Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
وفي التاسعة من عمري سمعت أبي يقول لأخته رقية: «الطلاق لك أفضل من الزواج التعيس، اخلعيه يا رقية، من حق المرأة أن تخلع زوجها إذا ردت له المهر وتنازلت عن النفقة»، كان أبي دارسا للشريعة الإسلامية في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم.
لولا أبي ما استطعت أن أعرف هذا الحق الشرعي للمرأة يسمونه «الخلع»، ساعدني أبي على أن أخلع زوجي الأول، تنازلت عن النفقة والمهر، الكلمتان ترنان في أذني نابيتين، لم يكن المهر إلا خمسة وعشرين قرشا، حين سألني المأذون كم يكون المهر؟ رنت الكلمة في أذني نابية؛ لا أقبل أن يدفع لي الرجل مقابل الزواج، ما الفرق بين الزواج والبغاء؟ قال المأذون: العقد لا يكون صحيحا دون المهر، على الأقل خمسة وعشرون قرشا، كنوع من الرمز! قلت: رمز لأي شيء؟! قال: رمز قوامة الرجل على المرأة، الرجل واجبه الإنفاق والمرأة واجبها الطاعة. قلت: أنا طبيبة يضع الناس أرواحهم بين يدي ولا أقبل أن ينفق علي أحد، كيف أعيش عالة على زوجي وأنا طبيبة؟! قال المأذون: العقد يكون باطلا دون مهر. همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد. تكررت الواقعة في الزواج الثاني، لا بد من الرمز بالقروش على قوامة الرجل وإلا بطل عقد الزواج، همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد، أصبحت للمرة الثانية تحت طائلة القانون العبودي، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تفقد فيه المرأة كيانها الإنساني، تصبح ناقصة الأهلية، قاصرا مثل الطفل لم يبلغ سن الرشد أو المريض بعقله أو المعتوه، في حاجة إلى الوصاية، وزوجها هو الوصي عليها.
في الطلاق الأول كان أبي معي، دخل إلى مكتب المأذون بقامته الفارعة، كانت له هيبة الأنبياء، نهض المأذون واقفا، أهلا سعادة البيه. قال أبي: ابنتي الدكتورة تريد خلع زوجها والتنازل عن جميع حقوقها المادية وغير المادية! قال المأذون مخاطبا زوجي: هذا حقها الشرعي يا أستاذ، ثم كتب قسيمة الطلاق.
في الطلاق الثاني لم يكن أبي موجودا، مات أبي قبل أن أتزوج بعام ونصف، كنت وحدي في مواجهة رجل قانون، لا أعرف إلا القليل في القانون، صوت أبي الميت يقول: اخلعيه يا ابنتي هذا حقك الشرعي. عيناي تدوران في المكان تبحثان عن أبي، واقفا إلى جواري بقامته الفارعة يمسك يدي، صوته في أذني، تقدمي يا نوال ولا تخافي أنت على حق.
كان رجل القانون واقفا أمامي في غرفة النوم، صوته يزعق: «نجوم الضهر أقرب إليك من الطلاق»، قامته مربعة قصيرة، قدماه صغيرتان بيضاوان، يرتدي منامة حريرية بيضاء، وجهه أبيض بلون المنامة، عيناه صغيرتان غائرتان في اللحم كعيني أمه.
كنت واقفة أمامه، قامتي أطول من قامته، قدماي كبيرتان أكبر من قدميه، سمراوان محروقتان بالشمس، وهو واقف أمامي يمط عنقه شامخا بأنفه، يقول إنه رجل قانون، إن الرجل وحده يملك حق الطلاق، المرأة لا تملك هذا الحق. - المرأة تملك حق الخلع إن تنازلت عن حقوقها المادية بحسب الشرع يا أستاذ! - هذا في الشرع فقط يا دكتورة وليس في القانون! - أتعيش معي ضد إرادتي؟! - هذا حقي القانوني! - أنا لا أريد أن أعيش معك! - اذهبي إلى المحكمة!
المحكمة؟! اخترقت الكلمة رأسي مثل طلقة رصاص، لم أدخل في حياتي محكمة، ترن الكلمة في أذني على وزن مشرحة أو مقبرة، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، طوابير النسوة بالجلاليب السود أمام أبواب المحاكم، تشبه الطوابير أمام باب المستشفى والمشرحة والقبور، وجوههن الضامرة الشاحبة، عيونهن الذابلة جفت من الدموع، جحافل المحامين والقضاة داخل أروابهم مثل جحافل الأطباء يدقون الأرض بكعوب حديدية، يشمخون بأنوفهم، ترمقهم عيون النسوة المكلومات، واقفات في الطوابير الممدودة من الشارع حتى باب المحكمة.
كان واقفا أمامي يمط عنقه القصير الممتلئ باللحم، تيار من الدم الساخن يندفع من قمة رأسي، يهبط إلى عنقي وصدري حتى بطن القدمين، الغضب المتراكم في أعماقي منذ الطفولة، العشب الأسود في قاع البحر، خطوت نحوه خطوة واحدة، أردت أن أقبض بأصابعي على عنقه، أصابعي طويلة قوية أمسكت بها المشرط وفتحت الصدور والبطون، فجأة تذكرت أنني طبيبة جراحة، حقيبتي جاهزة بجوار المكتب داخلها المشرط، سرت نحوها خطوة بخطوة بطيئة، لم أسرع الخطو، مشيت بخطوة هادئة تشبه خطوة أبي الميت، رفعت قدمي اليمنى عن الأرض كما كان يرفعها، ثم القدم اليسرى، قدماي ثابتتان وعيناي مفتوحتان لا يطرف لهما جفن، كنت هادئة مثل أبي وفي كامل الوعي. انثنيت بجسمي الطويل أرفع الحقيبة من فوق الأرض، ثم انتصبت قامتي الفارعة مثل أمي، فتحت الحقيبة بأصابع قوية ثابتة، أخرجت مشرط الجراحة من جرابه الجلدي الأسود بحركة قوية سريعة، كالفارس يمتشق سلاحه واثقا من النصر، لمع النصل الحاد تحت الضوء بلون أبيض.
كان ظهري ناحيته لم أستدر بعد لأواجهه، النافذة مفتوحة أمامي، ضوء الفجر يشقشق في الأفق، العصفورة في عشها داخل شجرة الكافور، التقت عيناها بعيني فانتفض ريشها وطارت بعيدا، بدأ جسمي يتحرك لأستدير وأواجهه، قبل أن تكتمل الاستدارة تجمدت لحظة وأنا ألمح وجهي في مرآة الدولاب، ليس هو وجهي، الملامح لا أكاد أعرفها، البشرة شاحبة بلا قطرة دم، المقلتان كبيرتان مشتعلتان بنار سوداء، الجلباب قديم شاحب البياض يتدلى تحت الركبتين، القدمان حافيتان فوق بلاط أبيض، النصل الحاد يلمع في يدها بلون الموت الأبيض.
هذه الصورة محفورة في ذاكرتي حتى اليوم، نسيتها منذ تلك اللحظة كأنما لم تكن، ثم عادت إلي بعد عشرين عاما، في خريف 1981، التقيت لأول مرة في حياتي بامرأة قاتلة داخل السجن، كانوا يسمونها فتحية القتالة، لم أتخيل حين رأيتها لأول مرة أنها يمكن أن تقتل، كانت هادئة وادعة، وإن غضبت كل السجينات هي لا تغضب، ثم رأيتها مرة واحدة في لحظة غضب، أدركت أنها يمكن أن تقتل، عيناها الصافيتان مثل السماء في يوم مشرق تلبدتا وتعكرتا وأصبحتا بلون الطين الأسود. كانت الشاويشة في السجن تقول: القتل ليس جريمة يا ضكطورة، إنه لحظة غضب واحدة وتفوت، القتالات أحسن ناس، لا يدوروا ولا يلفوا زي بتوع المخدرات والنشالات.
Bog aan la aqoon