Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
103

Awraqaygee … Noloshayda (Qeybta Koowaad)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Noocyada

فاطمة ذات الصوت الجميل الذي كان يفرحنا ويبكينا كان لها حلم واحد، أن تصبح كوكب الشرق مثل أم كلثوم، دخلت كلية الآداب بعد الثانوية العامة، تزوجت أستاذها، يكبرها بعشرين عاما، سافرت معه إلى الكويت أو السعودية، انقطعت عني أخبارها أكثر من ربع قرن، ثم فجأة في خريف 1975 جاءني صوتها عبر أسلاك التليفون، قرأت عني شيئا في الصحف، فراحت تبحث عني حتى عرفت رقمي، صوتها كان ضعيفا حزينا؛ فهي طريحة الفراش وتطلب رؤيتي.

في مدينة الأساتذة بضاحية الدقي وجدت الفيلا الأنيقة تحوطها حديقة كبيرة، وكلب ضخم يشبه الوولف في بيت جدي شكري بيه، قادني السفرجي يرتدي قفطانا وصديريا أحمر إلى الأنتريه ثم الصالون الواسع، تبرق فيه الثريات والتحف ونباتات الظل، صعد بي عبر ممرات وسلالم رخامية إلى الدور الثاني حيث غرفة النوم.

فوق سرير يشبه سرير الملكة نازلي (رأيته في طفولتي في إحدى الصور)، رأيت فاطمة راقدة، بشرتها بيضاء بلون الملاءة، زوجها غائب في بلاد النفط يجمع المال، تزوج امرأة أخرى في الكويت أو السعودية، تراكم الحزن داخل الكيس في الثدي فوق القلب، أشارت بإصبعها الشاحب الناحل إلى الألم: «هنا يا نوال، هاتي إيدك، الدكتور قال إنه ورم ليفي حميد، لكن أنا حاسة إنه بيكدب علي، يا ريت تقولي الحقيقة.»

كان ورما سرطانيا خبيثا من الدرجة الثالثة، كذبت عليها كما كذبت على أمي وخالتي نعمات وكل المرضى بهذا الداء، لعنت اليوم الذي دخلت فيه كلية الطب وأصبحت طبيبة، لا أرى الناس إلا في لحظات المرض أو الموت، عيون منطفئة يطل منها الحزن، عيناها كانتا بلون العسل المصفى ، يتألق صوتها وهي تغني: «افرح يا قلبي»، كانت تحلم بأن تكون كوكب الشرق، لكنها تزوجت، وبنى لها زوجها مقبرة من الرخام، حفر عليها اسمه (وليس اسمها): «حرم الأستاذ الدكتور فلان.»

ماتت صديقتي فاطمة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها كما ماتت أمي، وراح اسمها في العدم، لم تفعل بحياتها شيئا سوى الانتظار، داخل الصالون الفخم واجترار حلم ضائع، صديقتي الثالثة سامية كانت صامتة مطبقة الشفتين، ترمقنا بعين صفراء حين نتكلم على أحلامنا تحت ضوء القمر أو ذكريات الحب الأول، هي لا تؤمن بالحب أو الأحلام أو الخيال، تمط شفتها في امتعاض. «البلد في أزمة وانتم عايشين في الخيال! دي رومانتيكية طفولية!» تمط فكرية شفتها السفلية في وجهها، تخرج لها لسانها، تتغطى سامية بالبطانية من قمة رأسها إلى قدمها. «نام يا بعبع أفندي، نام واتغطى من الهوا!» تقول لها فكرية وتضحك حتى تدمع عيناها، تطل سامية من تحت الغطاء، تخرج لها لسانها ثم تتغطى من جديد، لا تترك ثغرة واحدة لدخول الهواء، لم نكن نعرف كيف تتنفس، كانت تنام بعمق طول الليل، لا تتقلب من جنب إلى جنب، تتكور كالجنين حول نفسها، في الصباح الباكر تتسلل من الفراش دون صوت، تمشي بحذر فوق الأرض، تتكلم بصوت خافت مملوء بالحذر.

في يوم ارتفع صوتها عن المعتاد وهي تقول: «بكرة فيه مظاهرة كبيرة أوي، وكل المدارس حتخرج، ولازم مدرستنا تشارك في المظاهرة الوطنية.» «المظاهرة الوطنية؟!»

هاتان الكلمتان لهما رنين في أذني بصوت أبي، الطفلة المبهورة الجالسة في الفرندة البحرية بالإسكندرية، الأب الشجاع العملاق يضرب الأعداء، رصاصة تطير في الجو وتدخل صدره، ينزف الدم الأحمر فوق أسفلت الشارع، أهب من نومي مذعورة، أمشي على أطراف أصابعي، أتوقف عند باب الغرفة حيث ينام أبي وأمي، وقد يكون الباب مواربا فأسمع شخير أبي، أدرك أنه حي، وأن الأمر لم يكن إلا حلما. أعود إلى سريري لأنام، فيعود إلي الحلم، إلا أنني أنتقم لموت أبي، أرتدي درعا لا يخترقه الرصاص، أمسك السيف وأضرب الأعداء مثل جان دارك ، السيف في يدي يشبه رشاشة «الفلت»، الأعداء يتساقطون على الأرض كالذباب، يخف جسدي ويطير في الجو كالفراشة، أحرك ذراعي بدل الجناحين، يتحول الهواء إلى مياه زرقاء، أسبح في البحر كالسمكة، ترتفع الأمواج إلى السماء ثم تهبط بي إلى القاع، تمتد ذراعا أمي نحوي وترفعني فوق السطح. «المظاهرة الوطنية بكرة يا بنات.»

هذا هو صوتي المشتعل حماسا وأنا أمر على العنابر، الدم يرتفع من صدري إلى رأسي ثم يهبط إلى قدمي، دم ساخن ملتهب، أحمل الشعلة في جسدي وأمشي حافية في الممرات البلاط، أفتح أبواب العنابر الواحد تلو الآخر، وأهتف بالبنات: «بكرة المظاهرة يا بنات.»

صوتي يشبه صوتي حين كنت أقول: «بكرة المسرحية يا بنات.» العالم يبدو في عيني كالمسرح الكبير، التذاكر أصبحت منشورات، قطع مستطيلة من ورق الكراريس كتبنا عليها بالحبر الأحمر: الجلاء بالدماء. كان في عنبرنا عشر نوافذ كبيرة على شكل صفين، صف يطل على الممر الداخلي، وصف يطل على السماء والصحراء.

تلك الليلة السابقة على المظاهرة وقفنا في النوافذ، نشتغل على ضوء القمر «البادج» قطعة مربعة من القماش الأبيض، طرزنا عليها بالخيط الحريري الأحمر حروف الكلمتين «الجلاء بالدماء»، اشتغلنا طول الليل، لم تتخلف واحدة منا إلا سامية.

Bog aan la aqoon