1
ما ناطته السماء بمستقبل هذا الصبي الشاعر، وهو يختلف إليهم من حين إلى حين، ولو قد تبين جماعة «مالارمي» ما تنطق به مخايل هذا الشاب العابث في أبهاء الحي اللاتيني؛ لحموه أحداث الزمن، ولما تركوه غرضا للفاقة والتشريد والعذاب، ولضنوا بصاحب هذه النفس الشاعرة الموهوبة والعبقرية المبدعة الفذة، ألا يجد وهو في مستهل حياته قوت يومه، ثم لفزعوا إلى القدر فما صرف أمه عن العناية به صغيرا، فشب مطلق العنان يرتاد المواخير ويدمن الخمر، ثم لما غادر زوجه وأمه وولده هائما بين باريس ولندن وبروكسل، ليعود إلى وطنه ضحية اتهام قاس ينال من رجولته، ويلقي على نجمه المتوقد سحابة من الزراية والامتهان، ثم لما ارتفعت من حوله صيحات العار تلاحقه من مكان إلى مكان فغلقت في وجهه أبواب الرزق، وسدت على ذلك الهارب المسكين منافذ الرجاء والطمأنينة ، فمضى يستنبت الأرض في الريف البعيد في كثير من اليأس والعناء، وهو ذلك الروح المرح الذي لم يخلق لغير الشعر والغناء، ثم لما تحالف هذا الشر كله على ذلك الضعيف المكدود، فاستبد به المرض، فقضى غريبا وحيدا، منبوذا إلا من امرأة بائسة مثله، ساهمته حبه الأخير وشقاءه الأخير، فلفظ في ظل قربها وعطفها نفسه الأخير.
حقا!! لقد كانت حياة ڤيرلين فاجعة محزنة؛ فمن الحان إلى السجن إلى الماخور إلى الهيام في الطرقات إلى ملاجئ البر.
هذا هو الشاعر الخالد الذي كان أرخم صوت غنائي صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو، لامارتين، جوتيه، موسيه، بودلير، رامبو، جول لافورج، مالارمي وغيرهم.
ستيفان مالارمي
إن في حياة هذا المتشرد الكبير ضروبا من العبث وألوانا من الألم، ولكنه العبث الذي تستقيم به حياة الفنان البوهيمي، والذي يتيح للأدب في كل جيل فنونا شتى من الإجادة والإبداع، ولكنه الألم الذي يفرض العذاب على القلوب الشاعرة فينطقها بالنغمات الفريدة الساحرة، ويصل ما بينها وبين السماء، فتشرب من روعة اللانهاية وصفائها، وتمنح البشرية الوضيعة المعذبة لحظات من السعادة والسمو.
ولد پول ڤيرلين في مدينة «متز» من ولايات فرنسا الشمالية، في الثلاثين من شهر مارس عام 1844، أي بعد مولد بودلير الشاعر بثلاثة وعشرين عاما، وكان أبوه ضابطا ممتازا في الجيش الفرنسي، وعندما بلغ السابعة من عمره رحلت به عائلته إلى باريس، فألحقته بمدرسة خاصة، ثم بمعهد «ليسي بونابرت» حيث أظهر ڤيرلين على حداثته تفوقا مشهودا في اللغتين اليونانية واللاتينية وفي علوم البلاغة والأدب، فمنح جائزتها مع درجة شرف ثم استمر في دراسته قليلا من الزمن حتى ظفر بوظيفة حاسب في إحدى دوائر باريس المالية.
ولكن حياة ڤيرلين الشاعر تبدأ عام 1866؛ ففي الثانية والعشرين من عمره أخرج أول مجموعة شعرية عنوانها «قصائد عابسة» “Poèmes Saturniens” ، وبعد ثلاث سنوات نشر مجموعته الثانية «أعياد مرحة» “Fètes Galantes” ، فأصاب ڤيرلين من تينك المجموعتين حظا كبيرا من الشهرة والتقدير كشاعر غنائي نابغ، كما أصاب حظا من التعاسة والشقاء، وكانت الأيام قد مهدت لهذه المتناقضات؛ فقبل نشر ديوانه الأول بعام مات والده، وعاش الشاعر الصغير في رعاية أمه فدللته، وأعانته على عبث الشباب ونزقه بما كانت تمده به من المال، فانغمس الفتى في شهواته، وانطلق يعب من ملذات الحياة كيفما اشتهت نفسه الظامئة وشبابه المضطرم.
ثم أعانته الأقدار بعد ذلك على الحياة التي بدأ يشغف بها ويستمرئها، حياة الشرود والهيام، فصادف جماعة من الشعراء البوهيميين الذين كانوا يجتمعون كل مساء في مطعم «ريفولي» بالحي اللاتيني فما لبث أن مال إليهم واندمج في عشيرتهم، كانوا يجتمعون فيتناولون الأدب والفن بالدراسة والنقد، ويتجادلون في شئون الشعر، وكان لڤيرلين من هذه الجماعة حظ كبير من الخير، فصقلت محاوراتهم طبعه، وأظهرته على ألوان مختلفة من الجمال والخيال، ولكن كان له إلى جانب هذا الخير حظ كبير من الشر؛ لفقد حببت إليه عشرتهم احتساء الخمر أولا، وإدمانها ثانيا، وكان ڤيرلين رقيق البدن، عصبي المزاج، حاد الطبع، وكان الخمر سمه القاتل!
وصار ڤيرلين بعد ذلك من المترددين على صالون «لويس كافير دي ريكارد» فاتصل بالبارناسيين “Parnassians”
Bog aan la aqoon