اسمع تلك الحكاية ففيها عبرة وذكرى: أودت الحرب العالمية الأخيرة بآلاف من الجنود البسل، وكل منهم يدافع عن قومه وبلاده، فسجلت أسماؤهم على ألواح البرونز وقطع المرمر تخليدا لذكرهم. ولكن هناك من بينهم مئات الألوف ماتوا كذلك ميتة الأبطال ولكن أسماءهم ضاعت لأن جثثهم الممزقة اختلطت بجثث رفاقهم فلم يكن من سبيل إلى تبين شخصهم أو تحقيق هويتهم؛ لذلك أرادت فرنسا - وحذت سائر الدول حذوها - أن تتخير واحدا من هؤلاء الأبطال المجهولين ترفعه إلى ذروة المجد وتقيم له من معالم التكريم ما لم تقمه لأكبر الغزاة الفاتحين، فتكرم في شخصه المجهول مئات الألوف من الأبطال الذين تنكرت جثثهم على الناس.
هذا منشأ تلك الفكرة النبيلة؛ فاسمع الآن كيف كان تنفيذها في فرنسا: كانت موقعة «فردان» أعظم موقعة دارت رحاها بين أعظم جيشين في العالم، دامت شهورا طوالا وسالت فيها مهج مئات الألوف على شظايا القنابل وظبى السيوف حتى أصبحت أرجاؤها جبانة مترامية الأطراف.
ومن القتلى الراقدين في ثراها تقرر اختيار الجندي المجهول، فأخذوا من أنحاء ذلك الميدان العظيم ثماني جثث لم تعرف لمن هي. اختاروا ثمانية من بين خمسمائة ألف قتيل، ووضعت كل جثة في نعش ونقلت النعوش الثمانية في ليل 10 نوفمبر سنة 1920 إلى حصن «فو» حيث أوقدت حولها الشموع وقامت الجنود تحرسها، ثم تقدم القائد وأشار إلى أحد جنود الفرقة 132 فخرج الجندي من الصف ودفع إليه القائد باقة من زهر القرنفل الأبيض والأحمر وقال له أن يدور دورتين حول النعوش الثمانية فيلقي بالباقة على نعش منها، ففعل وما كاد يلقي زهرات القرنفل على أحد النعوش حتى عزفت الموسيقى بنشيد المرسليز ورفع الضباط سيوفهم للتحية. ومن تلك الدقيقة أصبح الراقد في ذلك النعش مثال التضحية والتفاني، وصار تكريمه تكريما للمليون ونصف المليون من الجنود الذين قتلوا في الحرب دفاعا عن فرنسا وطنهم.
ثم نقل ليلا إلى باريس. وفي اليوم التالي أقيم له احتفال ندر أن شهدت تلك العاصمة العظيمة ما يضارعه فخامة وأبهة وتأثيرا في النفوس، مشى في موكبه الوزراء والقواد ورجال الدولة وعشرات الألوف من الناس تتقدمهم 800 راية من رايات فرق الجيش المختلفة حتى وصلوا به إلى «قوس النصر» حيث قام ضريحه، وعلى أثر ذلك أصبح الآباء والأمهات والأزواج والأخوات يحجون إلى هذا الضريح وكل يعتقد أن فيه ابنا أو زوجا أو أخا. وما زار باريس ملك أو وزير أو كبير إلا عد من أول فروض المجاملة زيارة قبر الجندي المجهول وتحيته ووضع الزهر عليه.
وما كان للمؤلف أن يترك مثل هذا الموضوع بلا جولة لخياله فيه، وقد أراد أيضا أن يضع زهرة من زهر أدبه الرائع على ضريح الجندي المجهول، فكتب هذا الفصل: ذلك الغفل في الرمم، صار نارا على علم، جمع ضحايا الأمم، كما جمع الكتابة القلم، أو الكتيبة العلم.
1
تمثال من إنكار الذات، والفناء في بقاء الجماعات، وصورة من التضحية المبرأة من الآفات، المنزهة عن انتظار المكافاة، وهيكل على الواجب من عظام أو رفات؛ تقرأ على صفحاته العجب العاجب، تفسير الجلالين من موت وواجب. وتتنقل من آية على آية، وترى كيف جرى الإيثار للغاية. وكيف سالت النفوس على جنبات الراية.
ولا يعلم إلا الله لمن الجيفة المحظوظة، أو تلك البقايا المصونة المحفوظة؛ ألرعديد، أم لصنديد؟ ولبطل مشوق، أم لمكره مسوق؟ ولشيطان استعماري، أم هي لربي حواري؟ ولمغمور من سواد الجند، أم لمأثور من بيض الهند؟ وهل كانت لبدة أسامة، أم كانت جلدة النعامة؟ وهل هي هيكل المتنبي أم وعاء أبي دلامة.
2
وكيف تعرف جثة نكرتها الأيام، وسارت الأرض فيها سنتها في الرمام، إلى أن وقعت عليها يد في الرجام، كما تقع على النصيب الرابح يد الغلام؛ فخرجت بها من غمرة الرمم، وحفرة الأمم، وبؤرة العدم.
Bog aan la aqoon