229

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

لحظة من الخيال ربما، وجدت نفسي أمشي فوق الماء، أهتز قليلا لكني أواصل المشي، أدخل إلى سراديب طويلة تشبه الممرات في مستشفى قصر العيني، طوابير المرضى والمريضات يفترشون الأرض إلى جوارهم قفف وأطفال يخبطون الهواء بسيقان معوجة يرمقون الأطباء بنظرة استجداء، يدب الأطباء فوق البلاط بكعوب قوية عسكرية، معاطفهم بيضاء ناصعة البياض، عيونهم من خلف النظارات مطفأة أو مغمضة، ينقرون بأصابعهم الغليظة على صدور الأطفال الذين تحملهم النساء فوق صدورهن المهدلة، وأنا أمشي بين طوابير المريضات أترنح فوق ساقين يتساقط من بينهما الدم، تنفرج شفاههن الشاحبة عن صوت خافت: «ربنا يشفيكي يا بنتي»، يمسحن عيونهم الذابلة بطرف الجلباب الأسود المغطى بالتراب، أشق طريقي بينهن بصعوبة، أتفادى النظر إلى عيونهن، لكن صدري يمتلئ بالدفء، أحتفظ في ذاكرتي بهذه النظرة الحانية في العيون الذابلة.

فتحت عيني فوجدتني غارقة في الدم، راقدة فوق منضدة من الرخام تشبه مناضد المشرحة أو غرفة عمليات الجراحة، فوقها ملاءة من المشمع الأحمر، فوق رأسي كشاف كهربي قوي الضوء، راقدة فوق ظهري مفتوحة الساقين، الذراعان والقدمان مربوطة بأحزمة جلدية في قوائم حديدية ترتفع فوق المنضدة، أسمع الأطباء يتبادلون الكلمات غير المفهومة، يشمخون بأنوفهم ويقولون «إفاكيوويشن» عقلي مشلول مخدر، ترن الكلمة في أذني منذ المدرسة الثانوية «إفاكيوويشن»، خرجت مع البنات في المظاهرة عام 1946، كنا نهتف في وجه الإنجليز في نفس واحد: «إفاكيوويشن ويذ بلاص»، وتعني «الجلاء بالدماء»، أو طرد الاحتلال الأجنبي من بلادنا بالحرب المسلحة، لكنها تعني في لغة الطب أو الجراحة، طرد الجنين من الرحم بالأدوات الطبية المسلحة، بمعنى آخر: عملية «الإجهاض». •••

كان هو نائما إلى جواري في السرير العريض، شخيره يسري في أذني مثل دقات الساعة المشروخة، عيناي مفتوحتان شاخصتان إلى السقف، تحررت من القيد الذي كان يربطني به، عملية «الإفاكيوويشن» حررتني من الاحتلال الأجنبي لجسدي، نزعت عن نفسي الجسد الغريب الذي كان جزءا مني، بدأ الطلاق يلوح في السماء مثل شفق الفجر، أنفاسي تلهث كأنما أجري وأنا راقدة في السرير.

كان يتغطى بالملاءة من الرأس حتى القدمين، تطل قدماه البيضاوان من طرف الملاءة مضغوطتين صغيرتين، كأنما حشرتا داخل حذاء من الحديد، كأقدام الفتيات في الصين القديمة، كانت أمه تدلكهما كل ليلة منذ طفولته، تلفهما في جراب من الصوف، داخل صندوق مبطن بالحرير، تبخرهما، تخشى عليهما من عين الحسود.

فتح عينيه ورآني مفتوحة العينين شاخصة إلى السقف. - صاحية ليه؟ - بافكر. - في إيه؟ - في الطلاق.

انتفض واقفا غاضبا، قال إن الطلاق بيد الرجل وحده، الطلاق يتم بإرادة الرجل حين يريد وليس بإرادة المرأة حين تريد، الطلاق حق مطلق للرجل بحسب القانون، وهو رجل قانون، رغم قامته القصيرة المربعة شمخ بأنفه مثل الأطباء في المستشفى وقال: أنا رجل قانون! ثم نطق عبارة باللغة العامية انفجر بعدها شريان في رأسي: «نجوم الضهر أقرب لك من الطلاق يا دكتورة!» •••

منذ طفولتي سمعت أبي يردد هذه العبارة. «إذا كان ثمن الحرية فادحا فإن ثمن العبودية أفدح.»

وعاش أبي المنفي في منوف عشرة أعوام، لم تغفر له الحكومة التمرد على الرؤساء، ولم يغفر لها خيانة الشعب، اشتغل موظفا في هذه الحكومة ثلاثة وثلاثين عاما حتى مات، كل يوم يفكر في الاستقالة ثم يتراجع، كان العائل الوحيد لأسرته وعياله التسعة وأمهم، كالمربوط في الساقية، يقول عن نفسه رهين المحبسين: الوظيفة الحكومية وسرير الزوجية.

قبل أن يموت بشهور قليلة أحالته الحكومة إلى المعاش، أصابه انتعاش كأنما يولد من جديد، فرد ذراعيه من آخرهما وأخذ شهيقا أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة سجن، أخيرا سأقرأ وأكتب ما أريد، ثم مات أبي فجأة قبل أن يكتب شيئا أو يترك أثرا.

قبل أن يموت، قال: لو عادت حياتي إلى الوراء ربما لم أدخل الحكومة ولا الزواج، إنهما المصيدة والمقبرة. وكان يقول: اتركي وظيفة الحكومة وافتحي عيادتك الطبية يا نوال، لا شيء يقتل الإنسان مثل الوظيفة الحكومية.

Bog aan la aqoon