الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Bog aan la aqoon
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
Bog aan la aqoon
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
Bog aan la aqoon
أيام في بورما
أيام في بورما
تأليف
جورج أورويل
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
الفصل الأول
كان يو بو كين، قاضي مركز كياوكتادا، في بورما العليا، جالسا في شرفته. لم تكن الساعة قد تعدت الثامنة والنصف، لكنه كان شهر أبريل، وكان الهواء مكتوما منذرا بساعات طويلة من الجو الخانق إبان الظهيرة. بين الفينة والأخرى كانت تهب نسمات رقيقة، بدت باردة خلافا للجو، فتهز زهور الأوركيد المروية حديثا التي تدلت من الإفريز. يبدو للرائي من وراء الأوركيد جذع نخلة مغبر ومقوس، ثم السماء اللازوردية المنيرة. وفي الأفق، على مستوى شديد الارتفاع حتى ليصيب الرائي الدوار عند النظر إليها، دارت بضعة نسور دون أن يهتز لها جناح.
Bog aan la aqoon
راح يو بو كين يحدق في ضوء الشمس الشديد، من دون أن يطرف له جفن، كأنه تمثال ضخم من البورسلين. كان رجلا في الخمسين من عمره، سمينا للغاية حتى إنه لم ينهض من كرسيه دون مساعدة منذ سنوات، لكنه بدا متناسق القوام وحسن الهيئة في جسامته؛ فالبورميون لا يترهلون وينتفخون مثل الرجال البيض، وإنما يسمنون بتناسب، مثل الفاكهة حين تنضج. وكان وجهه عريضا وأصفر وخاليا تماما من التجاعيد، وكانت عيناه عسليتين. أما قدماه الغليظتان ذاتا القوسين المرتفعين والأصابع المتساوية الطول فكانتا حافيتين، وكذلك كان رأسه الحليق حاسرا، وقد ارتدى أحد تلك الأزر الآراكانية الزاهية ذات المربعات الخضراء والأرجوانية التي يرتديها البورميون في المناسبات غير الرسمية. كان يمضغ نبات التانبول من عبوة مدهونة بالورنيش على المنضدة بينما يتأمل حياته الماضية.
كانت حياة ناجحة متألقة. تعود أقدم ذكريات يو بو كين إلى الثمانينيات حين كان طفلا بكرش بارز عاريا واقفا يشاهد القوات البريطانية وهي تزحف إلى ماندالاي منتصرة. تذكر ما اكتنفه من رعب من تلك الصفوف من الرجال الضخام المتغذين على لحوم الأبقار، بوجوههم الحمراء وستراتهم الحمراء؛ والبنادق الطويلة فوق مناكبهم، والوقع الثقيل المتواتر لأحذيتهم ذات الرقاب العالية. كان قد أطلق ساقيه للريح بعد مشاهدتهم بضع دقائق، فقد أدرك بمخيلته الطفولية أن شعبه ليس كفئا لتلك السلالة من العمالقة. وهكذا سيطر عليه منذ طفولته طموح الانضمام إلى صف البريطانيين وأن يصير كائنا متطفلا عليهم.
في سن السابعة عشرة حاول الالتحاق بوظيفة حكومية، لكنه فشل في الحصول عليها، لكونه فقيرا وبلا صديق، وظل يعمل ثلاث سنوات في المتاهة النتنة لبازارات ماندالاي، كاتبا لتجار الأرز وسارقا أحيانا. وهو في العشرين جعلته ضربة حظ في عملية ابتزاز يمتلك أربعمائة روبية، فذهب في الحال إلى رانجون وسلك طريقه إلى وظيفة كاتب في الحكومة بالرشوة. وكانت الوظيفة مجزية رغم أن مرتبها كان زهيدا؛ في ذلك الوقت كانت دائرة الكتبة تكسب دخلا ثابتا عن طريق الاختلاس من مخازن الحكومة، وقد ألف بو كين تلقائيا هذا الأمر (كان حينذاك بو كين فحسب؛ إذ جاء لقب التعظيم، يو، بعد ذلك بسنوات). بيد أن موهبته كانت أكبر من أن يقضي حياته كاتبا، يسرق بائسا الآنات والبيسات. وذات يوم اكتشف أن الحكومة لديها قصور في صغار الموظفين، ولذلك ستجري بعض التعيينات من الكتبة. كان الخبر سيذاع بعد أسبوع، لكن من صفات بو كين المميزة أن المعلومات تصل إليه قبل أي شخص آخر بأسبوع. وفي الحال رأى فرصته وبلغ عن كل المتواطئين معه قبل أن يتنبهوا. أرسل أغلبهم إلى السجن، وجعل بو كين موظفا مساعدا لشئون البلدة مكافأة على أمانته، واستمر ترقيه منذ ذلك الحين. وهو الآن في السادسة والخمسين، قاضي مركز، ومن المحتمل أن يرقى أكثر من ذلك ويصير نائب المفوض بالوكالة، فيصير ندا لرجال الإنجليز بل قد يصيرون دونه.
وكانت أساليبه في عمله قاضيا بسيطة. فلم يكن يبيع الحكم في قضية ولو لأعلى الرشاوى؛ لأنه كان يعلم أن القاضي الذي يصدر أحكاما خاطئة يقبض عليه عاجلا أو آجلا. فكان يتبع أسلوبا آمنا كثيرا، بأن يأخذ رشاوى من الطرفين، ثم يصدر حكمه بناء على أسس قانونية صارمة. وقد أكسبه هذا صيتا محمودا بكونه نزيها. وإلى جانب أرباحه من المتقاضين، فرض يو بو كين جزية مستمرة، فيما يشبه نظام ضرائب خاصا، على كل القرى الخاضعة لسلطته. وحين كانت أي قرية تتخلف عن الوفاء بجزيتها كان يو بو كين يتخذ إجراءات تأديبية؛ بأن تهاجم عصابات من المجرمين القرية، ويلقى القبض على زعماء القرية بتهم باطلة، وهكذا دواليك؛ فكان سريعا ما يسدد المبلغ. كما أنه كان يتقاسم مكاسب السرقات الكبرى التي تقع في منطقته. وكان أغلب هذه الأشياء معروفا للجميع ما عدا رؤساء يو بو كين (إذ لا يوجد بين المسئولين البريطانيين من يصدق أي شيء ضد رجاله على الإطلاق) لكن دائما ما كانت المحاولات لفضحه تبوء بالفشل؛ فقد كان أنصاره، الذين ظلوا أوفياء لحصتهم في الغنيمة، كثيرين جدا. حين كان يوجه أي اتهام إلى يو بو كين، ما كان عليه سوى دحضه بصفوف من الشهود الزور، متبعا ذلك باتهامات مضادة تخلفه في وضع أقوى من ذي قبل. وعلى ذلك كاد أن يكون حصينا؛ لأنه كان شديد الدقة في حكمه على الرجال، فلا يخطئ في اختيار أدواته، وكذلك لأنه كان شديد الانهماك في الحيل فلا يفوته شيء قط إهمالا أو جهلا. كان من الممكن القول بيقين شبه تام بأنه لن يكشف أبدا، وأنه سيمضي من نجاح إلى نجاح ، وأنه سوف يموت أخيرا ملؤه الشرف، بثروة تقدر بمئات آلاف الروبيات.
وحتى بعد وفاته سيظل فلاحه متصلا. تفيد العقيدة البوذية بأن أولئك الذي ارتكبوا إثما في حياتهم ستحل روحهم في البعث التالي في جسد فأر أو ضفدع أو حيوان وضيع آخر. وكان يو بو كين بوذيا صالحا وانتوى أن يتلافى هذا الخطر. فكان سيكرس سنواته الأخيرة لأعمال الخير التي ستحشد له حسنات كافية لترجح كفتها على باقي حياته. ربما ستأخذ أعماله الطيبة صورة بناء معابد بوذية؛ أربعة، خمسة، ستة معابد - سيخبره الكهنة بالعدد - بمنحوتات حجرية ومظلات مطلية بالذهب وأجراس ترن مع الريح، وفي كل رنة صلاة. وبهذا سوف يعود إلى الأرض في هيئة ذكر من البشر - فالنساء في نفس المستوى تقريبا مع الفئران والضفادع - أو في أفضل الظروف في هيئة حيوان مبجل كالفيل مثلا.
تدفقت كل هذه الأفكار سريعا في ذهن يو بو كين وبالصور في أغلب الأحيان. كان عقله ذكيا لكن بدائيا تماما، فلم يعمل إلا من أجل غاية محددة؛ أما التأمل المحض فكان أمره عسيرا عليه. كان في ذلك الوقت قد وصل إلى النقطة التي كانت أفكاره متجهة إليها. وضع يديه الصغيرتين بعض الشيء المثلثتي الشكل على ذراعي مقعده، واستدار إلى الخلف قليلا ونادى بصوت به أزيز: «با تايك! يا با تايك!»
ظهر با تايك، خادم يو بو كين، من خلال ستار الخرز الخاص بالشرفة، وكان رجلا ضئيل الحجم مجدورا ترتسم على وجهه أمارات الجبن وشيء من الجوع. لم يكن يو بو كين يدفع له أجرا، فقد كان لصا مدانا يمكنه بكلمة منه أن يرسله إلى السجن. تقدم با تايك وهو يضم يديه جاثيا على ركبتيه، وقد هبط بشدة حتى إنه أعطى الانطباع بأنه كان راجعا إلى الوراء.
قال با تايك: «سيدي المعظم.» «هل هناك أحد منتظر ليقابلني يا با تايك؟»
عد با تايك الزوار على أصابعه قائلا: «هناك زعيم قرية تيبينجي الذي جاء بهدايا يا سيادة القاضي؛ واثنان من القرويين لديهما قضية اعتداء ستحكم فيها سيادتك، وقد جاءا بهدايا أيضا؛ وكو با سين، رئيس الكتبة في مكتب نائب المفوض يود أن يرى سيادتك؛ وهناك علي شاه، رجل الشرطة، ورجل عصابة لا أعرف اسمه. أعتقد أنهما تعاركا بشأن بعض الأساور الذهبية التي سرقاها؛ وهناك أيضا فتاة من القرية معها طفل.»
سأله يو بو كين: «ماذا تريد؟» «تقول إن الطفل ابنك يا سيدي المعظم.» «حسنا، وكم أحضر زعيم القرية؟»
Bog aan la aqoon
اعتقد با تايك أنها عشر روبيات وسلة مانجو فقط.
قال يو بو كين: «أخبر الزعيم أن المبلغ لا بد أن يكون عشرين روبية، وأن المشاكل ستلحق به وبقريته إن لم يصبح المال هنا غدا. سوف أرى الباقين في الحال. أخبر كو با سين بأن يأتي لي هنا.»
ظهر كو با سين في غضون لحظة. كان رجلا منتصب القامة، ضيق المنكبين، طويلا جدا بالنسبة إلى شخص بورمي، ذا وجه ناعم بشكل غريب يذكرك بالمهلبية بالقهوة. كان يو بو كين يجده أداة مفيدة، فقد كان يفتقر إلى الخيال ويعمل بجد، مما جعله كاتبا ممتازا، وكان السيد ماكجريجور، نائب المفوض يعهد إليه بأغلب أسراره الرسمية. كانت أفكار يو بو كين قد جعلته رائق المزاج فحيا با سين بضحكة وأشار إلى صندوق التانبول. «حسنا يا كو با سين، كيف صار موضوعنا؟ أرجو أن يكون، كما قد يقول عزيزنا السيد ماكجريجور - تحول يو بو كين إلى اللغة الإنجليزية - «في تقدم ملموس»؟»
لم يبتسم با سين على المزحة الصغيرة. لكنه أجاب وقد جلس متسمرا منتصبا على المقعد الشاغر، قائلا: «ممتاز يا سيدي. لقد وصلت نسختنا من الجريدة هذا الصباح. تفضل بالنظر.»
ثم أخرج نسخة من جريدة ثنائية اللغة تسمى «بورميز باتريوت»، عبارة عن جريدة رديئة وضيعة من ثماني صفحات، طبعت طباعة سيئة على ورق في رداءة الورق النشاف، واحتوى جزء منها على أخبار مسروقة من جريدة «رانجون جازيت»، وجزء آخر على بطولات قومية تافهة. وفي الصفحة الأخيرة انحرفت حروف الطباعة تاركة الصفحة بالكامل في سواد الفحم، كأنه حداد على ضآلة توزيع الجريدة. لكن المقال الذي فتح يو بو كين صفحته كانت طباعته مختلفة بعض الشيء عن الباقي. وقد جاء فيه التالي:
في هذه الأوقات السعيدة، التي ترتقي فيها الحضارة الغربية العظيمة بنا نحن السود المساكين، بأفضالها المتعددة من سينما ورشاشات ومرض الزهري ... إلخ، ما الموضوع الذي قد يكون أكثر إلهاما من الحياة الخاصة لأولياء نعمتنا الأوروبيين؟ لذلك نعتقد أنه قد يكون مما يثير اهتمام قرائنا أن يعرفوا شيئا عن الأحداث الواقعة في منطقة كياوكتادا في شمال البلاد، ولا سيما عن السيد ماكجريجور، نائب المفوض المبجل للمنطقة المذكورة.
السيد ماكجريجور من نوعية السادة الإنجليز كبار السن الطيبين، الذين لدينا أمثلة عديدة جدا منهم أمام أعيننا، في هذه الأيام السعيدة. إنه «رجل عائلة» كما يقول أبناء عمومتنا الإنجليز. السيد ماكجريجور رجل عائلة بحق، حتى إنه لديه ثلاثة أطفال بالفعل في منطقة كياوكتادا، التي لبث فيها عاما واحدا، وترك ستة أبناء صغار في آخر منطقة زارها، شويميو. قد يكون السهو هو ما جعل السيد ماكجريجور يترك هؤلاء الرضع الصغار دون أي إعالة، وأمهاتهم يواجهن الجوع ... إلخ.
كان هناك عمود آخر احتوى على أمور مشابهة، وكان رغم تفاهته أعلى كثيرا من مستوى بقية الصحيفة. قرأ يو بو كين المقال باهتمام لآخره، حاملا إياه على بعد ذراع - إذ كان بعيد النظر - فيما فغر شفتيه مفكرا، ليكشف عن عدد كبير من الأسنان الصغيرة السليمة المصطبغة بحمرة الدم من عصارة نبات التانبول.
ثم قال أخيرا: «سيحصل المحرر على ستة أشهر سجن على هذا.» «إنه لا يمانع؛ إذ يقول إن دائنيه لا يتركونه وشأنه إلا وهو في السجن.» «تقول إن الكاتب المتدرب الصغير لديك، هلا بي، كتب هذا المقال بمفرده؟ ذلك الفتى ذكي جدا، فتى واعد جدا! لا تقل ثانية إن هذه المدارس الثانوية الحكومية مضيعة للوقت. سيحصل هلا بي على وظيفة الكاتب لا شك.» «هل تعتقد إذن يا سيدي أن ذلك المقال سيكون كافيا؟»
لم يحر يو بي كين جوابا في الحال، وإنما بدأ يتردد صوته وهو ينفخ ويجاهد؛ إذ كان يحاول النهوض عن كرسيه. وكان با تايك يعرف هذا الصوت، فظهر من خلف ستار الخرز، ووضع هو وبا سين يدا أسفل كل من إبطي يو با كين وأنهضاه. وقف يو بو كين لحظة ليوازن ثقل بطنه فوق ساقيه، في حركة شبيهة بحمال السمك وهو يضبط حمله. ثم أشار إلى با تايك لينصرف.
Bog aan la aqoon
ثم قال مجيبا سؤال با سين: «ليس كافيا، ليس كافيا على الإطلاق. ما زال هناك الكثير لنفعله. لكن هذه هي البداية المناسبة. أصغ.»
ذهب إلى السور ليبصق مضغة قرمزية من التانبول، ثم شرع يذرع الشرفة بخطوات قصيرة، واضعا يديه خلف ظهره، بينما جعله الاحتكاك بين فخذيه الهائلين يتمايل قليلا. وكان يتحدث أثناء سيره بالرطانة الركيكة للمكاتب الحكومية؛ مزيج من الأفعال البورمية والعبارات الإنجليزية المبهمة قائلا: «فلنتناول هذه المسألة من البداية. سوف نشن هجوما منظما على الدكتور فيراسوامي، الجراح المدني ومأمور السجن. سوف نشهر به، وندمر سمعته ونقضي عليه إلى الأبد في النهاية. ستكون هذه العملية دقيقة بعض الشيء.» «أجل يا سيدي.» «لن يكون هناك خطر، لكن لا بد أن نعمل بتأن. فلسنا بصدد كاتب بائس أو رجل شرطة. إننا بصدد مسئول كبير، وحين يكون المسئول كبيرا، حتى إن كان هنديا، يختلف الأمر عما إذا كان كاتبا. كيف السبيل للقضاء على كاتب؟ الأمر سهل؛ اتهام، عشرون شاهدا، ورفت ثم سجن. لكن لن يجدي ذلك في هذه الحالة. لذلك سيكون سبيلي الرفق، ثم الرفق، ثم الرفق. من دون فضيحة، والأهم من ذلك، من دون تحقيق رسمي. يجب عدم توجيه اتهامات يمكن الرد عليها، لكن لا بد أن أرسخ في ذهن كل أوروبي في كياوكتادا أن الدكتور شخص رذيل. فبماذا أتهمه؟ لن تفي الرشاوى بالغرض؛ فالأطباء لا يحصلون على رشاوى مطلقا. ماذا إذن؟»
قال با سين: «ربما بإمكاننا الترتيب لوقوع تمرد في السجن. فيلقى باللوم على الدكتور بصفته المأمور.» «لا، هذا أمر خطير جدا. لا أريد أن يطلق حراس السجن النار من بنادقهم في كل اتجاه. كما أنه أمر مكلف. من الجلي إذن أن الاتهام يجب أن يكون عدم الولاء ... الوطنية، الترويج للشغب. لا بد أن نقنع الأوروبيين أن الدكتور مؤمن بأفكار معادية لبريطانيا ولا يحمل لها الولاء. هذا أسوأ كثيرا من الرشاوى؛ فهم يعلمون أن المسئولين المحليين يتقاضون الرشاوى. لكن لندعهم يشكون في ولائه ولو للحظة واحدة، وسوف يهلك.»
قال با سين معترضا: «سيكون هذا شيئا من الصعب إثباته؛ فالدكتور مخلص جدا للأوروبيين، ويثور غضبه عند التفوه بأي شيء ضدهم. سوف يعلمون الحقيقة، ألا تعتقد ذلك؟»
قال يو بو كين باطمئنان: «هراء، هراء. لا يوجد أوروبي يكترث البتة للأدلة. ما دام للرجل وجه أسود، يكون الشك دليلا. ستصنع بعض الخطابات المجهولة المصدر العجائب. إنها مسألة مثابرة فحسب؛ توجيه الاتهام، والاستمرار في ذلك؛ ذلك هو السبيل مع الأوروبيين. خطاب مجهول المصدر تلو الآخر، إلى كل أوروبي تباعا. وحين تثور شكوكهم تماما ...» أخرج يو بو كين ذراعه القصيرة من وراء ظهره وطرقع بالإبهام والوسطى. وأردف قائلا: «سنبدأ بهذا المقال في ال «بورميز باتريوت». سيستشيط الأوروبيون غضبا حين يرونه. حسنا، والخطوة التالية ستكون إقناعهم أن الطبيب هو من كتبه.» «سيكون هذا عسيرا وهو لديه أصدقاء بين الأوروبيين، وكلهم يذهبون إليه حين يمرضون. لقد عالج السيد ماكجريجور من الانتفاخ هذا الشتاء. أعتقد أنهم يعتبرونه طبيبا ماهرا جدا.» «كم أنت قاصر عن فهم العقلية الأوروبية يا كو با سين! إذا كان الأوروبيون يذهبون إلى فيراسوامي فإنما هذا لأنه لا يوجد أي طبيب آخر في كياوكتادا. لا يوجد أوروبي لديه ذرة من ثقة في شخص أسود الوجه. حسبنا إرسال عدد كاف من الخطابات المجهولة المصدر. قريبا سأعمل على الأمر حتى لا يتبقى له أصدقاء.»
قال با سين: «لدينا السيد فلوري، تاجر الأخشاب.» (كان ينطق الاسم «السيد بورلي».) «إنه صديق حميم للطبيب. أراه يذهب إلى منزله كل صباح حين يكون في كياوكتادا، حتى إنه دعاه مرتين إلى العشاء.» «ها قد أصبت الآن. ما دام فلوري صديقا للطبيب من الممكن أن نتأذى؛ فلا يمكنك إيذاء شخص هندي لديه صديق أوروبي . فهذا يعطيه ... ما تلك الكلمة التي لديهم ولع شديد بها؟ ... وجاهة. لكن سيتخلى فلوري عن صديقه سريعا جدا حين تبدأ المتاعب؛ فهؤلاء الناس لا يكنون مشاعر الوفاء لأهل البلد. كما تصادف أنني أعلم عن فلوري أنه جبان، وأستطيع أن أتعامل معه. أما أنت يا كو با سين فدورك أن تراقب خطوات السيد ماكجريجور. هل كتب خطابات مؤخرا إلى المفوض؛ أقصد سرا؟» «لقد كتب خطابا منذ يومين، لكن حين فتحناه على البخار وجدناه غير ذي أهمية.» «حسنا، سنعطيه شيئا ليكتب عنه. وبمجرد أن تساوره الشكوك في الطبيب، سيحين الوقت لتلك المسألة الأخرى التي حدثتك عنها. وبهذا سوف ... ماذا يقول السيد ماكجريجور؟ نعم، «نصيب طائرين بحجر واحد.» بل سربا كاملا من الطيور. ها ها!»
كانت ضحكة يو بو كين عبارة عن صوت بقبقة مقزز يتصاعد من أعماق معدته، كأنه يتأهب للسعال؛ إلا أنها كانت مرحة، بل وطفولية. لم ينبس بالمزيد عن «المسألة الأخرى»، التي كانت شديدة السرية لمناقشتها في الشرفة. حين رأى با سين أن اللقاء قد بلغ نهايته، هب واقفا وانحنى فصار مثل مسطرة قابلة للطي.
وقال: «هل هناك شيء آخر تود أن أفعله يا سيادة القاضي؟» «احرص على أن يحصل السيد ماكجريجور على نسخته من «بورميز باتريوت». ومن الأفضل أن تخبر هلا بي بأن يقول إن لديه نوبة دوسنتاريا ويبتعد عن المكتب. فسوف أحتاج إليه في كتابة الخطابات مغفلة التوقيع. هذا كل المطلوب الآن.» «هل أذهب إذن يا سيدي؟»
قال يو با كين بشيء من شرود الذهن: «في رعاية الرب.» وفي الحال صاح مرة أخرى مناديا با تايك، فهو لا يضيع لحظة من اليوم. لذلك لم يمض وقتا طويلا في محادثة الزوار الآخرين وصرف فتاة القرية دون أن يجازيها، بعد أن تملى في وجهها وقال إنه لم يتعرف عليها. بعد ذلك حان وقت الإفطار. بدأ يشعر بقرصات الجوع العنيفة، التي كانت تهاجمه في هذه الساعة بالضبط كل صباح، وهي تعذب معدته، فصرخ في استعجال: «با تايك! يا با تايك! كين كين! الإفطار! أسرعا، إنني أتضور جوعا.»
كان في غرفة المعيشة وراء الستار مائدة سبق تجهيزها بوعاء أرز ضخم وعشرة صحون تحتوي على أكلات الكاري والقريدس المجفف وشرائح المانجو الأخضر. تهادى يو بو كين إلى المائدة وجلس وهو يخور وفي الحال انهمك في الطعام. وقفت خلفه ما كين، زوجته، لتقوم على خدمته. كانت امرأة نحيلة القوام، في الخامسة والأربعين من العمر، ذات وجه سمح، بني فاتح، شبيه بوجه القردة. لم يلق يو بو كين لها بالا وهو يأكل. فقد كان وعاء الأرز ملاصقا لأنفه وهو يحشر الطعام في فمه بأصابع سريعة متسخة بالدهن، وأنفاس متلاحقة. كانت كل وجباته سريعة وضخمة وبانفعال؛ لم تكن وجبات بقدر ما كانت طقوسا للانغماس والانهماك في أطباق الكاري والأرز. وحين فرغ من الطعام رجع بظهره، وتجشأ عدة مرات، وطلب من ما كين أن تأتي له بسيجار بورمي أخضر. فهو لم يدخن التبغ الإنجليزي قط، وكان يقول إنه بلا مذاق.
Bog aan la aqoon
بعد قليل، ارتدى يو بو كين ملابس العمل بمساعدة با تايك، ووقف برهة يتطلع إلى نفسه بإعجاب في المرآة الطويلة في حجرة المعيشة، التي كانت جدرانها خشبية، وبها عمودان، لا يزال جليا أنهما جذعا شجرتي ساج، يحملان السقف. كانت حجرة معتمة وغير منظمة على غرار كل الحجرات البورمية، مع أن يو بو كين كان قد فرشها على «الطراز الإنجليكي» بخوان مكسو بقشرة خشبية ومقاعد، وبعض المطبوعات الحجرية للعائلة المالكة ومطفأة حريق، وفرشت أرضيتها بحصائر خيزران، ملطخة بالكثير من الجير وعصارة التانبول.
اتخذت ما كين مجلسها على إحدى الحصائر في الركن، تخيط بلوزة من الزي البورمي التقليدي، فيما استدار يو بو كين على مهل أمام المرآة، ليلقي نظرة على مظهره من الخلف. كان يرتدي عصابة رأس من الحرير بلون وردي فاتح، وقميصا من الموسلين المنشى، وإزارا من حرير ماندالاي، بلون برتقالي وردي رائع، موشى بلون أصفر. بذل جهدا ليدير رأسه ويتطلع، مسرورا، إلى الإزار الذي ضاق عن مؤخرته الضخمة ولمع. كان فخورا ببدانته؛ لأنه رأى في اللحم المكتنز رمزا لعظمته. هو الذي كان في الماضي مجهولا وجائعا صار الآن بدينا وثريا ومهيب الجانب. كان بدنه منتفخا بجثث أعدائه؛ وهي الفكرة التي أوحت إليه بشيء شديد القرب من الشعر.
قال يو بو كين: «إزاري الجديد كان رخيص الثمن باثنين وعشرين روبية ... ها ... يا كين كين؟»
أحنت ما كين رأسها فوق ما تخيطه. كانت امرأة بسيطة وتقليدية، لم تتعلم من العادات الأوروبية أكثر مما تعلمه يو بو كين؛ فلم تكن ترتاح للجلوس على الكراسي، وتذهب كل صباح إلى البازار حاملة سلة فوق رأسها، مثل نساء القرية، وفي المساء ترى جاثية في الحديقة، تصلي إلى برج المعبد الذي كان يتوج البلدة. وقد ظلت المؤتمنة على مؤامرات يو بو كين لما يربو على عشرين عاما.
قالت ما كين: «لقد ارتكبت الكثير جدا من الإثم في حياتك يا كو بو كين.»
لوح يو بو كين بيده وقال: «وما الضرر؟ ستشفع لي المعابد التي سأبنيها عن كل شيء. ما زال أمامي متسع من الوقت.»
أحنت ما كين رأسها على الخياطة مرة أخرى، بأسلوب متمنع كانت تأتيه عند استنكار شيء يفعله يو بو كين.
وقالت: «لكن ما الحاجة إلى كل هذه المكائد والمؤامرات يا كو بو كين؟ لقد سمعتك وأنت تتحدث مع كو با سين في الشرفة. إنك تدبر الشر للدكتور فيراسوامي. لماذا تريد الإيذاء بذلك الطبيب الهندي؟ إنه رجل صالح.» «ما أدراك بأمور العمل يا امرأة؟ إن الطبيب يعترض طريقي؛ فهو يرفض الرشاوى في المقام الأول، مما يجعل الأمر صعبا على بقيتنا. بجانب ذلك ... حسنا، ثمة أمر آخر لن يسعك فهمه أبدا.» «لقد صرت ثريا وذا نفوذ يا كو بو كين، فماذا استفدت من ذلك؟ لقد كنا أكثر سعادة ونحن فقراء. أتذكر جيدا حين كنت مجرد موظف في شئون البلدة، حين امتلكنا منزلا لأول مرة. كم كنا فرحين بأثاثنا الخيزران الجديد، وبقلمك الحبر ذي الغطاء الذهبي! وكم داخلنا الفخر حين زار منزلنا ضابط الشرطة الإنجليزي الشاب وجلس على أفضل كرسي واحتسى زجاجة جعة! ليست السعادة في المال. ماذا عساك تريد بالمزيد من المال؟» «هذا هراء، هراء يا امرأة! انتبهي للطهي والحياكة واتركي أمور العمل لأولئك الذين يفهمونها.» «حسنا، لست على علم بشيء. إنني زوجتك وطالما أطعتك. لكن على الأقل لم يفت الأوان لتكسب ثوابا. حاول أن تكسب ثوابا أكثر يا كو بو كين! هلا اشتريت مثلا بعض السمك الحي ثم أطلقته في النهر؟ فمن الممكن كسب ثواب كبير بتلك الطريقة. حين جاءني الكهنة هذا الصباح من أجل الأرز أخبروني أن هناك كاهنين جديدين في الدير، وأنهما جائعان. هلا أعطيتهما شيئا يا كو بو كين؟ فإنني لم أعطهما شيئا حتى تكسب أنت الثواب على ذلك.»
تحول يو بو كين عن النافذة. كان الرجاء قد مسه قليلا. وهو لم يكن يفوت فرصة لكسب الثواب، ما دام يمكنه ذلك دون متاعب. كان يرى أن حسناته المتراكمة بمثابة وديعة في مصرف، تزداد باستمرار. فقد كان في كل سمكة يطلق سراحها في النهر، وكل هدية لأحد الكهنة، خطوة تقربه للنرفانا. وكان له في هذا الاعتقاد طمأنينة. هكذا أمر بضرورة إرسال سلة المانجو، التي أحضرها زعيم القرية، إلى الدير.
وفي الحال غادر المنزل وسار على الطريق، يتبعه با تايك حاملا ملف أوراق. كان يمشي على مهل، مستقيم القامة بشدة للحفاظ على توازن معدته الضخمة، حاملا مظلة صفراء من الحرير فوق رأسه. كان إزاره الأصفر يلمع في أشعة الشمس كأنه حلوى برالين مصنوعة من حرير. كان في طريقه إلى المحكمة للحكم في قضايا اليوم.
Bog aan la aqoon
الفصل الثاني
في نفس الوقت الذي بدأ فيه يو بو كين أعماله الصباحية، كان «السيد بورلي»، تاجر الأخشاب وصديق الدكتور فيراسوامي، يغادر منزله متجها إلى النادي.
كان فلوري في الخامسة والثلاثين تقريبا، متوسط الطول، غير سيئ البنيان. كان ذا شعر جاف حالك السواد منحسر أسفل رأسه، وشارب أسود حليق، وبشرة شاحبة في الأصل وقد لوحتها الشمس. ولم يبد أكبر من سنه لأنه لم يزدد بدانة ولا غدا أصلع، لكن كان وجهه كالحا مع أنه مسفوع، بوجنتين مهزولتين ، وعينين غائرتين تلوح فيهما نظرة ذابلة. بدا واضحا أنه لم يحلق هذا الصباح. كان يرتدي ملابسه المعهودة، قميصه الأبيض، وسرواله القصير الكاكي، وشرابه، لكنه بدلا من القبعة الصغيرة الشبيهة بالخوذة ارتدى قبعة عريضة الإطار مهترئة، مائلة على إحدى عينيه. وكان يحمل عصا خيزران بحزام رفيع للمعصم، فيما سارت خلفه متمهلة كلبة صيد سوداء تدعى فلو.
بيد أن كل هذه الأشياء كانت ملاحظات ثانوية. فأول ما يلفت النظر في فلوري هو وحمة بشعة، ممتدة على شكل هلال على وجنته اليسرى، من عينه حتى زاوية فمه. وعند رؤية وجهه من الجانب الأيسر كان يبدو مضروبا وكئيبا، كأن الوحمة عبارة عن كدمة؛ إذ كانت زرقاء داكنة. وكان هو مدركا تماما بشاعتها، حتى إنه كان طول الوقت يواريها بحركاته حين لا يكون بمفرده؛ إذ كان يتحايل دائما لإخفاء وحمته عن الأنظار.
كان منزل فلوري في أعلى الميدان، قريبا من حدود الغابة. كان الميدان ينحدر من البوابة بشدة، مقفرا وكاكي اللون، وقد تناثرت فيه ستة أكواخ بيضاء بياضا مبهرا، راحت تهتز وترتعد كلها من لفح الهواء. في منتصف التل قامت جبانة إنجليزية أحاط بها جدار أبيض، وعلى مقربة منها كنيسة صغيرة ذات سطح صفيح. وقام وراء ذلك النادي الأوروبي، البناء الخشبي البالي ذو الدور الواحد، الذي كان المركز الحقيقي للبلدة. فالنادي الأوروبي في أي بلدة في الهند هو القلعة الروحية، المقر الحقيقي للسلطة البريطانية، النرفانا التي يصبو إليها المسئولون والمليونيرات المحليون دون طائل. لكن بلغت هذه القيمة الضعف في هذه الحالة؛ إذ كان مما يتباهى به نادي كياوكتادا في فخر، أنه يكاد يكون الوحيد بين نوادي بورما، الذي لم يقبل قط في عضويته أي شرقي. وفيما وراء النادي تدفق نهر الإيراوادي الضخم وقد لمعت مياهه التي سقط عليها شعاع الشمس مثل الألماس؛ ووراء النهر امتدت مساحات شاسعة من حقول الأرز، وانتهت في الأفق بسلسلة من التلال المسودة.
وقعت البلدة الأصلية، والمحاكم والسجن، إلى اليمين، وقد توارى أغلبها وراء الأيك الأخضر لأشجار التين المجوسي، فيما ارتفع برج المعبد فوق الأشجار مثل رمح رفيع برأس ذهبي. كانت كياوكتادا إلى حد ما من بلدات بورما العليا التقليدية، التي لم تتغير كثيرا منذ أيام ماركو بولو حتى عام 1910، وربما كانت ستلبث قرنا آخر في العصور الوسطى لو لم تثبت أنها موقع مناسب لمحطة نهاية خط سكة حديد. في عام 1910، جعلتها الحكومة مقرا للمنطقة ومركزا للتقدم؛ وهو ما يمكن تفسيره بمجموعة من المحاكم، بجيشها من المترافعين البدناء لكن شرهين، ومستشفى، ومدرسة وأحد تلك السجون الهائلة الراسخة التي بناها الإنجليز في كل موضع بين جبل طارق وهونج كونج. وصل عدد سكانها إلى أربعة آلاف تقريبا، من بينهم بضع مئات من الهنود، وبضع عشرات من الصينيين، وسبعة أوروبيين. كان هناك أيضا أوروبيان آسيويان يدعيان السيد فرانسيس والسيد صامويل، ابنا مبشر معمداني أمريكي ومبشر روماني كاثوليكي على التوالي. لم يكن في البلدة عجائب من أي نوع، باستثناء راهب هندي عاش عشرين عاما على شجرة قرب أحد البازارات، يرفع طعامه في سلة كل صباح.
تثاءب فلوري أثناء خروجه من البوابة، وكان قد شرب في الليلة السابقة حتى صار شبه ثمل، ولذا جعله وهج الشمس يشعر بتوعك. قال لنفسه وهو ينظر أسفل التل: «يا لها من حفرة لعينة!» ولما لم يكن قربه أحد سوى الكلب، راح يغني بصوت عال: «لعينة، لعينة، لعينة، كم أنت لعينة!» على لحن «مقدس، مقدس، مقدس، كم أنت مقدس.» أثناء سيره هابطا الطريق الأحمر الحار، وهو يحطم الحشائش الجافة بعصاه. كانت الساعة التاسعة تقريبا والشمس تزداد لهيبا مع كل دقيقة. كان القيظ يهبط على الرأس، بخفق مستمر متواتر مثل ضربات بوسادة ضخمة. توقف فلوري عند بوابة النادي، متحيرا أيدخل أم يمضي في طريقه ويلاقي الدكتور فيراسوامي. ثم تذكر أنه كان «يوم البريد الإنجليزي» وأن الجرائد ستكون قد وصلت، فدخل، مارا بشبكة ملعب التنس الكبيرة، التي غطاها نبات متسلق بزهور بنفسجية تشبه النجوم.
وعلى جانبي الممشى انتشرت صفوف من الزهور الإنجليزية - الفلوكس والعائق والخطمي والبتونيا - التي لم تقض عليها الشمس بعد بأحجام ضخمة ووفرة. كانت زهور البتونيا ضخمة، تكاد تعادل حجم الأشجار. ولم يكن هناك حديقة، وإنما جنبة من الأشجار والشجيرات المحلية - مثل أشجار البوانسيانا الملكية مثل مظلات هائلة بزهور في حمرة الدم، والياسمين الهندي ذات الزهور القشدية اللون، والجهنمية الأرجوانية، والخطمي القرمزي، والورد الصيني الوردي وأشجار كروتون خضراء ضاربة للأصفر، وأشجار التمر هندي بأوراقها الشبيهة بالريش. كان التضارب بين الألوان مؤذيا للعين في وهج الشمس. في هذه الغابة من الزهور، راح يتحرك بستاني شبه عار، بيده مرشة مياه، فبدا مثل طائر كبير يمتص الرحيق.
على سلم النادي، وقف رجل إنجليزي واضعا يديه في جيبي سرواله القصير، كان ذا شعر أشقر رملي وشارب شائك، وعينين رماديتين باهتتين شديدتي التنائي، وربلتين نحيلتين نحولا غير عادي. كان هذا هو السيد ويستفيلد، مفوض شرطة المنطقة، الذي بدا عليه ضجر شديد وهو يتأرجح على عقبيه إلى الأمام والخلف ويزم شفته العليا حتى وخز شاربه أنفه. وقد حيا فلوري بإيماءة خفيفة من رأسه. كان أسلوبه في الحديث مقتضبا وعسكريا، يغفل أي كلمة يمكن إغفالها. وكان كل ما يتفوه به تقريبا يقصد أن يكون مزحة، بيد أن نبرة صوته كانت رتيبة وحزينة. «مرحبا يا عزيزي فلوري. إنه صباح لعين فظيع، أليس كذلك؟»
قال فلوري وقد استدار بجسمه قليلا لكي يخفي وحمته عن ويستفيلد: «أعتقد أننا لا بد أن نتوقع هذا في هذا الوقت من العام.» «صحيح، سحقا. أمامنا بضعة أشهر من هذا الجو. في العام الماضي لم تسقط قطرة مطر واحدة حتى شهر يونيو. انظر إلى تلك السماء اللعينة، ليس فيها من سحابة. مثل واحدة من تلك القدور الضخمة اللعينة المطلية بالمينا الزرقاء. يا إلهي! بم تضحي لتكون في بيكاديلي الآن، هه؟» «هل وصلت الجرائد الإنجليزية؟» «نعم، مجلة «بانش» الأثيرة، و«بينكان» و«في باريزيان». إن المرء ليشعر بحنين إلى الوطن عند قراءتها، صحيح؟ هيا ندخل لنحتسي شرابا قبل أن ينفد الثلج كله. فقد استهلك لاكرستين العجوز كميات كبيرة منه، وبدأ يثمل بالفعل.»
Bog aan la aqoon
دخل الاثنان، وويستفيلد يقول بصوته الكئيب: «تفضل أنت أولا.» كان النادي من الداخل مكانا جدرانه من خشب الساج تفوح منه رائحة نفط خام، لا يزيد عن أربع حجرات فقط، احتوت واحدة منها على «مكتبة» مهجورة بها خمسمائة رواية تسلل إليها العفن، وضمت حجرة أخرى طاولة بلياردو قديمة وبالية، بيد أنها كانت نادرا ما تستخدم؛ إذ كانت أسراب الخنافس الطائرة تطن حول المصابيح وتتناثر على المفرش غالبية العام. كان هناك أيضا حجرة للعب الأوراق و«قاعة جلوس» تطل على النهر، فوق شرفة واسعة؛ لكن جميع الشرفات كانت في هذا الوقت مغطاة بأستار من الخيزران الأخضر في هذا الوقت من اليوم. كانت قاعة الجلوس حجرة لا تبعث على الراحة، على أرضيتها حصير من ليف جوز الهند، وذات كراس وطاولات من الخوص تناثرت عليها صحف مصورة لامعة. كان بها على سبيل الزينة عدد من صور «الجرو بونزو» وجماجم متربة لغزال السامبار. وكانت مروحة سقف، وهي تخفق متراخية، تذر الغبار في الهواء الفاتر.
كان في الحجرة ثلاثة رجال. أسفل المروحة تمدد على الطاولة رجل في الأربعين، متورد الوجه، حسن المظهر، منتفخ قليلا، واضعا رأسه بين كفيه، وهو يتأوه من الألم. كان هذا السيد لاكرستين، المدير المحلي لشركة أخشاب، وكان قد أسرف في الشراب الليلة السابقة، ويعاني من ذلك الآن. وقف إليس، المدير الإقليمي لشركة أخرى، قبالة لوحة الإعلانات، متفحصا إعلانا ومنظره ينم عن تركيز شديد. كان شخصا ضئيلا أشعث الشعر ذا وجه شاحب حاد الملامح وحركات مضطربة. وكان ماكسويل، مسئول الغابات بالإنابة، مستلقيا على أحد المقاعد الطويلة يقرأ مجلة «ذا فيلد»، لا يبدو منه سوى ساقين ضخمتي العظام وساعدين عريضين مكسوين بشعر ناعم.
قال ويستفيلد، وهو يمسك السيد لاكرستين بشيء من المودة من منكبيه ويهزه: «انظر إلى هذا الرجل العجوز الشقي. إنه مثال للشباب، صحيح؟ كنت سأصبح مثله لولا فضل الرب. إنه يعطيك فكرة كيف سيكون حالك في الأربعين من العمر.»
غمغم السيد لاكرستين قائلا كلمة بدت مثل «براندي».
قال ويستفيلد: «يا للرجل العجوز المسكين، دائما شهيد للشراب، هه ؟ انظر إليه وهو ينز من مسامه. يذكرني بالكولونيل العجوز الذي كان ينام من دون ناموسية. حين سألوا خادمه عن السبب قال: «بالليل يكون سيدي ثملا للغاية حتى إنه لا يشعر بالناموس؛ وفي الصباح، يكون الناموس ثملا للغاية حتى إنه لا ينتبه لسيدي.» انظر إليه؛ أسرف في الشراب ليلة أمس والآن يطلب المزيد. وستأتي ابنة أخيه الصغيرة لتقيم معه. ستأتي الليلة، أليس كذلك يا لاكرستين؟»
قال إليس دون أن يستدير: «اترك هذا السكير الثمل وشأنه.» وكانت له لهجة كوكني خبيثة. غمغم السيد لاكرستين مرة أخرى قائلا: «ابنة أخ! أحضر لي بعض البراندي، بحق المسيح.» «يا له من درس جيد لابنة الأخ، ها؟ أن ترى عمها ثملا سبع مرات في الأسبوع. أيها الساقي! أحضر براندي للسيد لاكرستين!»
جاء بالبراندي على صينية نحاسية ساق درافيدي أسمر جسيم ذو عينين صفراوين لامعتين مثل عيني الكلب. طلب فلوري وويستفيلد شراب الجين. ابتلع السيد لاكرستين بضع جرعات من البراندي واسترخى في مقعده، متأوها باستسلام أكثر. كان ذا وجه بريء ممتلئ، بشارب شبيه بفرشاة الأسنان. وقد كان رجلا ضعيف العقل جدا حقا، ليس لديه من الطموح سوى أن يحظى بما سماه «وقت طيب». وكانت زوجته تسيطر عليه بالطريقة الوحيدة الممكنة؛ ألا وهي ألا تجعله يغيب عن ناظريها لأكثر من ساعة أو ساعتين قط. مرة واحدة فقط، بعد زواجهما بعام، تركته لأسبوعين، وحين عادت قبل ميعادها بيوم على نحو مفاجئ، وجدت السيد لاكرستين، ثملا، تسنده على الجانبين فتاة بورمية عارية، بينما كانت ثالثة تقلب زجاجة ويسكي فوق فمه. ومن ساعتها وهي تراقبه، «كما يراقب قط جحرا لعينا لفأر»، كما اعتاد أن يشكو. بيد أنه تمكن من الاستمتاع بعدد كبير من «الأوقات الطيبة»، مع أنها كانت عادة أوقاتا عاجلة بعض الشيء.
قال لاكرستين: «يا إلهي، ماذا أصاب رأسي هذا الصباح؟ ناد ذلك الساقي مرة أخرى، يا ويستفيلد. يجب أن أحصل على براندي آخر قبل أن تصل زوجتي. تقول إنها سوف تخفض شرابي لأربع كئوس في اليوم حين تصل ابنة أخي.» ثم أردف في حزن: «محقهما الرب!»
قال إليس بغلظة: «توقفوا جميعا عن التحامق وأصغوا إلى هذا.» كان له أسلوب جارح في الكلام، حتى إنه لم يكن يفتح فمه دون أن يسب أحدا. وقد تعمد المبالغة في لكنته الكوكنية، للنبرة التهكمية التي تضفيها على كلماته. «هل رأيتم إعلان العجوز ماكجريجور؟ إنه هدية لكل فرد. استيقظ وأصغ يا ماكسويل!»
أنزل ماكسويل مجلة «ذا فيلد». كان شابا أشقر مشرق الوجه لا يربو عن الخامسة أو السادسة والعشرين؛ صغيرا جدا على الوظيفة التي يشغلها. يذكرك بأطرافه الثقيلة وأهدابه البيضاء الكثيفة بمهر جر العربات. نزع إليس الإعلان من على اللوحة بحركة بسيطة عنيفة ودقيقة وبدأ قراءته بصوت عال. كان قد نشره السيد ماكجريجور، الذي كان يعمل أمينا للنادي، بجانب كونه نائب المفوض. «فلتصغوا لهذا: «حيث إنه لا يوجد بعد أعضاء شرقيون في هذا النادي. وبما أنه من المألوف الآن قبول موظفي الحكومة الذين تنشر رتبهم في الجريدة الرسمية، سواء كانوا من أهل البلد أو أوروبيين، في عضوية أغلب الأندية الأوروبية، فلا بد أن ننظر مسألة اتباع هذا النهج في كياوكتادا. سوف يطرح الأمر للمناقشة في الجمعية العمومية التالية. من ناحية يمكن الإشارة إلى» ... حسنا، لا حاجة للخوض في الباقي. إنه لا يستطيع كتابة إعلان حتى دون أن تنتابه نوبة إسهال أدبي. على أي حال، بيت القصيد أنه يطلب منا خرق كل القواعد وأن نقبل بفتى زنجي صغير طيب في هذا النادي. الدكتور فيراسوامي العزيز، مثلا، الذي أدعوه الدكتور شديد اللزوجة. ستكون هذه مكافأة، أليس كذلك؟ أن يطلق زنوجا صغارا بكروش مستديرة لينفثوا رائحة الثوم في وجهك على مائدة البريدج. رباه، لا أطيق حتى التخيل. لا بد أن نتكاتف معا ونتمسك بموقفنا حيال هذا الأمر في الحال. ما رأيك يا ويستفيلد؟ وأنت يا فلوري؟»
Bog aan la aqoon
هز ويستفيلد منكبيه النحيلين بتفلسف، وكان قد جلس إلى الطاولة وأشعل لفافة من السيجار البورمي الأسود كريه الرائحة.
وقال: «أعتقد أننا لا بد أن نتقبل الأمر. فالسكان المحليون الحثالة يدخلون كل النوادي الآن، حتى نادي بيجو كما أخبرت. فهذا هو النهج الذي سيتخذه هذا البلد كما ترى. إننا آخر ناد صمد ضدهم في بورما.» «هذا صحيح؛ بل وسوف نداوم على صمودنا بلا شك. فسوف أظل أقاوم حتى الموت قبل أن أرى زنجيا هنا.» وأخرج إليس عقب قلم رصاص. وأعاد تثبيت الإعلان على اللوحة تلفه هالة غريبة من النكاية التي يستطيع بعض الرجال أن يبدوها في أقل حركاتهم، وخط بالقلم أمام توقيع السيد ماكجريجور حرفي «أ. ل.» (أي أحمق لعين) بخط صغير ومنمق. «هذا رأيي في فكرته. سأخبره به حين يأتي. ما رأيك أنت يا فلوري؟»
لم يكن فلوري قد نبس ببنت شفة طوال هذا الوقت. رغم أنه لم يكن بطبعه رجلا هادئا على الإطلاق، فقلما كان يجد الكثير لقوله في محادثات النادي. كان قد جلس إلى الطاولة وجعل يقرأ مقال جي كيه تشسترتون في مجلة «لندن نيوز»، بينما يربت على رأس فلو بيده اليسرى. غير أن إليس كان واحدا من أولئك الناس الذين يلحون على الآخرين ليرددوا آراءهم. أعاد سؤاله، فرفع فلوري ناظريه، والتقت عيناهما. فجأة صار الجلد حول أنف إليس شاحبا جدا حتى كاد يكون رماديا، وكانت هذه من علامات غضبه. وبدون أي مقدمات انفجر في سيل من التوبيخ الذي كان سيصيب الآخرين بالدهشة، لو لم يكونوا معتادين على سماع شيء مثله كل صباح. «يا إلهي، وأنا كنت أظن أنه في مسألة كهذه، حين يكون السؤال متعلقا بإبعاد أولئك الخنازير العفنين السود عن المكان الوحيد الذي يتسنى لنا فيه الاستمتاع بوقتنا، أنك ستتحلى باللياقة لتأييدي. حتى إن كان ذلك الدكتور الزنجي الأكرش القذر التافه الحقير أفضل أصدقائك. لا يعنيني إن كنت تؤثر مرافقة حثالة البازار. إذا كان يسرك أن تذهب إلى منزل فيراسوامي وأن تحتسي الويسكي مع كل رفاقه الزنوج، فهذا شأنك. فلتفعل ما يحلو لك خارج النادي. لكن بحق الرب، الأمر يختلف حين تتحدث عن إحضار زنوج هنا. أعتقد أنك تود جعل الدكتور فيراسوامي عضوا في النادي، صحيح؟ ليقاطع حديثنا ويربت على الكل بيدين تتصببان عرقا ويطلق في وجوهنا أنفاسه القذرة المحملة برائحة الثوم. أقسم بالله إنه سيخرج يتبعه حذائي إن رأيت خطمه الأسود داخل ذلك الباب. الكريه، الأكرش، الحقير!» ... إلخ.
استمر الأمر عدة دقائق، وكان مبهرا في غرابة؛ لأنه كان صادقا تماما. فقد كان إليس يكره الشرقيين حقا؛ يكرههم بمشاعر بغض حادة لا تهدأ كأنهم شيء خبيث أو غير نظيف. رغم إقامته وعمله مساعدا في شركة أخشاب مما يجعله على تواصل دائم مع البورميين، فهو لم يألف رؤية وجه أسود قط. وكانت أي إشارة لمشاعر ود ناحية شخص شرقي تبدو له انحرافا فظيعا. كان رجلا ذكيا، وموظفا كفئا في شركته، لكنه كان واحدا من أولئك الرجال الإنجليز - السواد الأعظم للأسف - الذين يجب ألا يسمح لهم بأن تطأ قدمهم الشرق.
جلس فلوري يهدهد رأس فلو في حجره، غير قادر على ملاقاة عيني إليس. وحتى في أفضل الظروف كانت وحمته تجعل من العسير عليه أن ينظر في وجه الناس مباشرة. وحين صار متأهبا للكلام، أحس بصوته مرتعشا - فقد كان من دأبه الارتعاش حين يتحتم عليه الحزم - وكذلك كانت ملامحه تختلج أحيانا دون سيطرة له عليها.
وأخيرا قال بعبوس وشيء من الوهن: «فلتهدأ، فلتهدأ. لا داعي لكل هذا الانفعال، فإنني لم أقترح قط ضم أي أعضاء من السكان المحليين هنا.» «ألم تفعل؟ لكننا جميعا نعرف جيدا جدا أنك تود ذلك. وإلا لماذا تذهب إذن إلى منزل ذلك الرجل اللزج الحقير كل صباح؟ وتجلس معه إلى المائدة كما لو كان رجلا أبيض، وترشف من الأكواب التي سال عليها اللعاب من شفتيه السوداوين القذرتين؛ شيء يثير في الرغبة في القيء.»
قال ويستفيلد: «اجلس يا عزيزي. انس الأمر واحتس شرابا. فهذا الأمر لا يستحق العراك. الحر شديد.»
قال إليس بهدوء أكثر قليلا، وهو يذرع المكان ذهابا وإيابا مرة أو مرتين: «يا إلهي، يا إلهي، لا أستطيع فهمكم يا رفاق، لا أستطيع حقا. ها هو ماكجريجور الأحمق العجوز يريد إحضار زنجي إلى النادي بلا سبب على الإطلاق، وكلكم تقبلون الأمر بلا كلمة. رباه، ما المفترض منا فعله في هذا البلد؟ إن لم نكن سنسيطر، فلم لا نرحل بحق الشيطان؟ المفترض أننا هنا من أجل حكم مجموعة من الخنازير السوداء الملعونة ظلوا عبيدا منذ بدء التاريخ، لكن بدلا من بسط سيطرتنا عليهم بالطريقة الوحيدة التي يفهمونها، نعاملهم على أنهم أكفاء لنا. وأنتم أيها الحمقى تسلمون بذلك. فها هو فلوري جعل أقرب أصدقائه رجلا أسود يدعو نفسه طبيبا لأنه أمضى عامين فيما يسمى جامعة هندية. وأنت يا ويستفيلد، شديد الزهو بشرطييك الجبناء متقاضي الرشوة معوجي السيقان. وها هو ماكسويل، يقضي وقته في ملاحقة البغايا الآسيويات من أصل أوروبي. نعم، يا ماكسويل؛ لقد سمعت عن علاقتك في ماندالاي مع عاهرة صغيرة كريهة الرائحة تدعى مولي بيريرا. أعتقد أنك كنت ستقدم على الزواج منها لو لم ينقلوك إلى هنا؟ يبدو أنكم جميعا تحبون الأوغاد السود القذرين. رباه، لا أعلم ماذا أصابنا جميعا. لا أعلم حقا.»
قال ويستفيلد: «على رسلك، لتأخذ شرابا آخر. يا أيها الساقي! القليل من الجعة قبل أن ينفد الثلج، هه؟ الجعة، أيها الساقي!»
أحضر الخادم بعض زجاجات من جعة ميونيخ. وبعد قليل جلس إليس إلى المائدة مع الآخرين، وأخذ بين يديه الصغيرتين إحدى الزجاجات الباردة. كانت جبهته تتصبب عرقا، وهو عابس لكن لم يعد غاضبا. كان مشاكسا وجامحا طوال الوقت، لكن سريعا ما كانت تنتهي نوبات غضبه العارم، دون الاعتذار عنها قط. كانت المشاجرات جزءا معتادا من روتين الحياة في النادي. تحسن حال السيد لاكرستين وراح يتفحص الصور في مجلة «لا في باريزيان.» جاوزت الساعة التاسعة، وقد صارت الحجرة التي عبقت برائحة الدخان الحاد لسيجار ويستفيلد، خانقة من شدة الحر، والتصقت القمصان بظهور أصحابها بأول قطرات عرق سالت في اليوم. أما الغلام الخفي عن الأنظار الذي كان يشد حبل مروحة السقف فقد غالبه النوم في وهج الشمس.
Bog aan la aqoon
هتف إليس: «أيها الساقي!» وحين ظهر الساقي قال له: «اذهب لتوقظ ذلك الغلام اللعين!» «حسنا يا سيدي.» «وأيها الساقي !» «نعم يا سيدي؟» «كم تبقى من الثلج؟» «نحو عشرين رطلا يا سيدي. وأعتقد أنه لن يمكث بعد اليوم. فإنني أجد صعوبة بالغة في الحفاظ على الثلج باردا الآن.» «لا تتحدث هكذا، عليك اللعنة: «أجد صعوبة بالغة!» هل ابتلعت قاموسا؟ قل: «معذرة يا سيدي، لا أستطيع حفظ ثلج بارد.» هكذا يجدر بك أن تتحدث. لا بد أن نطرد هذا الشخص إذا تمكن من تحدث الإنجليزية بإتقان. لا أستطيع احتمال الخدم الذين يتحدثون الإنجليزية. سمعت أيها الساقي؟»
قال الساقي: «أجل يا سيدي.» وانصرف.
قال ويستفيلد: «يا إلهي! لا ثلج حتى يوم الإثنين. هل ستعود إلى الغابة يا فلوري؟» «نعم، لا بد أن أكون هناك الآن. لم آت إلا لأجل البريد الإنجليزي.» «أعتقد أنني نفسي سأذهب في جولة، وأدبر القليل من بدل السفر. فلا أطيق المكتب اللعين في هذا الوقت من العام؛ حيث الجلوس أسفل المروحة اللعينة، وتوقيع فاتورة تلو الأخرى. العمل الورقي الممل. رباه، كم أتمنى لو اندلعت الحرب مرة أخرى!»
قال إليس: «سوف أذهب بعد غد. ألن يأتي ذلك القس اللعين لإقامة القداس يوم الأحد؟ سأحرص على ألا أكون موجودا من أجل ذلك، على أي حال. أكره ذلك الركوع اللعين.»
قال ويستفيلد: «الأحد القادم. لقد وعدت بأن أكون موجودا، وكذلك ماكجريجور. لا بد من القول بأن الأمر سيكون صعبا بعض الشيء على ذلك القس المسكين. فهو لا يأتي سوى مرة كل ستة أسابيع. من المستحسن أن نجمع له حشدا حين يأتي.» «سحقا! إنني لأتلو المزامير باكيا إرضاء للقس، لكنني لا أطيق الطريقة التي يأتي بها أولئك المسيحيون من أهل البلد متدافعين إلى كنيستنا. قطيع من الخدم الهنود والمعلمين الكارين. وهذان الأصفران، فرانسيس وصامويل؛ اللذان يدعيان نفسيهما مسيحيين هما الآخران. في آخر مرة حين كان القس هنا تجاسرا على التقدم والجلوس في المقاعد الأمامية مع الرجال البيض. لا بد أن يخاطب أحد القس في ذلك الشأن. يا لنا من حمقى ملاعين لما جنيناه حين أطلقنا العنان للمبشرين في هذا البلد! يعلمون كناسي السوق أنهم أكفاء لنا. «معذرة سيدي، أنا مسيحي مثل السادة.» منتهى الصفاقة.»
قال السيد لاكرستين وهو يمرر «لا في باريزيان» بينهم: «ما رأيكم في هاتين الساقين؟ أنت تعرف الفرنسية يا فلوري؛ ما المقصود بما كتب تحت؟ يا إلهي، هذا يذكرني بحين كنت في باريس، في أول إجازاتي، قبل أن أتزوج. رباه، أتمنى أن أذهب إلى هناك مرة أخرى!»
قال ماكسويل: «هل سمعتم السجع الذي يقول: «كانت هناك سيدة شابة من وكينج»؟» كان ماكسويل بالأحرى شابا هادئا، لكنه كغيره من الشباب، كان مولعا بالأسجاع البذيئة الرنانة. وحين أتم سيرة سيدة وكينج الشابة تصاعد الضحك. وأجاب ويستفيلد بسجع: كان في إيلينج سيدة تنتابها مشاعر غامضة، وشارك فلوري بسجع: في هورشام قس لا يفتأ أن يحترس، وازداد الضحك. حتى إليس أدلى بعدة أسجاع؛ وكانت نكات إليس دوما فكهة بحق، لكنها بذيئة بلا حدود. ابتهج الجميع وزاد شعورهم بالألفة رغم الحرارة. وكانوا قد فرغوا من الجعة وعلى وشك طلب شراب آخر، حين سمع وقع أحذية على السلم الخارجي. كان ثمة صوت جهوري جعل الأرضية ترتج، يقول هازلا: «نعم، في غاية الفكاهة. لقد وضعتها في أحد مقالاتي الصغيرة في مجلة «بلاكوودز». أتذكر أيضا موقفا آخر في غاية ... آه ... الطرافة، حين كنت مرابطا في بروم، حيث ...»
كان جليا أن السيد ماكجريجور قد وصل إلى النادي. صاح السيد لاكرستين: «تبا! جاءت زوجتي.» ونحى كأسه الفارغ بعيدا بقدر المستطاع. دخل السيد ماكجريجور والسيدة لاكرستين قاعة الجلوس معا.
كان السيد ماكجريجور رجلا ضخما، عظيم البنية، تعدى الأربعين بقليل، ذا وجه محبب شبيه لكلب البج، يرتدي نظارة بإطارين ذهبيين. وكان بمنكبيه العريضين، وعادة دفع رأسه للأمام يذكرك بالسلحفاة - حتى إن البورميين كانوا يدعونه «السلحفاة». وكان متسربلا في حلة نظيفة من الحرير، بانت عليها بقع العرق أسفل الإبطين. وقد حيا الآخرين باصطناع التحية العسكرية ممازحا، ثم وقف أمام لوحة الإعلانات، مبتسما وهو يدير خيزرانة خلف ظهره على غرار المعلمين. كانت السماحة البادية على وجهه صادقة تماما، بيد أنه كان ثمة تكلف في لطفه، ومشقة في التظاهر بأنه ينسى رتبته الرسمية في غير ساعات العمل، حتى إن أحدا لم يكن يشعر براحة تامة في وجوده. وبدا واضحا أنه في أسلوبه في الحديث يحذو حذو أحد مديري المدارس أو رجال الدين الطرفاء الذين تعرف عليهم في أول حياته. كانت أي كلمة طويلة، أو اقتباس، أو تعبير شائع تتمثل في ذهنه كمزحة، فيمهد لها بالتلعثم مثل أن يقول: «أمم» أو «آه» ليبدو واضحا أن ثمة مزحة في الطريق. أما السيدة لاكرستين فكانت في الخامسة والثلاثين تقريبا، مليحة ملاحة صورة في مجلة أزياء، بلا تضاريس مع استطالة. وكان صوتها متنهدا، ممتعضا. هب الآخرون واقفين حين دخلت السيدة لاكرستين، فيما جلست هي منهكة على أفضل مقعد أسفل المروحة، وهي تهوي لنفسها بيدها الرفيعة الشبيهة بيد سمندل الماء. «ويحي، يا له من حر، يا له من حر! جاء السيد ماكجريجور وأقلني في سيارته. إنه لكرم شديد منه. إن توم، سائق العربة الوضيع، يدعي المرض ثانية. أعتقد حقا أنك يجب أن تضربه ضربا مبرحا وتعيده إلى صوابه. فإنه لفظيع جدا أن تضطر للسير في هذه الشمس كل يوم.»
كانت السيدة لاكرستين غير قادرة على مسيرة ربع ميل بين منزلها والنادي فاستوردت عربة ذات عجلتين من رانجون، كانت هي المركبة الوحيدة المزودة بعجلات في كياوكتادا، بجانب العربات التي تجرها الثيران وسيارة السيد ماكجريجور؛ إذ كانت الطرق في المقاطعة بأسرها لا تزيد عن عشرة أميال. وكانت السيدة لاكرستين تتحمل في الغابة كل الفظائع من خيام تسرب الأمطار وناموس وطعام معلب، لكيلا تترك زوجها وحده؛ إلا أنها كانت تستعيض عن ذلك بالشكوى من أمور تافهة حين تكون في العاصمة.
Bog aan la aqoon
تنهدت قائلة: «أعتقد حقا أن الكسل في هؤلاء الخدم صار مزعجا جدا. ألا تتفق معي يا سيد ماكجريجور؟ يبدو أننا لم يعد لدينا سلطة على أهل البلد الآن، مع كل هذه الإصلاحات المرعبة، والوقاحة التي يتعلمونها من الجرائد. أوشكوا أن يكونوا في سوء الطبقات الدنيا في الوطن من عدة نواح.» «أعتقد أنهم لا يعادلونهم سوءا. إلا أنني أخشى أن الروح الديموقراطية في سبيلها إلى التسلل لا محالة، حتى إلى هنا.» «منذ فترة قصيرة، قبل الحرب مباشرة، كانوا لطافا ومحترمين للغاية! الطريقة التي يلقون بها التحية حين تمر بهم على الطريق كانت ساحرة جدا بحق. أتذكر حين كنا ندفع لخادمنا اثنتي عشرة روبية في الشهر، وكان ذلك الرجل يحبنا مثل كلب حقا. أما الآن فهم يطلبون أربعين وخمسين روبية، وقد وجدت أن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بخادم هي التأخر في دفع مرتبه عدة أشهر.» وافقها السيد ماكجريجور الرأي قائلا: «النوع القديم من الخدم في طريقه للاختفاء. كان في أيام شبابي، حين يتصرف واحد من الخدم بقلة احترام، يرسل إلى السجن مع ورقة تقول: «برجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة.» تلك أيام ذهبت بلا رجعة، على ما أخشى.»
قال ويستفيلد بأسلوبه المغتم: «إنك محق تماما. لن يعود هذا البلد مناسبا للعيش فيه مرة أخرى أبدا. فقد انتهى الراج البريطاني حسبما أرى. فقدنا المستعمرة وما إلى ذلك، وحان الوقت لنجلو عنها.»
هنا سرت همهمة اتفاق من كل من في الحجرة، حتى فلوري، المعروف بآرائه المتمردة، وحتى ماكسويل الذي أمضى بالكاد ثلاث سنوات في البلد. لن ينفي أي إنجليزي يعيش في الهند قط أن الهند في تدهور، ولا حتى ينكر ذلك؛ فالهند، لم تعد كما كانت.
في نفس الوقت نزع إليس الإعلان من خلف ظهر السيد ماكجريجور وناوله إياه، وهو يقول بأسلوبه المستاء: «تفضل يا ماكجريجور، لقد قرأنا هذا الإعلان، ونعتقد جميعا أن فكرة ضم واحد من أهل البلد هي محض ...» - أوشك إليس أن يقول تعبيرا بذيئا لكنه تذكر وجود السيدة لاكرستين وكبح نفسه - «محض هراء. فهذا النادي هو المكان الذي نأتي إليه لنسري عن أنفسنا، ولا نريد أن يأتي أهل البلد للتسكع فيه. نريد أن نشعر أنه ما زال هناك مكان نكون فيه بمعزل عنهم. والجميع متفقون تماما معي في هذا.»
ونظر حوله إلى الآخرين، فقال السيد لاكرستين بصوت أجش: «لا فض فوك!» كان يعلم أن زوجته سوف تخمن أنه كان يعاقر الشراب، وشعر أن إبداء رأي عاقل سوف يغفر له.
تناول السيد ماكجريجور الإعلان مبتسما. رأى حرفي «أ. ل.» مكتوبين قبالة اسمه، وشعر في قرارة نفسه أن سلوك إليس كان مهينا للغاية، لكنه أنهى الأمر بمزحة. كان يبذل مجهودا بالغا ليكون طيب المعشر في النادي كما كان يفعل للحفاظ على وقاره أثناء ساعات العمل. قال: «أعتقد أن صديقنا إليس لا يرحب بصحبة ... آه ... شقيقه الآري؟»
قال إليس في جواب لاذع: «لا، لا أرحب. ولا بشقيقي المنغولي. فإنني، باختصار، لا أحب الزنوج.»
تسمر السيد ماكجريجور عند سماع كلمة «زنوج»، التي أدين استخدامها في الهند. لم يكن متحاملا ضد الشرقيين؛ فقد كان حقا مولعا بهم ولعا شديدا. وكان يعتقد أنهم أكثر الشعوب الحية سحرا، شريطة ألا يمنحوا أي حرية. وكان يؤلمه دوما أن يراهم يهانون جورا.
قال السيد ماكجريجور بلهجة صارمة: «هل من اللائق أن نسمي هؤلاء الناس زنوجا - الكلمة التي بالطبع يستاءون منها أشد الاستياء - في حين أنه من الجلي أنهم ليسوا كذلك؟ فالبورميون منغوليون، والهنود آريون أو دارفيديون، وكلهم متباينون تماما.»
قال إليس الذي لم يتهيب مطلقا من الصفة الرسمية للسيد ماكجريجور: «هراء! سمهم زنوجا أو آريين أو كيفما تشاء. ما أرمي إليه هو أننا لا نريد رؤية أي بشرة سوداء في هذا النادي. وإن طرحت الأمر للتصويت ستجدنا جميعا بلا استثناء ضده.» ثم أردف قائلا: «إلا إذا كان فلوري يريد صديقه العزيز فيراسوامي.»
Bog aan la aqoon
أعاد السيد لاكرستين قوله: «لا فض فوك! ثق أنني سأصوت ضدهم جميعا.»
زم السيد ماكجريجور شفتيه بانزعاج؛ فقد كان في موقف حرج، إذ إن فكرة اختيار عضو من أهل البلد لم تكن فكرته، وإنما أمليت عليه من قبل المفوض. إلا أنه كان لا يحب اختلاق الأعذار، لذا قال بنبرة أكثر استرضاء: «هلا أجلنا مناقشة الأمر حتى الجمعية العمومية التالية؟ ويمكننا حتى ذلك الوقت أن ننظر الموضوع بترو وإمعان.» ثم أضاف وهو متجه إلى الطاولة: «والآن من سيشاركني القليل من ... آه ... المرطبات السائلة؟»
استدعى الساقي وطلبت «المرطبات السائلة». كان الجو حينذاك قد صار أشد حرا من ذي قبل وكان الكل عطشى. أوشك السيد لاكرستين أن يطلب شرابا لكنه انكمش وقال متجهما: «لا»، حين انتبهت له زوجته. هكذا جلس واضعا يديه على ركبتيه، باديا عليه بعض الأسى، وهو يشاهد السيدة لاكرستين تزدرد كأسا من عصير الليمون يحتوي على جين. أما السيد ماكجريجور فقد احتسى عصير ليمون صرف، رغم أنه وقع فاتورة المشروبات. كان الوحيد بين الأوروبيين في كياوكتادا الذي يحافظ على قاعدة عدم احتساء الشراب قبل الغروب.
قال إليس متبرما، فيما راح يعبث بكأسه، باسطا ساعديه على الطاولة: «حسنا جدا.» كان الجدال مع السيد ماكجريجور قد جعله مضطربا مرة أخرى. «حسنا جدا، لكنني متمسك بما قلته. لا أعضاء محليين في هذا النادي! فقد أهلكنا الإمبراطورية بالاستمرار في التنازل في شئون صغيرة كتلك. لم يفسد البلد العصيان إلا لأننا ترفقنا بهم أكثر من اللازم. السياسة الوحيدة الممكنة هي أن نعاملهم معاملة القاذورات التي يستحقونها. هذه لحظة حاسمة، ونحن بحاجة لكل ذرة ممكنة من الهيبة. يجب أن نتكاتف معا ونقول: «نحن الأسياد، وأنتم شحاذون».» وضغط إليس بإبهامه الصغير كأنه يسحق دودة: «الزموا وضعكم أيها الشحاذون!»
قال ويستفيلد: «لا جدوى يا عزيزي، لا جدوى على الإطلاق. ما الذي يسعك فعله وكل هذه الإجراءات البيروقراطية تكبل يديك؟ أهل البلد الوضعاء يعرفون القانون أفضل منا. فهم يسبونك في وجهك وتحبس لحظة أن تضربهم. لن نستطيع أن نفعل أي شيء إلا إذا وقفنا موقفا حازما. لكن كيف لنا ذلك ما داموا لا يملكون الشجاعة للعراك؟»
قاطعتهما السيدة لاكرستين قائلة: «طالما قال رئيسنا في ماندالاي إننا سوف نغادر الهند في النهاية لا محالة. فلن يظل الشباب يأتي هنا للعمل طوال حياتهم في مقابل السباب ونكران الجميل. سوف نرحل. وحين يأتينا أهل البلد متوسلين أن نبقى سنقول لهم: «لا، كانت لديكم فرصة وأضعتموها. لا بأس، سوف نترككم لتحكموا أنفسكم.» ويا له من درس سيتعلمونه ساعتها!»
قال ويستفيلد مغتما: «هذا ما فعله بنا كل هذا القانون والنظام.» كانت فكرة اضمحلال الإمبراطورية الهندية عن طريق الإجراءات القانونية الكثيرة فكرة متواترة لدى ويستفيلد. إذ كان يرى أن لا شيء يمكنه إنقاذ الإمبراطورية من التدهور إلا تمرد شامل، وما يترتب عليه من تطبيق الأحكام العرفية. «مع كل هذه الأعمال الورقية والخطابات المتداولة صار موظفو المكاتب هم الحكام الحقيقيين لهذا البلد الآن. لقد أشرفنا على النهاية. وأفضل ما يمكننا عمله هو أن ننهي الأمر ونتركهم يعانون عواقب أخطائهم.»
قال إليس: «لا أتفق معك، لا أتفق معك مطلقا. فباستطاعتنا أن نضع الأمور في نصابها إن أردنا. لا يحتاج الأمر إلا القليل من الشجاعة. انظروا لما حدث في أمريتسار. انظروا كيف استكانوا بعد ذلك. لقد عرف داير كيف يعاملهم. يا لداير المسكين! كانت مهمة قذرة. أولئك الجبناء الذين في إنجلترا هم المسئولون.»
انطلقت من الآخرين تنهيدة ما، نفس النهيدة التي يلفظها جمع من الرومان الكاثوليك عند ذكر ماري الدموية وحتى السيد ماكجريجور الذي كان يبغض إراقة الدماء والأحكام العرفية، هز رأسه عند ذكر اسم داير. «رجل مسكين! ضحي به من أجل أعضاء برلمان على شاكلة باجيت لكن لا بأس، ربما يكتشفون خطأهم بعد فوات الأوان.»
قال ويستفيلد: «اعتاد رئيسي القديم أن يحكي لي قصة عن ذلك الأمر. كان هناك هافيلدار عجوز في كتيبة محلية، سأله أحد الأشخاص عما قد يحدث إن غادر البريطانيون الهند. فقال الرجل العجوز ...»
Bog aan la aqoon
دفع فلوري كرسيه للوراء وهب واقفا. لا يجب، ولا يمكن ... بل لا ينبغي مطلقا أن يستمر هذا الأمر أكثر من ذلك! ينبغي أن يخرج من الحجرة سريعا، قبل أن يحدث شيء في رأسه ويبدأ في تكسير الأثاث وقذف الصور بالزجاجات. خنازير حمقى سكارى بلداء! هل من الممكن أن يستمروا أسبوعا تلو الآخر، وعاما بعد الآخر، يكررون نفس اللغو الخبيث كلمة كلمة، مثل محاكاة لقصة من الدرجة الخامسة في «بلاكوودز»؟ ألن يخطر لأي منهم أبدا شيء جديد ليقوله؟ آه، يا له من مكان، ويا لهم من ناس! أي حضارة هذه! حضارة آثمة قائمة على الويسكي و«بلاكوودز» وصور «الجرو بونزو»! فليرحمنا الرب، فكلنا جزء منها.
لم ينبس فلوري بكلمة من هذا، وكابد بعض الآلام لكيلا يظهر على وجهه. وقف بجوار مقعده، متنحيا قليلا عن الآخرين، بنصف ابتسامة مثل رجل لا يثق في محبة الناس له قط.
وقال: «أخشى أنني سأضطر للمغادرة. للأسف، علي القيام ببعض الأمور قبل الإفطار.»
قال ويستفيلد: «ابق وتناول شرابا آخر يا رجل. ما زال الوقت مبكرا. فلتحتس الجين. سيفتح شهيتك.» «لا، شكرا، لا بد أن أذهب. هيا يا فلو. إلى اللقاء يا سيدة لاكرستين. إلى اللقاء جميعا.»
قال إليس بمجرد اختفاء فلوري: «خرج واشنطن بووكر، صديق الزنوج.» كان من المألوف دائما أن يقول شيئا بغيضا عن أي شخص بمجرد أن يغادر الحجرة. «أعتقد أنه ذهب لمقابلة اللزج جدا. أو تسلل تجنبا لسداد قيمة المشروبات.»
قال ويستفيلد: «إنه ليس شخصا سيئا. يقول بعض الأشياء المتشددة أحيانا. لكن لا أظنه يعنيها تماما.»
قال السيد ماكجريجور: «شخص طيب جدا بالتأكيد.» أي أوروبي في الهند هو شخص طيب، بحكم عمله، أو بالأحرى بحكم لونه، حتى يرتكب أمرا شديد الفظاعة. إنها مرتبة شرفية. «إنه شديد التطرف بالنسبة إلي. فأنا لا أطيق أي شخص يرافق أهل البلد. لا عجب أنه حصل على مسحة من فرشاة القطران هو نفسه. فهذا يفسر تلك العلامة السوداء التي على وجهه. ذلك الأبقع. ويبدو كشخص رعديد، بذلك الشعر الأسود، وبشرته الصفراء كالليمون.»
سرت بعض النميمة العابرة حول فلوري، لكن ليست كثيرة، لأن السيد ماكجريجور لم يكن يهوى النميمة. مكث الأوروبيون طويلا في النادي بما يكفي لاحتساء دور آخر من الشراب. وحكى السيد ماكجريجور حكايته عن بروم، التي من الجائز أن ترد في أي سياق تقريبا. ثم ارتدت المحادثة إلى الموضوع القديم الذي لا يمل أبدا؛ وقاحة أهل البلد، وتراخي الحكومة، والأيام الخوالي الحلوة حين كان الراج البريطاني في عزه وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لم يكن هذا الموضوع ينسى طويلا، بسبب هوس إليس به من ناحية. كما أنه من الممكن عذر الأوروبيين كثيرا على تذمرهم؛ فالعيش بين الشرقيين والعمل معهم يحتاج صبر أيوب. وكانوا جميعا، وبوجه خاص المسئولين الرسميين، يعرفون معنى أن يستفزوا ويسبوا. فكان كل يوم تقريبا، حين يسير ويستفيلد أو السيد ماكجريجور أو حتى ماكسويل في الشارع، ويمرون بصبية المدرسة الثانوية، تقابلهم السخرية على وجوههم الشابة الصفراء - وجوه ناعمة مثل العملات الذهبية، مفعمة بالاحتقار المزعج المطبوع على الوجه المنغولي - وأحيانا تعلو أصواتهم خلفهم بضحكات مثل صوت الضباع. لم تكن حياة المسئولين الإنجليز في الهند شهدا خالصا. فربما كان لهم الحق في أن يكونوا بغضاء قليلا وهم يعيشون في معسكرات خالية من أسباب الراحة، ومكاتب شديدة الحر، وبيوت مسافرين معتمة تفوح منها رائحة الغبار والنفط الخام.
كانت الساعة تقترب من العاشرة، وصار الحر فوق الاحتمال. تجمع على وجوه الجميع، وعلى سواعد الرجال العارية قطرات راكدة وشفافة من العرق. وراحت بقعة رطبة على ظهر سترة السيد ماكجريجور الحريرية تزداد حجما. بدا كأن الوهج بالخارج تخلل بطريقة ما الأستار الخضراء التي غطت النوافذ، ليصيب عيون الجميع بالألم ويملأ رءوسهم بالخمول. صار كل منهم يفكر بفتور في إفطاره الدسم، وفي الساعات الطويلة المملة المقبلة. وقف السيد ماكجريجور وعدل وضع نظارته، التي انزلقت على أنفه المتعرق.
ثم قال: «من المؤسف أن ينتهي هذا التجمع المرح. لكن لا بد أن أعود إلى المنزل من أجل الإفطار. هموم الإمبراطورية. هل سيذهب أحد في طريقي؟ السائق في الانتظار مع السيارة.» قالت السيدة لاكرستين: «أكون شاكرة إذا أخذتني أنا وتوم. كم هو مريح ألا نضطر إلى السير في هذا القيظ!»
Bog aan la aqoon
وقف الآخرون. مط ويستفيلد ذراعيه وتثاءب من أنفه وقال: «أعتقد أنه من الأفضل الإسراع. سوف أنام إن جلست هنا أكثر من ذلك. تذكرت أنني سأظل أتصبب عرقا في ذلك المكتب طوال النهار! والسلال المليئة بالأوراق. يا إلهي!»
قال إليس: «لا ينس أحد منكم التنس هذا المساء. وأنت يا ماكسويل، أيها الوغد الكسول، إياك أن تتهرب من اللعب مرة أخرى. لتأت بمضربك في الساعة الرابعة والنصف تماما.»
قال السيد ماكجريجور بذوق باللغة الفرنسية لدى الباب: «تفضلي يا سيدتي.»
وقال ويستفيلد: «تقدم يا ماكدوف.»
وخرجوا إلى أشعة الشمس البيضاء المتقدة؛ حيث كانت الحرارة تتصاعد من الأرض مثل صهد الفرن، فيما توهجت الزهور، مجهدة ألوانها للعين، دون أن تهتز لها ورقة في لجة الشمس. كان الهجير يرسل كللا في العظام. كان ثمة شيء مريع فيه؛ مريع أن تتأمل تلك السماء الزرقاء المبهرة للبصر، في امتدادها المتواصل فوق بورما والهند، وفوق سيام، وكمبوديا، والصين، من دون غيمة ومن دون انقطاع. كان صفيح سيارة ماكجريجور المنتظرة ساخنا جدا للمس. كان النهار الخبيث في بدايته، الوقت الذي، كما يقول البورميون، «تسكن فيه الأقدام». فلم يكن كائن حي ليتحرك، باستثناء الرجال، وصفوف النمل الأسود، التي أثارتها الحرارة، فسارت مثل الشريط عبر الممر، والنسور عديمة الذيل التي ارتفعت في تيارات الهواء.
الفصل الثالث
انعطف فلوري يسارا خارج بوابة النادي ومضى في طريق السوق، تحت ظلال أشجار التين المجوسي. انبعث صوت الموسيقى من على بعد مائة ياردة؛ حيث كانت فرقة من رجال الشرطة العسكرية الهنود المهزولين في ملابس كاكي خضراء يسيرون عائدين إلى صفوفهم بينما كان يعزف أمامهم على مزمار القربة، صبي من الجوركا. كان فلوري ذاهبا لرؤية الدكتور فيراسوامي. كان منزل الدكتور عبارة عن كوخ طويل من الخشب المدهون بالنفط الخام، قائم على ركائز، بحديقة كبيرة مهملة متاخمة لحديقة النادي. كان ظهر المنزل مطلا على الطريق؛ حيث يقابل المستشفى، القائم بينه وبين والنهر.
مع دخول فلوري المجمع تصاعدت صرخة ذعر من النساء وهرولة داخل المنزل. بدا واضحا أنه كان قد أوشك أن يرى زوجة الطبيب. دار لمقدمة المنزل وهتف إلى الشرفة قائلا: «أيها الطبيب! هل أنت مشغول؟ هل من الممكن أن أصعد؟»
برز من داخل المنزل الدكتور، بهيئة ضئيلة جمعت بين الأبيض والأسود، مثل عفريت العلبة. وهرع إلى درابزين الشرفة، هاتفا بانفعال: «من الممكن أن تصعد! بالطبع، بالطبع، اصعد في الحال! كم تسرني رؤيتك يا سيد فلوري! فلتصعد، فلتصعد. ما الشراب الذي تود تناوله؟ لدي ويسكي وجعة ونبيذ فيرموث ومشروبات أوروبية أخرى. كم كنت أتوق لبعض الحديث الراقي يا صديقي العزيز.»
كان الطبيب رجلا ضئيلا أسود ممتلئا ذا شعر متلبد وعينين ساذجتين مستديرتين. كان يرتدي نظارة ذات إطارين من الصلب، وبذلة بيضاء من قماش الدريل القطني غير مناسبة في مقاسها، بسروالها المتهدل مثل آلة الكونسرتينا، على حذاء برقبة أسود رديء. وكان صوته متحمسا ومتدفقا، مصفرا حروف السين. أثناء صعود فلوري السلم، ارتد الطبيب لنهاية الشرفة وراح يقلب في صندوق ثلج كبير من الصفيح، مخرجا منه سريعا زجاجات مختلفة الأوصاف. كانت الشرفة واسعة ومعتمة، ذات حواف منخفضة تدلت منها سلال السراخس، مما جعلها تبدو مثل كهف وراء شلال من شعاع الشمس. وكانت مفروشة بمقاعد طويلة بقواعد من الخوص صنعت في السجن، ووضع في أحد جوانبها خزانة كتب تحتوي على كتب قليلة غير مشجعة بعض الشيء، أغلبها كتب مقالات، من نوعية كتب إميرسون وكارلايل وستيفنسون. فقد كان الطبيب قارئا نهما، يحب أن يكون للكتب ما يسميه «معنى أخلاقيا».
Bog aan la aqoon
قال فلوري، فيما أجلسه الطبيب في الوقت ذاته على مقعد طويل، وأخرج له مسند الساقين حتى يتمكن من الاستلقاء، ووضع السجائر والجعة في متناوله: «حسنا يا دكتور، كيف الحال؟ كيف صارت الإمبراطورية البريطانية؟ مريضة بالشلل كالعادة؟» «نعم، حالتها متدهورة للغاية، متدهورة للغاية يا سيد فلوري! أصابتها مضاعفات خطيرة. تسمم الدم والتهاب الصفاق وشلل في العقد العصبية. أخشى أنه ينبغي علينا استدعاء المتخصصين. وا أسفاه!»
كان الرجلان اعتادا المزاح بالتظاهر بأن الإمبراطورية البريطانية مريضة عجوز لدى الطبيب. وما زال الطبيب على استمتاعه بالمزحة منذ عامين دون أن يتسرب إليه الملل منها.
قال فلوري مستلقيا على المقعد الطويل: «يا لها من متعة أن أكون هنا بعد ذلك النادي اللعين، أيها الطبيب. حين آتي إلى منزلك أشعر كأنني قسيس منشق عن الكنيسة يتسلل إلى البلدة عائدا إلى منزله بعاهرة. يا لها من إجازة رائعة منهم جميعا ...» قال هذا مشيرا بكعبه في اتجاه النادي: «من رفاقي الأحباء بناة الإمبراطورية. الهيبة البريطانية وعبء الرجل الأبيض، السيد الأبيض الذي لا يخشى شيئا ويسمو فوق الشبهات. يا لها من راحة أن أبتعد عن ذلك العفن قليلا من الوقت!» «مهلا، مهلا يا صديقي، أرجوك! هذا فظيع! لا يمكن أن تقول تلك الأشياء عن السادة الإنجليز المحترمين!» «إنك لا تضطر إلى الإنصات إلى أولئك الرجال المحترمين وهم يتكلمون يا دكتور. لقد صبرت بقدر ما استطعت هذا الصباح. إليس وقوله «زنجي قذر»، ونكات ويستفيلد، وماكجريجور وعباراته اللاتينية وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لكن حين بلغوا قصة الهافيلدار العجوز؛ الهافيلدار العجوز الطيب الذي قال إنه إذا تركت بريطانيا الهند لن يتبقى هناك روبية أو عذراء بين ... كما تعلم؛ حسنا، لم أستطع الصبر أكثر من ذلك. لقد حان الوقت لوضع الهافيلدار العجوز في قائمة المتقاعدين. إنه ما فتئ يقول الشيء نفسه منذ اليوبيل الذهبي لاعتلاء الملكة فيكتوريا العرش عام 1887.»
ازداد غضب الطبيب، كدأبه حين ينتقد فلوري أعضاء النادي. كان واقفا مستندا بلباسه الأبيض المنتفخ إلى درابزين الشرفة، مستخدما الإشارات والإيماءات أحيانا. وكان عند بحثه عن كلمة يضم إبهامه وسبابته السوداوين، كأنه يلتقط فكرة طارت في الهواء.
قال الطبيب: «لكن حقا، حقا يجب ألا تتحدث هكذا يا سيد فلوري! لماذا تديم إهانة السادة البيض، كما تدعوهم؟ إنهم ملح الأرض. فلتنظر إلى الأشياء العظيمة التي فعلوها. فلتنظر إلى الحكام العظام الذين جعلوا الهند البريطانية ما صارت إليه. فلتنظر كلايف ووارين هيستينجز ودالهاوزي وكيرزن. كانوا رجالا - سأقتبس من أديبكم الخالد شكسبير - من أفضل الرجال من جميع الوجوه، وهيهات أن نرى لهم مثيلا مرة أخرى!» «حسنا، هل تود أن ترى مثيلا لهم مرة أخرى؟ أنا لا.» «وانظر كم هو نبيل السيد الإنجليزي! ووفاء بعضهم العظيم لبعض! روح المدرسة الحكومية! وحتى الذين سلوكهم مؤسف منهم - إذ أتفق معك أن من الرجال الإنجليز من هم متغطرسون - يتمتعون بالخصال الممتازة التي نفتقر إليها نحن الشرقيين؛ فخلف مظهرهم الصارم، قلوب من ذهب.» «هلا قلنا إنه ذهب قشرة؟ يوجد نوع من المودة الزائفة بين الإنجليز وهذا البلد . فهي عادة أن نتنادم على الشراب معا ونتشارك الطعام ونتظاهر بأننا أصدقاء، مع أن كلا منا يكره الآخر كراهية السم. نسمي هذا تآزرا. إنه ضرورة سياسية. لا شك أن الشراب هو ما يجعل الوضع مستمرا. ولولاه لجن جنوننا وقتل كل منا الآخر في ظرف أسبوع. هناك موضوع من أجل كتاب المقالات مستنفري الهمم الذين تهواهم يا دكتور: الشراب باعتباره ملاط الإمبراطورية.»
هز الطبيب رأسه وقال: «لا أعلم حقا ما الذي جعلك بهذا التهكم يا سيد فلوري؟ إنه شيء غير لائق على الإطلاق! أن تتفوه أنت - السيد الإنجليزي ذو الملكات والشخصية الرفيعة - بهذه الآراء التحريضية اللائقة بجريدة «بورميز باتريوت»!»
قال فلوري: «تحريضية؟ لست محرضا. فلا أريد أن يطردنا البورميون من هذا البلد. حاشا لله! فإنني هنا لأكسب المال، مثلي كمثل أي شخص آخر. كل ما أعترض عليه هو خدعة عبء الرجل الأبيض الوضيعة. التظاهر بأنه سيد شريف. إنه شيء مضجر جدا. حتى أولئك الحمقى الملعونون الذين في النادي كانت صحبتهم ستصير أفضل لو لم نكن جميعا نعيش كذبة طوال الوقت.» «لكن ما هي الكذبة التي تعيشونها يا صديقي العزيز؟» «بالتأكيد كذبة أننا هنا لننهض بأشقائنا السود المساكين وليس حتى نسرقهم. أعتقد أنها كذبة فطرية تماما، لكنها تفسدنا، تفسدنا بطرق لا يمكنك تخيلها. إذ يعذبنا شعور دائم بأننا كاذبون ومخادعون ويدفعنا لتبرير أفعالنا ليلا ونهارا. وهو المسئول عن نصف تصرفاتنا الحيوانية مع أهل البلد. نحن الإنجليز المقيمين في الهند من الممكن احتمالنا فقط إن اعترفنا بأننا لصوص وواصلنا السرقة من دون أي خداع.»
ضم الطبيب سبابته وإبهامه بسرور بالغ، متهللا من سخريته، وقال: «حجتك ضعيفة يا صديقي العزيز، ويبدو أنها ضعيفة لأنكم لستم لصوصا.» «حسنا أيها الطبيب العزيز!»
استوى فلوري في جلسته على المقعد الطويل، بسبب طفحه الحراري الذي كان قد وخزه للتو في ظهره مثل آلاف الإبر من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن مناقشته المفضلة مع الطبيب أوشكت أن تبدأ. كانت هذه المناقشة، ذات الطبيعة السياسية نوعا ما، تجري كلما التقى الاثنان، وتعكس فيها الأدوار؛ إذ يصير الرجل الإنجليزي معاديا للإنجليز بشدة والهندي مخلصا لهم بتعصب. كان الدكتور فيراسوامي يكن إعجابا متقدا للإنجليز لم يوهنه ألف إهانة من رجال إنجليز. كان يؤكد بحماس قاطع أنه بصفته هنديا، ينتمي إلى عرق دنيء ومنحط. وكانت ثقته في العدالة البريطانية بالغة لدرجة أنه حتى حين يضطر للإشراف على عقوبة الجلد أو الشنق في السجن، كان يعود إلى منزله وقد استحال وجهه الأسود رماديا فيسكن أوجاعه بالويسكي، دون أن يفتر حماسه. وكانت آراء فلوري التحريضية تصدمه، لكنها كانت تمنحه كذلك نوعا من قشعريرة السعادة، كالتي تنتاب شخصا مؤمنا ورعا عند سماع الصلاة الربانية تردد بالعكس.
قال فلوري: «عزيزي الدكتور، كيف لك أن تتخيل أننا موجودون في هذا البلد لأي سبب آخر غير السرقة؟ الأمر غاية في البساطة. المسئولون يقيدون المواطن البورمي بينما يفتش رجال الأعمال جيوبه. هل تعتقد مثلا أن شركتي أو شركات الأخشاب الأخرى، أو شركات النفط، أو المنقبين عن المعادن وأصحاب المزارع والتجار كانوا سيستطيعون أن يحصلوا على عقود الأخشاب لو لم يكن البلد تحت سيطرة البريطانيين؟ كيف كانت رابطة تجار الأرز ستستمر في استغلال الفلاح التعيس الحظ لو لم تكن الحكومة تساندها؟ الإمبراطورية البريطانية هي مجرد وسيلة لمنح احتكارات تجارية للإنجليز - أو بالأحرى عصابات اليهود والأسكتلنديين.» «إنه لمن المؤسف أن أسمعك تتحدث هكذا يا صديقي. مؤسف حقا. تقول إنك هنا من أجل التجارة؟ إنك كذلك بالطبع. فهل يستطيع البورميون أن يتاجروا لأنفسهم؟ هل يستطيعون صنع آلات وسفن وسكك حديدية وطرق؟ إنهم بلا حيلة من دونكم. ماذا كان سيحدث لغابات بورما لو لم يكن الإنجليز هنا؟ كانت ستباع في الحال لليابان، التي كانت ستتلفها وتدمرها. إنها تتحسن حقا في أياديكم بدلا من ذلك. وفي نفس الوقت الذي ينمي فيه رجال أعمالكم مواردنا، يتولى المسئولون لديكم مهمة جعلنا متحضرين، ناهضين بنا لمستواكم، من أجل الصالح العام فحسب. إنه سجل رائع من التضحية بالذات.» «هراء يا عزيزي الطبيب. لكن أقر أننا نعلم الشباب احتساء الويسكي ولعب كرة القدم، فقط لا غير. انظر إلى مدارسنا، إنها مصانع لتخريج الكتبة الحقراء. لم نعلم الهنود ولو حرفة يدوية واحدة مفيدة قط. فإننا لا نجرؤ على هذا؛ خوفا من المنافسة في الصناعة. بل إننا قضينا على صناعات عديدة. فأين أقمشة الموسلين الهندي الآن؟ قرب الأربعينيات كانوا يبنون في الهند سفنا بحرية ويعملون عليها أيضا. أما الآن فلا تستطيع بناء قارب صيد صالح للإبحار هنا. كان الهنود في القرن الثامن عشر يسبكون أسلحة على المستوى الأوروبي بكل المقاييس. أما الآن وقد لبثنا مائة وخمسين عاما في الهند، لم يعد بإمكانك صنع ولو ظرف خرطوش من النحاس في القارة بأكملها. الأعراق الشرقية الوحيدة على الإطلاق التي تطورت سريعا هي الأعراق المستقلة. لن أذكر مثال اليابان، لكن انظر إلى حالة سيام ...»
Bog aan la aqoon
لوح الطبيب بيده متحمسا. كان دائما ما يقاطع المناقشة عند هذه النقطة، لأنه كان يجد أن حالة سيام توقفه. «يا صديقي، يا صديقي، لقد نسيت الشخصية الشرقية. كيف كنا سنتطور ببلادتنا وخرافتنا؟ لقد جلبتم القانون والنظام على الأقل. العدالة البريطانية التي لا تحيد وهيمنة السلام البريطاني.» «بل الطاعون البريطاني يا دكتور، الطاعون البريطاني هو المسمى المناسب. ولمن هذا السلام على أي حال؟ المرابي والمحامي. لا شك أننا نحافظ على السلام في الهند من أجل مصلحتنا، لكن ما الذي ينتهي إليه كل هذا القانون والنظام؟ المزيد من البنوك والمزيد من السجون، هذا خلاصة الأمر.»
هتف الطبيب: «يا لها من تلفيقات بشعة! أوليست السجون ضرورية؟ وهل السجون هي كل ما أتيتمونا به؟ تأمل بورما أيام ثيبو بما ساد فيها من قذارة وتعذيب وجهل، ثم انظر حولك. فلتطل من هذه الشرفة فقط، انظر إلى ذلك المستشفى، وإلى تلك المدرسة على اليمين وقسم الشرطة ذلك. انظر إلى نهضة التقدم الحديث!»
قال فلوري: «إنني لا أنكر بالتأكيد أننا نطور هذا البلد في نواح معينة. فلا يمكن ألا نفعل هذا. بل وقبل أن نفرغ من هذا سنقضي تماما على الثقافة القومية البورمية. لكننا لا نجعلهم متحضرين، وإنما ننفض غبارنا عليهم. إلى أين ستؤدي نهضة هذا التقدم الحديث، كما تدعوها؟ فقط إلى حظيرتنا القديمة للجرامافونات والقبعات المستديرة. يخطر لي أحيانا أنه خلال مائتي عام كل هذا - أشار بقدمه نحو الأفق - كل هذا سيختفي؛ الغابات والقرى والأديرة والمعابد كلها ستختفي. وبدلا منها ستقام فلل وردية تبعد كل منها عن الأخرى خمسين ياردة؛ في جميع أنحاء التلال، وعلى مرمى البصر، فيلا بعد الأخرى، فيها كلها جرامافونات تصدر نفس اللحن. ستمحى كل الغابات من على الأرض، وتفرم إلى لباب خشب لطباعة جريدة «نيوز أوف ذا وورلد»، أو تنشر لصنع صناديق الجرامافونات. بيد أن الأشجار تثأر لنفسها كما يقول الرجل العجوز في مسرحية «البطة البرية». لقد قرأت أعمال إبسن بالطبع، أليس كذلك؟» «لا للأسف، يا سيد فلوري! إنه عبقري جبار كما قال عنه برنارد شو كاتبكم الملهم. يسرني ذكر سيرته. لكن ما لا تراه يا صديقي أن حضارتكم في أسوأ حالاتها تظل خطوة إلى الأمام بالنسبة إلينا. فالجرامافونات والقبعات المستديرة و«نيوز أوف ذا وورلد»، كلها أشياء أفضل من بلادة الشرقيين الكريهة. أرى البريطانيين، وحتى أقلهم ذكاء، بمثابة، بمثابة - راح الطبيب يبحث عن عبارة، حتى وجد واحدة ربما من ستيفنسون - بمثابة حاملي الشعلة على طريق التقدم.» «لا أراهم كذلك. أراهم نوعا من القمل المغرور النظيف المعاصر. يتسللون في أنحاء العالم لبناء السجون. يبنون سجنا ويسمون هذا تقدما.» أضاف بشيء من الندم: فالطبيب لن يدرك التشبيه. «حقا إنك تكرر موضوع السجون يا صديقي! فلتعترف أن هناك كذلك إنجازات أخرى لأهل بلدك. فإنهم ينشئون الطرق ويروون الصحاري، ويقضون على المجاعات، ويبنون المدارس، ويقيمون المستشفيات، ويكافحون الطاعون والكوليرا والجذام والجدري والمرض التناسلي.»
قاطعه فلوري قائلا: «الذي جلبوه بأنفسهم.»
فرد عليه الطبيب، متحمسا لنسب هذا التميز لأهل بلده، وقال: «لا يا سيدي! لا يا سيدي، الهنود هم من أدخلوا المرض التناسلي في هذا البلد. الهنود يدخلون الأمراض، والإنجليز يداوونها. هذه هي الإجابة على كل تشاؤمك وتحريضك.» «حسنا يا دكتور، إننا لن نتفق أبدا. الواقع هو أنك تهوى كل هذه الأمور المتعلقة بالتقدم الحديث، بينما أميل أنا إلى رؤية الفساد في الأمر. أعتقد أن بورما في أيام ثيبو كانت ستناسبني أكثر. وكما قلت من قبل، لو كان لنا تأثير تحضري، فهذا فقط من أجل بسط سيطرتنا على نطاق أكبر. لو لم يكن الأمر مجديا لكنا تخلينا عنه سريعا.» «ليس هذا رأيك يا صديقي. إن كنت تستنكر الإمبراطورية البريطانية بحق، ما كنت ستتحدث في الأمر سرا هنا. كنت ستجاهر به فوق أسطح المنازل. فإنني أعرف شخصيتك أكثر مما تعرفها أنت نفسك يا سيد فلوري.» «معذرة يا دكتور؛ إنني لا أحبذ المجاهرة من فوق أسطح المنازل. فليس لدي الشجاعة. إنما «أنصح باتباع سبيل السلام على وضاعته»، مثل بليال العجوز في «الفردوس المفقود»، فهذا آمن سبيل. في هذا البلد، إما أن تكون واحدا من السادة البيض المبجلين أو تموت. وإنني لم أتحدث مع أحد بصدق سواك منذ خمسة عشر عاما. إن أحاديثي هنا بمثابة صمام أمان؛ طقس سري لعبادة الشيطان، إذا فهمت ما أعني.»
في هذه اللحظة جاء من الخارج صوت نحيب بائس. كان ماتو العجوز، البواب الهندوسي الذي يحرس الكنيسة الأوروبية، واقفا في ضوء الشمس أسفل الشرفة. كان مخلوقا مسنا مصابا بالحمى، أقرب شبها إلى حشرة الجندب من الإنسان، تلفع بخرقة قذرة لا تزيد عن بضع بوصات مربعة. كان يقطن بالقرب من الكنيسة في كوخ مبني من صفائح الكيروسين المفرودة، من حيث كان يمضي مهرولا عند ظهور أحد الأوروبيين، ليحييه منحنيا ويشكو بعبارات ما حول مرتبه، الذي كان ثماني عشرة روبية شهريا. راح ماتو يرنو في مسكنة إلى الشرفة، وهو يدلك بيد جلد بطنه الشبيه بلونه بالوحل، وبيده الأخرى يؤدي حركة من يضع الطعام في فمه. تحسس الطبيب جيبه ورمى قطعة بأربعة آنات من فوق درابزين الشرفة. كان معروفا برقة قلبه، فكان كل الشحاذين في كياوكتادا يستهدفونه.
قال الطبيب، مشيرا إلى ماتو، الذي انحنى مثل الدودة وهو يتفوه بنحيب الامتنان: «انظر إلى تردي الشرق. انظر إلى ضعف أطرافه. إن ساقيه أنحف من ساعدي الرجل الإنجليزي. انظر إلى بؤسه وذله. انظر إلى جهله؛ جهل لا تراه في أوروبا إلا خارج دار المرضى العقليين. ذات مرة سألت ماتو عن عمره، فقال: «أعتقد يا سيدي أنني في العاشرة.» فكيف تدعي يا سيد فلوري أنكم لستم أسمى طبيعة من تلك المخلوقات؟»
قال فلوري وهو يلقي قطعة أخرى بأربع آنات من فوق السور: «مسكين ماتو العجوز، يبدو أن نهضة التقدم الحديث قد فاتته بطريقة ما. هيا يا ماتو، أنفقها على الشراب. لتنغمس في الفسق بقدر ما تستطيع. هذا كله يؤخر اليوتوبيا.» «حسنا يا سيد فلوري، أشعر أحيانا أن كل ما تقوله إنما هو لكي - ما هو التعبير؟ - تستدرجني. إنه حس الدعابة الإنجليزي. نحن الشرقيين لا نتمتع بحس دعابة، كما هو معروف.»
قال فلوري: «محظوظون. أما نحن فقد أهلكنا حس دعابتنا اللعين.» ثم تثاءب واضعا يديه خلف رأسه. كان ماتو قد ابتعد بخطوات متثاقلة بعد أن لفظ المزيد من الأصوات المعبرة عن الامتنان. «أعتقد أنه ينبغي أن أذهب قبل أن ترتفع الشمس اللعينة عاليا في الأفق. سيكون الحر بالغا هذا العام، أشعر به يتسلل إلى عظامي. حسنا يا دكتور، لقد طالت بنا المجادلة للغاية حتى إنني لم اسألك عن الأخبار. لقد وصلت من الغابة بالأمس فقط، وعلي أن أعود بعد غد. لا أعلم ما إذا كنت سأفعل. هل وقع أي شيء في كياوكتادا؟ أي فضائح؟»
بدت الجدية على الطبيب بغتة، وخلع نظارته، فصار وجهه شبيها بوجه كلب ريتريفر أسود، بعينيه السوداوين اللامعتين. أشاح ببصره، وتحدث بنبرة أكثر ترددا عن ذي قبل بقليل. «في الواقع، ثمة مسألة غير سارة على الإطلاق مقبلة يا صديقي. قد تثير ضحكك - فهي تبدو هينة - لكنني في مشكلة خطيرة. أو بالأحرى معرض لمشكلة. إنها مسألة سرية. أنتم الأوروبيون لن تعلموا بها أبدا مباشرة. في هذا المكان - أشار بيده في اتجاه البازار - تحاك باستمرار مؤامرات ودسائس لا تسمعون بها، لكنها تعني لنا الكثير.» «ماذا حدث إذن؟» «ثمة مكيدة تدبر ضدي، هذا ما في الأمر. مكيدة شديدة الخطورة الهدف منها تشويه سمعتي والقضاء على مستقبلي المهني. لن تفهم هذه الأشياء لأنك رجل إنجليزي. لقد أثرت عداوة رجل ربما لا تعرفه، يو بو كين، قاضي المركز. إنه من أخطر الرجال، والأذية التي يستطيع إلحاقها بي تفوق الحصر.» «يو بو كين؟ من هذا؟ ذكرني به.» «الرجل الضخم البدين ذو الأسنان الكثيرة. يقع منزله آخر الطريق، على بعد مائة ياردة.» «ذلك الوغد البدين؟ أعرفه جيدا.»
Bog aan la aqoon