وقال مسعر بن كدام: رحم الله من أهدى إلىّ عيوبي في ستر بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع.
قال الأحنف: لأن أدعى من بعدٍ أحبّ إليّ من أن أقصى عن قرب.
وعن الأحنف أيضًا أنه قال: ما جلست مجلسًا قطّ، أخاف أن أقام منه لغيري وقال البعيث بن حريث:؟ وإنّ مكاني في النّدىّ ومجلسي له الموضع الأقصى إذا لم أقرّب
ولست وإن قرّبت يومًا ببائعٍ ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبُّب
ويعتدّه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
جلس رجل إلى الحسن بن عليّ ﵁، فقال: جلست إلينا على حين قيام، أفتأذن؟! كان يقال: إياك وكلُّ جليسٍ لا تصيب منه خيرًا.
وعن معاذ بن جبل، أنه قال: إيّاك وكلّ جليسٍ لا يفيدك علمًا.
كان يقال: من سرّه أن يعظم حلمه، وينفعه علمه، فليقلّ من مجالسته من كان بين ظهرانيه. وقال الحسن البصريّ: انتقوا الإخوان، والأصحاب، والمجالس.
وروى هشام بن عروة،عن محّمد بن المنكدر، قال:كان يقال: خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وركنًا في المجالس، الموطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون.
تباعد كعب الأحبار يومًا في مجلس عمر بن الخطاب، فأنكر ذلك عليه، فقال: يا أميرالمؤمنين! إنّ في حكمة لقمان ووصيته لابنه: إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعلّه يأتيه من هو آثر عنده منك فينحّيك فيكون نقصًا عليك.
وكان يقال: الجليس الصّالح خيرمن الوحدة، والوحدة خيرٌ من الجليس السّوء.
وعن جعفر بن سليمان الضّبعيّ، قال: رأيت مع مالك بن دينار كلبًا، فقلت له: ما هذا؟ قال هذا خيرٌ من الجليس السوء.
قال زيادٌ: إنه ليعجبني من الرجال من إذا أتى مجلسًا أن يعرف أين يكون مجلسه، وإني لآتي المجلس، فأدع مالي مخافة أن أدفع عمّا ليس لي.
وكان الأحنف إذا أتاه رجلٌ أوسع له، فإن لم يكن له سعة أراه كأنّه يوسع له.
طرح أبو قلابة لجليس له وسادة، فردّها فقال له: أما سمعت الحديث: " لا تردن على أخيك كرامته ".
قال ابن شبرمة لابنه: يا بنيّ! إياك وطول المجالسة، فإنّ الأسد إنما يجترىء عليها من أدام النظر إليها.
وهذا عندي مأخوذٌ من قول أردشير لابنه: يابنيّ لا تمكّن الناس من نفسك فإن أجرأ النّاس على السّباع، أكثرهم لها معاينة. ومن هذا - والله أعلم - أخذ ابن المعتزّ قوله:
رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطّوائح
كما يخلق الثّوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون الّلوامح
ومن سوء الأدب في المجالسة: أن تقطع على جليسك حديثه، أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به خبرًا كان أو شعرًا، تتمّ له البيت الذي بدأ به، وتريه أنك أحفظ منه. فهذا غايةٌ في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلاّ منه.
قيل لداود الطّائّي: لم تركت مجالسة الناس؟ قال: ما بقي إلاّ كبيرٌ يتحفّظ عليك، أوصغيرٌ لا يوقِّرك.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تجالس عدوّك، فإنه يحفظ عليك سقطاتك ويماريك في صوابك.
قالت الخنساء:
إنّ الجليس يقول القول تحسبه ... خيرًا وهيهات فانظر ما به التمسا
كان يقال: رأس التّواضع، الرّضا بالدُّون من المجلس. وهذا يروى عن ابن مسعود أنّه قال: إنّ من التواضع أن ترضى بالدُّون من المجلس، وأن تبدأ بالسّلام من لقيت.
قال إبراهيم النَّخعيّ إنّ الرجل ليجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام، يريد الله به، فتصيبه الرَّحمة فتعمُّ من حوله، وإنّ الرجل يجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام يسخط الله به، فتصيبه السَّخطة فتعمُّ من حوله.
كان رسول الله ﷺ يومًا في مجلسه، فرفع رأسه إلى السّماء ثم طأطأه ثم رفعه فسئل عن ذلك فقال: " هؤلاء قومٌ كانوا يذكرون الله فنزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة كالقبّة، فلما دنت منهم تكلّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرفعت عنهم ثم تلا: " ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يخسر المبطلون ".
1 / 4