Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Noocyada
أصبحت في الخامسة الثانوية عام 1947م، إنه عام الكوليرا، في إجازة الصيف أصبح بيتنا في منوف قلعة محصنة ضد الوباء، النوافذ كلها يسدها نوع من السلك ذي الثقوب الدقيقة، لا ينفذ منها الذباب أو الناموس، صفائح قتل الحشرات تراكمت في ركن المطبخ من التوكس إلى الفلت وال (د. د. ت). زجاجات السوائل المطهرة من السبرتو الأبيض، إلى الليزول والبرمنجات.
سافر أبي إلى القرية وعاد ومعه ستي الحاجة، كانت الكوليرا تحصد الفلاحين والفلاحات كما يحصد وباء «الشوطة» الفراخ، أراد أبي أن يحمي أمه على الأقل من هذا الوباء، لم تكن ستي الحاجة تستطيع أن تنطق كلمة الكوليرا، تقول عنها «الكوريره»، نضحك عليها وتضحك معنا حتى تطفر الدموع من عينيها، تمسحها بطرف طرحتها السوداء ثم تقول بصوت مكتوم: عاوزة أرجع الكفر لبنتي زينب، خايفة عليها من الشوطة، وتسألها أمي: «اشمعنى زينب يا حجة مبروكة؟!» «علشان هي أحسن بناتي، وقلبها أطيب قلب في الدنيا، والكوريره مش بتاخد إلا الناس الطيبين.» وتعود ستي الحاجة إلى البكاء المكتوم، كأنما ابنتها زينب ماتت بالكوليرا.
قبل أن تشرق الشمس في أحد الأيام رأينا ستي الحاجة واقفة على قدميها داخل جلبابها الأسود، ما إن استيقظ أبي من النوم حتى قالت: «خدني يا ابني على الكفر، قلبي بياكلني طول الليل على زينب، خايفة يكون جرى لها حاجة!» ارتدى أبي بدلته وسافر معها إلى القرية، عاد بعد يومين شاحب الوجه أحمر العينين، أخته زينب ماتت بالكوليرا، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تهذي بعبارة واحدة: هاتوا أمي أشوفها! وصلت ستي الحاجة بالضبط في اللحظة السابقة للنهاية، فتحت زينب جفونها ورأت وجه أمها، انفرجت شفتاها عن ابتسامة، وامتلأت عيناها بالضوء، ثم ماتت.
بكت عليها القرية الموبوءة بالكوليرا، حصد الوباء عددا من النساء والرجال في عائلة أبي، إلا أن الحزن على عمتي زينب كان أكبر حزنا؛ فهي أقرب الشقيقات إلى أبي، وأحب البنات إلى ستي الحاجة، فارعة القامة مثلها، بشرتها خمرية اللون، عيناها خضراوان بلون البرسيم، أنجبت ولدا اسمه «نجاح»، وبنتا رضيعة ماتت في حضنها وهي تموت.
تحولت ستي الحاجة فجأة إلى امرأة عجوز، لم تعد تضحك كما كانت، وامتلأ وجهها بالتجاعيد، تجلس على عتبة الدار، في حضنها «نجاح» ابن ابنتها زينب، تنظر في عينيه الخضراوين بلون عيني أمه الميتة: «يتيم يا عين أمه، ربنا ياخد الكوريره واللي جاب الكوريره.»
في منوف حصدت الكوليرا بعض الناس، أصبحت أمي مثل ضابط الجيش في البيت، تمسك الرشاشة كأنما هي مدفع تقتل الذباب، إنها الحرب أعلنتها أمي على الوباء، تغلي الماء قبل أن نشربه، تغسل الخضروات وتنقعها في محلول البرمنجات، تسخن الخبز فوق النار لتقتل الجراثيم، لا يشتري أبي شيئا دون أن تطهره أمي، لا يعود أبي من الخارج دون أن يخلعه ملابسه وتنقعها أمي في المحلول المطهر، ما إن يدخل أحد منا إلى المرحاض أكثر من مرة في اليوم حتى ينتابها الذعر.
كان الراديو يذيع التعليمات للناس، تنصت أمي إليها بانتباه أو تدونها في النوتة، أعراض الكوليرا هي: الإسهال مع القيء، إفرازات المريض شديدة العدوى. الإبلاغ فورا عن أي مريض لعزله في المستشفى.
عشنا شهورا لا نسمع إلا أنباء الموتى، بعد انتهاء الوباء لم تكف أمي عن عمليات التطهير والوقاية. حتى اليوم، ما زلت أسخن الخبز على النار كما كانت أمي تفعل في منوف منذ سبعة وأربعين عاما، وما زلت أذكر وجه أبي الشاحب وعيناه الحمراوين حين عاد من الكفر، وصوت ستي الحاجة وهي واقفة عند الباب داخل جلبابها الأسود: «قلبي بياكلني طول الليل على زينب.» كيف أحست الأم أن ابنتها تموت رغم المسافة البعيدة، ولماذا لم تذكر من بناتها الخمس إلا زينب، وهي الوحيدة فيهن التي ماتت بالكوليرا، وكأنما سمعت نداءها في الليل عبر الأثير فسافرت إليها وأدركتها قبل النفس الأخير.
كان أبي يسمي ذلك «تلبياتي»، وهي القدرة الإنسانية على الإحساس بالآخرين رغم المسافة البعيدة، كان لجدته الغزاوية هذه القدرة، وقد ورثتها ستي الحاجة عن أمها.
أصبح حفيدها «نجاح» قلبها، عينها الذابلتين من البكاء، لا تفارقها، تلحظه يلعب أمامها وهي جالسة على عتبة الدار، تحرم نفسها من الطعام لتدفع له مصاريف المدرسة كما فعلت مع أبي وعمي الشيخ محمد، ثم أرسلته ليتعلم في مصر «القاهرة» كما أرسلتهما من قبل.
Bog aan la aqoon