ولما خرجنا من المسرح صرفت جوليا السيارة الكبيرة التي كانت في انتظارها، وقالت: إنا إذا عدنا إلى المنزل في مزلقتين كان ذلك أدعى إلى السرور، واخترنا من بين الصف الواقف أمام دار الأوبرا مزلقتين من أنظف المزالق، وركب ألكسي وماري واحدة وركبت أنا وجوليا الأخرى، ولا تزال صورة هذه المركبة منقوشة في ذاكرتي بجميع تفاصيلها واضحة المعالم حتى هذه الساعة، وما زلت أذكر هذه الليلة الباردة الصافية البراقة لفها الثلج المتلألئ، وأذكر فتات الثلج تتطاير من حوافر الخيل وهي تعدو بنا في غير جلبة، وأذكر سحب البخار الخارج مع أنفاسنا، وأحس بيد جوليا في يدي فوق ركبتينا تحت طنفسة الفرو.
وتحدثت إليها عن معهدنا، وعن حياتي في المصنع وفي الحزب، وحدثتها عن ألكسي وعن سائر رفاقي الذين يقيمون معي في الحجرة، وقاطعت نفسي وسط هذا الحديث الذي لا يهدف إلى غاية وصحت: «ما أجمل كل شيء في هذه الليلة!» والتقت شفتانا بقبلة.
وتحولت بنا العربة بعد قليل إلى شارع جانبي، ووقفت أمام بيت صغير من طابقين قائم وراء سور عال، شبيه بالمساكن الخاصة التي كان يسكنها التجار الأثرياء في الأيام الخالية، ووقف حارس مسلح عند باب البيت، وأحست ماري كما أحس ألكسي أننا نريد أن نكون وحدنا، فأصرا على أن يذهبا إلى مطعم، وفتحت جوليا الباب بمفتاح مزلاج ودعتني إلى الدخول.
وأضاءت الأنوار فألفيتني في أجمل بيت وقعت عليه عيني، فقد فرشت أرضه بالطنافس الشرقية، وعلقت على جدرانه الستر المزركشة والصور الزيتية، وانتشرت في حجراته الثريات البلورية والأرائك الوثيرة والمناضد البراقة من خشب الكابلي، وكان كل ما فيه ينطق بثراء أصحابه، وإن كان في ترتيبه شيء من التحفظ يدل على حسن الذوق.
ووقفت في وسط هذه العظمة منبهرا بادي الحيرة.
وضحكت جوليا وقالت وهي تلقي عنها دثارها المتخذ من جلد الفقمة: «تلك حقائق يا عزيزي، وليست صورا في دار خيالة.»
فأجبتها: «ولكني ما كنت أتصور أن شيئا من هذا لا زال له وجود في خارج المتاحف.»
دعك من هذا يا فيتيا، إن في بلدنا أشياء كثيرة لا يدور بخلدك أنها توجد فيه، هيا بنا إلى المطبخ وأعني على تناول لمجة، فإني أكاد أموت جوعا، فالخدم في خارج الدار الليلة، وهو في موسكو ليشهد مؤتمرا أو شيئا من هذا القبيل.
ورأيت المطبخ فزادني إحساسا بأن كل ما فيه أقرب إلى أن يكون من نسج الخيال، لقد كان جوه كله مشبعا بالوفرة والمتعة ، فقد امتلأت خزائنه بالأواني الخزفية الجميلة، وصفت فيها الأواني البلورية يحمل بعضها شعار القياصرة، وقامت على إحدى المناضد الجانبية غلاية براقة كبيرة، ولما فتحت المثلجة الضخمة أبصرت فيها من المأكولات الشهية ما عاد بذاكرتي إلى ما كان من المثلجات في قبو جدتي في ألكسندروفسك، وتمثلت ما بين هذا وذاك من فروق، وخيل إلي أني هنا في عالم آخر أبعد ما يكون عن الفقر المدقع والحرمان اللذين أصبحا من مستلزمات حياتنا السوفيتية.
ولما عدت إلى حجرتي في منزل الطلاب صباح اليوم الثاني، لم أكد أجد من الوقت ما يكفي للاغتسال وحلق الذقن قبل الذهاب مسرعا إلى المعهد، ولم تكن المحاضرات التي ألقيت طوال اليوم تجد في إلا طالبا نعسان غافلا ذاهلا لا يسمع ما يقال ولا يعي شيئا مما يسمع؛ ذلك أن أفكاري جميعها كانت مع جوليا، وقلت لنفسي من فرط الدهشة: «إن في العالم إذن حبا من أول نظرة.» ولكن لم تكون محبوبتي امرأة متزوجة، ومتزوجة فضلا عن هذا بزعيم من زعماء حزبي وبلدي؟
Bog aan la aqoon