قال سامي العجوز: «كان لي سادة عديدون في حياتي. كان أسوأهم السيد الكولونيل ويمبول، الذي اعتاد أن يجعل جنديه يشد وثاقي محنيا على المنضدة بينما يأتي هو جريا من ورائي ويركلني بحذائه العالي الرقبة الغليظ جدا لتقديمي فطائر الموز كثيرا. وفي أحيان أخرى، وهو ثمل، كان يطلق النار من مسدسه مخترقا سقف حجرات الخدم، فوق رءوسنا مباشرة. لكنني على أتم استعداد لخدمة السيد الكولونيل ويمبول عشر سنوات على أن أخدم سيدة أوروبية لأسبوع بكل إلحاحها. فإذا تزوج سيدنا سوف أرحل في نفس اليوم.» «أما أنا فلن أرحل، فقد ظللت خادمه خمسة عشر عاما. لكنني أعلم ما ينتظرنا حين تأتي تلك السيدة. ستصيح فينا لوجود ذرات غبار على الأثاث، وتوقظنا لإحضار فناجين الشاي في العصاري حين ننام، وتأتي مقتحمة المطبخ كل ساعة لتتذمر من القدور المتسخة ووجود صراصير في صفيحة الدقيق. لدي اعتقاد أن هؤلاء النساء يبقين مستيقظات ليلا يفكرن في طرق جديدة لتعذيب خدمهن.»
قال سامي: «إنهن يحتفظن بكتاب أحمر صغير يدون فيه مصروفات السوق، آنتان لهذا، وأربع آنات لذاك، فلا يستطيع الرجل أن يكسب بيسة واحدة. إن الضجة التي يثرنها على سعر بصلة أكثر مما قد يثيرها سيد على خمس روبيات.» «آه، إنني أدرى بذلك! سوف تكون أسوأ من ما هلا ماي.» ثم أضاف إضافة شاملة، بشبه تنهيدة: «النساء!»
ورد الآخرون صدى تنهيدته، حتى ما بو وما يي. إذ لم تعتبر أي منهما ملاحظات كو سلا نقدا لجنسهما، فالنساء الإنجليزيات كن يعتبرن جنسا آخر، ربما ليس بشريا حتى، ومريعا جدا حتى إن زواج الرجل الإنجليزي دائما ما يكون إشارة لفرار كل خادم في منزله، حتى من ظلوا معه طيلة سنوات.
الفصل العاشر
لكن في الواقع كان انزعاج كو سلا سابقا لأوانه. إذ بعد عشرة أيام من التعارف، بالكاد صار فلوري أكثر قربا من إليزابيث، عن أول يوم التقى بها فيه.
فقد شاءت الظروف أن ينفرد بها خلال هذه الأيام العشرة، لوجود أغلب الأوروبيين في الغابة. فلوري نفسه لم يكن من حقه أن يقبع في المقر؛ إذ كانت أعمال جلب الأخشاب تجري على قدم وساق في هذا الوقت من العام، وفي غيابه انهار كل شيء تحت إمرة المراقب الأوراسي غير الكفء. لكنه كان قد مكث - بحجة إصابته بحمى خفيفة - بينما راحت تأتيه من المشرف خطابات يائسة كل يوم تقريبا، تحكي عن كوارث. إذ مرض أحد الأفيال، وتعطل محرك القطار المستخدم في نقل جذوع الساج إلى النهر، ورحل خمسة عشر فردا من العمال. لكن ظل فلوري باقيا، غير قادر على انتزاع نفسه من كياوكتادا بينما إليزابيث ما زالت هناك، ساعيا باستمرار - من دون فائدة كبيرة حتى الآن - أن يستعيد تلك الصداقة السلسة والممتعة التي كانت في لقائهما الأول.
كانا يلتقيان كل يوم، صباحا ومساء، هذا صحيح. كانا يلعبان مباراة تنس فردية في النادي كل مساء - إذ كانت السيدة لاكرستين في حالة بالغة من الارتخاء وكان السيد لاكرستين معتل المزاج بشدة بما لا يسمح بلعب التنس في هذا الوقت من العام - وكانوا بعد ذلك يجلسون في قاعة الجلوس، الأربعة معا، يلعبون البريدج ويتحدثون. لكن رغم أن فلوري أمضى ساعات في صحبة إليزابيث، وكثيرا ما كانا معا بمفردهما، فهو لم يشعر للحظة بأنه على راحته معها قط. كانا يتحدثان - ما داما يتحدثان في أمور تافهة - بأقصى درجة من الحرية، لكنهما كانا متنائيين مثل اثنين من الغرباء. كان يساوره شعور بالانقباض في وجودها؛ إذ لم يستطع أن ينسى وحمته؛ كان ذقنه يؤلمه من حلاقته مرتين يوميا، وجسده يتعذب من لهفته على الويسكي والتبغ - فقد كان يحاول التقليل من الشرب والتدخين وهو معها. وبعد عشرة أيام، بدا أنهما لم يقتربا أكثر من العلاقة التي أرادها.
إذ إنه بطريقة ما، لم يستطع قط أن يتحدث معها كما كان يتوق أن يتحدث. أن يتحدث، يتحدث فحسب! يبدو الأمر بسيطا جدا، لكن كم هو عظيم! حين تظل حتى يوشك عمرك أن ينتصف تعيش في وحدة مؤلمة، بين ناس يرون رأيك الحقيقي في كل موضوع على وجه البسيطة تجديفا، تكون الحاجة للحديث هي الأعظم بين كل حاجاتك. بيد أن الحديث الجاد مع إليزابيث بدا شيئا مستحيلا. كانا كمن سحر لهما أن يتمخض كل حديث بينهما عن أمر تافه؛ تسجيلات الجرامافون، الكلاب، مضارب التنس؛ كل تلك الثرثرة التي تجري بها الألسنة في النادي لتخلق فيه شعورا بالوحدة. بدا أنها لا تريد الكلام عن أي شيء سوى ذلك. كان لا يكاد يقترب من موضوع ذي أي أهمية ملموسة حتى يسمع صوتها تغشاه نبرة تهرب، كأنها تقول «لن ألعب». كما صدمه ذوقها في الكتب حين اكتشفه. لكنه ذكر نفسه بأنها صغيرة، وأنها احتست النبيذ الأبيض وتحدثت عن مارسيل بروست تحت أشجار الدلب في باريس، أليس كذلك؟ سوف تفهمه فيما بعد لا شك وتعطيه الصحبة التي يحتاجها. ربما ليس السبب سوى أنه لم يفز بثقتها بعد.
وكان هو بعيدا كل البعد عن الكياسة معها. إذ كان شأنه شأن كل الرجال الذين عاشوا كثيرا بمفردهم، يكيف نفسه مع الأفكار لا مع الناس. ومن ثم، مع أن كل حديثهما كان سطحيا، فقد بدأت تنزعج منه أحيانا؛ ليس مما يقوله وإنما مما كان يوحي به. نشأ بينهما حرج، غير واضح معالمه لكنه كثيرا ما كان يوشك على شجار. حين تجمع الظروف بين شخصين، أحدهما عاش في البلد طويلا والآخر وافد جديد، يتحتم على الأول أن يتصرف بصفته مرشدا سياحيا للثاني. وكانت إليزابيث، خلال هذه الأيام، تتعرف لأول مرة على بورما؛ فكان فلوري بطبيعة الحال من يقوم بدور المترجم لها، ليفسر هذا ويعلق على ذلك. وكانت الأشياء التي يقولها، أو طريقته في قولها، تثير فيها اعتراضا مبهما لكن عميقا. فقد لاحظت أن فلوري، حين يتحدث عن «أهل البلد»، يكاد يتحدث دائما في صالحهم. كان دوما يمدح العادات البورمية والشخصية البورمية؛ بل بلغ به الأمر أيضا أن ينحاز لهم عند مقارنتهم بالإنجليز. كان هذا مما أزعجها . فمهما يكن من أمر، أهل البلد هم أهل البلد؛ مثيرون للاهتمام، بلا شك، لكنهم في النهاية مجرد شعب «تابع»، شعب وضيع بوجوه سوداء. وقد كان سلوكه وتوجهه مفرطا في التسامح بعض الشيء. كما أنه لم يكن قد أدرك بعد كيف كان يستثير عداءها. إذ أراد بشدة أن تحب بورما، كما أحبها، لا أن تنظر إليها بعينين كليلتين غافلتين شأن أي سيدة أوروبية في الهند! كان قد نسي أن أغلب الناس لا يشعرون بالراحة في بلد أجنبي إلا وهم يزدرون السكان.
كان متحمسا في محاولاته لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية. فحاول على سبيل المثال تشجيعها على تعلم اللغة البورمية، لكن لم يثمر هذا شيئا. (إذ كانت زوجة عمها قد أوضحت لها أن المبشرات وحدهن يتحدثن البورمية؛ النساء الرقيقات يجدن أقصى غايتهن في مفردات المطبخ الأردية.) نشأت بينهما خلافات صغيرة لا تحصى على غرار ذلك. راحت تدرك على نحو مبهم، أن وجهات نظره لا يجوز أن تكون لدى رجل إنجليزي. وأدركت بوضوح أكثر أنه يطلب منها أن تحب البورميين، بل وأن تحترمهم؛ تحترم ناسا بوجوه سوداء، يكادون يكونون وحوشا، ما زال مظهرهم يبعث فيها القشعريرة.
Bog aan la aqoon