جلست في شرفة الدار عصرا، فجاءت سيدة الدار وفي يدها طعام ملفوف في ورقة صفراء، وقفت تقول لي: إنها ذاهبة إلى الحديقة لتطعم الديدان؛ فنظرت إليها نظرة فيها دهشة وسؤال، فقالت: إني أطعم الديدان، في حديقتي مجموعة كبيرة منها أواليها بالطعام، إنني أعطف عليها، كنت منذ سنوات أقشعر منها وأخشاها؛ لأنها ستأكل جسدي بعد الموت، لكني الآن أعطف عليها؛ فأقل ما يقال فيها: إنها تنفع تربة الأرض للزراعة دون أن يلحقنا منها أذى، قليلة هي الأشياء التي تنفع ولا تؤذي؛ لهذا أذهب كل يوم إلى حديقتي وأطعم مجموعة كبيرة من الديدان هناك.
قلت لها: إنني أسمع مواء قطة لا ينقطع، يأتي إلى غرفتي من النافذة الخلفية، فهل في الحديقة قطة حبيسة؟ فقالت: لا، هذا طائر صوته يشبه المواء؛ إنني لا أطعم القطط ولا أحبها لسبب واحد وهو أنها تأكل العصافير، إن لي صديقا اسمه كذا يحب العصافير حبا جما؛ ولهذا ألف جمعية تعمل جهدها للتخلص من القطط صيانة للعصافير وحماية لها، لكن الجمعية جعلت مبدأها ألا تؤذي قطا، بل هي تجمع القطط في مكان ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وبهذا تعيش القطط وتعيش العصافير، وصديقي هذا يعطي دولارا (ريالا) لكل من أعطاه قطة يضمها إلى معسكر القطط.
الثلاثاء 29 سبتمبر
صاحب البيت قسيس متقاعد، كان واعظا في كوريا والصين؛ حيث قضى الشطر الأكبر من حياته، واسمه «م» ... ما أعجب هذا الرجل في شدة طيبته وتواضعه واستعداده الحقيقي للخدمة والمعونة! وقد ذكرني بالقسيس الذي التقيت به في الطائرة من باريس إلى نيويورك، فهل يجوز لي من هذين المثلين أن أعمم الحكم وأقول إن رجل الدين في المسيحية رجل دين حقا من حيث التواضع والتضحية بالنفس في سبيل غيره؟ هل يجوز لي أن أقول بناء على هذه الخبرة القليلة مع هذين الرجلين إن رجل الدين عندهم لا يعتقد في دينه فقط، بل يحياه ويتمثله؟ ... وهنا كدت أكتب: «وأما رجل الدين عندنا ...» لولا أنني اعترضت على نفسي قائلا: ليس عندنا «رجل دين» بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فكل مسلم رجل دين؛ بمعنى أن كل مسلم مسئول عن دينه أمام ربه ... وعلى كل حال أراني مدفوعا إلى كتابة هذه العبارة: «إن من يسمون عندنا برجال الدين قوم حفظوا قواعد الدين ودرسوها كما تدرس الرياضة أو الجغرافية، لكنهم قل أن يحيوها بحيث تتمثل حية في أشخاصهم.»
اتصل بي الدكتور «ش» رئيس قسم الفلسفة بالجامعة؛ لينبئني أنه سيرتب أربعة اجتماعات في منزله في أيام حددها لي، بحيث يدعو في كل اجتماع مجموعة من الأساتذة ليعرفوني وأعرفهم، فشكرته في حرارة وإخلاص على هذا الكرم الأصيل ... إن الدكتور «ش» مثل نادر للرجل المهذب المؤدب، إنني والله كلما رأيت رجلا كهذا كيف يقدم لي المعونة مضحيا بوقته وجهده؛ أعجب لنفسي أشد العجب أن يشيع عن القوم أنهم ماديون في نزعاتهم وفي حياتهم، وأننا - نحن المصريين - روحانيون! ليس الأمريكيون معنى مجردا في الهواء، بل هم ناس، فإذا أردت أن تقول عنهم شيئا فأمسك القول حتى ترى أفرادهم وتتحدث إليهم لترى بنفسك إن كان «الدولار» وحده هو دائما رائدهم في سلوكهم كما يشيع عنهم، أم أنهم مدفوعون إلى سلوكهم في كثير جدا من الأحيان بمعان إنسانية سامية نبيلة ... لماذا جاء الدكتور «ش» هذا مع العميد «ن» ليقابلاني في المطار؟ لماذا يتسابقان على حمل حقائبي؟ لماذا يرتب لي هذه الحفلات الأربع في منزله؟ لماذا يحمل إلي بنفسه الكرسي الثقيل من طابق في البناء إلى طابق حتى يعد لي مكانا مريحا؟ لماذا يدور بي في سيارته ساعات ليبحث لي عن سكن أستقر فيه؟ هذا أمريكي، فهل دفعه إلى هذا السلوك كله حب «الدولار»؟ أم دفعه قلب كبير وشعور نبيل؟ إنني في هذه اليوميات لن أكتب إلا خبرتي الشخصية المباشرة، وسأصم أذني بعد الآن حتى لا أسمع هذه الأحكام الجائرة التي يلقيها الناس جزافا على شعوب بأسرها.
لو سئلت عن الأمريكيين لأجيب في حدود خبرتي؛ لقلت بغير تردد: إنهم يمتازون بحسن العشرة وكرم الضيافة؛ فيستحيل أن أجلس في مطعم ثم يأتي من يشاركني في المائدة دون أن يحيي تحية طيبة وأن يبدأ الحديث، وإذا انقطع حبل الحديث بيننا فانقطاعه دائما يكون من ناحيتي لا من ناحيته.
الأربعاء 30 سبتمبر
كان الدكتور «ز» قد لاحظ لي - وأنا في القاهرة - قائلا: إن المشكلة الجنسية في أمريكا محلولة بالزواج المبكر، والظاهر أنه قد أصاب في ملاحظته؛ فالطالبات اللائي يحضرن لي محاضراتي كلهن متزوجات، وكثيرون جدا من الطلبة متزوجون؛ وملاحظاتي في هذا الباب تزداد اتساعا، فأزداد بذلك وثوقا أن الزواج هنا إنما يكون في سن مبكرة جدا، في العشرين أو نحوها، وأنك تكاد لا تعثر فوق هذه السن على رجل واحد أو امرأة واحدة غير متزوجة، وقد جاء ذلك الزواج المبكر بنتيجتين: أولاهما استقامة الأخلاق استقامة لا تطرأ ببال أحد خارج البلاد الأمريكية! ألا ما أظلم الناس في أنحاء العالم حين يحكمون على الأمريكيين بتحلل الأخلاق! لكنها السينما هي التي أوحت إلى الناس أن الحياة في أمريكا كلها مصورة في حياة الممثلين والممثلات على الشاشة البيضاء! ... الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمت منها إلى التحلل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجة لا يحلم بها إنسان من الشعوب الأخرى، ثم تفرع عن ذلك سبب ثان وهو الزواج المبكر واستتباب الأسرة.
وأما النتيجة الثانية للزواج المبكر فهي أن يتزوج الزوجان في سن متقاربة إن لم تكن متساوية، وذلك مقبول حين يكونان في العشرين والثلاثين، أما حين تتقدم بهما السن إلى الأربعين والخمسين، فالرجل يظل على شبابه على حين تهرم المرأة، فترى الزوجين عندئذ فيخيل إليك أنك إزاء رجل ووالدته لا رجل وزوجته، ومن هنا كثيرا ما ينشأ الطلاق في سن متأخرة؛ ولذا تسمع عن نسبة عالية في الطلاق بين الأمريكيين.
لم أكن أتصور أن تبلغ الإذاعة هنا هذه الدرجة كلها من السخف بسبب الإعلانات التجارية؛ فلست أبالغ إذا قلت: إنه بعد كل إذاعة تستغرق خمس دقائق يذاع إعلان تجاري؛ الإعلان يتخلل الأحاديث والغناء والموسيقى، فلا يمكن أن تفتح الراديو وتستمتع بإذاعة متصلة في شيء واحد مدة نصف ساعة مثلا؛ بل إن الذي يتولى البرنامج الإذاعي كثيرا ما يكون هو المحل التجاري الذي يعلن عن نفسه؛ فمثلا تعلن سيارات شفروليه عن نفسها في نصف ساعة، فتعد لذلك برنامجا إذاعيا، فيه أغان وفيه موسيقى، وبعد كل بضع دقائق من الأغاني أو الموسيقى يقطع المذيع مجرى الشيء المذاع ليقول شيئا عن سيارات شفروليه وهكذا، حتى الأخبار تتولى إذاعتها شركات تجارية لتنتهز فرصتها وتعلن عن نفسها خلال إذاعة الأخبار.
Bog aan la aqoon