وعاهدت نفسي على ألا أزور جوليا بعد ذلك اليوم، وكنت في الوقت نفسه أعجب كيف أستطيع الحياة في الأيام القليلة الباقية على الموعد الذي حددناه للقائنا.
وقلت لنفسي في حزم وجفوة في أثناء محاضرة عن علم الغازات وضغطها وحركتها: «إن سلوكك يا كرافتشنكو ليشبه سلوك إحدى الشخصيات في رواية فرنسية رخيصة، ما لك ولهذه المهزلة؟! وماذا تكون عاقبها؟»
وبحت بسري إلى ألكسي في تلك الليلة، وأدرك من فوره أني لم أكن أطيق المزاح، فأخذنا نتحدث حديثا جديا، وكان مما قاله لي أنه عرف من ماري أن جوليا بائسة من زمن طويل، وأنها لا تحب زوجها العظيم، وأن من أكبر أسباب بغضها له أنها تكره قسوته على الشعب، وحياته المترفة، وعدم اكتراثه بما تعانيه جمهرة الشعب من شقاء.
وكان مما قالته له ماري: «لست أنكر أن هذا يبدو لك كأنه منظر من مناظر مسرحية «بيت العرائس» لإبسن، ولكن الواقع أن جوليا تحس بأنها سجينة، وتقول إنها لا ترى فرقا بين أن تكون زوجة ل «ر» أو زوجة لأحد أعضاء البيت المالك السابقين، وتظن أن حياتها معه سخرية بآلام الشعب الروسي.»
وقابلت جوليا مرارا في خلال الأسابيع التي أعقبت هذا اللقاء الأول، وسألتها ذات ليلة عن زوجها فاعتذرت عن الجواب، وقالت والدمع يفيض من عينيها: «أعفني من الجواب في هذه الليلة يا عزيزي، وسنجد في غيرها وقتا طويلا نتحدث فيه؛ لأني لا أريد أن أفسد علينا الليالي الأولى التي نقضيها معا.»
وكنا ذات مرة نسير معا في الحديقة الواسعة المسورة الواقعة خلف بيتها، بعد أن أزيل الثلج من طرقاتها وفرشت برمل جديد.
وقلت لها وألححت في قولي: «لا، إن من الخير أن تكشفي لي عن أمرك؛ ذلك أن «ر» ليس زوجك فحسب، بل هو أيضا زعيم من زعماء حزبي.»
فقالت: «لست من أعضاء الحزب، ولكني كنت أشعر من بادئ الأمر بميل إليه أو على الأقل بميل إلى الثورة، وكان أبي من رجال العلم ومن كبار الأحرار، آه! لقد نسينا كلمة الأحرار يا فيتيا، ونحن نسخر منها إذا نطقنا بها، ولكن كل سنة تمر بنا تزيدني إجلالا لها، إجلالا لها بالمعنى الذي كان يفهمه منها أبي على الأقل. لقد كان أبي يفهم منها حب العامة، والعدالة التي تشمل جميع الناس، وبفهم منها فوق هذا كله احترام الناس جميعا رجالا كانوا أو نساء، وكان يعلي من قيمة الحياة، ولعلنا قد نسينا هذا كله، ولكني أعتقد أن هذه المبادئ هي التي كانت تهدف لها الثورة.»
فقلت لها: «إن هذا لمن أعجب الأمور، لقد كان أبوك من رجال العلم أما أبي فعامل بسيط في أحد المصانع، وكان أحدهما يسمي نفسه حرا ويسمي الآخر نفسه ثوريا، ولكنك حين تحدثينني بما كان يعتقده أبوك أكاد أسمع في حديثك حديث أبي نفسه.» - «ليس في هذا شيء من الغرابة، إن زوجي يدعو للاشتراكية بين العمال الكادحين، ويهيب بهم أن يثبتوا دعائمها في المستقبل، ولكنه يعيش الآن في الحاضر لا في المستقبل، ولعله فيما بينه وبين نفسه يرى أن في اشتراكية اليوم ما يفي بغرضه، وأي حق لنا في هذه المتعة كلها؟ (قالت هذه الكلمات الأخيرة وهي تشير بيدها إشارة شملت الحديقة والقصر المترف ومعطفها المصنوع من الفراء.) على حين أن الملايين لا يجدون ما يسد رمقهم، وعلى حين ترى معسكرات المساجين تزداد اتساعا وقبحا في كل يوم؟ وقد لا تصدقني إذا قلت لك إني أبغض هذا النهم في الزعماء، وهل اتفق لك أن عرفت بطريق المصادفة ما يحدث في القرى في هذه الأيام؟» - «يؤلمني يا جوليا أني أعرف أكثر مما أريد أن أعترف به لنفسي.» - «لا يدهشنك مني أن أتحدث إليك على هذا النحو، إن عواطفي هذه ليست سرا خافيا على «ر»، فكثيرا ما أفصحت له عن رأيي في هذا كله، ولكنه إذا سمع هذا سخر مني وقال إنني طفلة بلهاء واهمة أطلق العنان لعواطفي، وأدعي أن أحدا لا يضار بهذا، وأن الزعماء يعملون وينقبون، ومن حقهم أن يحيوا حياة راضية هنيئة، ولكني لا أشك في أنه مخطئ في قوله هذا؛ لأن الزعماء الذين لا ينقصهم في حياتهم شيء سرعان ما ينسون ألم العذاب ويصبح حديثهم عن التضحية مجرد رياء.
وإني لأشعر يا عزيزي بأننا قوم مخدوعون، وأن على أبصارنا غشاوة فلا نبصر ما يحدث من حولنا، حتى ليخيل إلي أحيانا أن ما كان يعانيه الشعب من استغلال وهمجية في أيامه الماضية كان أنبل قصدا مما يعانيه في هذه الأيام؛ ذلك أن المسيطرين عليه لم يكونوا يدعون على الأقل أنهم رجال مبادئ ومثل عليا، ولم يكن منهم من يسمي عمله هذا اشتراكية، إن أمثالك من الشبان الشيوعيين لسعداء حقا؛ ذلك أنكم لا تزالون تؤمنون بمبادئكم، ولا تعرفون شيئا عن الدسائس القذرة، وعن الصراع القائم بين كبار الزعماء في سبيل السلطة.
Bog aan la aqoon