23
مارة في أسواق الخضر والفاكهة تتخللها دكاكين القصابين والجدالين باعة الدجاج والطير، والبدالين، مخترقة أحياء الصناعة والتجارة التي كانت تصدر إلى جميع بلاد الشرق القريب والحبشة وبلاد الروم والرومان: صناعة الثياب الكتانية والحريرية المزخرفة بالألوان، وبأسماط الذهب والفضة التي امتازت بها الإسكندرية أبد قرون، وصناعة البسط المصورة والأستار والنمارق، وأواني الزجاج المزخرف والملون، والخزف المتقن، والنجارة والحدادة، والنحت والحفر، وصياغة الذهب والفضة والنحاس، وتقليد الجواهر من الزجاج والبلور. كل ذلك كانت عامرة به أسواق رقودة. بعضها مما يصنع في ذلك الحي العظيم الذي يشغل نصف المدينة العامرة، وبعضه وارد إليه من بلاد القطر في شمالي مصر أو صعيدها، ومن ثم كانت الإسكندرية أعظم بلاد العالم وأغناها وأروعها. بل كانت المثل الأعلى في النظام والمدنية والحضارة.
23
لم يطل سير العربة بين ميناء الخليج والدرب الذي سمته هيلانة لسائقها، فقد كان في غربي السرابيوم بجوار كنيسة الأنجيلون على غير بعد كبير من الجسر، ولكنها اخترقت بهما حي رقودة، فكانت نظرات ورقة على جانبي الشوارع وتأمله ما فيها، وما تعرضه المتاجر من مبيعاتها كافيا؛ لتبصيره بما هنالك. على أنها ما انعطفت بهما في شارع الإنجيلون حتى قالت هيلانة: ها هو ذا بيت أبي، وأشارت إلى حديقة مسورة ذات أشجار مختلفة الطول تزين فيما بعدها صدر بيت ذي طبقتين، ضخم البناء على صغره، مزين النواصي بالنقوش والحلي، وبدرج من الرخام الأبيض يصعد عليه إلى باب جميل الصنع، كأنه بعض أبواب الكنائس إلا أنه صغير. هناك وقف السائق وترجل؛ ليقرع باب الحديقة، فقد كان على غير عادته مقفلا، وكان منظر كل شيء يدل على خلو المكان من الناس.
ولشد ما كانت دهشة هيلانة إذ لم يجب قرع الباب أحد فلا حارس البستان أجاب، ولا تنبه أحد من خدم البيت إلى القادمين. على أن الوقت كان بعد الظهر من كيهك أي في شتاء مصر الحقيقي، فلا حر ولا فتور حتى يكون الخدم نائمين، وفيما هي في حيرتها أقبل عليها بعض أهل الحي يخبرنها أن والدها سافر منذ شهرين إلى منف إجابة لدعوة جرجيس واليها؛ ليعوده في مرض انتابه، وأنه أرسل منذ أيام مجاوره بطرس البحريني فأخذ حملا من أضابيره ومجلداته وعاد إليه.
لم تجد هيلانة بدا بعد هذا من أن تقصد إلى القصر، فأمرت سائق العربة أن يذهب إلى البروكيوم وينزلها عند الباب الخلفي الجنوبي من القصر، فعادت بها العربة إلى شارع كانوب، وانحدرت بها إلى حي الإمارة، ومنه إلى القصر مشرفة في سيرها على البحر من وراء السور القائم على الشاطئ، ومسمعة ورقة هدير أمواجه وزمجرتها في مناطحة اليابسة وارتدادها عنه خائبة خاسرة، وهي مع ذلك لا تفقد الأمل في الغلبة فهي ترتد؛ لتجتمع بأتي من أخواتها وتعاود الكر عليه في أمل لا يفنى حتى تفنى اليابسة وتردها إلى القاع كما كانت.
لم يجد ورقة للبحر من شبيه في روعته وجلاله إلا ما رأى في بلاده من مهامه البيداء. هي بحر من رمال وهو صحراء من أمواه. ما إن يحاول الإنسان اكتناه ما وراء ملقى النظر حتى تحجبه عن العين قبة تنزل خاصة من السماء؛ لتحد بصره، وتقول له بلسان التعجيز: حسبك من أمر البحر ما ترى؛ سفائن كالبيوت المشيدة لن تكون أثبت من الخيام في الصحراء يعمرها من أهل البر عتاة يكونون من رهبة البحر كالحملان.
ثم دار بصره مع الأفق فإذا هو يرى جسر الهبتستاد الذي وصل به البطالسة بين أرض رقودة وجزيرة فاروس، ثم طرح البحر من سديمة على جانبيه فقسم الميناء جفنتين شرقية وغربية، وقامت المنارة على ناصية الجزيرة تهدي السفائن الحائرة إلى بر السلام.
هناك أمكنه أن يرى المنارة، إذ كانت العربة مجدة بهما نحو القصر ومنعطفة قليلا في مواجهتها. فإذا هي بناء عظيم جدا مؤلف من ثلاث طبقات؛ الأولى
24
Bog aan la aqoon