وقام كعبلها ولكنه وقف مترددا، على حين تعالى الصراخ من مسكن دعبس. وحدج جبل كعبلها بنظرة قاسية وصاح به: تقدم قبل أن أدفنك حيا.
واتجه كعبلها نحو دعبس، وبسبابته ضرب عينه اليمنى حتى انفقأت عينه على مرأى من الجميع. واشتد الصراخ من بيت دعبس، وبكى بعض أصدقاء دعبس، مثل: عتريس وعلي فوانيس، فصاح بهم جبل: يا لكم من جبناء وأشرار! والله ما كرهتم الفتونة إلا لأنها كانت عليكم، وما إن يأنس أحدكم في نفسه قوة حتى يبادر إلى الظلم والعدوان، وما للشياطين المستترة في أعماقكم إلا الضرب بلا رحمة ولا هوادة، فإما النظام وإما الهلاك.
وترك دعبس بين أيدي أصحابه وذهب. وكان لذلك الحادث في النفوس أثر وأي أثر. كان جبل من قبل رئيسا محبوبا، وكان آله يظنونه فتوة لا يريد أن يتخذ لنفسه اسم الفتونة أو شعارها، فأصبح من بعده مخوفا مرهوبا، وتهامس أناس بقسوته وظلمه ولكن هؤلاء وجدوا دائما من يرد عليهم قولهم ويذكر بالوجه الآخر لقسوته، وهو الرحمة بالمعتدى عليهم، والرغبة الصادقة في إقامة نظام يضمن العدل والنظام والإخاء في آل حمدان. ووجد هذا الرأي الأخير كل يوم ما يسنده في فعال الرجل وأقواله حتى آنس إليه من استوحش، وآمن من خاف، ومال من جفا، وحرص الجميع على النظام فلم يجاوز حدوده أحد. وسادت الاستقامة والأمانة في أيامه، فلبث بينهم رمزا للعدالة والنظام، حتى غادر الدنيا دون أن يحيد عن مسلكه قيد أنملة. •••
هذه قصة جبل.
كان أول من ثار على الظلم في حارتنا. وأول من حظي بلقيا الواقف بعد اعتزاله. وقد بلغ من القوة درجة لم ينازعه فيها منازع. ومع ذلك تعفف عن الفتونة والبلطجة والإثراء عن سبيل الإتاوة وتجارة المخدرات، ولبث بين آله مثالا للعدل والقوة والنظام. أجل لم يهتم بالآخرين من أبناء حارتنا. ولعله كان يضمر لهم احتقارا وازدراء كسائر أهله. لكنه لم يعتد على أحد منهم ولا تعرض له بسوء، وضرب للجميع مثالا جديرا بالاحتذاء.
ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب.
لكن آفة حارتنا النسيان.
رفاعة
44
أوشك الفجر أن يطلع، وأوى إلى المضاجع كل حي في الحارة حتى الفتوات والكلاب والقطط. واستقر الظلام بالأركان كأنه لن يبرح أبدا. وفي رعاية الصمت الشامل فتح باب ربع النصر بحي آل جبل في حذر شديد، فتسلل منه شبحان، سارا في سكون نحو البيت الكبير، ثم تابعا سوره العالي إلى الخلاء. نقلا خطواتهما في حذر، وجعلا يتلفتان وراءهما من حين إلى حين؛ ليطمئنا إلى أن أحدا لا يتبعهما، وأوغلا في الخلاء مهتدين بنور النجوم المتناثرة، حتى تبينا صخرة هند كقطعة من ظلام أشد كثافة مما حوله. كانا رجلا في أواسط العمر وامرأة شابة حبلى، وكلاهما يحمل بقجة مكتظة. وعند الصخرة تنهدت المرأة وقالت بإعياء: عم شافعي، تعبت.
Bog aan la aqoon