وختم روايته قائلا: «ومع ذلك فلا بد لي من الاعتراف للجنة وللحاضرين من الرفاق بما زللت فيه من أخطاء في موضوع الخروج على الوطن، فقد ترسمت خطى «سكربنك» وغيره ممن شوهوا النظرية الشيوعية كما تعرف في صورتها المألوفة، تلك حقيقة من ماضي حياتي المرير، وهي حقيقة آسف لها وإن يكن قد محاها النسيان محوا تاما.»
فقاطعه الرئيس بلهجة أوضح ما تكون اللهجة توعدا بالشر، وتوترت أعصاب الحاضرين جميعا: «تقول محاها النسيان؟ ولكن ألا تزال على صلة بأفراد من أمثال ...» وذكر له ثلاثة أسماء أو أربعة. - «نعم، ربما أكون قد صادفتهم هنا أو هناك، فما يستطيع أحد أن يجتنب هذا اللقاء العابر، لقد كانوا فيما مضى من الوطنيين في أوكرانيا ولست معهم الآن على صلة من الود.» - «ألم يكن بينك وبينهم قط تبادل الرسائل؟» - «لا.» - «ألم تقابل هؤلاء الرجال بعد أن عفا عنك الحزب عفوا كريما؟» - «لا، وإذا لم تخني الذاكرة، فقد التقيت مرة برجل هو صديقي وصديقهم، ولكني لم أتحدث معه في السياسة.» - «هل تعلم أين هؤلاء الوطنيون الآن؟» - «سمعت تقريرا عن بعضهم أن قد ألقي عليه القبض، ولكني لا أعلم من.» - «ممن سمعت هذا التقرير؟» - «من الصديق المشترك الذي قابلته عرضا.» - «لقد ذكرت لنا الآن توا أنك لم تتحدث معه في السياسة، فكيف حدث أن أنبأك تقريرا بأمر القبض على هؤلاء؟» - «ربما أكون قد استعملت كلمة خاطئة حين قلت «سمعت تقريرا»، فلم تكن أكثر من ملاحظة عابرة.» - «أيها الرفيق جرنتشنكو، أنت ساذج إذا ظننت أنك مستطيع أن تذر في أعيننا رمادا، فنحن نعلم أنك - مثلا - حين سمعت بأمر من قبض عليهم، قابلت الخبر باستياء.» - «يؤسفني أن أقول: إن من بلغ عني ذلك قد افترى علي كذبا.» - «الأمر على نقيض ذلك تماما، فلدينا من مصادر عدة ما يثبت أنك ما تزال «أوكرانيا» أولا، «لينينيا» ثانيا، فلدينا اتهامات مقدمة من رجلين هما من ألصق زملائك بك.» وذكر اسمهما.
فوقع هذا القول على «جرنتشنكو» وقع الصاعقة، إذ لم يكن يخفى عن أحد منا أن هذين الرجلين لم يعودا بعد أحرارا من القيد.
وتمتم جرنتشنكو قائلا: «لا أستطيع أن أفهم غايتهما من الوشاية بي بمثل هذا الكلام، لقد كانا حقا من خيرة الأصدقاء.»
فقال أحد أعضاء اللجنة: «وأظن أنك يا «جرنتشنكو» لم تقل شيئا ضد المزارع الجماعية.» - «لا، ربما أكون قد تحدثت في نقد ألوان بعينها من الإسراف في تطبيقها، لكني لم أقل قط في حياتي كلمة أهاجم بها ما اتخذه الحزب في هذا الصدد من قرارات.» - «حسبنا منك هذا، ولنسمع الآن ما عسى أن يقوله في شأنك الحاضرون.»
ونهض الأساتذة الذين يحاضرون في مذهبي «ماركس» و«لينين» واحدا في إثر واحد لينزلوا بزميلهم الضربات، وأخذوا يلقون الخطب تباعا ليقولوا: إن الروح الوطنية (التي يتهمون بها جرنتشنكو إزاء وطنه أوكرانيا) تتنافى مع الشيوعية، وجعل هؤلاء الزملاء ينكتون رءوسهم لعلهم واجدون فيها ما يقذفون به زميلهم المتهم من ألوان الاتهام، فكانوا يعثرون في أعماق ذاكراتهم على نتف من أحاديث زميلهم لا تسعفهم الذاكرات بنصها الصحيح، وكانوا فيما يذكرونه عن زميلهم من وقائع لا يحددون لها التواريخ، بحيث جاء ما قالوه بمثابة المسامير التي تدق في نعشه السياسي، حتى لو كان ما قالوه يرجع تاريخه إلى زمن لم يكن شعور «جرنتشنكو» الوطني تجاه بلده أوكرانيا مما يحرمه قانون الشيوعية، بل كانت الحماسة الوطنية عندئذ ضربا من الإلزام.
وهكذا حشر «جرنتشنكو» في زمرة المطرودين الذين يجللهم العار، وهو ذلك الرجل المتعصب لمذهب «لينين» بذهنه الأوكراني الصافي، وبهذا بلغت سيرته ختامها.
وكنت أتساءل: ترى ماذا عسى أن يلحق بهذا الرجل من أحداث حين سمعت اسمي ينادى به، فأسرعت إلى المسرح وقصصت قصة حياتي: في المزرعة الجماعية، وفي مناجم دونتز، وفي المصنع، وعلى حدود فارس، ثم في المصنع من جديد، وأخيرا في المعهد ، وكنت أحس إبان الحديث أنني إنما أدلي بسيرة تستثير في السامعين إعجابا، فآبائي من طبقات الشعب إلى حد مقبول، ومناشطي شيوعية الاتجاه لم تنحرف عن مبادئها قط، وذكرت نبأ تفتيشي في «نيقوبول» وزيارتي الطويلة ل «أورزنكدز»، ذكرت هذا النبأ متعمدا لكني جعلته يبدو كما لو كان شيئا ذكر عرضا في سياق الحديث. وأخيرا غامرت بذكر تقرير موجز عن مهمتي اللتين أسندتا إلي في المناطق الزراعية، إذ إنني كنت على يقين أن أمري هناك قد وشى به واش، فلا بد لي إذن ألا أخفي ما اتخذته من قرارات جريئة، ثم بينت أنها قرارات أملتها علي ضرورة الموقف. - «في أي الظروف ضاعت منك تذكرة الحزب؟ هل تعلم أن ضياعها فيه هدم خطير لقوانين الحزب؟» - «أعرف ذلك وآسف له أيها الرفاق، ضاعت مني ونحن في معمعان الحصاد، فقد أصيب عامل زراعي بإغماء مفاجئ فحللت مكانه في العمل، وبينا نحن في اضطرابنا هذا فقدت محفظتي، وها هي ذي شهادة من القسم السياسي في ذلك الإقليم تثبت ذلك.»
فحصت اللجنة عن الشهادة المقدمة، وأضافتها إلى ملف أوراقي، واستأنفت استجوابي. - «لدينا ما يثبت معارضتك للتدابير الفعالة التي تطبق في جمع الغلال، وأنك أنكرت ممثلا رسميا للحزب.» - «الواقع عكس ذلك يا رفاقي، إنه هو الذي أساء إلى الحزب، أقول ذلك على زعم مني بأنكم تعنون «أرشينوف» الذي حدثتكم عن أساليبه.» - «لنفرض معك أننا نعني أرشينوف.» - «وإن كان ذلك كذلك، يا رفيقي الرئيس، فها هي ذي صورة من تقرير عنه قدمته إلى اللجنة الإقليمية وإلى جريدة برافدا، وسترى أن هذا الرجل وصم بالعار الشيوعية والشيوعيين، لقد بذلت جهدي في سبيل صيانة الحزب وسمعته الطيبة من أفعاله؛ ولهذا يحاول أن يحفر الأرض من تحت قدمي، لقد كان مما استخدمه «وسائل بدنية».»
فسأل أحد النظارة: «أي ضرب من الوسائل البدنية؟»
Bog aan la aqoon