أشفقت أن يصيبها ما أصابه فهلعت ولزمت فراشها، ودعت إليها النضر بن الحارث، وكان عالما بالطب كأبيه، فوصف لها ما عن له من العقاقير، وأكد لها الشفاء العاجل على أثر تعاطيه، وإن لم يتبين عليها شيئا، وإنما فعل ذلك مسايرة لوهمها؛ لتهدأ حتى يزايلها الوهم كله، ولكنها لم تكتف به وهو أكبر طبيب مقيم في مكة، بل أرسلت في طلب كل حجامي البلدة وباعة عطورها؛ لتستشيرهم وتصرفهم، وأرسلت في طلب ورقة بن العفيفة، وقد علمت أنه عاد عرضا إلى مكة، لا لأنه طبيب، بل لأنه متصل بأشياء الطب والأطباء، وماذا عليها لو سألته هو أيضا حتى لا تدع في مكة أحدا له اتصال بالداء والدواء دون أن تعرض عليه أمرها؛ لعله يرى ما لا يرى غيره، ولو كان غير بصير، فقد يكون في علم الجاهل شيء يجهله العالم، وكان عندها إذ ذاك أبو طالب عم رسول الله، دعته لأنه كان أكبر من يبيع العطر في مكة، وأبو طيبة ميسرة الحجام الذي كان يحجم زوج ابنة عمها - محمد بن عبد الله - عند الحاجة. على أن أبا طالب لم يلب دعوتها؛ ليبيعها عطرا، بل جاء على أثر ما خبر من دعواها المرض؛ ليعودها ويعزيها في أخيها، ويقضي معها وقتا يتسلى فيه، فقد كانت من معارفه، وإن شئت فقل من أهله؛ لأنها ابنة عم السيدة خديجة، ولأنها أخت ورقة بن نوفل، ومن سيدات قريش، وكانت معروفة فيهم بالجراءة والصراحة، وبالخفة وكثرة المازح بلا تورع، ولا سيما بعدما أسنت، وبأنها أخذت بشيء جديد في أيامها الأخيرة، ذلك هو الخوف من الموت، وادعاء المرض لأهون سبب، ونفورها من مجامع الأحزان، وشهود الباكين والباكيات؛ ولذلك سرها أن سمعت السيدة فاطمة ابنة الخطاب تنهى النسوة ضحى الأمس عن العويل على أخيها، بل زادت على ذلك قولها بصوت خافت: بل كان أخي - رحمه الله - يكره أن يحزن عليه أحد، وأوصاني بذلك خاصة، فلم يتمالك من سمعتها من الضحك؛ لأنهن كن يعرفن شدة بغضها للأحزان، وخوفها على نفسها من الشجو، ولولا أن جاء الرجال وقتئذ فأخذوا الميت ليغسلوه لانقلب المأتم مضحكة.
كان أبو طالب إذ ذاك واقفا بجوار سريرها، ومنحنيا عليها قليلا يمسح جبينها بشيء مما كان معه من عطر اليمن الجيد، وهو يكتم ضحكة في صدره؛ لأنه لم يجد بها شيئا غير عادي، وإنما كان هو أيضا يحب التبسط، وكأنها أدركت أنه يضحك منها؛ إذ رأت اضطراب بطنه، فأخذت ترمقه وهو مشغول عنها بالنظر في الفضاء، وأحس بريق عينيها تحت لحيته فالتفت صوبها، وأغمضت عينيها على الفور، كأنها لا تريد أن يعرف أنها كانت تتفحصه، أو أنها لا تريد أن تراه. فانفجر ضاحكا وهو يقول: والله ما بك شيء يا ابنة عم، وإنما هو بعض وهمك الذي اعتدناه، وستعيشين في هذه الدنيا حتى تحضري مآتم قريش جميعا، فاستمرت في إغماضها، ولكنها ردت عليه تقول: لا لن أحضر مأتم أحد بعد يومي. سأبكيكم كلكم إن شاء الله وأنا هنا في داري. إن حضور المآتم يؤذي القلب. قال: أجل ويغضن الوجه، ويسود البشرة، ويقفل العين، وإن ترك اللسان يلعب كالأفعوان. قال ذلك وتذكر كيف كانت هذه المرأة الشوهاء اليوم فتنة للعيون والأبصار في شبابها، ولكنه أراد أن يثأر لنفسه من إرادة السوء التي أرادتها له ولغيره من قريش وهي مطمئنة مبتهجة، كأن موتهم وحياتها من بعدهم أمر واقع، وقد أرادت أن تنتقم منه على تذكيرها بما هي فيه الآن فقالت: وددت لو كان أخوك عبد الله هو الواقف أمامي الآن لا أنت، وأن محمدا ولدي، ولكنه تعفف لا ردء الله. فضحك أبو طالب ملء شدقيه لامتلاء قلبها بالحقد على أخيه حتى بعد ما مضى على وفاته أربعون عاما وتزيد، وتذكر قصتها معه وهيامها به، وكيف أن عبد الله خيب أملها منه. فقال لها: بربك يا أم قتال، إلا ما خبرتني قصتك مع أخي! فلم ترد لأنها كانت تفكر في عبد الله آخر إذ ذاك، فأعاد عليها الرجاء. فقالت: إن النضر بن الحارث أمرني ألا أتكلم كثيرا. قال: لعله إنما أراد أن يريح الناس من نقيقك يوما أو بعض يوم. قالت: هو ذاك وربي. إنك لتقول حقا يا أبا عقيل، فهو كما علمت ابن الوهبية أخت ضرتي آمنة. قال أبو طالب! ضرتك! بالله حدثينا لماذا ترينها ضرتك وما تزوجت من أخي عليك؟ قالت: هو حديث طويل. قال: لا عليك. هاتيه. فإني والله أشتاق أن أسمعه من فمك أنت، وأعرف ما لم يكن في مقدور أحد أن يعرفه؛ لأنه خاص بك. قالت: هو ذاك فاجلس، ولكن حذار أن تعيبني، أو تجمد بعد سماعه كما جمدت لابنه محمد. قال: هاتيه، ولا تتهميني بما لا تعلمين. حسبي من إقراري بمحمد أنني أحميه وأمنعه، وأغضب كل الدنيا في إرضائه، وأرضى أن يتبعه ولدي، وهو فلذة كبدي، ولكن للشيوخ حكمة لا يعرفها الفتيان ولا النساء. قالت: أريد أن أعرف هذه الحكمة قبل أن أتكلم وإلا سكت. قال ألا تمضين في حديث أبدا إنك لمغرمة بالمداورة. قالت: هات حكمتك وإلا لعنتك. قال: اعلمي يا بنية أني أمنع محمدا من أذى قريش وكفرها، بفضل ما يزعمون من أني لا أزال كافرا مثلهم، فلي عندهم اليوم حق، ولي عليهم كرامة. أما إذا علموا أني انضويت تحت لواء محمد فإنهم يسقطون حقي، ويمنعون كرامتي، وعندئذ ينالون من ابن أخي ومني معا ما لا قبل لأحد منا بدفعه. قالت: لست شيخا يا أبا طالب. أنت شيطان. فهذه حكمة الشياطين. فقهقه أبو طالب وقهقه الحجام وابتسم ورقة، وقال أبو طالب: وفيت لك بما أردت فحدثينا. فقالت: إنك لتعلم أن أباك كان قد نذر لله إن رزقه أولادا وتمت عدتهم عشرة يعيشون حتى يحموه، أن يذبح واحدا منهم. قال: نعم. قالت: وتعلم أنه أحضركم جميعا إلى الكعبة وأدخلكم إلى هبل عند البئر التي تجمع فيها ما يهدى إلى الكعبة، وأعلن نذره لصاحب القداح ليضربها عليكم فأيكم خرج عليه القدح كان ذبيحه. قال: نعم، فخرج القدح على عبد الله. قالت: نعم، وكنت أحب عبد الله لجماله وبهجته، وأشتهي أن يكون زوجي، ولكن لا حيلة للمرأة في ذلك فهي في شرعكم؛ سلعة تبقى في الحانوت ساكنة حتى يأتي الشاري يقلبها، فإما اشتراها أو ألقاها. قال أبو طالب: ولنعم الشرع شرعنا إذ يقينا شهوات النساء وتقليبهن لنا. ثم ماذا حدث لك. قالت: بكيت حزنا على شبابه؛ لأني كنت أعلم أن أباك على دينه وتقواه أحمق أبله. قال أبو طالب: لماذا؟ قالت: إنه أراد أن يقلد أباه إبراهيم صاحب البيت، ولكن إبراهيم كان يتلقى وحي ربه بالرؤيا؛ إذ أمره أن يذبح إسماعيل، أما أبوك فيتلقى الوحي من قداح يلقيها رجل مثله، وماذا عليه لو استغفر ربه، واعتذر إليه من ترك نذره، وقال له: إنه لا يطيق قتل أحد من أولاده؟ أربه قاسي القلب مثله؟ قال: دعينا من هذا الكلام وأتمي الحديث. قالت: أما وربي لو كنت أعطيته ألف وعد في ذلك لكذبته وأنا مطمئنة! فقهقه الجمع قهقهة جمعت عليهم أهل الدار، ولكن أم قتال انتهرتهم فانصرفوا ليسمعوا من وراء الجدران. قال أبو طالب: يا للجراءة! قالت: فلما حزنت قريش لما اعتزم واستفتوا صاحب هبل هل يقبل الدية؟ وخرجت القداح بقبول الإله مئة من الإبل، واستعد أبوك بالمئة، عزمت على أن أخرج لأراه يسوقها؛ لتنحر عند منحر آساف،
1
وأشهد هذا المشهد الرائع المروع. يا لله! يسيلون دماء مائة من الإبل في ساعة واحدة، من أجل وهم من أوهام الشيوخ والمجانين! ما أشد حمق الناس وظلمهم للحيوان! قال أبو طالب: سألتك بالله أن تتمي الحديث. أأنتم كلكم صخابون خارجون على الناس في كل شيء! قالت: لعن الله السفهاء! عزمت أن أخرج لأرى ذلك المشهد، ولأشهد عبد الله، فقد كان الحتم أن يكون في الذاهبين، وكان أخي وصاحبه ابن نفيل قد اجتمعا في بيتنا صباح ذلك اليوم، وجرى بينهما ذكر هذه الأمة، وتنكرها لأبيها إبراهيم؛ إذ أعادوا الأوثان التي هدمها وجعلوها فوق بيته، ويعجبان لماذا لا يعجل الله بإرسال نبيه الذي ورد ذكره في التوراة والإنجيل، وما عرف من الأحبار والرهبان أنه كائن في قريش، ومن بني هاشم عينا.
فلما سمعت هذا الكلام لم أتورع من الدخول عليهما، وكنت قد عرضت كل بني هاشم فلم أجد فيكم أجمل ولا أبهج من أخيك عبد الله، وخيل إلي حبي له أنه هو النبي المنتظر، فأنشأت أخبرهما خبره، ودللت عليه بما أرى في وجهه من النور وما أعرف من أدبه وحيائه، فما سمعا مني هذا الكلام حتى رأيت ابن نفيل ينهض ويقول لي: واغوثاه! إن كان ما تقولين حقا يا بنية، فهو أبو النبي لا النبي نفسه، وما هذا النور الذي ترين إلا ولده امتلأ به دمه، فهو نور حتى يقر في أحشاء من يسعدها الله بأمومته ويولد نورا للعالمين، واحسرتاه أأعيش حتى أراه وأومن به، وأظفر بشفاعته يوم القايمة! من لي بأن أعيش ما عشت؟ تعالي معنا يا بنية أريني إياه، فلا عهد لي به من قبل.
أخذني هو وأخي، وسرنا لنشهد نحر الإبل فشاهدنا أخاك، وهو يسير بينكم كالبدر، يلقي نوره عليكم فتنكسفون جميعا به، وهذا من فضل الله عليكم ذلك اليوم؛ لأن وجوهكم لم تكن مما يشرف أبا ولا أما وإن كان أبوكم زهرة الشيوخ، وإذ شاهد ابن نفيل نور جبينه هو وأخي، أقرا أنه هو ولا مراء، وقالا: هذا نور النبوة! هذا أحمد الذي وعد الله ببعثه! وإذ علمت أنهما قد مالا إلى العودة إلى الدار، وما كنت أريد ذلك، انسللت من موقفهما، وجست خلال المجتمعين واختفيت؛ لأني كنت أريد أن أملأ عيني من أخيك، وأتمتع بالنظر إلى نور محياه.
كنت يومئذ في العشرين من عمري أو أزيد قليلا، وهو في الثالثة أو الرابعة والعشرين، وكنت قد سمعت من حولي من نساء مكة يقلن إن أباه ذاهب به بعد النحر إلى حي بني زهرة؛ ليخطب عليه آمنة بنت وهب، فملكتني غيرة ما أظن في النساء من ملكتها مثلها. كنت أحبه وأشتهيه زوجا وهو الآن يذهب إلى غيري، وكنت أشتهي أن يكون نبي الأمة مني، وها هو ذا ذاهب يحدوه أمر الله؛ ليكون نبي هذا الأمة من غيري، فاستبحت لهذا الفوز الأعظم أن أعترض طريقه وأدعوه لنفسي، ولم يكن يخطر لي أن لن يكون نبيه من نحو ما خيل إلي، ولكني لقيته على كل حال، ولا أدري كيف لقيته، إذ كنا في جوار البيت الحرام، فقلت له: هل لك يا فتى في أن ألقاك، ولك مني مثل ما نحر أبوك.
2
قال وقد رأى ذلة نفسي، وما علاني من الخجل للحديث معه في مثل هذا الريب، ولم يشأ أن يقتلني برفضه: إن أبي معي لا أستطيع فراقه ولا خلافه. عودي إلى دارك وليلطف بك ربك.
ولكني لم أعد، بل ذهبت إلى حي بني زهرة في بعض نسوة أعرفهن، ووقفت لأراه عائدا من عندهم بعد الخطبة، حتى يكون وحده فأغريه مرة أخرى قبل أن يدخل بآمنة وينتقل إليها نوره، ولكني استحييت من نفسي فعدت إلى الدار.
Bog aan la aqoon