غاص فلوري عميقا فتلقفه القاع المخيف للنهر، وابتلعه حتى ركبتيه حتى إنه لم يستطع أن يحرر نفسه قبل عدة ثوان. حين عاد إلى السطح تجمع حول شفتيه زبد فاتر، مثل الرغوة التي تتجمع على الجعة، ودخل حلقه شيء إسفنجي وراح يخنقه. كان ذلك عود أحد نباتات زنبق الماء. استطاع أن يبصقه، ثم وجد أن التيار السريع كان قد جرفه عشرين ياردة بالفعل. كان البورميون يجرون بلا هدف نوعا ما في أنحاء الضفة، وهم يتصايحون. لم يستطع فلوري، وعيناه في مستوى الماء، أن يرى الحشد وهم يحاصرون النادي لكنه استطاع أن يسمع هديرهم العميق الخبيث، الذي بدا أعلى حتى مما كان على الشاطئ. بحلول الوقت الذي صار فيه أمام خطوط الشرطة العسكرية بدت الضفة شبه خاوية من الرجال. تمكن من انتزاع نفسه بمشقة من التيار والخوض متعثرا في الوحل الذي ابتلع جوربه الأيسر. على بعد مسافة قصيرة من الشاطئ كان ثمة رجلان عجوزان جالسان بجانب سور، يشحذان أعمدته، كأن ليس هناك شغب على بعد مائة ميل منهما. زحف فلوري إلى البر، وتسلق السور وركض متثاقلا عبر ساحة العروض العسكرية البيضاء بلون القمر، وقد تهدل سرواله المبتل. بقدر ما أتاحت له الضوضاء أدرك أن الصفوف كانت خاوية تماما. كانت خيول فيرال تتقافز في ذعر في بعض المرابط على اليمين. فخرج فلوري إلى الطريق ركضا، ورأى ما حدث.
كان جهاز الشرطة بأسره، العسكرية والمدنية، نحو مائة وخمسين رجلا في المجمل، قد هاجم الحشد من الوراء، متسلحين بالعصي فقط. كانوا محاصرين تماما. فقد كان الحشد كثيفا للغاية حتى إنه بدا مثل سرب هائل من النحل يمور ويدور. كان يبدو للعيان في كل مكان رجال الشرطة وهم محشورون بلا حول ولا قوة بين جحافل البورميين، يقاومون بحدة لكن بلا جدوى، وقد ضاق عليهم الخناق ضيقا حتى استعصى عليهم استخدام عصيهم. تشابكت جماعات كاملة من الرجال مثل تمثال لاوكون وأبنائه بالعمامات المفكوكة. تعالت أصوات السباب بثلاث أو أربع لغات، وسحب من الغبار، وروائح العرق وزهور القطيفة الخانقة، لكن بدا أنه لم يصب أحد إصابة بالغة. لم يستخدم البورميون سيوفهم خوفا من استفزاز الإنجليز لإطلاق النار من بنادقهم. شق فلوري طريقه في الزحام فابتلعه في الحال مثل الآخرين. اكتنفه بحر من الأجساد وراح يتقاذفه من ناحية لأخرى، وهو يخبط ضلوعه ويخنقه برائحته الحيوانية. ظل يقاوم حتى يتقدم يساوره شعور يشبه الحلم؛ إذ كان الموقف في غاية من الغرابة والخيال. كان الشغب بأسره سخيفا من البداية، والأسخف أن البورميين، الذين قد يقتلونه، لم يعلموا ماذا يفعلون به الآن وهو بينهم. هتف بعضهم بالسباب في وجهه، ودفعه البعض الآخر وداسوا على قدميه، بل وحاول البعض أن يفسح له الطريق، لكونه رجلا أبيض. ظل وقتا طويلا جدا عالقا في الزحام، عاجزا، وقد التصق ذراعاه بجانبيه، حتى وجد نفسه يصارع رجلا بورميا قصيرا وبدينا أشد منه بأسا بكثير ، ثم اصطدم به عشرة رجال مثل الموجة وتوغلوا به أكثر في قلب الجموع. شعر فجأة بألم ممض في إصبع قدمه اليمنى الكبير؛ إذ كان قد وطئه شخص يرتدي حذاء برقبة. كان ضابطا هنديا في الشرطة العسكرية، من الأمراء، بدين جدا، بشارب، وبلا عمامة. كان قابضا على عنق أحد البورميين ويحاول ضرب وجهه، فيما انهمر العرق من رأسه العاري الحليق. ألقى فلوري بذراعه حول عنق الضابط الهندي واستطاع أن ينتزعه من خصمه وصاح في أذنه، لكن تاهت منه اللغة الأردية، فصاح بالبورمية وقال: «لماذا لم تطلقوا النار؟»
ظل وقتا طويلا غير قادر على سماع رد الرجل. ثم سمعه: «لم أتلق أوامر بذلك!» «أحمق!»
في هذه اللحظة اصطدم بهما جمع آخر من الرجال، وظلا للحظة أو لحظتين متسمرين في مكانيهما وغير قادرين على الحركة مطلقا. أدرك فلوري أن الضابط كان لديه صفارة في جيبه وكان يحاول الوصول إليها. وأخيرا انتزعها وأطلق بها عدة صفارات حادة، لكن لم يكن ثمة أمل في حشد أي رجال حتى يستطيعوا الوصول إلى مكان خال. كان الخروج من التجمهر عملا مخيفا، أشبه بالخوض حتى عنقك في بحر دبق. في بعض الأحيان كان يسيطر الإنهاك على أطراف فلوري حتى إنه كان يقف بلا حراك، تاركا الجموع توقفه بل وتدفعه إلى الوراء. أخيرا وجد نفسه وقد اندفع خارج الحشد، بفعل التدافع العادي للناس أكثر من جهده هو. كان الضابط قد خرج هو الآخر، وعشرة أو خمسة عشر جنديا، ومفتش شرطة بورمي. جلس أغلب الجنود مقرفصين يكادون يسقطون من التعب، وقد صاروا يعرجون بعد أن وطئت أقدامهم. «هيا، انهضوا! اركضوا بأسرع ما يمكن إلى موقعكم! وليأت كل منكم ببعض البنادق ومشط ذخيرة.»
كان أكثر إرهاقا من أن يتحدث بالبورمية، لكن فهمه الرجال وعرجوا بخطوات ثقيلة في اتجاه موقع الشرطة. وتبعهم فلوري، ليبتعد عن الحشود قبل أن يهاجموه مرة أخرى. حين وصل إلى البوابة كان الجنود قد رجعوا ببنادقهم ويتأهبون بالفعل لإطلاق النار.
قال الضابط الهندي وهو يلهث: «سيعطينا السيد الأمر !»
هتف فلوري بالمفتش قائلا: «أنت! هل تتحدث الهندوستانية؟» «أجل يا سيدي.» «فلتخبرهم إذن أن يطلقوا النار عاليا، فوق رءوس الناس مباشرة. والأهم من ذلك أن يطلقوا النار جميعا معا. اجعلهم يفهمون ذلك.»
تولى المفتش البدين الذي كانت لغته الهندوستانية أسوأ حتى من فلوري، شرح المطلوب، شرحا أغلبه قفز وإيماءات. رفع الجنود بنادقهم، ثم دوى هدير، تردد صداه على جانب التل. اعتقد فلوري من أول وهلة أن أمره قد أغفل؛ إذ سقط القسم الأقرب إليهم من الحشد بالكامل مثل كوم من القش. إلا أنهم كانوا هم من طرحوا أنفسهم أرضا مذعورين. أطلق الجنود وابلا ثانيا من الرصاص، لكن لم يكن ثمة حاجة إليه. فقد كان الحشد قد شرع يتدفق بعيدا عن النادي مثل نهر يغير مساره. تدافع الناس على الطريق، حيث وجدوا الرجال المسلحين معترضين سبيلهم، فحاولوا التراجع، وهنا نشأت معركة جديدة بين من في المقدمة ومن في الخلف؛ في النهاية نفر الحشد بأكمله إلى الخارج وجعلوا يتدفقون على مهل في الميدان. تحرك فلوري والجنود بتمهل في اتجاه النادي في أثر الحشد المتراجع. تخلف رجال الشرطة، الذين كانوا محاصرين، فرادى وأزواجا. كانت عمائمهم قد اختفت وقلاشينهم مجرجرة ورائهم على بعد ياردات، لكن لم يصبهم أذى أخطر من الرضوض. وراح رجال الشرطة المدنية يسحبون عددا قليلا جدا من المسجونين. حين وصلوا إلى مجمع النادي كان البورميون لا يزالون يتدفقون منه، طابور لا ينتهي من الرجال يقفزون برشاقة من خلال فجوة في السور مثل موكب من الغزلان. بدا لفلوري أن الظلام اشتدت حلكته. خلص شخص ضئيل في لباس أبيض نفسه من ذيل الحشد وسقط منهكا بين ذراعي فلوري. كان ذلك هو الدكتور فيراسوامي، وقد تمزقت رابطة عنقه مع أن نظارته ظلت سليمة بمعجزة. «دكتور!» «آه يا صديقي! آه، كم أنا منهك!» «ماذا تفعل هنا؟ هل كنت في قلب ذلك الحشد؟» «كنت أحاول ردعهم يا صديقي. لكن كان دون جدوى حتى جئت أنت. لكن على الأقل هناك من الرجال من يحمل أثر هذه على ما أعتقد.»
ومد قبضته الصغيرة لفلوري ليرى مفاصل أصابعه وقد أصيبت. لكن الظلام كان دامسا بالطبع. في نفس الآونة سمع فلوري صوتا أخنف وراءه. «حسنا يا سيد فلوري، لقد انتهى الأمر تماما الآن! مجرد زوبعة في فنجان كالعادة. أنا وأنت معا تكاثرنا عليهم. ها، ها!»
كان هذا يو بو كين. ذهب نحوهما وقد بدت عليه أمارات المحارب، حاملا هراوة ضخمة، وواضعا مسدسا في حزامه. كان يرتدي لباسا منزليا عن عمد - قميص داخلي وسروال فضفاض - ليعطي الانطباع أنه كان قد هرع من منزله بأقصى سرعة. وهو الذي ظل مختبئا حتى زال الخطر، ثم تقدم مسرعا لاغتنام أي نصيب ممكن من الفضل.
Bog aan la aqoon