Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
انتفضت أمها الحاجة فطنة، كانت جالسة إلى جوارها متربعة داخل جلبابها الأسود، أخفت نصف وجهها بطرف طرحتها السوداء: «إلهي يخزيكي يا بت يا مسعودة، العفريت يخاف من ربنا يا بت ويخاف من سجادة الصلا، إلهي يخليكي يا ضكطورة شوفيلها دوا أصلها مجنونة زي المرحومة عمتها.» نهضت مسعودة فجأة كادت تضرب أمها: «إنتي المجنونة يامه ربنا ياخدك!» رنت العبارة في أذني، أضاءت شيئا في رأسي، ماذا فعلت الأم حتى تتمنى لها الابنة الموت؟ لم يكن للابنة أن تنطق في حضور أمها، حاولت التخلص من الأم، تلازم ابنتها كظلها، إن دخلت المرحاض تدخل وراءها: «خايفة تعمل في نفسها حاجة يا ضكطورة، المرحومة عمتها حرقت نفسها.»
حالة مسعودة تزداد سوءا يوما بعد يوم، تنهض أحيانا من النوم وتجري هاربة فوق الجسر، يمسكها خفراء الليل، يعودون بها إلى أهلها، أركبها أبوها الحمارة ذات يوم وجاء بها إلي: «خديها عندك في المستشفى يومين يا ضكطورة يمكن ربنا يشفيها.»
في القسم الداخلي أعطيتها غرفة خاصة، تحت رعاية الحكيمة زينات، أمر عليها في الصباح قبل العيادة الخارجية، وفي الظهر بعد الانتهاء من فحص المرضى، قبل أن أنام أزورها في غرقتها، أتحدث معها، أحاول أن أعرف حكايتها، زينات تحنو عليها أكثر من الأم، تعطيها جرعات صغيرة من المهدئات، «هذه الحالات يا زينات لا تعالج بالعقاقير، أو الصدمات الكهربية، لا بد من البحث عن السبب الحقيقي للأزمة.» تفرغت زينات لمسعودة، تشاركها الغرفة، تنام فوق السرير الآخر، تأكل معها، تسهر معها في الليل، «احكي لها عن حياتك يا زينات يمكن تتشجع وتحكي لك عن حياتها.»
في إحدى الليالي جلسنا نحن الثلاث في غرفة مسعودة، كانت زينات تحكي عن طفولتها، هربت من أبيها في حي الشرابية، أراد أن يزوجها من جزمجي عجوز، له حفيدة من عمرها، احتضنتها امرأة من عائلة أبيها كانت ممرضة في قصر العيني، بلا زوج ولا أطفال، أصبحت هي ابنتها، أدخلتها مدرسة التمريض «أنا عمري دلوقتي واحد وتلاثين سنة عاوزة أبقى حكيمة في القصر العيني زي المرحومة خالتي والناس كلها تقول لي اتجوزي يا زينات عشان يكون لك طفل ولا اتنين، لكن الدنيا مليانة أطفال على قفا من يشيل، وياما أطفال اتولدوا على إيديا دول، وياما أطفال في الملاجئ، وإذا كنت عاوزة أطفال أقدر أتبنى طفل منهم، ولا إيه رأيك يا دكتورة؟» - طبعا تقدري يا زينات لكن يمكن تقابلك مشكلة من الناحية القانونية أو الشرعية؛ لأن التبني ممنوع في الإسلام. - ممنوع ليه يا دكتورة، ده كله خير وبركة، لولا خالتي الحكيمة كان زماني عند الراجل العجوز الجزمجي يعمل في اللي هو عاوزه، كان أكبر مني بخمسين سنة وأنا يدوبك كده من عمر مسعودة أربعتاشر سنة، وكان جسمي يتنفض لما أشوفه يا دكتورة كأنه عزرائيل الموت.
انتفضت مسعودة فوق سريرها لحظة، انفرجت شفتاها عن صوت مبهم، ثم أطبقتهما بإحكام، عيناها ثابتتان فوق زينات وهي تحكي، «لكن يا دكتورة ليه التبني ممنوع في الإسلام، ده سيدنا محمد كان دايما يعطف على اليتامى والأطفال، والملاجئ يا دكتورة حالتها تصعب على الكافر، أنا عشت فيها شهرين قبل ما أعرف طريق بيت خالتي الحكيمة، كان عندنا مشرف بعين واحدة نقوله يا فندي، أخدني مرة في الأوضة بتاعته وقفل الباب، وهات يا ضرب بالخيزرانة، وبعدين لقيته فوقي راكبني زي الحمارة و...»
أطبقت زينات فمها حين انطلقت الصرخة من فم مسعودة، حادة ممدودة ثم انقطعت فجأة ، أخفت رأسها تحت الملاءة، جسمها يرتعد، همست في أذن زينات: «كلامك مس وترا في حياتها، كفاية كده إديها نص قرص في اليوم.»
قبل أن أنام تلك الليلة دلكت أم إبراهيم قدمي المتورمتين، ثلاث ساعات قضيتها جالسة في غرفة مسعودة، الكرسي من القش غير مريح وحكاية زينات غير مريحة، تملؤني بالحزن الغامض، في طفولتي فكرت في الهرب من الأهل والعريس، كنت أنام وأحلم أنني أمشي في الليل وحدي، أتوه في الطريق اللانهائي كما تاهت سعدية، يقابلني في الظلمة رجل تناديه البنات في المدرسة يا أفندي، يغلق علي الباب، يقترب بجسده من جسدي، تخرج من فمه رائحة غريبة ودخان، ويزحف شيء بين فخدي كالإصبع الغليظ: «يا ضكطورة إنتي تاعبة نفسك مع البت مسعودة ما فيش لها علاج إلا الزار، أصل العفاريت يا ضكطورة تخاف من الطبل والرقص.» - «اسكتي يا أم إبراهيم، زار إيه وكلام فارغ إيه.» - «أنا يا ضكطورة ياما ركبتني العفاريت وما في حاجة تطردها من جتتي إلا الزار، اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.»
العبارة تسري في أذني وهي تدلكني، اسال مجرب ولا تسأل طبيب، يداها مدربتان تعرفان موضع الألم، تمشي أصابعها فوق سلسلة العمود الفقري، تتوقف فوق ظهري عند فقرة معينة، تضغط بإصبع واحد فوق نقطة محددة، تعرفها بحكم الخبرة والتجربة: «هي دي الحتة اللي بتوجعك يا ضكطورة؟» - «أيوه يا أم إبراهيم هي دي بالضبط.»
تدور يداها تبحث في مؤخرة القدم، والكتفين، والذراعين، والساقين، والقدمين، وبطن القدم، وغضاريف الأصابع: «يا ضكطورة إنتي جواكي تعب كتير أوي.» هذه العبارة ذاتها سمعتها بعد ثمان وثلاثين سنة باللغة الإنجليزية، في مدينة «سياتل» على الشاطئ الشمالي الغربي للمحيط الهادي «الباسيفيك» في أمريكا الشمالية، قضيت ستة شهور من 1994م أستاذة زائرة في جامعة واشنطن، كانت لي زميلة صينية تجاوزت الستين مثلي، سمعتني أتحدث عن آلام الانزلاق الغضروفي، جاءت إلى بيتي معها علبة صغيرة مستطيلة داخلها مجموعة من الإبر الصينية، بأصابعها الرفيعة المدببة حددت مواضع الألم، فوق كل موضع غرزت إبرة في اللحم، كانت هي بالضبط المواضع التي حددتها أم إبراهيم بأصابعها في قرية طحلة وصوتها يكاد يشبه صوتها رغم اختلاف اللغة:
You have a lot of pain inside you Nawal
Bog aan la aqoon