Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
182

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

زوجة طبيب الأسنان اسمها سعدية عثمان، تعرفت على صديقتي سامية، تميل سعدية عثمان إلى الفلسفة الماركسية، زوجها الدكتور عزت عبد الغفور يتحدث بحماس عن المادية الجدلية، وكتاب أصل العائلة لفردريك إنجلز «الزوجة في البيت هي البروليتاريا زي العمال في المصنع» تكركر بطة بالضحك: «والبغوليتاغيا يعني إيه يا دكتوغ عزت؟ ... باين عليها كلمة شيوعية.» تتقلص ملامح صفية، يشحب لونها: «هي الشيوعية ورانا ورانا، الجمعة اللي فاتت بابا جت له أزمة قلبية، أخويا أسعد أخدوه زوار الفجر لسجن أبو زعبل.» أرادت بطة أن تروح عن صفية: «سمعتوا آخر نكتة عن جمال عبد الناصر؟» كركرت بالضحك قبل أن تحكي النكتة، منذ صدور قانون الإصلاح الزراعي تقول إنه «دكتاتوغ»، بعد صدور القرارات الاشتراكية أصبحت تقول عنه «شيوعي»، «إيه هي النكتة يا بطة؟» «كان فيه واحد ماشي في الشارع بيزعق ويقول الله ياخدك يا راجل طلعت روحنا، جه البوليس مسكوه وحطوه في السجن، قالهم تمسكوني ليه يا ناس؟ قالوا له أنت شتمت جمال عبد الناصر، قالهم أنا قلت يا راجل ما جبتش سيرة عبد الناصر يا ناس، قالوا له هو فيه راجل غيره في البلد مطلع روحنا؟!»

كان هو أول يناير 1959م وأول يوم في عيادتي بميدان الجيزة، التمورجي داخل المريلة البيضاء يروح ويجيء، حاملا أكواب الشربات والشاي بالنعناع أو السحلب الساخن باللبن، فوق الجدار علقت صورة كاريكاتير رسمها لي صلاح جاهين، واقفة داخل معطفي الأبيض، السماعة تتدلى من جيب المعطف، فوق سرير الكشف يرقد صلاح جاهين بجسمه الضخم، كان هو أول فنان مريض يدخل عيادتي، نهض أبي من مكانه فوق الكنبة الجلدية، سار بقامته الفارعة نحو الصورة، وقف يتأملها، إلى جواره وقف صلاح جاهين: «خطوطك يا أستاذ صلاح تدل على موهبة كبيرة في فن الكاريكاتير.» ضحكت بطة وكركرت: «الكايغاتيغ فن جميل فعلا ، لكن أجمل لوحة هي لوحة الأسعاغ، فين هي يا نوال؟!» - لا يمكن يا بطة أعلق في عيادتي لوحة الأسعار، هي دكانة أبيع فيها الصحة للناس؟ - حتبقى عيادة مجانية يا ست نوال هانم؟!

كانت الأفكار الجديدة تغزو عقولنا نحن الشباب، في مجال الطب كانت الاشتراكية تعني أن الصحة حق للإنسان، إذا مرض لا بد أن يحظى بالعلاج والشفاء دون قيد أو شرط، اتسع مفهوم الصحة وشمل الجسد والعقل والحياة الاجتماعية والثقافية، الفقر مرض اجتماعي سياسي وإن جاءني مريض فقير فهل أطرده من العيادة لمجرد أنه لا يملك ثمن الكشف؟

كان أبي لا يزال واقفا يتأمل صورتي فوق الجدار، يدور بعينيه على الأجهزة الطبية، أدوات الجراحة تلمع كالفضة داخل دولاب صغير من الزجاج، جهاز التعقيم منتصب في الركن كالإله البرونزي الصغير، منضدة العمليات يعلوها مشمع أحمر يوحي بالرهبة، مكتب كبير تعلوه بنورة لامعة، لوحة نحاسية مستطيلة فوق المكتب، منقوش عليها الاسم واللقب، دكتورة نوال السعداوي، يتأمل أبي اسم «السعداوي» طويلا، يبتسم لنفسه في زهو، كأنما هي عيادته أو عيادة المرحوم جده السعداوي .

كانت المرة الأولى التي يزور فيها أبي عيادتي وكانت أيضا الزيارة الأخيرة، مات بعدها وهو واقف، كالشجرة تسقط فجأة وهي منتصبة. •••

أرمق نفسي داخل معطف الأطباء، لست أنا هذه الواقفة داخل المرأة، إنها الدكتورة السعداوي، ابنة أبيها، فتحت العيادة من أجله، دخلت كلية الطب من أجله، نجحت وحصلت على الشهادة من أجله، تضعها داخل صندوق من خشب الزان المبطن بالجوخ ترقد فيه الشهادة كالتابوت أو النعش.

اكتبي طلب للوزير اطلبي النقل من القسم الموبوء ده!

صوت أبي يرن في أذني، أجلسني في يوم أمامه وجعلني أكتب الطلب، سلمته لمدير مكتب الوزير في وزارة الصحة، مات أبي ومضت ثلاثة أعوام لم يأتني الرد، كنت في مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة، انتقلت من القسم الباطني إلى قسم الجراحة، أحب الجراحة والمشرط في يدي كالقلم، في الدرن الرئوي لا يكون العلاج الباطني شافيا، يظل المرض كامنا في الرئة، يصحو فجأة ويقضي على المريض، في إحدى الغرف الخاصة كان يرقد شاب في الثالثة والعشرين من عمره، تخرج منذ عامين من قسم الفلسفة بكلية الآداب، لم يشتغل بسبب المرض، اسمه حنا سليمان، يجلس في شرفته المطلة على الحقول الممدودة حتى الأهرامات، في يده كتاب، عيناه شاردتان سوداوان يشتد سوادهما وبريقهما باشتداد المرض، رموشه تزداد غزارة وشعره الأسود، خصلة سوداء فوق جبهته العالية، عظام وجهه بارزة منحوتة في رأس تمثال من البرونز، جسمه نحيف يزداد نحافة يكاد يتلاشى، قميصه أبيض واسع يملؤه الهواء، كالروح تحلق فوق الأرض بلا جسد.

كنت مسئولة عنه ضمن مرضى آخرين كثيرين، حالته كانت متأخرة، صورة الأشعة تكشف الدرن في الرئتين، الأمل معدوم في الشفاء، لا أستطيع التحديق في الصورة، هل يمكن التحديق في الموت بالعينين المفتوحتين؟ مع ذلك كنت أنظر، لا أكف النظر، أحاول أن أعرف كيف تعمل جرثومة الدرن، كيف تكف الحياة في الخلايا الحية، عقلي مشدود إلى المعرفة، ظاهرة الموت تبدو معقدة، السر المغلق على نفسه، تعودت رؤية الموتى كل يوم، أصبح الموت جزءا من الحياة، مع ذلك أندهش حين يموت أمامي إنسان، كأنها المرة الأولى في حياتي، كيف تنسحب الروح من الجسد وإلى أين تذهب؟ وهل هناك شيء اسمه روح؟ من اخترع هذه الكلمة في اللغة؟!

كان الحوار يدور بيننا في شرفته المطلة على المزارع: «هناك أشياء يا دكتورة لا يمكن أن يدركها العقل، مثلا الروح، نحن لا نفهم ما هي الروح، مع ذلك نؤمن بوجودها، إذا لم يكن للإنسان روح فهو لا يعرف اليأس، الحيوان لا ييأس، اليأس صفة إنسانية، كيركجارد يقول عدم الوعي باليأس نوع من اليأس، حين أقول لست يائسا فهذا يعني أنني قهرت اليأس وأعيش في هدوء، لكن هذا الهدوء هو اليأس أو الاستسلام الكامل لليأس.»

Bog aan la aqoon