Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
104

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

إلى جواري في النافذة وقفت فكرية وفاطمة وصفية منهمكات في التطريز، نسمة الليل في حلوان دافئة حانية كأنامل الأم، يجتاحنا الحنين إلى الأهل، أضواء الشارع من بعيد تقود إلى محطة القطار، النجوم في السماء تبدو لنا أقرب من الشارع، السور الحجري العالي يحوط الفناء الواسع، الصحراء ممدودة حتى الأفق، رائحة العين الكبريتية تسري مع الهواء، ثكنات الإنجليز العسكرية وراء تلال الرمال رابضة كالوحوش تنتظر الانقضاض. الليل في حلوان صامت إلا من صوت مدفع يطلق، أو بضع رصاصات يعقبها نباح الكلاب، أو وقع أقدام الجنود الإنجليز بأحذيتهم الحديدية، في أيديهم كشافات، يسلطون الضوء على نوافذ المدرسة، يغازلون البنات بأصوات قبيحة، نهتف في نفس واحد: الجلاء بالدماء.

على مرمى البصر كانت الأشجار الباسقة، من ورائها الحديقة اليابانية، الهواء في حلوان جاف رقيق، يملأ صدورنا بالشجن العميق، تنوعه عيوننا في خضم الكون اللانهائي، نستشعر الوحشة والغربة، نسند رءوسنا فوق حافة النافذة، تتماسك أيدينا، نستأنس بوجودنا معا، بحرارة أجسامنا وتآزرنا ضد العالم المجهول، يختلط في خيالنا وجه الأم بوجه الأب بوجه الرب، يذوب الحب الأول في حب الوطن، ننشد معا: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. ليالي حلوان غير تلك الليلة عام 1946م، عقارب الساعة تقفز من الثانية إلى الرابعة، أوشك الفجر على الطلوع، واقفات في النوافذ نطرز تحت ضوء القمر البادج الذي سوف نعلقه في المظاهرة على صدورنا ناحية اليسار فوق القلب.

سامية هي الوحيدة في العنبر التي نامت طول الليل، لم تكن تؤمن بالسهر في ضوء القمر، عملية التطريز في نظرها عملية بطيئة، كتبت بالحبر الأحمر «الجلاء بالدماء» فوق البادج وعلقته فوق صدرها في نصف دقيقة، كانت تؤمن بالأشياء العملية والنتائج السريعة، تبدأ حديثها دائما بكلمة الواقع أو حتما، «الواقع يا بنات ان النوم أفيد من اللي انتو بتعملوه ده!» «حتما يا بنات أبلة عزيزة حتطب عليكم والليلة مش فايتة على خير.»

لم يكن لسامية صديقات في العنبر إلا أنا، كان لانطباقة شفتيها وصمتها نوع من الغموض يجذبني، ولأن سريرها كان مجاورا لسريري، أصبحنا نتبادل الحوار: «إيه فايدة الخيال يا نوال، إيه فايدة القصص الخيالية؟ البلد في أزمة وانتي نازلة قراية روايات.»

في صوتها نبرة لوم وتأنيب، كلماتها تملؤني بالإثم، كأنما أنا أخون الوطن لأني أحب الأدب والفن، وأقول لها: إن الخيال عندي ضروري كالهواء أتنفسه. تمط شفتيها دون اقتناع، لم يكن لي أن أقنعها بالكلمات، كانت اللغة كالحاجز تقف بيننا، لديها عبارات معقدة تقف في الحلق من الصعب فهمها: «لازم أشرح لك الديالكتيكية يا نوال»، كانت هذه الكلمة «الديالكتيكية» تصيبني بالاكتئاب، إن سامية عاجزة تماما عن أن تشرحها لي، حين تسمعها فكرية تنفجر بالضحك. قبل أن ننام كل ليلة تطل «صفية» علينا من سريرها وتهتف: «تصبحوا على خير يا بنات، وعلى الديالكتيكية!» نخفي رءوسنا تحت الأغطية ونشهق بالضحك، تزم سامية شفتيها بازدراء، تغطي نفسها من الرأس إلى القدمين، وهي تصيح: «الواقع يا بنات انكم جهلة، وحتما مستقبلكم ضايع!»

لم يغمض لنا جفن تلك الليلة، دق جرس الصباح، ومن بعده جرس الفطور، قفزنا فوق السلالم جريا نتسابق في الدخول إلى المطعم، نجلس على الدكة الخشبية الطويلة، نتشمم الخبز المحمص واللبن الحليب، نعود أطفالا نصرخ من الفرح.

ثم تجمعنا في الفناء الواسع، نرتدي التايير الرمادي يعلوه البادج بالحروف الحمراء البارزة: الجلاء بالدماء. انضمت إلينا تلميذات القسم الخارجي، ترامى إلينا أصوات الهتافات في الشارع من بعيد. حلوان الثانوية للبنين خرجوا، والمدارس الابتدائية أيضا، ارتفعت صيحات البنات: لازم نخرج في المظاهرة، احنا مش أقل من تلامذة الابتدائي! صعدت واحدة فوق أكتاف الأخريات، وراحت تهتف: الجلاء بالدماء! ورددت وراءها المئات من المتجمهرات في الفناء: الجلاء بالدماء! أضافت واحدة: يسقط الإنجليز! تسقط الحكومة!

أصدرت الناظرة أوامرها، انغلقت البوابة الخارجية الكبيرة بالسلسلة الحديدية والقفل، انتشرت في الفناء الضابطات في أيديهن العصا، مثل رعاة الغنم يضربن النعاج على أردافهن ليدخلن الحظيرة.

إلى أن الهتافات ألهبت الحمية الوطنية، لم تعد النعاج نعاجا، تحولت إلى بشر تفور دماؤهن، وأصواتهن تنشد:

مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكن، وهي الفريدة في الزمن، وجميع ما فيها حسن. هذه الكلمات محفورة في ذاكرتهن منذ المرحلة الابتدائية.

Bog aan la aqoon