في مقالين سابقين حاولنا أن نقدم عرضا للتطورات التي مرت بها فكرة الآلية منذ العصور القديمة حتى أوائل العصر الحديث، وقد اتضح من هذا العرض أن العصور القديمة كانت ترفض فكرة الآلية على أساس أنها تنطوي على اهتمام مفرط بالعالم المتغير، وتحط من قدر الإنسان الحر الذي ينبغي أن يترفع عن الاتصال بكل ما له صلة بالأمور المادية، وهو - كما رأينا - موقف كان يرتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمع القديم المبني على نظام الرق، وعلى تقسيم البشر إلى أحرار وعبيد، كذلك اتضح أن فكرة الآلية قد أخذت تشق طريقها بعد انتهاء العصور القديمة ببطء شديد، وتكتسب لنفسها أنصارا بين المفكرين، حتى إذا جاء القرن السابع عشر، أصبحت الأذهان مهيأة لقبولها، وأصبح الفلاسفة أنفسهم يدافعون عنها ويجعلون لها مكانا في مذاهبهم، متخذين منها أنموذجا لتفسير العمليات الطبيعية والكونية، بل وكثير من العمليات التي تدور داخل الإنسان نفسه. وكان معنى ذلك أن الأذهان قد تهيأت لتحول ضخم، تؤدي فيه الآلة دورا أساسيا في حياة البشر، بعد أن كانت من قبل منبوذة محرمة.
وكان من الطبيعي أن يقترن هذا التحول بتغير مناظر في قيمة العمل؛ ذلك لأن العمل اليدوي أصبح بالتدريج مشروعا بعد أن كان في العصور القديمة نشاطا ثانويا تقوم به فئات محتقرة تعيش على هامش المجتمع، ولعل خير ما يرمز إلى قيمة العمل في العصور القديمة تلك الأسطورة التي شاعت في الأدب اليوناني القديم، وهي أسطورة «العصر الذهبي»، التي تقول إن الإنسان لم يكن مضطرا إلى العمل عندما كانت الأرض فتية تقدم إليه كل ما يحتاجه بسخاء، أما عندما أصابتها الشيخوخة وانتابها الفقر، فقد اضطر الإنسان إلى أن يشقى لكي يحصل بعد عناء على ما كانت تقدمه إليه الأرض من تلقاء ذاتها.
والواقع أن كثيرا من اللغات تحمل ضمن ألفاظها آثار ذلك العصر الذي كان العمل فيه يعد شقاء تفرضه ضرورة قاسية، أو عبودية محتومة لا مهرب منها؛ ففي اللاتينية تدل كلمة
Labor
على العمل وعلى الشقاء والألم في وقت واحد، وفي الإنجليزية تدل كلمة
Labour ، على آلام الوضع، إلى جانب معنى العمل. وفي العربية تدل كلمة «الشغل» على العمل، وعلى الهم أيضا، وحسبنا هذه الأمثلة القليلة للدلالة على مدى التحول الذي طرأ على معنى العمل وقيمته في العصور الحديثة، بعد تغير الظروف الاجتماعية التي جعلته في البداية محتقرا ومكروها.
ولقد كان تهيؤ الأذهان - في أوائل العصر الحديث - لقبول فكرة الآلية والدفاع عنها فلسفيا، دليلا على حدوث تغير أساسي في نظرة المجتمع إلى العلاقة بين العمل اليدوي والعمل العقلي، وبالفعل نجد فيلسوفا مثل «دالمبير
D’Alembert » يؤكد - في تصديره ل «الموسوعة» - ذلك العمل الفكري الضخم الذي لخص علوم القرن الثامن عشر وفلسفاته بطريقة تقدمية مهدت الطريق لقيام الثورة الفرنسية، إنه ليس من الصحيح أن الفنون الحرة أرفع بالضرورة من الفنون الميكانيكية. كذلك قال فولتير: «إن العمل يعصمنا من شرور ثلاثة فادحة: هي السأم والرذيلة والحاجة.» أما روسو فقد أكد فكرة التزام الإنسان بالقيام بعمل ما، وأضاف إلى ذلك أن الصانع أكثر تحررا من الزارع؛ لأن الأخير مقيد بأرضه، على حين أن الأول حر طليق.
وكان لظهور الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أثره الحاسم في رد اعتبار العمل بوصفه نشاطا مميزا للإنسان، وأخذ الأدباء والكتاب يمجدون العمل حتى أصبحت هناك مدرسة فكرية كاملة تعده القيمة العليا في حياة الإنسان، وترى أنه خالق كل ما أنتجته البشرية من أعمال تستحق التمجيد، بل إن الحضارة الحديثة ذاتها أصبحت تسمى «حضارة العمل»، وأصبح الإنسان نفسه يعرف بأنه «صانع
Faber »، بعد أن كان يعرف بأنه عاقل أو ناطق.
Bog aan la aqoon