Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
176

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

ومياه البحيرة من نافذة بيتي في ضاحية «كوين آن» تبدو في حركتها الهادئة كنهر النيل.

في طفولتي شهدت بعض حفلات الزار مع ستي الحاجة وعماتي، منذ السادسة من عمري لم أشهد الزار، ذهبت إليه وأنا طبيبة القرية مع أم إبراهيم، ومسعودة وأمها وخالاتها وعماتها كلهن أصبحن داخل حلبة الرقص وأنا معهن، دقات الطبول ترج الجسد، ترج الروح، يذوب الجسد في الروح، دقات الطبول ترج الأرض والسماء، تذوب الأرض في السماء، الأجساد كلها تذوب في جسد واحد، لا أكاد أعرف أم إبراهيم من أم مسعودة، ولا مسعودة من شلبية، الأبخرة تتصاعد مع البخور المحروق، والشبة تتشكل داخل النار، تصبح جسدا من الدخان، هو العفريت أو الشيطان بعينه، الصراخ ينطلق من الحناجر كالزغاريد، «شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر!»

الأجساد انطلقت من عقالها، تتلوى حول ألسنة النار كالثعابين الحمراء، الأثداء والأرداف تنتفض مع انتفاضات الطبول، الشعور الطويلة انفكت ضفائرها تتطاير منكوشة كرءوس جنيات البحر، الأفواه مفتوحة عن آخرها يصرخن في نفس واحد: شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر! حضرت كل العفاريت وكل من ركبهم العفاريت، والعرق أصبح يتصبب والأنفاس تلهث كأنما في سباق الزمن، الصراخ والعويل يختلط بدقات الطبول، العرق يختلط بالدم، من أين جاء الدم؟ ربما هو ديك أو فرخة ذبحت، أو امرأة غرزت أظافرها في لحمها أو لحم آخر، لا يمكن التمييز بين اللحم واللحم، ذابت النسوة في جسد واحد، الشعر الأسود المنكوش يقذف نفسه إلى الأمام فيغطي النهدين، ثم يقذف نفسه إلى الخلف فيغطي الظهر تضرب أطرافه الردفين، الجلباب أصبح مشقوقا من الصدر حتى الذيل، القدم اليمنى تضرب الأرض فينفتح الجلباب، تظهر استدارة الفخذ، ترتفع الساق في الهواء، تضرب الأرض بالقدم اليسرى، يتسع الشق في الجلباب، تظهر من الجانب استدارة الثدي هابطة إلى البطن، ترتعش البطون مع ارتعاشات الطبلة، تتهاوى الرءوس إلى الأرض تلامس الأرض، تلعق التراب ثم تنهض من جديد: شيخ محضر يا شيخ محضر واللي عليه عفريت يحضر!

انفلت الجسد من سياج العقل، وانفلت العقل من سياج الجسد، صدمة النقاء المطلق في مواجهة الفساد المطلق، صدمة الشيطان يلتقي وجها لوجه مع الله، صدمة الحرية تواجه الاحتباس كالصدمة الكهربية، كالأسياخ المحمية، والأفواه مفتوحة عن آخرها تصرخ من الألم واللذة، بالفرح بالخلاص الأبدي، بالحزن الأزلي، منذ ولدن من بطون أمهاتهن، منذ امتدت الموسى تقطع في أجسادهن، منذ ضربن ليلة الزفاف ونزفن الدم حتى الموت، منذ حرقت الأرض أقدامهن، وحرق الملح بطونهن، وكوى المر أكبادهن، منذ امتصت الدودة دماءهن، وأكلت الحرب أولادهن، والتهم الموت صبيانهن وبناتهن.

اصرخي يا بت يا مسعودة خلي العفريت يطلع من جتتك يا بت! اصرخي بأعلى صوتك يا مسعودة اصرخي!

تصرخ أم إبراهيم بصوت أعلى من مسعودة وجميع النسوة، صراخها يعلو في الكون، يخترق السموات واحدة وراء الأخرى حتى السماء السابعة ، يخترق أذان الملائكة والشياطين، تنادي على رب الكون الله الواحد الأحد، تنادي على الأنبياء واحدا وراء الآخر من سيدنا إبراهيم حتى سيدنا محمد آخر المرسلين، تنادي على السيدة خديجة والسيدة زينب والسيدة مريم العذراء، أم المسيح، تطلب منهم جميعا أن يعيدوا إليها ابنها الغائب في الحرب منذ ثماني سنين، تفرد ذراعيها عن آخرهما تحتضن ابنها الهابط من السماء، يمسك بيديه الاثنتين مظلة مفتوحة أشبه بالبراشوت، قدماه ثابتتان فوق بساط الريح، يتحول الصراخ إلى زغاريد، تنطلق الزغرودة من حلق أم إبراهيم، أعلى من كل زغاريد النسوة: «باب السما مفتوح وابني إبراهيم نازل أهو بالبراشوت تعال يا حبيبي تعال في حضن أمك!» دموعها تنهمر من عينيها يكسوهما بريق الفرح، تعانق ابنها بذراعيها تضمه إلى صدرها، تضم الحلم والحقيقة، الروح والجسد، الوعي واللاوعي، تضمهم جميعا بين ذراعيها الاثنتين.

هل فقدت أم إبراهيم عقلها أم أنها بلغت العقل؟ السؤال يلازمني، يروح ويجيء في رأسي، في الليل تحت ضوء الفانوس أفتح مفكرتي السرية وأكتب: أيكون العقل الحقيقي هو القدرة على فقدانه؟

في هدأة الليل، تحت ضوء القمر المكتمل بدرا، تمددت مسعودة قرب الفجر، نام الجميع، كانت تهذي بصوت خافت يشبه حفيف الهواء، وجهها مغسول بالعرق الغزير، أوراق الشجر تلمع بقطرات الندى، العصافير في أعشاشها لم تنهض بعد، صوت مسعودة يسري في أذني من بعد الزمان والمكان كالحلم:

كان عمري عشر سنين، وكنت في المدرسة شاطرة ونفسي أبقى ضكطورة، مسكوني أبويا وأمي، وجوزوني غصب عني من ابن عم العمدة، راجل كبير أكبر من سيدي أبو أبويا، والناس كلها تخاف منه، أصله كان حرامي وقتال قتلا، قتل مراته، وعنده أولاد وبنات في مصر متجوزين ومخلفين، وكنت أقوله يا سيدي، وكان ينادي علي في الظلمة وأنا نائمة ويقول قومي يا بت قامت قيامتك، أعمل نفسي مش سامعاه، وأهرب بره الدار في المزارع، كان زي العفريت يعرف أنا فين، يجيبني من سابع أرض، يشدني من ذراعي ويقول: لما سيدك ينادي عليكي يا بت تيجي على طول، قولي حاضر يا سيدي، يناولني كف على صدغي ويركب فوقي زي ما يركب الحمارة، ويكتم فمي بإيده عشان صوتي ما يطلعش، وكنت أموت يا ضكطورة وروحي تطلع وهو فوقي زي الجبل، وكان لازم قبل ما ينام أدلكه من فوق لتحت، يتمدد فوق الفراش وأنا تحت رجليه، يحط قدمه في بطني وأنا قاعدة متربعة، أدلك صوابعه صباع صباع، ومشط القدم أدلكه، يضربني بكعبه في بطني ويقول: ادعكي يا بت أوي، مالك خرعة كده؟ فين الأكل اللي بوكلهولك يا بت؟ يضربني بكعبه في بطني ويقول: الأكل بينزل يروح فين يا بت؟ افتحي يا بت رجليكي عشان أشوف الأكل بيروح فين؟ كان يغمي راسي بالجلابية ويقول: انطقي يا بت قولي الأكل بيروح فين، وأقول له ما اعرفش يا سيدي والنبي ما اعرفش، ربنا يخليك ويطول عمرك فيه حاجة بتحرقني زي النار، يقول لي بتحرقك فين يا بت انطقي، ما اعرفش يا سيدي والنبي ما اعرفش، كنت يا ضكطورة أحس حاجة زي النار في جسمي، ما اعرفش كان يمسك إيه في إيده، زي ما يكون عمود حديد أو رجل الكرسي الخشب، يضربني في بطني، لما أصرخ يضربني بكفه على فمي، يكتم نفسي بإيده، ويقول مش عاوزة تقولي الأكل بيروح فين يا بت، لازم أشوفه بيروح في أنهي داهية، لازم أجيبه يا بت من الحتة التايهة، عارفاها الحتة التايهة فين يا بت؟!

لم تكن مسعودة تصل إلى هذا الحد من حكايتها حتى يصيبها الإغماء، تفقد الوعي، تفقد النطق، تكسو عينيها نظرة مرعبة، تتلفت حولها، ناحية السماء، ناحية الأرض، ترفع ذراعها وتشهق: حوشوا عني العفريت! تتصلب عضلات وجهها، أشبه بنوبة صرع، تهدأ بعد قليل وتغط في النوم العميق مبللة بالعرق، في تشخيص المرض كتبت هذا التقرير:

Bog aan la aqoon