إهداء
الجزء الأول: دراسات أدبية
1 - پول ڤيرلين
2 - شارل بودلير
3 - في الأدب الإنجليزي الحديث
الجزء الثاني: قصائد مترجمة
4 - القبرة
5 - الشاعر وكتابه
6 - عودة الملاح
7 - أغنية القطيع
Bog aan la aqoon
8 - بيت الراعي
الجزء الثالث: زكريات أوروبية
9 - الليلة الأولى
10 - في ميدان إسدرا
11 - يوم في ڤرساي
12 - فتاة برن
13 - باريس
14 - من مراجع الكتاب
إهداء
الجزء الأول: دراسات أدبية
Bog aan la aqoon
1 - پول ڤيرلين
2 - شارل بودلير
3 - في الأدب الإنجليزي الحديث
الجزء الثاني: قصائد مترجمة
4 - القبرة
5 - الشاعر وكتابه
6 - عودة الملاح
7 - أغنية القطيع
8 - بيت الراعي
الجزء الثالث: زكريات أوروبية
Bog aan la aqoon
9 - الليلة الأولى
10 - في ميدان إسدرا
11 - يوم في ڤرساي
12 - فتاة برن
13 - باريس
14 - من مراجع الكتاب
أرواح شاردة
أرواح شاردة
تأليف
علي محمود طه
Bog aan la aqoon
إهداء
إلى تلك الزهرة الأفريقية النادية تحت ثلوج الغرب
هذه الأرواح الشاردة في تيه المرح والعذاب والحب
علي محمود طه
الجزء
دراسات أدبية
الفصل الأول
پول ڤيرلين
كان فتى حالما، رقيق البدن، بارز الجبهة، عميق النظرة، مرح النفس، قذفت به الحياة إلى معتركها غمرا، لم تكشف له تجاربه المحدودة عن طبائع الناس، ولم يهيئه طبعه الرقيق ومزاجه الحاد لمكابدة شظف العيش وضنك الحال؛ وإن هيأته روحه ليكون حيث هو الآن من نباهة الذكر وسمو المنزلة وخلود الأثر.
ولو قد عرف «البارناسيون»
Bog aan la aqoon
1
ما ناطته السماء بمستقبل هذا الصبي الشاعر، وهو يختلف إليهم من حين إلى حين، ولو قد تبين جماعة «مالارمي» ما تنطق به مخايل هذا الشاب العابث في أبهاء الحي اللاتيني؛ لحموه أحداث الزمن، ولما تركوه غرضا للفاقة والتشريد والعذاب، ولضنوا بصاحب هذه النفس الشاعرة الموهوبة والعبقرية المبدعة الفذة، ألا يجد وهو في مستهل حياته قوت يومه، ثم لفزعوا إلى القدر فما صرف أمه عن العناية به صغيرا، فشب مطلق العنان يرتاد المواخير ويدمن الخمر، ثم لما غادر زوجه وأمه وولده هائما بين باريس ولندن وبروكسل، ليعود إلى وطنه ضحية اتهام قاس ينال من رجولته، ويلقي على نجمه المتوقد سحابة من الزراية والامتهان، ثم لما ارتفعت من حوله صيحات العار تلاحقه من مكان إلى مكان فغلقت في وجهه أبواب الرزق، وسدت على ذلك الهارب المسكين منافذ الرجاء والطمأنينة ، فمضى يستنبت الأرض في الريف البعيد في كثير من اليأس والعناء، وهو ذلك الروح المرح الذي لم يخلق لغير الشعر والغناء، ثم لما تحالف هذا الشر كله على ذلك الضعيف المكدود، فاستبد به المرض، فقضى غريبا وحيدا، منبوذا إلا من امرأة بائسة مثله، ساهمته حبه الأخير وشقاءه الأخير، فلفظ في ظل قربها وعطفها نفسه الأخير.
حقا!! لقد كانت حياة ڤيرلين فاجعة محزنة؛ فمن الحان إلى السجن إلى الماخور إلى الهيام في الطرقات إلى ملاجئ البر.
هذا هو الشاعر الخالد الذي كان أرخم صوت غنائي صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو، لامارتين، جوتيه، موسيه، بودلير، رامبو، جول لافورج، مالارمي وغيرهم.
ستيفان مالارمي
إن في حياة هذا المتشرد الكبير ضروبا من العبث وألوانا من الألم، ولكنه العبث الذي تستقيم به حياة الفنان البوهيمي، والذي يتيح للأدب في كل جيل فنونا شتى من الإجادة والإبداع، ولكنه الألم الذي يفرض العذاب على القلوب الشاعرة فينطقها بالنغمات الفريدة الساحرة، ويصل ما بينها وبين السماء، فتشرب من روعة اللانهاية وصفائها، وتمنح البشرية الوضيعة المعذبة لحظات من السعادة والسمو.
ولد پول ڤيرلين في مدينة «متز» من ولايات فرنسا الشمالية، في الثلاثين من شهر مارس عام 1844، أي بعد مولد بودلير الشاعر بثلاثة وعشرين عاما، وكان أبوه ضابطا ممتازا في الجيش الفرنسي، وعندما بلغ السابعة من عمره رحلت به عائلته إلى باريس، فألحقته بمدرسة خاصة، ثم بمعهد «ليسي بونابرت» حيث أظهر ڤيرلين على حداثته تفوقا مشهودا في اللغتين اليونانية واللاتينية وفي علوم البلاغة والأدب، فمنح جائزتها مع درجة شرف ثم استمر في دراسته قليلا من الزمن حتى ظفر بوظيفة حاسب في إحدى دوائر باريس المالية.
ولكن حياة ڤيرلين الشاعر تبدأ عام 1866؛ ففي الثانية والعشرين من عمره أخرج أول مجموعة شعرية عنوانها «قصائد عابسة» “Poèmes Saturniens” ، وبعد ثلاث سنوات نشر مجموعته الثانية «أعياد مرحة» “Fètes Galantes” ، فأصاب ڤيرلين من تينك المجموعتين حظا كبيرا من الشهرة والتقدير كشاعر غنائي نابغ، كما أصاب حظا من التعاسة والشقاء، وكانت الأيام قد مهدت لهذه المتناقضات؛ فقبل نشر ديوانه الأول بعام مات والده، وعاش الشاعر الصغير في رعاية أمه فدللته، وأعانته على عبث الشباب ونزقه بما كانت تمده به من المال، فانغمس الفتى في شهواته، وانطلق يعب من ملذات الحياة كيفما اشتهت نفسه الظامئة وشبابه المضطرم.
ثم أعانته الأقدار بعد ذلك على الحياة التي بدأ يشغف بها ويستمرئها، حياة الشرود والهيام، فصادف جماعة من الشعراء البوهيميين الذين كانوا يجتمعون كل مساء في مطعم «ريفولي» بالحي اللاتيني فما لبث أن مال إليهم واندمج في عشيرتهم، كانوا يجتمعون فيتناولون الأدب والفن بالدراسة والنقد، ويتجادلون في شئون الشعر، وكان لڤيرلين من هذه الجماعة حظ كبير من الخير، فصقلت محاوراتهم طبعه، وأظهرته على ألوان مختلفة من الجمال والخيال، ولكن كان له إلى جانب هذا الخير حظ كبير من الشر؛ لفقد حببت إليه عشرتهم احتساء الخمر أولا، وإدمانها ثانيا، وكان ڤيرلين رقيق البدن، عصبي المزاج، حاد الطبع، وكان الخمر سمه القاتل!
وصار ڤيرلين بعد ذلك من المترددين على صالون «لويس كافير دي ريكارد» فاتصل بالبارناسيين “Parnassians”
Bog aan la aqoon
جماعة «ليكونت دي ليل»، ولقيت شاعريته المبدعة هوى وتقديرا من الشعراء والنقاد النابهين في الأوساط الأدبية العالية، الذين تضمهم هذه الجماعة، أمثال جوزي ماريا، سوللي برودوم، فرنسوى كوبيه وكاتول منيدي وغيرهم، ولعل هؤلاء خير ما صادفه الشاعر في حياته الأدبية، فقد أثبت اتصاله بهم شخصيته كشاعر مرموق الحاضر مرجو المستقبل، كما أصبح فيهم بعد ذلك ظاهر الشخصية نابه الشأن.
لي كونت دي ليل
كان هذا في الفترة ما بين عام 1866 وعام 1869 أو ما بين ظهور ديوانيه الأول والثاني.
وفي ربيع عام 1869 قابل فتاة تدعى ماتيلد موت
Mathild Mautè
أخت أحد أصدقائه، فتحابا من النظرة الأولى، وزاد شغف ڤيرلين بفتاته كما استمرأت ماتيلد مطارحاته الغرامية، ففكرا في الزواج، ولم يكن أمره مستطاعا فقد كانت ماتيلد فتاة صغيرة، وكانت حداثة سنها تحول دون الزواج، وأخيرا ظفرا بهذه السعادة، ولم يكن ثمة من سعادة يحلم بها ڤيرلين بعد ذلك، فقد كان مدلها يستغرقه الحب، وكان يرى في الزواج رابطة مقدسة، كما كان يرى فيه منقذا له من نقائصه، مطهرا لكل آثامه ، ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق!
فقد بدأت الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا، وكان البروسيون يطوقون باريس؛ فتطوع ڤيرلين في جيش المواطنين المدافعين عن مدينتهم، وهكذا فارق الشاعر زوجه بعد شهور قليلة من زواجهما، وعاشت الشابة الصغيرة في بعض غرف شارع «الكردينال ليموان» تنتظر زوجها الشاب.
ووضعت الحرب أوزارها، وعاد ڤيرلين إلى باريس، ولكنه كان قد تغير، كان لا يزال على عهده من الحب لزوجته، ولكنه عاد سيرته الأولى، مستغرقا في حمأة نقائصه، عاد ڤيرلين إلى باريس ولكنه فقد وظيفته الأولى، وكان الإسراف قد أودى بأمه إلى الفاقة والعوز، فاضطر ڤيرلين أن يغادر باريس، صحبة أمه وزوجه إلى «شارڤيل» لا ليشاركوا والدي «ماتيلد» غرفتهما الوحيدة فحسب، بل ليعيشوا أيضا عالة عليهما.
ولم يكن هذا كل ما أعدته الأقدار لڤيرلين في «شارفيل»، فقد بدأت أخطر دقائق حياته من الاقتراب، وكانت النكبة التي لوثت حياة هذا الشاعر المسكين، في خطاب تلقاه من شاعر يدعى «آرثر رامبو»
Arthur Rimbaud
Bog aan la aqoon
ضمنه إعجابه الذي لا حد له بأشعار ڤيرلين كما ضمنه شيئا من أشعاره.
رامبو في طفولته
ووجد ڤيرلين في هذا الخطاب رجلا يرفعه إلى مصاف العبقريين، كما وجد في هذا الرجل شاعرا مبدعا، في شعره قوة جديدة وصوت جديد وخيال جديد؛ فاندفع ڤيرلين يدعو صاحبه إلى «شارڤيل» دون روية أو إمعان، وحل رامبو ضيفا على هذا الخليط المزدحم، يشاركهم نومهم ويقظتهم، ويساهمهم زادهم وشرابهم، وكان رامبو شابا في السابعة عشرة من عمره ولكنه كان مخلوقا غريبا حقا!! كان مديد القامة، قذر الثياب، وكان عاطلا أيضا، وكان مخبره أحط من مظهره، كان شريرا بكل ما في كلمة الشر من المعاني، وكان رجلا سكيرا، فظا كثير اللجاج، محبا للمشاكسة، فلم تستطع ماتيلد وأمها صبرا على هذا الضيف وسرعان ما تخلصا منه.
ولكن رامبو وجد مأوى آخر، واستطاع أن يتصل بالكثير من الشعراء أصدقاء ڤيرلين، فسرعان ما أثر فيهم وتسلط عليهم، ومن ثم وقع ڤيرلين روحا وعقلا تحت سلطان هذا الساحر، أما ما انتهى إليه أمر هذه العلاقة بين الشاعرين فقد اختلف في اكتناه أسراره الكتاب والمؤرخون، وإن أجمعوا على أنها العلاقة الشاذة التي يتأثم بها اثنان من جنس واحد، وهو اتهام لم يفرغ النقاد من تحقيقه حتى اليوم، أما الذي لا سبيل إلى الشك فيه فهي النتائج المحزنة التي انحسرت عنها مأساة هذه العلاقة، ولا ندحة من أن نمسها مسا رفيقا؛ فقد جعلت حياة ماتيلد مع ڤيرلين أمرا مستحيلا فدفعته إلى هجرها، ثم ساقته وصاحبه رامبو إلى إنجلترا، ثم إلى بروكسل ثم أورثته إدمان الخمر، فبالغ في نشوته إلى حد نال من صحته وأوهن أعصابه، وأوقعه في جنون التخيل والتوهم “Pasomania” ، ثم استمرت المأساة في عملها فدفعت الشاعرين إلى الخصام الشديد، ثم رفعت يد ڤيرلين بالنار يطلقها على صاحبه مرات، فإذا صاحبه جريح، وإذا ڤيرلين رهين سجن «مونز» ثم تخلص المأساة من رامبو لتتصل بحياة ڤيرلين وحده، فيخرج من السجن بعد عامين ويعود إلى فرنسا، ثم يحصل على وظيفة مدرس بأحد المعاهد ليفقدها بعد زمن قصير، ثم يضيق به الحال فيذهب بأمه إلى «إردن» مؤثرا فلاحة الأرض، ولكنه لا يصيب حظا من النجاح، فيغادر فرنسا كلها ويعود إلى إنكلترا للمرة الثانية، ثم يحن إلى وطنه فيرجع إليه عام 1878 ويظفر بمنصب أستاذ في كلية «رتل»
Rethal
ومنها إلى باريس، وإذا بالمتشرد الكبير يظهر مرة أخرى في الحي اللاتيني، ويتصل بأصدقائه القدماء من الشعراء الرمزيين رواد هذا الحي، ثم يبتسم له الحظ قليلا فينشر مجموعة جديدة من شعره وكتابا آخر في تصوير بعض الشخصيات الأدبية، فيصيب من ورائهما بعض المال وكثيرا من الشهرة والمجد، ثم يعبس الحظ له إلى الأبد، فيتخطف الموت أمه عام 1886 ويقع ڤيرلين تحت وطأة المرض هيكلا محطما، ولكنه رغم هذا لم يقلع عن إدمانه الخمر؛ ثم تذهب به المأساة الكبرى إلى نهاية الشوط، فتأبى ماتيلد الصفح عنه وترفض لقاءه، وتستأثر وحدها بطفلهما الوحيد، وهكذا يقف ڤيرلين حيال العالم وحده، ثم تعبر به عشر سنوات أخرى وهو يضرب في هذا التيه الغامر والعذاب المطلق حتى يصادف «أوچيني كرانتس» فيؤلف بينهما البؤس ويصدح بلبل الحب فوق طلل هذا القلب المهدم الحزين، فينتعش قليلا ولا يكاد يخفق للحياة الجديدة ، حتى تتألب عليه الأمراض فيعجز عن مقاومتها، فيصرعه الموت، وبذلك تنتهي حياته أو مأساته المفجعة عام 1896.
كان ڤيرلين شاعرا غنائيا محبوبا، وقد ظهر ميله إلى الشعر أيام دراسته الأولى فأظهر في قرضه مقدرة ونبوغا لا يتكافأ معهما عمره الصغير، أما ديوانه الأول «قصائد عابسة» فقد كانت عملا فنيا رائعا، وكان كله شعرا غنائيا تضطرد فيه الموسيقى اضطرادا عجيبا، تجد في بعضه الأناقة والجمال، وفي بعضه الآخر العظمة والرقة، ولعل أجمل قصائده قصيدته في الخريف، أترجمها شعرا وإن كانت الترجمة تفقدها أجل ما فيها وهو الموسيقى.
تنهدات الرياح
رتيبة النواح
تجرح قلبي بها
Bog aan la aqoon
قيثارة الخريف
وثم صوت عابر
من السنين الغوابر
يهتف بي فأصغي
للهاتف المطيف
ويستفيض خيالي
بالذكريات الخوالي
أنشدها فأبكي
بالمدمع الذريف
وعند ذات تحملني
Bog aan la aqoon
وريقة من فنن
قد ذبلت وانطلقت
في العاصف الشفيف
وما كاد ديوانه الثاني «أعياد مرحة» يظهر في المكتبات، حتى أقبل عليه الأدباء، وكان حظه عظيما من الناقد الكبير «سنت بيف» فبدأ يكتب عن ڤيرلين الشاعر كاكتشاف جديد، وذخيرة نفيسة في الشعر الفرنسي، كما كتب عنه الكاتب الكبير «فرنسوى كوبيه» فوصفه بأنه خلق شعرا يمتاز بطابعه الفردي، ويسترعي أرق اهتزازات العصب الإنساني، وأن قوافيه وأوزانه تجمع بين الحرية والترسل في أسلوب كله قوة وكله عذوبة، واستعارات رائعة وموسيقى فريدة.
سنت بيف
والحق أن ديوانه الثاني «أعياد مرحة» كان له من عنوانه نصيب عظيم، فكانت قصائده أكثر احتفالا بالبهجة، وهكذا تكون روح الشاعر، فغناؤها يترجم دائما عن شعوره بالحياة وتأثره بأفراحها وأتراحها، فهي في ديوانه الأول يغشاها الاضطراب، وهي في ديوانه الثالث
Romances sans Parole
الذي نظمه في السجن، تتجاوب بأصداء الألم الذي تضطرب به روح الطائر الحبيس وهي في ديوانه الثاني مرحة تصدح بالفرح وتغرد بالأمل الجميل، وكما أنطق البؤس ڤيرلين كذلك أنطقه الحب، ولم يكن غرام ماتيلد عبثا محضا، فقد ألهم ڤيرلين أرق أشعاره وأعذب أغانيه، وكشف عن جوهر روحه الصافية وإبداع عقله، فمن العيون الضاحكة، ومن الشعر الأشقر المتموج، ومن هذا الصوت الرخيم، استمد ڤيرلين ألوان خياله المتلألئة، ومرح قوافيه، وروعة أنغامه، ولعلك تحس هذا كله في هذه القصيدة:
هذا هو القمر الفضي يملأ الغابة نورا
وثم صوت ساحر يهتف تحت كل فرع ومن ذؤابة كل غصن «يا محبوبتي»
Bog aan la aqoon
هذا هو الغدير الرقراق كصفحة المرآة
يسبح فيه خيال الصفصافة السوداء حيث تئن الريح
ألا فلنحلم يا حبيبتي فتلك ساعتنا
فالكون يلفه السكون ويهفو به الحنان
كأنما تسلسل اللانهاية المشرقة ألوانها
ألا إنها الساعة المنتظرة!!
وليست أشعار ڤيرلين كلها بهذه البساطة، نعم إن منها ما يعد من الأغاني الشعبية، ولكنه أيضا كان شاعرا رمزيا عميقا، ومن الواضح أن ڤيرلين تأثر ببودلير إلى حد ما، فقد أسلفنا القول إن بودلير سبقه بثلاثة وعشرين عاما، ولعل الجانب الرمزي في بودلير هو الذي استهوى ڤيرلين، ولعله الجانب الشهواني، بيد أن الفرق بين الرجلين كان بعيدا جدا، فهما يختلفان في الطبع وفي النظرة إلى المرأة، فقد كان لڤيرلين طبع لين، ونفس رقيقة رغم مزاجه الحاد، ثم إنه كان يحب المرأة حبا أقرب إلى الروحانية منه إلى الشهوة المجردة ولم تفسد المرأة حياته ولكنه الذي أفسد حياتها، ولكن بودلير كان شهوانيا إلى حد بعيد، وكان ذا فلسفة خاصة، فقد رمى القدر في أحضانه بنسوة يستمرئن متعة الجسد، فراح ينشد من وراء فلسفته «حواء» أخرى لا تتصل بطريدة الجنة، لقد كان بودلير ضحية المرأة أما ڤيرلين فكان ضحية الخمر!!
إن أهمية شعر ڤيرلين في موسيقاه، تلك التي وصفها النقاد بالموسيقى الموزارية نسبة لموزار الموسيقي الألماني العظيم، فڤيرلين من هذه الناحية من طائفة ڤيلون وهايني وإدجار ألن پو، ولكنه زاد عليهم تلك اللغة البارعة التي استحدثها في شعره، فهي لغة لها أهمية موسيقاه، لقد سكب فيها كل ما اضطرم به قلبه من الألم والحماسة والحب والقوة، وكل ما اضطرب بين جوانحه من الأحلام والكآبة والمرح، ويجدر بي القول قبل أن أختم هذه الدراسة: إن ڤيرلين لم يعش خامل الذكر في جيله، ولا منكور الأثر، فقد رأى بعينه تألق نجمه في عالم الأدب، وشهد أشعاره مترجمة إلى غير لغة واحدة، وسمع أغاريده تملأ أفواه الشعب الفرنسي، كما سمع الكثير من إعجاب أعظم كتاب جيله شأنا وأخطرهم رأيا، وكان الاعتراف بمكانته من المدرسة الرمزية الحديثة أمرا مسلما به، ولكن أملا واحدا من آماله الكثيرة الضائعة لم يتحقق، فأضاف إلى عذابه الروحي وشقائه المادي شقاء آخر وعذابا جديدا ظل يحز في قلبه حتى وقف عن ضرباته؛ فقد دفعه بؤسه وعار علاقته برامبو أن يخلص منهما ويمحوهما بترشيح نفسه «للأكاديمي فرنسيز» ويشير بعض النقاد إلى أسباب أخرى ترجع إلى غروره في أيامه الأخيرة واعتداده بنفسه، ولكن من المحقق أنه كان يطمح إلى الظفر بقوة الاحترام وإلى مكافأة الأكاديمية الضئيلة لينعم بالراحة بين دنان الخمر، وكان يرى في تحقيق هذا الأمل مجدا خطيرا يتوج حياته بالخلود، وقد وصف النقاد ذلك بأنه «كوميديا خطيرة» كما عابوا عليه طموحه لذلك «القبر المزخرف البغيض الذي يئد القريحة ويطفئ النبوغ»، ولكن الزمن حقق بعد مماته ما عجز عنه في حياته فرفعه إلى مصاف العبقريين وكتب اسمه في ثبت الخالدين.
وحسبنا أن نختم هذا الفصل بهذه الآية لأناتول فرانس نتوج بها سيرة ڤيرلين قال:
أناتول فرانس
Bog aan la aqoon
إنه شيخ متعب من الشرود والهيام في الطرقات مدى ثلاثين عاما! إن منظره يكلم النفس ويصدم النظر، إنه يجمع بين الشراسة والوداعة؛ سقراطي بالفطرة، أو خير من ذلك، حيوان غابة، مخلوق خرافي، نصفه حيوان ونصفه إنسان، نصفه وحش ضار ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما، فهو شبيه ڤيلون ونده وضريبه:
إنما ولدان شريران!!
رزقضا التعبير وأوتيا البيان،
فباحا بأجمل ما في الدنيا من الأشياء والأحلام!!
الفصل الثاني
شارل بودلير
CHARLES BAUDELAIRE
لم يظفر الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر بمثل هذه الألوان الفريدة الرائعة التي استحدثها بودلير وڤيرلين ورامبو.
فمن الحق أن رامبو كان قوة جديدة، وصوتا جديدا، وخيالا جديدا.
ومن الحق أن ڤيرلين استحدث لغة شعرية لا عهد بها للأدب الفرنسي، وموسيقى غريبة النغم، كلها سحر وكلها روعة.
Bog aan la aqoon
ولكن من الحق أيضا أن هذين الشاعرين يتلاقيان في كثير أو قليل من فنهما الإبداعي مع شعراء آخرين، مثل ڤيلون، هايني، سونبرن، إدجار ألن بو، توماس هود ، وشلي. أما بودلير فلا نظير لصوره الشعرية بين شعراء عصره، ولا مشبه لفنه بين فنونهم إطلاقا.
إن قراءة بودلير تمنحك لحظات سعيدة بين التسامي والطموح إلى المثل الأعلى، وفي المنثور والمنظوم من شعره موسيقى طلقة متوفرة كانتباهات الضمير، رفافة رفيف التأملات الخاطفة على هوامش الصور العابرة، وهي بعد ذات إيقاع نفاذ يساير - بغير ما وزن أو قافية - خطرات النفس الغنائية.
فليس من توافق المذاهب الشعرية أو المزاج الفني أن نقرن بودلير بڤيرلين ورامبو في كلمتنا هذه؛ فإن الخلاف شديد بين الأول وصاحبيه، إلا من حيث ما أفادوا به الأدب الفرنسي من الطرافة والابتداع، والخصب.
والثراء، ونفاذ النظرة، وما شغلوا به زعماء الإبداعية من التوفر على نقدهم ودراستهم، ثم هذه المدرسة الرمزية العظيمة، التي ظلت أظهر سمات الأدب الفرنسي من منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
وإذا لم يصب بودلير حظه من التقدير والحفاوة بأدبه في مستهل حياته الأدبية، وإذا لم يضعه بعض النقاد في صف الممتازين من الشعراء العالميين، فلا يرجع ذلك إلى قيمة فنه ومميزات أدبه، ولكنه يرجع إلى عوامل كثيرة، أخصها ما أحاط بما كان ينشره من شعر في مجلة العالمين، ثم تلك الضجة التي أعقبت نشر ديوانه «أزهار الشر
Les Fleurs Du Mal » وما تردد من أصدائها في الأوساط الثقافية فاعتبر رجلا ساقطا مخربا زنديقا.
ويقول الأستاذ «ألكوك
Alcock » في مقدمة عنه رفعها إلى الأكاديميه فرنسيز إن التنويه ببودلير كان مقرونا بتدهور الفن، وإن هذه الفكرة قد حركت زمنا طويلا النقاد في الجزر البريطانية، ولازمت نشاطهم في غير مواربة، ولم يكن ذلك بدافع من حكمة الوطنية، وإنما يرجع إلى اضطراب الفكرة المطوفة دائما بعالم الفن، ولعل من عوامل خموله ، أن فنه ظل غريبا عن الأدب الأوروبي، حتى في الوقت الذي اتصل فيه رامبو وڤيرلين بالنقاد الإنجليز أمثال أرثر سيمونس وجورج مور وغيرهما ممن نقلوا شعرهما إلى الإنجليزية، فأثار الانتباه والإعجاب من حيث التفكير واللغة والموسيقى، كما كانت حياة التشرد
Vagabondage
التي انفرد بها ڤيرلين من عوامل الإغراء والفتنة لأحاديث المجلات والأندية الأدبية في إنجلترا المتفتحة للجديد.
Bog aan la aqoon
ومن غير شك فإن بودلير لم يكن مخربا ولا ساقطا بالمعنى الذي نفهمه من روح السقوط والتخريب، فقد يكون شهوانيا متطرفا خلع عذاره وانهمك في عبادة جديدة قوامها التحليل النفسي؛ ليقيم على الميراث المحزن الذي آل إليه من المرض أو على منوال حياته التي يرثى لها، هذا إلى جانب ما اجتمع لنا من دراستنا في علم النفس “Psychology”
وعلم وظائف الأعضاء “Physiologity”
وثقافة كاتب أخلاقي “Moraslist” .
ونستطيع أن نلمس آثار هذه الثقافات مجتمعة في الصور الشعرية الشاذة التي تمثل الألم والشهوة وتجسد الشر وتنطق الرعب والموت وتهتاج الحس، ثم هذه المشاهد البشعة التي صور فيها الجثث المتحللة وما تفرضه الحياة على جسم الكائن الحي، ثم هذا الإطناب في الجرأة التي تناول بها موضوعاته الشعرية، ولكن عنف عبارته الذي كان من مصادر شقائه في حياته، وهذه الألفاظ النارية التي لم يكن يملك التعبير بغيرها عن اضطراب روحه وثورة نفسه، قد دفعت به إلى حيث لا عذر له، فانظره في موقف من صبية حسناء يغمر ضوء القمر جسمها، فهو لا يتكلم عن الحب بمعناه، ولا عن الجمال بمعناه، وإنما يتخذ من هذا الموقف معرضا لمنطقه الخاص، حين يتكلم عن المرأة، ويعرض للمرأة، ويرى النقاد أن كل ما أسبغه على القمر وضوئه من أوصاف ينصب على المرأة ويصور طبائعها، فهي فاتنة ومفسدة كضوئه المتقلب؛ وهي في تحايلها وإغرائها ودهاء ضعفها ناعمة رخية، تنفذ إلى عقول الرجال وقلوبهم لتنفث سمومها كهذا الضوء أيضا، اسمعه وهو يقول: «ومن ثم شعشع السندس ملء عينيك، وشاع الشحوب الرائع في أديم خديك، أجل فعندما تطلعت إليه انداحت حدقتاك بصورة غريبة، فطوق تحرك بذراعيه المترققتين في حنان بالغ أورثك الحنين إلى الدموع.
وما هي إلا فورة من نشوة فياضة حتى غمر مخدعك بجو مشع من ضوئه الذعاف، ذلك الضوء الخالد الذي هتف من سبحات تفكيره قائلا:
ألا فلترتسم عليك قبلتي إلى الأبد.
وليكن لك مثل فتنتي وجمالي، ولتحبي كل ما أحب وكل ما يحبني من ماء وسحاب وليل وسكون، من البحر الزبرجدي المترامي من الماء المنطلق السيال المتعدد الأوضاع والأشكال، من المكان الذي لن تطرقيه، من العاشق الذي لن تعرفيه، من الزهور التي لم تنبتها الطبيعة، ومن العطور الفواحة المسكرة، ومن القطط المستلقية في تراخ ذات الأصوات العذبة الحاكية لتنهدات النساء.
أجل ولتكوني فتنة عشاقي، وموضع الإجلال من سماري وندمائي، ولتستوي ملكة على عرش من أفئدة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين تحويهم أحضاني كل ليلة، هؤلاء الذين يفتنهم البحر، البحر المتنائي الأطراف ذو اللجة المصطخبة الخضراء، والمكان الذي لن يغشوه، والمرأة التي لن يهتدوا إليها، وأزهار الشر المتوقدة كمجامر كاهن مجهول، والعطور المثيرة المستبدة بالغرائز، والوحوش الضارية التي ترمز شهواتها المشبوبة إلى حماقة هؤلاء المساكين.
والآن ... أيتها الصبية اللعينة العزيزة المشوبة، ذلك ما يدفعني لأن أجثو على قدميك متلمسا فيك صورة الإلهة المروعة، ربة الأرباب القاضية، ظئر السموم لكل صرعي القمر من بني البشر ...
وقد انفرد بودلير من - غير شك - بصور كلها رعب وفزع، وأسلوب عنيف، وتعبيرات توصف بالقبح أحيانا، ولكن الرجل كان صادقا، بل إن معجزته هي تلك الصور والأساليب الشاذة العنيفة؛ وفي هذه التوافه التي أقامها من ذات كلماته يبدو لنا الفن أعظم ما يكون طرافة وإبداعا وأدق وأصدق، لا من حيث التعبير فقط، بل من حيث الفكرة أو الحس الذي نقل عنه أو تأثر به.
Bog aan la aqoon
وكان هذا الشذوذ الذي تفرد به في زمانه يتمثل في إلهة جمال سوداء “Black Venus” ، أحبها وآثرها على سميتها البيضاء، امرأة ذات جسد معتل سقيم ملأت البثور أديمه يتخلع في ثوب مهلهل خلق؛ ولقد تقرب منها بودلير تقرب العابد، وكان يرى فيها فتنة ونعمة ساعة يوسد رأسه المثقل بخيالات الأفيون بين نهديها الطوديين، مواريا وجهه في حلكتهما عن آفاق النور.
ومن هذا الجسد الحالك، ومن أزهار الشر السوداء، استمد بودلير هذه الأفكار القاتمة المضطربة، وصاغ هذه الأشعار المثالية التي وصفها «جوتييه» بأنها تلمع كالرخام الأسود.
وإلى نشأة بودلير ترتد هذه الميول الشاذة؛ فقد كان على شيء من الثراء الملحوظ الذي يتيح للشاعر أن يكرس أوقاته للشعر والفن، ولكن ذلك طوح به إلى عالم من الرغبات المجهولة التي تنطلق أحلامها وترتسم أطيافها في دخان ذلك النبات الشرقي، وعطر المناطق الحارة في جزائر المحيط الهندي، حيث ينمو هذا النبات، ويضوع طيبه، وتسطع المجامر ببخوره الفواح ونكهته المخدرة، وكانت رحلة بودلير إلى تلك الجزائر في مطلع شاعريته وصباه الأول، فعاد منها وهو القائل: «إن روحي تسبح في دخان تلك العطور كما تسبح أرواح الرجال في أنغام الموسيقى».
ويقول بعض الرواة إنه تمنى لو ينقع جسده في عصير هذا النبات وعطره المسكر!
ومن هذه العوالم الغريبة المحوطة بالأسرار جاء بودلير بفنه الغريب الذي طغى على فنون أخرى من الأدب الفرنسي؛ فقد ولد بودلير في باريس عام 1821 وتوفي عام 1867، وفي عام 1840 كان هناك جيل من الشعراء الأفذاذ الذين أثرت مذاهبهم الشعرية في اتجاهات الأدب الأوروبي، وكان هذا الجيل يتمثل في لامرتين، موسيه، ڤيني.
ألفونس دي لا مرتين
ففي ذلك الوقت الذي كانت تلمع فيه أسماء هؤلاء الأعلام، وتخطف بلمعانها الأنظار، كان بودلير صبيا في التاسعة عشرة من عمره يقرض الشعر، وكان ليكونت دي ليل زعيم البارناسيين في العشرين من عمره، ولم يكن مالارمي معلم الرمزية قد ولد بعد، وكان الجيل يصغي إلى هذه الأصوات العذبة الشجية المرتلة كأناشيد السماء في تأملات لامرتين وفي قصائه: الخريف، ونبغ الغابة، والبحيرة، التي ترجمناها شعرا في ديوان الملاح التائه، وكان الجيل مأخوذا بهذه الروح الشادية الحائرة الوالهة التي تفيض من ليالي موسيه ومن قصائده: في التذكار، وفينسيا وغيرها، وكانت قصائد ألفرد دي ڤيني في سيمثا
Symètha ، وباريس، وبيت الراعي التي ترجمناها في غير هذا المكان، قد رفعت إلى عالم الشعر مثاليات من الرمزية الرقيقة والمعاني الدقيقة والأخيلة الفاتنة والموسيقى العالية.
ألفرد دي موسيه
فهذا الجيل الذي تأثر وأعجب وفتن بهذه الصور المشرقة السمحة الوادعة هو الذي عاد فأعجب بالصور البودليرية التي تشب بأوار الجسد، وتفوح بأزهار الشر، وتلمع كالرخام الأسود!
Bog aan la aqoon
وهذا سر بودلير وفنه الذي يقف به وحده في تاريخ الشعر الحديث.
ففي مدى سنتين من عام 1855 كان اسمه حديث الخاصة والعامة، وكانت محاكمته على بعض قصائد ديوانه «أزهار الشر» قد مهدت لهذه الشهرة.
لقد كان لدى بودلير ورع الإنساني ورقة الخير، ولكنه أراد تحويل الطبيعة التي لا تتحول. فلم يجد ثمة من محبة للكمال البشري أو النبل الفطري.
وهنا يقول أرثر:
وهناك أزمنة في التاريخ، عندما يخبو لهب الصباح المضيء، وتخمد وقدة الظهيرة القائظة، فإن المأساة لا تذهب بعيدة عنا، ولا تمضي عائثة في الأرض، وحينما ينطلق مرتفعا كرم الروح الأصيل، وترتد عيون الرجال في أغوار النفوس، وفي ظلال الأشباح الغامضة، وفي الندامة والسخرية، والتشاؤم والألم، فعند هذه قد يصل الفن إلى أمثل صوره، وقد لا يكون من ندحة عن اكتساح النمط الكلاسيكي بعنف، والسمو إلى صناعة رفيعة، وقالب متجاوب بالأحاسيس؛ ليكون مع بعض إيضاح بسيط تعبيرا صادقا متماثلا بالأمانة والحماسة.
ولكن بودلير وضع نفسه بيده في موقف الاتهام، وليس من رحمة ولا شفقة، ولم تكن هزة الاتهام لتنفذ من سياج شخصيته المتحركة دائما في رحاب حياته، وإن تركت حياته بعد ذلك حلقات غير متصلة، وكانت قسوة محاكمته - وقد بلغت أقصاها - واحدة من أسباب عزلته الأبدية.
فالذين قرأوا لبودلير ولم يقفوا على تلك العوامل التي اكتنفت طريق حياته، لا بد وأن يجرفهم تيار اتهامه القاسي.
وأرى من العبث الدفاع عن بودلير كما أن من السخرية القول إنه لم يكن واقعا في الخطيئة أو متصلا بها اتصال هؤلاء الذين لا تشعرهم الطبيعة بفضيلة الإيمان، فقد قضى حياته مخلصا لمناسك شهواته، وفي ذلك يقول أرثر سيمونس:
إن في شعر بودلير إحاطة واسعة عميقة لتمرد الشعور واهتياج الحس وضلال الميل الجنسي، فيها شيء عجيب يفخم من صوت الرذيلة المكتنفة بالرعب، وفيها شيء عجيب آخر عن حماسته في عبادة شهواته!.
لقد عاش وحيدا ومات وحيدا، يحوطه الغموض، معترفا بخطاياه التي لم يقل عنها كل الحقيقة، متفانيا في شهواته، وفي الماخور، منسكه الأثيم.
Bog aan la aqoon
ويقول بعض النقاد إن بودلير كان ضحية المرأة، ويقول آخرون إنه كان ضحية الأفيون والحشيش، ولكن الذي لا مراء فيه أن هذا الشاعر المسكين كان يحب المرأة ولكنها لم تكن تحبه، وأنه كان ينشد الحظوة عند النساء ولكنه كان سيئ الحظ لديهن، وهذا ما دفع به إلى تحديهن بالشر والكنود حتى أصبح يرى في الشيطان المثل الأعلى للجمال! بل إن هذا ما دفع به إلى هذه المواخير التي تنضح بشهوات الأجساد البشرية وإلى هذه الأوكار المظلمة التي يتهالك فيها المتعبون الذين يسترقون أنفاسهم من عطر هذا النبات الشرقي!
ولقد كان الرجل ألصق بالحياة، وأعظم اجتواء بنارها، وأبصر عينا بدنسها، فلا غزو - وقد آثر الصدق والأمانة - إن عبر لنا عن شعوره بالواقع وإن أفرط في ذلك كنتيجة لتأثره السريع، ولكن بودلير الذي يبدو إباحيا مسرفا في إباحيته، لا يكاد ينصرف إلى نفسه حتى يذكر الموت ونهاية الإنسان المحزنة، فيصف لك دموع الميت حينما تطحن الأرض قلبه وتعبث برفاته أقدام العابرين، وهو لا ينسى الديدان وهي تنهش أديم الجسد البشري، فيحس لها وخزا كوخزات ضمير يؤنب صاحبه، فانظر إلى ما يقول بودلير في قصيدة عنوانها «ندامة بعد الموت»:
عندما ترقد يا طيف جمالي القاتم، تحت تمثال من الرخام الأسود، في كهف مخدعك الرطب، تحت قپول ذلك المأوى، وعندما يعصر الحجر الكبير بثقله المروع جوانب صدرك، هنالك في خفة حالمة بهجة سيكف ذلك القلب عن ضرباته ورغائبه، وستقف هذه الأقدام المتقحمة المغامرة عن عدوها.
وهنا سيهمس هذا القلب أو القبر الذي ساهمني هواجسي وأنا مستغرق في شرودي الأزلي طيلة تلك الليالي: «لمن وقع هذه الخطى؟!» «من أنت أيتها الأقدام الفاجرة؟؟ أنت التي لم تعرفي بعد ما هي دموع الموتى!!»
وكوخزات تأنيب الضمير ستمضي الديدان في التهام جسدك ...
وهل هناك شيء أروع من دموع الموتى؟! وهل هناك من ألوان الألم ما هو أشد وأقسى من وخزات الضمير؟! إن في أمثال هذه الخواطر ما ينفي عن بودلير صفة الإيمان بالشر، فهو لم يكن إلا مدفوعا بعوامل الحياة، وتحت عبء آلامه إلى تصوير هذه الفظائع، وهذا ما يتفق ورجل يتألم للموتى، لا لأن أقداما فاجرة تطأ رفاتهم، كما يقول المعري فيلسوف شعراء العرب:
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
ولكن لأن ذرات أجسادهم تبكي بدموع قلوبهم ...
وإذن فلا موضع لهذا الاعتبار، فمهما كان تمرد بودلير مستمدا من فلسفة عقلية غير سليمة، ومهما كان شذوذه مستمدا من ذات حياته، فلا يمكننا إلا التسليم بأنه رفع إلى الأدب أسمى صور الخيال والفكر، وأنه رفعها باقتناع لأنها في جوهرها تثبت شجاعته وإخلاصه الرفيع لفنه، فلم ينحط إلى التجارب الفجة، ولم يسف إلى اللا فنية العاملة باسم التجديد.
Bog aan la aqoon
وأخيرا فإن بودلير قد استطاع أن يطبع بطابع لا يمحى كل شيء بصفاء مشعشع بالنور، وبساطة تامة، وتخلص رشيق، في عبارات كلها صدق وكلها جمال، غير مقيد بتلك الهرطقة الشلاء، ففكرة الفن عند بودلير هي فكرة التحايل والمهارة.
وعندي أن «ألكوك» قد أحاط بذلك كله حين يقول: «وهكذا الدنيا التي خلقها بودلير، دنيا حالمة بالجمال، وروح العزاء المرفه عن العاطفة ما تراوح بها طغيانها بين الحرة والضيق ... إن تفوق بودلير في الصور الشعرية قد أغناه عن تلمس شواهد حية على مذهبه العلمي، وعما يدخل في وحدة الفن من الصورة والصوت واللون والرائحة، فمقاييسه عطرية الشذى، فطرية اللون، وإيقاعه الموسيقي يترجم دائما عن أصداء مزاجه الشعري، أما أسلوبه فقد تحول حتى ليرى واضحا، بسيطا، رائعا».
لقد كان بودلير فنانا صادقا، طموحا، محبا للجمال. وعلى العكس مما يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المزن في تلويث الجمال الأرضي، ورده كل أنثى امرأة عاهرة، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق.
ولكنه غامر وكابد كثيرا في نشدان حرية الفكر، من حيث هي حرية الفن ، وليس لنا إلا أن نتمثل قوله:
وسأظل دائما وربما إلى الأبد - كذئب وقع في كمين - أثب إلى قمة المثل الأعلى ...
الفصل الثالث
في الأدب الإنجليزي الحديث
من رسائل الكاتبة «ربيكا وست»
الكاتبة ربيكا وست
Rebeeca West
Bog aan la aqoon
من أشهر الأديبات في هذا العصر، وقد كتبت في كبريات المجلات والصحف الإنجليزية والأمريكية في شئون السياسة والأدب، ومن مؤلفاتها: هنري جيمس، عودة الجندي، سباع وخراف، والصوت الأجش وسانت أوجستين.
ملك ناصية الأدب الإنجليزي قبل الحرب العالمية الماضية كتاب أعلام لم يبق منهم بيننا اليوم غير رجلين هما برنارد شو وهربرت جورج ويلز.
وإذا كان أولهما قد ناهز الرابعة والثمانين من عمره، ولم يعد ينفحنا كعادته بقصصه الموسوم بالتقدير الفائق، فإنه ما يزال يمنعنا بأجل مواهبه المستمدة من طبيعته البالغة التأثير، ومرحه الساخر الذي أحله منزلة شعبية مرموقة يتناهى عندها الطموح، وإنا لنلمس في أطواء نفسه شعور الإخاء الذي يبتهج به القرويون، وأرق الميول الإنسانية التي يحتفل بها المزارعون وهم يروون الشعر ويتحدثون عن الشعراء.
فسائقو السيارات في لندن، وبائعو الورد، يعرفون هذا الشيخ الأديب بلحيته البيضاء، وقامته المديدة، وسمته العجيب، وهو يذرع الشوارع والطرقات بخطاه الواسعة؛ وهذه الصحف والمجلات تتسابق إلى التقاط عبارة من آخر دعاباته وتتنافس في نقل إحدى نوادره وفكاهاته، ومن عجب أن يغلو هذا الشيخ المسن في تهكمه حتى ليتدفق على الناشئة والأيفاع بالروح الساخر الذي تعودوا هم أن يلذعوا به من يكبرونهم من الكهول والشيوخ.
وبهذا استطاع «شو» أن يبرز من الإعجاب به، وحدة من حياتنا الشعبية قلما يستطاع تحقيقها في جماهير مختلفي الأمزجة والأطوار كالذين تزخر بهم كبريات المدن.
أما ويلز فمع أنه تجاوز الثالثة والسبعين من عمره إلا أنه لا يزال مرموق الأثر، ملحوظا بالاعتبار والتقدير، وفي مثل هذه السن نواجه رجلا رصينا راسخا، محبا للعراك، حاد الطبع، خصبا، متدفق الحيوية، كأنما هو في منتصف العمر الذي بلغه اليوم، وهو فوق ذلك دءوب لا يكل ولا يمل، كأنه ڤولتير إنجليزي، مع بعض متناقضات لطيفة تحببه إلينا وتجعله أثيرا بإعجابنا .
هربرت جورج ويلز
ومع أن ثورته هذه لا خطة واضحة لها، ولا شرح لمذهبها، إلا أنه كمصلح اجتماعي، لا يتردد في رفع عقيرته بالدعوة إلى اطراح القديم وتخلصنا من عيوب التشبث به والمنافحة عنه.
وهو يستحثنا في الوقت نفسه إلى تنظيم مستقبلنا على ضوء العلم الهادئ الواضح، ولكن حين نختلف في الرأي معه فإنه يندفع في المعترك بروح سام مشرب بالفن اندفاعا يناقض الروح العلمي الذي يدعونا إلى اتباعه.
ولم يكن هناك خلال الحرب الماضية من طراز ذينك العلمين اللذين أسلفنا القول عنهما غير رجل واحد هو «وليم سومرست موم
Bog aan la aqoon
William Somerest Maugham ».
فنحن هنا إزاء رجل آخر يرجع جلاء قريحته وطبعه المصقول إلى العمل الذي أحبه وآثره، وإلى المنطق الذي استمده من طوارئ حياته، كما يرجع في ذلك أيضا إلى عائلة إنجليزية امتدت أصولها منذ أجيال بعيدة إلى أرض فرنسية، حيث كان قد أرسل به صغيرا إليها عقب وفاة أمه ليكون في كنف أقارب قضى سوء الطالع أن يكونوا غير متعاطفين، ولكنه باستخفاف صبي ذي شعور مرهف، مضطرم الحنين إلى وطنه، لم يدخر جهدا في إدخال السرور إلى منزل يهتم به جماعة من الغرباء النازحين في أرض أجنبية، ومنذ ذلك الحين شب على غرار أصيل من أرومته، فجعل قوام أعماله الأدبية النظر في حياة الإنجليز الخاصة، وشحذ من نظرته في الحياة عمله كطبيب، وقد أورثه الدم الإنجليزي المتدفق في عروقه حب الأسفار وجوب البحار، ولم يكن يسأم الانفراد بنفسه، بل إن ذلك قد رزقه إمعان الفكر في الحياة.
وفي كتابه «قصارى القول» الذي نطالع فيه تاريخ حياته، نرى كيف مضى مطوفا بأنحاء الإمبراطورية القاصية وكيف أنه استلهم هذه الحياة ما تفرد به من عقل محلل، وجأش رابط، خلق ركين، وقد يبدو عجيبا اندماج مثل هذا الرجل في بيئات الحكام والمستعمرين، وأوساط الجنود والملاحين، الذين التقى بهم في حلاته واتصل بهم خلال عمله، ولكن ذلك ما آثره من قبله الشاعر العظيم رديارد كبلنج
Rudyard Kipling
وعظمه بحرارة ونال منه رضى لا يحتمل تأويلا، ولقد كتب كبلنج عن أولئك الرجال كما عرفهم، وصورهم بالحالة التي رآهم عليها، أما «موم» فقد كتب عنهم بطريقته التحليلية نافذا إلى حياتهم من خلال علومه ومععارفه، فالغريب إذن هو أن الشعب الذي قرأ لكبلنج ما كتبه عن هؤلاء الرجال وأعجب به واستساغه، هو نفس الشعب الذي أقبل على قراءة ما كتبه موم عنهم واستساغه أيضا، وهذه علامة التحول في الوضع دون أن يرجع ذلك إلى تفاوت في الخلق، أو فتور في العزيمة والإقدام.
ولكن «موم» استطاع أن يخدم الإمبراطورية، وستبقى الإمبراطورية التي أحلها اهتمامه، وحباها أعظم التقدير والتبجيل.
أجل إننا نتحول، إن عقليتنا المركبة فينا قد تطورت كثيرا، وأصبحت أكثر قابلية لمقابلة الجدل المحتشم، وأعظم مرونة لمعالجة المسائل المعقدة، أكثر وأعظم مما كانت عليه من قبل، وللتدليل على ذلك نعرض لمستر بريستلي
وأعماله الأخيرة.
فهذا مؤلف نابه معروف للسواد الأعظم من الناس، تبرز في سمته شخصية مشاكس عنيد، أقرب في شدة مراسه إلى المزارعين الأقوياء منه إلى كاتب يدبج المقالات، إنه قوي كملاكم، يتكلم بنبرات كالقرويين إذا هضبوا بالقول، وهو لا يفتح فمه إلا بإشارات وإيماءات عنيفة، متباينة الأثر في سامعيه، فإما أن تثير حقدهم عليه مدى الحياة، أو تجعلهم أصدقاءه إلى الأبد.
وهو يكتب متدفقا متمثلا ألوانا من العظمة، ليحصل على مكافأة أدبية، أو ليدير مسرحا، أو ليضرب في الأرض في رفقة أقاربه المنتشرين في كل الأصقاع، وقد أصاب النجاح بأمثال كتابه «الأصدقاء الأخيار
Bog aan la aqoon