وفيما أنا ذات يوم بباب داري وقد دخل بآمنة، رأيته مارا في الطريق وقد زال عنه ذلك النور الوضاء الذي كان يشع من مسام وجهه، ولحظ أني أتأمله متعجبة لحاله، فابتسم لي وقال مازحا: أنعمي صباحا يا أخية. قلت متجهمة له: نعمت! فأدرك غضبي وضحك، وقال: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضته بالأمس؟ قلت: استجاب الله دعاك فلطف لي؛ لأني أرى وجهك قد فارقه النور الذي دعاني إليك، وإني لأراك اليوم قبيح الوجه كأخيك أبي طالب.
فقهقه الجمع لهذه الخاتمة وهذا الانتقام، وكان أبو طالب أعلاهم في الضحك صوتا، ولما هدأ قال لها: الحمد لله على نجاة أخي منك. كل وليد يكون منك ينطفئ نوره في رحمك يا شيطانة! ثم التفت إلى ميسرة، وقال: عجل واحجمها، وأوغل بمبضعك في فؤادها، وأرح الدنيا من أم قتال.
فنهضت من فراشها إذ ذاك، وتناولت هراوة كانت تعدها بجوار سريرها، وجرت وراء الحاضرين جري السعلاة حتى أخرجتهم من باب الدار، وعادت تشتم وتسب.
الفصل الرابع عشر
فتنة
خرج ورقة بن العفيفة في الخارجين فرارا من هرواة أم قتال، وكان الضحى قد آذن فقال: ما علي لو التمست دار الأرقم التي قال ابن حارثة إن رسول الله يستخفي فيها هو وأصحابه؛ لأبلغه إسلامي، وأصلي معه صلاة الضحى، ثم أنصرف من بعدها على بركة الله إلى هدى! وكان يعلم أن دار الأرقم قريبة من حيث خرج فلم يمتط جواده بل سار آخذا بعنانه وهو مطرق يفكر كيف يلقى رسول الله؟ وماذا يقول له؟ وإذا هو يسمع فيما أمامه بابا يفتح وتطل منه جارية كان في فمها بقية من غنوة تغنيها، فلما عرضت وجهها تنظر هنا وهناك عرف أنه فتنة جارية عبد الله بن جدعان التيمي ابن عم أبي بكر الصديق، وعرفته هي أيضا فعجلت له التحية قبل أن يمر ببابها، ولكنه لم يرد تحيتها وأغمض عنها عينيه؛ لأنه كان يكره تجارتهن، ويمقت رؤيتهن، ويعجب لسادة في قريش أن يرتزقوا من المساعاة في البغي والخنى. فلما صدها بسكوته نزلت عن عتبة دارها واستوقفته؛ إذ قبضت على لجام جواده، وقالت له: أحييك تحية المسلمين ولا تردها؟ قال: لا أردها على غير مسلم ولا على باغية ولو كانت مسلمة! قالت: إن الإسلام والبغي لا يجتمعان. قال: سعدت. قالت: بل ارتددت يا ابن العفيفة. قال: إنما يرتد من كان في فؤاده مرض، وما كانت إذ أسلمت مقلدا أو مجاملا وإن كنت من موالي بيت الرسول، ولكن من أين لك أني أسلمت؟ قالت: صباح اليوم من ابن حارثة. فاتسعت عينا الفتى دهشة لما سمع إذ يكون لزيد بها علاقة. قالت: لا تدهش ما كان ابن محمد
1
ليلقاني، وإنما أنا لقيته اليوم في بيت سيدة قريش أم المؤمنين. فزادت دهشته، ولكنها عجلت فقالت: وعرفت منه ما كان منك بالأمس. قال: أو تذهبين إلى بيت رسول الله! قالت: إنما ذهبت لأنيب إلى الله وأستغفر وأعلن إيماني بالله ونبيه ولو أمر ابن جدعان بجدع أنفي. هنئت يا ورقة بما ظفرت. قال: وهنيئا لك التوبة يا فتنة. قالت: والله إني لأجد الهناءة اليوم في قلبي، وأشعر كأنما صب الله في فؤادي نهلا أبديا ينعشني ويحبب إلي الحياة بعد إذ كنت كرهتها وكرهت نفسي معها، وكأني بعثت اليوم بعثة أخرى، وما فتحت الباب وربك لحاجة ولا لمأرب، ولكني لم أستطع أن أهدأ منذ عدت. أجهدت نفسي في كنس البيت وتنظيفه وملأته شدوا وغناء، فلما لم يبق به شيء يشغلني، ورأيته ضاق في عيني ففتحت الباب لأملأ الدنيا بما يفيض على القلب من السرور. قال ورقة وماذا هداك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما هداني إلا الضلال البعيد. قال وقد ابتسم تعجبا: كيف كان هذا؟ خبريني بربك. قالت: أعداني أولئك المشركون بفرط عداونهم لأحلم خلق الله وصاحبه أبي بكر والمسلمين جميعا فكرهتهم من غير ما سبب أعرفه كرها شديدا إلا اعتيادي سماع ذمهم في رسول الله، وسبهم إياه، وافترائهم عليه أكذب الفرى، ولقد حفظوني كما حفظوا غيري من الجواري شعرا ورجزا نتغنى به في ذم أشرف خلق الله وصحبه، وكنت أغنيهم هذا الشعر فيطربون، ويوصونني أن أذيعه في الناس، وأن أطلقه في وجه محمد وصحبه كلما رأيته مارا من هنا. فأجبت، ولكني لم أفعل ذلك وربي إلا مرة واحدة حين مر علي عبد الله بن مسعود؛ لأني كنت أجد الأغنية تفارقني حين كنت أرى الرسول أو صاحبه الصديق مارين من هنا في طريقهما إلى حيث يستخفيان للصلاة. فكنت أهم بأن أستعيض عنها بقولي لهما: يا صابئين يا كفرة! أنا أعرف أين تختبئون؟ ولكني كنت أستحي من نفسي لهيبتهما ووقارهما فما قلتها بتاتا؛ لأني كنت أرى عليهما نورا وجلالا يتضع في جوارهما كل ما يعرض لي من حال أعداء الله الذين يغشون داري: عقبة بن أبي معيط وأبي سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ... وعشرات من يردون على بيتي ويفخرون بأنهم سادة قريش. فأخذت أسائل نفسي وأقول: محال أن يكون هذان الرجلان على ضلال، وما عرفت عنهما إلا الخير والعفة والوفاء والكبر عن الدنايا، ويكون أولئك الغلاظ الأكباد الحمقى المغرمون بالخمر والفسوق على هدى، ولكني كتمت عجبي، وبقيت على حالتي متظاهرة بمشايعتهم؛ لئلا يوغروا علي صدر مولاي ابن جدعان، فإذا جاء إلي أحد أولئك السفهاء تظاهرت بوده وحييته بكلمة تهكم مفتعل من المؤمنين، وسألته متظاهرة بالزراية عليهم: كيف حال أبناء الله! فيقول: شر حال، إنهم قد اختفوا عن العيون والأبصار، وما لي وحقك رغبة في أن أسمع عنهم إلا الخير، ولقد روى لي عقبة بن ربيعة ما صنع بأبي بكر في المسجد الحرام؛ إذ قام يخطب الناس، والنبي جالس، وقريش تتسمع؛ فتواثبوا عليه، واختص عتبة نفسه بضربه بالنعل محرفا إلى وجهه حتى أدماه، واختلط به أنفه.
2
روى لي عتبة فعله هذا مزدهيا فغضبت لذلك غضبا شديدا، وأخذت أقبح فعله، وأذكر أبا بكر وصاحبه وأتباعه بكلام لا أدري أين كان معينه من نفسي؟ ثم رأيتني أبكي أن يهان الصديق وهو على ما أعلم تقي أسيف؛ إذ ينهض ليهدي الناس، وهو يقول: الله ربي وأنا أعبده، وأقسمت لأزورنه في بيته، وأعلن مقتي لشانئه بإعلان إسلامي بين يديه. ففعلت ذلك ليلة أمس فدعا لي، وذهبت اليوم في الصباح إلى سيدتي خديجة أم المؤمنين فاستنبت مما أنا فيه وإن كان عرفا في القوم لا يشعرون بعاره، وتاب الله علي، ولقد عدت الآن إلى داري فلم أطلق لفرحي بما أنا فيه من نعمة الإسلام أن أبقى بها ففتحت الباب لأكون في سعة الدنيا فإذا أنت أول من ألقى. ما أسعدني برؤيتك وفرحي بإسلامك! ألا تدخل! قال ورقة: لا، وإنما أدع جوادي في حراستك حتى أعود إليك فآخذه، وأمضي إلى هدى. إني ذاهب الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم المخزومي؛ لأصلي معه صلاة الضحى. قالت: حبا وكرامة، ولكن هل تعرفها؟ قال: أجل دلني عليها زيد ليلة الأمس. قالت: إنها بجوار الصفا عن يسارك، ولعلك إذا سرت في هذا الدرب بلغتها بلا عناء. قال: كذلك. شكرا لك ها هو ذا جوادي فاربطيه إن شئت هنا أو فانظري في أمره. ثم ناولها عنانه فأخذته منه، وانصرف إلى دار ابن الأرقم منعطفا في الدرب الذي أشارت إليه.
Bog aan la aqoon