Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
كنت أستمع إليه، أحب الموضوعات إليه هو اليأس، أهو تأثير كيركجارد عليه أو الدرن الرئوي. - أتؤمنين بوجود الله يا دكتورة نوال؟ - منذ الطفولة، كنت أفكر كثيرا. - الإنسان يحتاج لوجود الله من أجل التوبة! - لكن هل هناك توبة بدون خطيئة ؟ - لا أعرف، هل نولد ومعنا الخطيئة؟ •••
كنت أقاوم فكرة اليأس والموت، الأرض لم تعد مسطحة بل كروية، الحياة لم تعد خطا مستقيما له بداية ونهاية، إنها أقرب إلى شكل الدائرة، تذوب البداية في النهاية بلا فاصل، كنت في التاسعة والعشرين من عمري، أقترب من الثلاثين، الرقم «ثلاثون» يبدو لي كبيرا، كأنما بلغت نهاية العمر، ماتت أمي ومات أبي، أصبحت الوصية على أخواتي القاصرات الأربع، وابنتي الطفلة، وأم إبراهيم أصبحت بديل الأم، ترعى أمور البيت وأخذت أنا دور الأب، واجبي الإنفاق والعمل خارج البيت في العيادة والمستشفى، ليالي النوبتشية كانت مرتين في الأسبوع، أقضيها في جناح الطبيبات داخل المستشفى، لنا غرف خاصة للنوم، الصالة وقاعة الطعام مشتركة مع الأطباء، كان معي زملاء وزميلات لا أذكر منهم أحدا، ملامحهم ممسوحة في ذاكرتي، كنت أشاركهم العشاء ثم أنسحب إلى غرفتي لأقرأ، ليالي النوبتشية لا أنام، أتمشى في الحديقة حول المستشفى، أخرج إلى شاطئ الترعة، الطريق المظلم يمتد بي عبر الأشجار، أمشي فوق العشب الأخضر دون أن أسمع وقعا لخطواتي، القمر في الأفق والنجوم ساكنة، مشيت إلى حافة الترعة وجلست، كان الصمت يدخل مسام جسمي كالهواء، يملؤني بحزن غامض يشبه الفرح، مرت دقائق وأنا أحدق في النجمة الثابتة لا يقهرها ضوء القمر، ثم تحرك الهواء ببطء ومعه الزمن، تحركت معه السماء والنجوم والأرض، كل شيء في الكون يتحرك يتمدد إلى ما لانهاية، ثم يتقلص ليصبح نجمتي الوحيدة الساهرة معي، وجسدي الوحيد الممدود على الأرض، عقلي يتساءل ... أتكون الأرض والسماء شيئا واحدا؟ أيكون المكان هو الزمان ولا فاصل بينهما؟
في طفولتي قال أبي إن الزمن هو الله وهو خالد إلى الأبد وموجود منذ الأزل في السماء، الله هو الثابت المطلق في حالة سكون دائم لا يتغير مثل الزمن، الأرض هي المكان المتحرك المتغير، هي الجسد الفاني الزائل، في مصر القديمة كانت «نوت» إلهة السماء، زوجها جيب كان إله الأرض، كيف انقلبت الأوضاع واصبحت الإلهة الأنثى ترمز إلى الأرض والجسد، وزوجها الإله يرمز إلى السماء والروح ؟ - يا نوااااااال، يا يا نواااااال.
صوت يناديني من السماء من بطن الأرض يشبه صوت أمي، ينقلب فجأة ليصبح صوت أبي، عيناه مملوءتان بالدموع، لم أر في حياتي أبي يبكي، أيكون هو أمي؟ تختفي الدموع المحبوسة، يدها باردة ميتة، أعرف أنها ماتت، مع ذلك أمسك يدها في يدي.
ألمح الضوء في نافذة حنا، لم يكن ينام مثلي، أراه جالسا في سريره كأنما هي آخر ليلة في حياتي، التوهج الأخير قبل الانطفاءة، كالطير الحبيس في القفص، هالة من الحزن تحوطه لها رهبة، لا أستطيع الحملقة في عينيه، لا أقوى على النظر في الموت، أخشى إن نظرت إليه أن يكف عن النظر، عيناه تنظران إلى خارج سياج العقل، تنطلق عيناه من القيود جميعا بما فيها العينان ذاتهما، أحرك يدي نحوه لأمسك يده، تتجمد ذراعي في منتصف الطريق، لا تفصلني عنه إلا مسافة نصف ذراع أجتازها في الحلم بسهولة، تصبح في الواقع كالبحر الواسع يفصلنا.
أمسك بأصابعه النحيفة القلم، كتب شيئا على قطعة من الورق، طواها وناولها لي: «الإنسان يعطي حياته للحب ثم عليه أن يموت، كان الموت ضروريا فلماذا لا أقول الحقيقة وأمضي؟ لا شيء يبدد الوهم إلا الموت، اليأس أحتضنه بين ذراعي كالأمل، والخطيئة في الحب هي الفضيلة، لا تمسحها إلا التوبة، إن راحت الخطيئة راح الله، آه يا ربي من كشف الحقيقة.»
كنت أجلس على طرف سريره وهو راقد، عيناه تتأججان بالبريق، كالنهار يولد من الظلمة، قلبي يرفرف تحت الضلوع، الحزن والفرح يذوبان في إحساس واحد، يتجاوزان قواعد المنطق، كنت حبيسة المخاوف الثلاثة: الله والخطيئة وعدوى الدرن، تضاءلت الثلاثة إلى جوار الموت، لا يرقى إلى مرتبة الموت إلا الحب، وهو مستغرق في الكتابة، أصابعه حول القلم كالوتر المشدود، كأنما هي آخر حروف يكتبها، يسعل وهو يكتب، ينساب الدم الأحمر فوق الورقة البيضاء، لا تتوقف أصابعه عن الحركة حتى يصيبه الإغماء، في ذاكرتي غرام مشبوب لفنان ينزف، يعزف البيانو وهو يموت، أكان هو شوبان؟ الملامح واحدة، خداه البارزان تكسوهما حمرة خفيفة، علامة المرض بالسل وعلامة الحب، عيناه سوداوان يكسوهما البريق، رموشه سوداء غزيرة، شعر رأسه أسود كثيف، خصلة أمامية تسقط فوق وجهه وهو يكتب، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح بلا جسد، كالحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، يعزف لحن الحلم المستحيل، أهناك علاقة بين المستحيل والحب؟!
كان معي في المستشفى زملاء أطباء، رجال أشداء متوردو الوجوه، أجسادهم قوية ممتلئة، بعضهم يحمل الدكتوراه، ودرجة الأستاذ، وعربة وعيادة وعزبة أو عمارة، ملامحهم خالية من التعبير، عيونهم بلا بريق، جفونهم بلا رموش، يهرولون من المستشفى إلى العيادة، المرضى في نظرهم أرقام في الملفات أو حالات داخل العنابر، لا أحد فيهم يقرأ الأدب أو الفلسفة أو يسمع الموسيقى، لا حديث لهم إلا عن أنواع الجراثيم وماركات السيارات، أتفادى الجلوس معهم في غرفة الأطباء، أربعة أعوام قضيتها في هذا المستشفى ليس في ذاكرتي إلا صورة هذا الشاب، أجلس على طرف سريره وهو راقد، النافذة العريضة تطل على الحقول الخضراء، تشبه الحقول أمام بيتنا في الطفولة، اللحن يسري في أذني يشبه لحن الحب الأول، الشمس تنحدر في الأفق عند الغروب، أرقب الغسق الأحمر ينتشر في السماء، تتصاعد الدقات تحت ضلوعي، أقضي الليل إلى جواره ساهرة، عند الفجر أرقب الشفق بلون الغسق، عيناي مشدودتان إلى قرص الشمس، كيف يسقط في بطن الأرض وكيف يظهر؟ يرفرف قلبي كجناحي الحمام، أفرد ذراعي عن آخرهما كالجناحين وأكاد أحلق في الجو.
من السهل جدا أن نحب، ومن الصعب جدا أن نحب، فالحب مثل الكتابة فيه السهل الممتنع أو السهل المستحيل، لم يكن في مقدوري أن أمد يدي وأمسك يده، مع أن الروح تعانق الروح، على طرف سريره كنت أجلس وهو راقد، أسمع صرير الهواء في رئتيه، لولا هذا الصرير لأفلتت مني اللحظة الحاضرة، أمسكها بيدي لأمسك الحقيقة، بيدي الأخرى أمسك جسمي قبل أن يتلاشى وأنا جالسة على طرف سريره، وجهه النحيل الشاحب ضارب إلى البياض، عيناه شاخصتان إلى السقف تلمعان، يداعب بأصابعه النحيلة القلم، يبتسم بالفرح ثم يغرقه اليأس، أنفاسه تتأرجح كالسفينة فوق أمواج البحر، أثبت عيني المفتوحتين في الجدار، أخشى إن لم أثبتهما أن يسقط جسدي من طرف السرير، أو أسقط أنا من فوق جسدي، لم يكن في مقدوري إغلاق جفوني، عيناي كالنافذة المفتوحة في مهب الرياح، والسماء كالصحراء السوداء، تلقي ظلها الثقيل على الأرض، المستشفى كالمحطة بين السماء والأرض، يعيش داخلها أحياء أموات، وجودهم معلق بين الحلم والحقيقة، نشوة الأمل واليأس، والبصاق الممزوج بالدم، يأتون ويذهبون كالمسافرين، أشعة الصدر متشابهة والسعال، والعدوى تجعل البشر كالجراثيم، والأطباء كالمرضى، والدخول كالخروج، والفضيلة كالرذيلة، لا توجد حسنات ولا سيئات، هنا تتساوى كل الأشياء، يتحقق العدل المستحيل، ينفتح القلب للحب كالزهر في الربيع.
في ساعة متأخرة من الليل قلبه يواصل النبض، لا يريد التوقف، جفوني لا تريد السقوط فوق عيني، إن سقطت جفوني أترنح كأنما أسقط في بئر، أسمعه يقول شيئا، يحرك شفتيه لينطق، كلمات لا يمكن سماعها، يلفظها في مواجهة المجهول، بعد لحظة يفتح عينيه ويسترد الحياة كأنما من أجلي فقط، يجاهد ليفتح جفونه يرفع عنها جبلا، يغدر بالموت ويفتح عينيه، يبتسم لي بزهو المنتصر، كان أملي أن يعيش وكان أملي ألا يعيش، حين استطعت الوقوف على قدمي شعرت بالانتعاش، الدم يجري في جسدي كالضوء يولد من الظلمة، خلعت معطفي الأبيض وانطلقت إلى الهواء الطلق، كنت أنجو بنفسي، أعانق الحياة بفرح لأني أعيش، تلوح لي صورته في ذاكرتي فأشعر بالإثم، تركته وحده يموت وهربت، أليست هي الخيانة للحب؟ •••
Bog aan la aqoon