قالت السيدة لاكرستين في حيرة؛ إذ لم يكونوا يتوقعون أي وافدين جدد: «هل ستقيم هنا؟» «نعم، بالضبط. لحسن حظي بالتأكيد.» «لكننا لم نسمع ... آه، صحيح! أعتقد أنك من قسم الغابات؟ محل السيد ماكسويل المسكين؟» «ماذا؟ قسم الغابات؟ كلا ألبتة! إنني رجل الشرطة العسكرية الجديد.» «ماذا؟» «رجل الشرطة العسكرية الجديد. سأحل مكان العزيز فيرال. فقد تلقى الرجل أوامر بالعودة إلى كتيبته. إنه مغادر في عجلة شديدة. وقد ترك كل شيء في فوضى عارمة للعبد لله.»
مع أن ضابط الشرطة العسكرية كان شابا متبلد الإحساس فقد لاحظ أن وجه إليزابيث صار باهتا فجأة. وقد وجدت نفسها غير قادرة على الكلام بتاتا. ومضت بضع ثوان قبل أن تستطيع السيدة لاكرستين أن تهتف قائلة: «السيد فيرال، يرحل؟ إنه لم يرحل بعد قطعا؟» «يرحل؟ لقد رحل!» «رحل؟» «حسنا، كنت أقصد أن القطار سيتحرك بعد نحو نصف ساعة. لا بد أن يكون قد وصل إلى المحطة الآن. لقد أرسلت فرقة عساكر لترعى احتياجاته. فلا بد أن يسافر بأمهاره وما إلى ذلك.»
ربما كان هناك المزيد من الشروح، لكن لم تسمع إليزابيث ولا زوجة عمها كلمة منها. على أي حال، خلال خمس عشرة ثانية كانتا الاثنتان بالخارج على السلم الخارجي، دون كلمة وداع حتى لضابط الشرطة العسكرية. نادت السيدة لاكرستين على الساقي بحدة. «أيها الساقي! أرسل عربة الريكشا للواجهة في الحال!» وأردفت حين ظهر سائق الريكشا: «إلى المحطة بسرعة!» وبعد أن استقرت جالسة في العربة، وخزته في ظهره بطرف مظلتها ليبدأ التحرك.
كانت إليزابيث قد ارتدت معطفها الواقي من المطر وكانت السيدة لاكرستين ترتعد في العربة خلف مظلتها، لكن لم يكن لأي منهما فائدة كبيرة في مواجهة الأمطار. فقد راحت تهطل عليهم هطولا، حتى إن فستان إليزابيث ابتل قبل أن يبلغوا البوابة، وكادت العربة تنقلب في الريح. أحنى سائق العربة رأسه وراح يقاومها، متذمرا. كانت إليزابيث في حال من العذاب. لقد كان خطأ، كان خطأ يقينا. لقد كتب لها رسالة لكنها ضلت الطريق. كان هذا ما في الأمر، ولا بد أن يكون كذلك! لا يمكن أن يكون قد قصد أن يتركها دون حتى أن يقول لها وداعا! وحتى إن كان كذلك، لا، إنها لن تيأس حتى في هذه الحالة! حين يراها على رصيف المحطة، للمرة الأخيرة، لن تصل به القسوة أن ينبذها! مع اقترابهم من المحطة تخلفت عن العربة وقرصت وجنتيها لتتضرجا حمرة. مرت بهم فرقة من جنود الشرطة العسكرية بخطوات متعجلة، وقد ابتلت بذلاتهم الرسمية الخفيفة حتى صارت أسمالا، يدفعون عربة يد بينهم. لا بد أنهم فرقة العساكر التي كانت مع فيرال. حمدا لله، كان ما زال هناك ربع ساعة. لم يكن القطار سيغادر قبل ربع ساعة أخرى. حمدا لله، على هذه الفرصة الأخيرة لرؤيته على الأقل!
وصلوا الرصيف في الوقت المناسب بالضبط لرؤية القطار وهو يخرج من المحطة وتزداد سرعته بسلسلة من الصيحات تصم الآذان. ناظر المحطة، وهو رجل قصير ممتلئ أسود، كان واقفا على الخط يتطلع إلى القطار بأسف، وقد أمسك قبعة صغيرة مقاومة للماء على رأسه بيد، وباليد الأخرى راح يدرأ رجلين هنديين صاخبين، كانا يتوثبان حوله ويحاولان لفت انتباهه إلى شيء ما. مالت السيدة لاكرستين بجسمها خارج العربة وهتفت بصوت مرتعش في المطر: «يا ناظر المحطة!» «سيدتي!» «أي قطار هذا؟» «إنه قطار ماندالاي يا سيدتي.» «قطار ماندالاي! لا يمكن!» «أؤكد لك ذلك يا سيدتي! إنه قطار ماندالاي لا شك.» تقدم نحوهما، وهو يخلع قبعته. «لكن السيد فيرال، ضابط الشرطة. إنه ليس على متنه بالتأكيد؟» «بلى يا سيدتي، لقد رحل.» وأشار بيده ناحية القطار، الذي كان قد راح يبتعد سريعا في سحابة من الأمطار والبخار. «لكن ميعاد تحرك القطار لم يكن قد حان!» «لا يا سيدتي. كان أمامه عشر دقائق أخرى.» «لماذا تحرك إذن؟»
لوح ناظر المحطة بقبعته معتذرا يمينا وشمالا. وقد بدا على وجهه الأسمر المكتنز أسى بالغ. «أعلم يا سيدتي، أعلم! إنها أول مرة على الإطلاق! فقد أمرني ضابط الشرطة العسكرية الشاب وشدد على أمره أن أبدأ الرحلة! لقد قال إن كل شيء جاهز وإنه لا يريد أن يظل منتظرا. أشرت إلى أنه شيء مخالف للقواعد. فقال إنه لا يأبه لمخالفة القواعد. اعترضت أنا فأصر. بإيجاز ...»
وقام بحركة أخرى قصد بها أن فيرال كان من نوعية الرجال الذين يفرضون إرادتهم، حتى إذا كان في ذلك سفر قطار قبل موعده بعشر دقائق. ساد صمت. وفجأة هرع إليهم الهنديان، معتقدين أنهما وجدا فرصتهما، وأخذا ينوحان، وعرضا على السيدة لاكرستين بعض الدفاتر الحقيرة لتطالعها.
صاحت السيدة لاكرستين بذهن شارد: «ماذا يريد هذان الرجلان؟» «إنهما بائعا كلأ يا سيدتي. يقولان إن الملازم فيرال قد رحل مدينا لهما بمبالغ كبيرة من المال. أحدهما مقابل التبن، والآخر مقابل الذرة. إنه أمر لا يعنيني.»
تصاعدت ضوضاء عن القطار البعيد، الذي دار عند المنعطف، مثل دودة سوداء من الخلف تنظر من فوق كتفها أثناء سيرها، واختفى. رفرف السروال الأبيض المبتل لناظر المحطة بشكل بائس حول ساقيه. ما إذا كان فيرال قد جعل القطار يتحرك مبكرا للهروب من إليزابيث، أو للهروب من بائعي الكلأ، كان سؤالا شائقا لم تتضح إجابته قط.
ذهبوا في طريق العودة، ثم صعدوا بمشقة التل في تلك الرياح الشديدة حتى إنهم كانوا أحيانا يرجعون إلى الوراء عدة خطوات. حين وصلتا إلى الشرفة كانتا تلهثان بشدة. أخذ الخدم معطفيهما اللذين تدفق منهما الماء، ونفضت إليزابيث بعض الماء عن شعرها. كسرت السيدة لاكرستين صمتها لأول مرة منذ غادرتا المحطة وقالت: «حسنا! من بين كل التصرفات الفظة، فهذا هو الأكثر فظاظة، الأشد قبحا ...!»
Bog aan la aqoon