94

Albaabka Dayaxa

باب القمر

Noocyada

الفصل الثامن والعشرون

خمار ونقاب

تنبهت قريش في صبيحة اليوم الثاني لمقتل عبد النضر على أحداث عظيمة. علم بنو عبد المطلب بما كان من ائتمار النضر وصحبه على رسول الله؛ فذهب وفد منهم على رأسه حمزة والعباس - وإن لم يكن قد أسلم بعد - إلى الحارث بن كلدة في بيته يسألونه هل كان ما جرى بعلمه ورضاه؟ فأنكر علمه، واستعاذ بالله أن يرضيه قتل رسول الله. فقالوا: وهل يرضيك أن نرسل نحن غلماننا؛ ليقتلوا ولدك غدرا، كما أرسل ولدك غلمانه؛ ليقتلوا أخانا غدرا؟ قال: كلا. قالوا: فما جزاؤه إذن؟ قال: لا تسألوا والدا في جريمة ولد، فلن يكون رأيه معكم على ولده، وها أنتم أولاء على مثل حالي، فابنكم يسفه أحلام قريش، ويقول لهم بلسان ربه:

إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم

ومع ذلك تمنعونه ممن يؤذيهم بلسانه. قالوا: البادي بالشر أظلم، وابنك وصحبه لم يتركوا سافلا من القول حتى رموه عليه حتى في بيت الله، وكانوا في ذلك بادئين، على أنا ما منعناه إلا من الاغتيال، ولم نمنعه من سوء المقال قال: قد يكون القتل أهون من القول. قالوا: والاغتيال بيد العبيد والغلمان أهو شيمة الرجال؟ قال: هذا ما يحزنني ويخجلني، وددت لو كان ولدي رجلا فيطلب محمدا إلى قتال، فإما قتله وإما مات بسيفه، ولكنه جبان رعديد. قالوا: حسبنا أن تنعته أنت بذلك، وإلا فقد جئنا نطلب إليه مواجهتنا ليختار منا من ينازله؛ لأنه ليس ضريبا لمحمد بن عبد الله، ولا الدنيا في حاجة إليه كبعض حاجتها إلى بصيص من نور الله الذي استودعه رسوله، ولأنه إنما يبغي علينا أول ما يبغي؛ إذ نحن حماة رسول الله وعضادة دينه. ولكنا بعد هذا لا ننازل امرأة! وقد جئناه بخمار ونقاب وفاغية وحناء، فإن أبى أن يلبسهما ويتطيب ويختضب، وود أن يرد علينا شوار العروس - فنحن في انتظاره حيث يشاء، ثم نهضوا عائدين إلى شعبهم؛ ليرتبوا على مداخله ومخارجه حراسا وعسسا من أنفسهم كل ليلة، حتى يأمنوا على أخيهم شر ما بيته السفلة الجبناء.

كان النضر في تلك الأثناء في الدار يتسمع، ولكنه لم يجرؤ أن يبدو للحاضرين، وكره أن ينعته أبوه بما نعت، وأن يقول حمزة والعباس فيه ما قالا، ولكنه وجد في قولهم دليل اكتفائهم من الأمر بالإهانة، ولم يطق أن يعلم أحد بوجوده فذهب من فوره إلى صحبه يبلغهم ما جرى، ويستعديهم على بني عبد المطلب، ولكنهم أبوا عليه ذلك، ولامه بعضهم على ما فعل؛ إذ أذلهم في عين بني هاشم، وأحقرهم في عيون الناس، فعاد النضر يفكر فيما أصابه من الخذلان، ورأى أن ورقة سبب كل هذا. فاجتمع عليه الغلان، وثارت نفسه على ورقة، فعزم على تنفيذ ما كان قد انتواه من قتله حين جاءه العبد الثالث بخبر القتيل والقاتل، وانصرف لتدبير مقلته في تلك الليلة. فخرج إلى ظاهر مكة ليلقى جماعة من الصعاليك العرب كانت له بهم معرفة قديمة، واتفق معهم على اغتيال ورقة وهو خارج من داره أو عائد إليها، وجعل لكل منهم دينارا، وهناك علم منهم أن امرأة أبيه وابنتها شوهدتا تسيران في حمى أعرابي إلى جدة من درب غير دربها. فأنكر ذلك، ولكن القائل كان ممن يترددون على بيت الحارث، ويأتي إليهم بالماء من بئر في جوار خيشة فهو يعرفهما لذلك حق المعرفة، ولكن النضر لم ير أن يأخذ بقول الرجل فيرسل أحدا في طلبهما وقطع الطريق عليهما؛ لأنه كان مشغولا بهمه وتدبيراته، ورابه من الرجل قوله: إنهما سارتا في غير دربها؛ إذ كل درب غير دربها مفازة محفوفة بالخطر الأدهم، وما يجرؤ أحد أن يسير بامرأتين فيه. على أنه لم يعد بعد ذلك إلى الدار؛ ليستوثق بل ذهب ليلقى ابن معيط صديقه وشريكه الأشر، وقضى معه الهزيع الأول من الليل كراهة أن يلقى أباه. على أن أباه كان قد خرج في إثر حمزة والعباس يلتمس بيت رسول الله؛ ليلقي على أقدامه حزنه ومقته، ويستبرئ من جريمة ولده، ولم يعد إلى داره حتى كانت الشمس على وشك المغيب. هناك دخل بيت أهله وهو لم يدخله منذ جاءه زياد بخبر المؤامرة؛ إذ كان قد نزل لينظر في الأمر وعواقبه، ولم يفرغ منه إلا مغرب يومه. دخل البيت ولكنه لم يجد هرميون ولا لمياء، وسأل عنهما فلم تدر جواري البيت عنهما شيئا؛ لأنهن ما كن يدخلن عليهما إلا إذا طلبن فأرسل في طلب ولده، فقيل له إنه لم يعد منذ خرج في الصباح، فأرسل في طلب امرأته فلما جاءت قالت: إنها لا تدري من أمر هرميون إلا أنها كانت تود زيارة أهل بيت المطعم بن عدي

1

ولعلها ذهبت إليهن. فأرسل يسألهم، ولكن الرسول عاد بأنها لم تجئهم، فضاق صدر الرجل، وأخذ يفكر فيما تكون قد فعلت، ولكنه لم يهتد إلى رأي.

لم يخطر له أنها فرت بابنتها، وإنما خطر له أنها لما كان بينهما من المشادة آثرت أن تقضي يوما أو بعض يوم في أحد بيوت الأصحاب العظماء كالمطعم بن عدي هذا، وتستعين به عليه، ولكنه لم يدر من يكون هذا الصاحب؟ ولم يدر متى خرجت؟ حتى يوجه العتب إلى صاحبه على أنه لم يعلمه حتى الآن بأمرها، وآثر أن ينتظر، فانتظر، ومضى من الليل شطر كبير فلم تعد، ولم يبلغه أحد عنهما شيئا، ولم يقفه ولده على شيء.

أخذ الشك يساوره من كل جانب، ولكنه كان رجلا صبورا فآثر أن يتجلد حتى يطلع عليه الصبح، ويبصر في نوره له طريقا. فلما جاء الصبح نهض وخرج فوجد النضر في انتظاره؛ ليقول له إن امرأتك هربت بابنتها في طريق جدة، فقد شوهدتا في رفقة أعرابي يسير بهما صباح الأمس في طريق الغرب، وأنه أرسل وراءهما رسلا؛ ليتعرفوا أخبارهما، ويمنعوهما من نزول الماء إذا كان في قصدهما السفر إلى مصر، وليعملوا على إعادتهما إلى مكة، والواقع أنه لم يكن قد أرسل أحدا، وإنما تراءى له في الدار بعض من كان أرسلهم ليقتلوا ورقة، فخطر له أن يرسلهم وراءهما فقال ما قال. أما الحارث فقد سمع حديث ولده وجلس خائر القوى على مقعد كان بجواره، وسكت سكوتا طويلا، والنضر لا يسائله. ثم أفاق الحارث من صدمته فترك ولده، ودخل إلى غرفته الخاصة دون أن يكلمه؛ لأنه رأى أن كل ما أصابه حتى الآن من المتاعب والأحزان إنما كان بفعل ولده وجنوحه إلى الشر بفطرته، وأن من العبث أن يكلمه في ذلك.

Bog aan la aqoon