنتهي إلى مدخل البرج، فرفع هناك عينيه، فأبصر على خطوات منه فتاة بثوب أبيض وخمار من اللاذ أدق مما تنسج العنكبوت، يلعب الهواء بأطرافه فتعلق بغصون الآس النابتة على جدران الأطلال، وكانت هذه الفتاة جالسة محدقة بالوادي هائمة الفكر فيه، وبين يديها علبة ألوان ورقعة صورة مبدوءة تدل على أنها جالسة هناك للتصوير، فلما أحست بحركة «ڤكتور» التفتت إلى جهته، فعلت وجهها حمرة الخجل، ووثب على «ڤكتور» من تحت قدميها كلب صغير نباح، وكانت هذه الرسامة الفتاة هي المركيزة «دي ڤلمورين» الباريسية الحسناء.
رسامة قد جرى توقيع حاجبها
بظلم أهل الهوى والأمر ما رسمت
تحكمت في قلوب العاشقين كما
شاء الجمال ولم تعدل بما حكمت
Bog aan la aqoon