ولو أنكم عرفتم ما في نفوسكم من المحبة والعطف والعشق والشوق وحب بني آدم إخوانكم لألفيتم أن نظام أرواحكم مستمد من ذلك الحب العالي الذي تسمونه جاذبية، فالإنسان محب للإنسان، يحب الإنسان العالم والجميل والشجاع والشريف والكريم، من أي ملة ونحلة وأمة، فذلك عشق كعشق الكواكب، فمن هنا عرفتم أرواحكم وعواطفكم، فسنوا سنن النظام الاجتماعي على مقتضى تلك الكواكب، ولتكن كل أمة منكم كوكبا يحب الأعلى الأدنى، ويتحابون ويتوادون ولا يطغى بعضها على بعض، ولتكن الأمة الكبرى لأخواتها الصغيرات كالشمس للسيارات حولها؛ تلقي عليها أشعة علمها لا تبتغي منها جزاء ولا شكورا، وكما أن الشمس ترسل أشعتها على السيارات وما للسيارات عليها من فضل، هكذا فلتفعل الأمم الكبيرة تجاه الأمم الصغيرة، وكفاها شرفا أنها بناتها تدور حولها، وعار على الأمم الكبرى أن تظلم الصغرى، وعار على الأمم المتعلمة أن تذل الجاهلة.
ولقد علمت مما ورد لي أن الأمم الكبيرة تنزع السلاح من الصغيرة، وتحجب عنها أشعة العلم، وتبقيها فقيرة لتجعلها خدما لها، وأن عندكم أمة لا تبلغ إلا نحو أربعة ملايين أعطيت أمة تبلغ 24 مليونا، ومنعتها العلم والحكمة، وألقت بينها العداوة والبغضاء، وهذا عار وتأخر؛ لأن أولئك الملايين إن استناروا أفادوا المجموع الإنساني أضعافا مضاعفة، فإذا اختصت أمة بقهرهم كالدواب فقد حجبت نورهم عن سائر الأمم، وهو نقص في إنسانيتكم، وشقاء لجامعتكم، أتدري لو أن كوكبا تخطى دائرته ماذا يكون، تتماوج الكواكب، ويضل التوازن، ثم تتحطم، ويكون فساد النظام، كما فسد نظامكم الإنساني بجشع الأمم، وحرصها على المادة الغذائية، ولتعلم أنهم ما داموا لا يراعون إلا المادة، ولا يطيعون وجدانهم وفطرتهم السامية الحقيقة، ويقولون: لا يراعى إلا ما سد الجوع وكسا الجلد فإن نظامكم يبقى فاسدا، حتى تهلكوا، أو تبيدوا، ويؤتى بخلق جديد؛ لأنكم لا وزن لكم ولا قيمة، ولا شرف عند العالم السماوي فإنكم جاهلون ظالمون.
إنكم قتلتم عواطفكم ورحمتكم، وإني أرشدك أن تنشر قولنا في أنحاء العالم، فإن لرجال السياسة عواطف وشرفا وحبا يكتمونها في قلوبهم، ويدعونها جانبا، ثم يقولون: لا نتبع العواطف، بل نجري مع العقل، ولو أزالوا الشهوات، ولم يسيروا على أهواء الجهال من أممهم، وذوي الجشع والطمع من الذين يكنزون الذهب والفضة لوجدوا أن العطف شعبة من شعب العقول والأرواح، ثم انظروا إلى عقولكم وأرواحكم من وجهة أخرى.
إن الكرة الأرضية نبتت فيها الأغذية والفواكه والأدوية والملابس، ووزعت على أقطارها وأرجائها، واختص كل نبات وشجر ببقعة، بحيث لا ينبت إلا فيها، كمثل النخل لا ينبت في أوروبا، وهو ينبت في الشرق، وترى ما احتجتم إليه من الأغذية وافرا حاصلا كثيرا، وما قلت حاجتكم له قل كالأدوية، وما ندرت له الضرورة صار نادرا، كالسم النابت، كما أن الماء كثير، وأقل منه الغذاء، فالأول يقل النصب في تحصيله، ويكثر العناء والطلب والبحث في الثاني، فهل فهمت ما قررناه؟ قلت: نعم.
قال: فهكذا ترى الأخلاق والصناعات موزعة مفرقة على الحيوان، فمنه الناسج كالعنكبوت، ومدخر العسل وصانع الشمع كالنحل، وباني المساكن كالخطاطيف وكلاب البحر، ومغرد كالبلبل وغيره من سائر الطيور المغردة، وهذه مسألة أخرى.
فأما أنتم يا معشر الإنسان، فإن فطركم غرست فيها سائر الغرائز، وأنتم وإن لاصقتم القرد في صورة شكله وتقليده ونفسه فلقد لاصقتم الطاووس في جماله والببغاء في تشكيل صوته وسرعة تقليده، والكروان والكناري والبلبل وسائر الطيور المغردة في حسن أصواتها، والفرس في كره وفره وذكائه، والعنكبوت في هندسته، والنحل في عسله، فإنكم تعصرون القصب لتستخرجوا العسل، فأنتم نوع واحد، أشربت أنفسكم الإنسانية عواطف وأخلاق نفوس الحيوان، ولم يكن ذلك إلا لتصيطروا بنفسكم الإنسانية على غرائزكم الطبيعية العملية، ومتى سلطتم العقل عليها تعلمت وأبرزت مكنونات المخلوقات التي حولها، فتسوسون كالنمل، وتزرعون كزرعها، وتعيشون جماعات كما يعيش حمار الحبشة وأضرابه، وكما تعيش جماعات الطيور زمرا زمرا، ولتمتازوا عنها بهذا العقل الشريف العالي، فتكونوا أمة واحدة، وهذه هي الفضيلة التي بها تمتازون، والشرف الذي به تعلون، فأما الآن فلا شرف للإنسان.
المنافع والفوائد والثمرات مفرقة على سطح الأرض، وعقولكم وزعت عليها الغرائز قلة وكثرة على مقدار الحاجات، ولو أنكم بحثتم وفتشتم ودققتم لوجدتم لكل أمة كما لكل بقعة من الأرض استعدادا، ولكل رجل أو امرأة فكرا وغريزة لعمل، بحيث لو استخرجت تلك الغرائز وسيقت لما خلقت له لسعد الإنسان سعادته الممكنة، ولوجدتم فيكم عقول الحكماء والسواس قليلة والعاملين والزارعين والصانعين كثيرة، كنباتات الأغذية في الأرض، ولألفيتم لكل عمل أناسا يبرعون فيه.
إن الإنسانية العامة كمدرسة تتعلم فيها الغرائز العملية الصناعية، والعقل الإنساني سياج وقانون عام، وحصن يمنع طغيان الغرائز والشهوات والأميال، فهذا معنى الإنسانية، وهذا مستوى فضائلها وشرفها وفضلها.
الإنسان كله جسم واحد تام النظام، فكما أن له عينا وأذنا وأنفا ومعدة وأمعاء وكبدا وطحالا وشريانا ووريدا ورجلا ويدا. فهكذا للمجموع الإنساني غرائز مستعدة للحكمة والعلم والصناعة والأعمال الجثمانية.
ولست أقول: إن الفرد يصلح لعمل لا يصلح لسواه، كلا، فذلك يكذبه العيان، ألا إن كل فرد يصلح أن يعلم كل حرفة وصنعة، هذا لا ريب فيه، وإنما كلامنا كله في أيهم أشد استعدادا وأكثر قابلية، فوضع قولنا في الأفراد والأمم بالقرب والبعد والصعوبة والسهولة والقوة والضعف، وإن أول حل للمسألة الاجتماعية اقتراب عدد الذكور من عدد النسوان في مشارق الأرض ومغاربها بحيث لا تخلو قرية ولا أمة من نسوان وذكران يسدون الحاجة ويقومون بالتناسل.
Bog aan la aqoon