96

Atyaf Min Hayat May

أطياف من حياة مي

Noocyada

وبعث إليها في اليوم التالي بنسخة من القرآن مع كتب أخرى في الأدب العربي، وقد قالت لي الآنسة مي في ذلك، وأنا أزورها ذات ليلة: «ابتدأت أفهم من لطفي السيد اتجاه الأسلوب العربي، وما في القرآن من روعة جذابة ساعدتني على تنسيق كتابتي ورقي أسلوبي.»

كان الأستاذ أحمد لطفي السيد في ذلك الوقت في ربيع الحياة وعنفوان الشباب، وكانت الآنسة مي في العشرين، أو على الأصح في الخامسة والعشرين، وكانت هذه الأديبة من ملاحة الطلعة وخفة الروح وسحر الحديث ما يجذب إليها النفوس، ولا سيما نفس الأديب؛ فاستهوت نفس أديبنا الكبير، وشغلت قلبه وفكره، وأصبحت فتاة أدبه وكعبة رسائله العاطفية. وكان في أول أمره يعجب بذكائها ونبوغها، ثم تطور هذا الإعجاب إلى حب روحي عميق، وكانت «مي» تحترمه لعلمه ومكانته وقلمه البليغ، ثم تطور هذا الاحترام إلى إعزاز وتقدير؛ فأخذت تثق به كل الثقة وتنزل له من نفسها منزلة عزيزة، وتستشيره في الكثير من شئونها، وتسر إليه بما تخفيه عن غيره من الأصدقاء والأقربين. •••

وقد امتدت هذه الصداقة بينهما طول حياة الآنسة «مي»، ولكن السنوات العشر الأولى - ما بين سنتي 1911 و1921 - هي التي بلغت فيها هذه الصداقة، أو هذا الحب الروحي العميق أعلى درجاته؛ فقد كتب فيها لطفي السيد إلى فتاته النابغة عدة رسائل عاطفية تعتبر نموذجا حيا بليغا من رسائل العظماء في الحب!

ولست أستطيع أن أدون هنا كل هذه الرسائل، وأكتفي بمقتبسات من أربع رسائل:

الخطاب الأول

ففي يوليو سنة 1913 سافر لطفي السيد إلى الإسكندرية للاصطياف، وكان قبل سفره مثابرا على زيارتها كل أسبوع، وما كاد يمضي أسبوع واحد على فراقه لها في القاهرة حتى اشتاق إلى رؤيتها؛ فبعث إليها بهذه الرسالة في 15 يوليو من ذلك العام يقول فيها:

سيدتي «مضى أسبوع كامل من يوم كنت عندكم، أستأذن في السفر إلى الإسكندرية. وما كان من عادتي أن أغيب عنك أكثر من أسبوع، إذا مضى كان يدفعني الشوق إلى حديثك الحلو، وأفكارك المتينة الممتعة، إلى زيارتك، فلا غرو أن أستعيض عن الزيارة غير المستطاعة بهذه الرسالة السهلة الكلفة، كتابي يلقي إليك في صحة وسلامة وصبر على هذا الحر الذي ربما شبهه بعض أصحابنا الشعراء بشوق المحبين، يقص عليك أنني أذكرك دائما كلما هبت نسمات البحر، وقابلت بينها وبين لوافح القاهرة، وكلما تجلى علينا البدر يضيء البر والبحر على السواء، ويملأ العيون قرة، والقلوب رضا. وكلما جلست على شط البحر أتعشى وسط أصحابي، كما كانت حالي وقت أن رأيتك لأول مرة، وسمعنا حديثك وأعجبت بك. أذكرك كلما خطر ببالي النظر في حال المرأة الشرقية ومستقبلها وعلى من نستطيع أن نعتمد في المساعدة على انتقالها إلى الأفق الذي نرجوه، وكلما قرأت من الشعر ومن النثر أفكارا تتناسب مع أفكارك أو تختلف عنها. أذكرك كلما هاج البحر، وألفت عقلي إلى مظهر الغضب في وجه الطبيعة الباسم، وآثار الغضب في نفوس بني آدم حتى في نفس فتاة أرحبهم صدرا وأحسنهم خلقا وألطفهم مجاملة وأرعاهم معاملة وأرقهم قلبا.

هي أيضا، مع أنها ملكة بين المعجبين بها و«همو كثر» قد حسبتها يوما من الأيام إحدى رعايا الغضب.»

وهنا نشير إلى أن الآنسة «مي» كانت مرهفة الحس سريعة الغضب أو الدلال كما يعبر عنه الشعراء، ثم جاء بعد ذلك: «هي تملك القلوب بنظرها ولسانها وقلمها، روابط لا انفصام لها، وسلاسل لا قبل لأحد بفكاكها، ولكنها مع ذلك تدين إلى الغضب، وتجري عليها - كما تجري علينا نحن الخلائق - أحكامه، وربما زادت علينا في أمر آثار الغضب عندنا لا تقيم بعد الاعتذار. أما هي فإنها غضبى، يلذ لها غضبها في كل أطواره، كما يطيب لنا احتماله في كل مظاهره؛ عبس في الوجه لا يقل في جماله عن الابتسامة الفاتنة، وإعراض كالدلال في الإقبال، وتوقد في العينين كأنه في حلاوة من النظر، فما أشبه نظرهما الشزر، يلحظهما الرحيم في اللعب بقلب الحكيم، ثم قطع للرسائل وهجر جميل.

أذكرك في كل وقت، ولا أجرؤ أن أكتب إليك إلا في ميعاد الزيارة، لكيلا أضطرك مكرهة بتقاليد الأدب أن تردي علي بالكتابة كلما كتبت إليك. على إني أعرف كثيرا غيري لهم تراسل قد يضيق وقتك عن العطف عليهم.»

Bog aan la aqoon