رضيت بأن تجور وأنت جار
فعظم تأثير هذا الكلام في نفس «ڤكتور» حتى تغير لونه، وانقلب غيظه رقة، وصار غضبه حلما، فانعطف إلى زوجته خافضا رأسه بين يديها متنصلا بلسان الحال من ذنبه إليها، ثم قبض على يدها مرتعدا وقبلها مترضيا متوددا، فسقطت عليها من عينه دمعة الندامة، فكفته «ماري» عن ذلك بألطف إشارة وقالت: لا يليق بنا الاسترسال إلى الشفقة أيها الحبيب، فنحن إلى الجلد والثبات أحوج، فلتستعن بهما أنت على السعي في شأنك، وأنا على حفظ ما عاهدتك عليه، وقد مسني الآن التعب فأرشدني إلى الغرفة المعدة لي، وغداة غد يصل أولادنا الأعزاء، آه لو علمت مقدار شوقي إليهم! - من أي وقت فارقتهم. - من شهرين؛ فإن مدام «سرزول» رامت أن تعودني عادات أهل باريس، وتعلمني مخالطة الناس حتى لا أوجب لك الخجل، فأتت بي من «بواتو» بأمر أبيك منذ شهرين، وبقيت عندها متنكرة عنك إلى اليوم. - حاشا لحسنك أن يورثني الخجل، فهو جدير بأن يبعثني على العجب والافتخار، فإنك أجمل من رأيت تحت السماء، ولكم ذكرت بعد فراقنا أيام اللقاء، وعانيت من البعد صنوف العناء، وندمت فلم ينفع الندم بعد إذ قضي الأمر وجف القلم. - خفض عليك جعلت فداك، فغاية السعادة لي أن أراك سعيدا، ومنتهى الشقاء أن تكون بعيدا، واكفف الآن عن الكلام غير مأمور، فسنعود إليه غدا أو بعده متى شئت، فقد أخذني التعب، واستولى علي النعاس.
فسار بها إلى باب غرفتها، فلما خلت بنفسها سجدت تصلي وتدعو الله، والصلاة عون على البأساء في شدائد الحياة ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله.
ولما كان الصباح قدم الأولاد، فتلقاهم «ڤكتور» كما يلتقي الآيس نعمة منزلة من السماء، فعانقهم مليا وقبلهم كثيرا، أما «ماري» فكانت تحمد الله على جمع الشمل وتحقيق الرجاء، ولا تطلب في الهناء مزيدا، مخافة النقصان، وقد أنسي الاثنان ما مضى وأتم الله عليهما نعمة الرضى، فجلسا يتجاذبان أطراف الحديث من قديم وحديث، وبينما هما على هذه الحال الراضية، دخل الخادم ودفع إلى «ڤكتور» كتابا مزخرف الغلاف منسوق العنوان، فلم يخف على «ماري» أمر هذا الكتاب، فنهضت وهي تقول ل «ڤكتور»: إني منصرفة عنك لإعداد مكان ملائم لي وللأولاد، وقد ظهر لي أن هذا المنزل على صغره يفي بحاجتنا إلى أن نجد مكانا أوسع منه، ثم ودعته وخرجت، فلما صارت بحيث لا يراها مسحت من عينها دمعة كادت تحرقها ولبث «ڤكتور» كاسف البال، مضطرب النفس، يرى نفسه أشقى أهل الأرض لحصوله بين أليفتين مخالصتين متساويتين في محبته لا يستطيع مقاطعة أولاهما؛ لأنها زوجته وأم ولده وشريكته في اسمه، ولا يقوى على هجر الثانية؛ لأنه واثقها على الحب والوفاء، فبذلت له نفسها متعرضة في سبيل حبه للعذل واللوم وضياع الحرمة عند زوجها وآلها وسائر الناس، فهو بين قوتين جاذبتين يقاسي عذاب الخوف وملامة السريرة، وكان قد أفنى الحيل طلبا لرؤية «أليس» بعد انصرافها من المرقص، فأعياه ذلك فتردد في فض كتابها مخافة العتاب أو حذر العلم بما تعانيه من العذاب، ثم غلب عليه حب الاستطلاع، ففتح الكتاب فلم يجد فيه شيئا مما ظن وخاف، وإنما كان مضمونه أنها تبينت ما تحتم عليه من حكم الضرورة، فهي صابرة متجلدة لا تشكو ولا تلوم، وإنما تسأله أن يزورها لتسمع من لسانه حكاية الحال، وإن كان الزمان قضى عليها بفراقه، فلا أقل من أن يتولى بنفسه تسليتها في هذا المصاب، فهي تنتظر قدومه إليها صابرة ما أمكن الصبر.
فاستثاره هذا الكلام وجدا، واستفزه غراما وشوقا، فطار إلى منزل الحبيبة خافق القلب، منزعج النفس، مشغول الفكر بما نالها من الغم، فرآها منفردة في خدرها منهوكة القوة صفراء اللون غيرة وجزعا، فبسطت إليه عند دخوله ذراعيها، ثم أغمي من الوجد عليها فابتدرها برش الماء، وفتح النوافذ لتجديد الهواء، فلما أفاقت رأته جاثيا لديها يقبل يديها ويقول: لا تجزعي، لا تجزعي.
فإذا تألفت القلوب على الهوى
فالناس تضرب في حديد بارد
ولقد جمعت بيننا المودة، فلن نفترق ما دام فينا بقية من الحياة.
ألفت بيننا المودة حتى
جللتنا والزهر بالأوراق
Bog aan la aqoon