تصدير
الباب الأول: مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
نحن وثقافة الغرب1
دفاع عن الثقافة العالمية1
التعصب ... من زاوية جدلية1
مشكلة الكم والكيف والثقافة1
حديث عن الشباب والثقافة1
عن الإنسان والقمر
الباب الثاني: نقد القيم الاجتماعية
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
الاشتراكية، والقيم الروحية1
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
العالم الثالث، والعقل الهارب1
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
بين التعليم وقيم المجتمع1
الباب الثالث: الفلسفة والمجتمع
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
اليمين واليسار في الفلسفة1
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
الفلسفة والتخصص العلمي1
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
نظريات حديثة في فلسفة الفن1
بين الفكر والآلة (1)
بين الفكر والآلة (2)
بين الفكر والآلة (3)
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
الباب الرابع: أفكار معاصرة
هيجل في ميزان النقد1
الجدل بين الوجودية والماركسية1
من الذي صنع الأخلاق؟1
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
الثورة والتمرد عند ألبير كامي1 «الحلم والواقع» لبرديايف1
أفق جديد للفلسفة1
تصدير
الباب الأول: مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
نحن وثقافة الغرب1
دفاع عن الثقافة العالمية1
التعصب ... من زاوية جدلية1
مشكلة الكم والكيف والثقافة1
حديث عن الشباب والثقافة1
عن الإنسان والقمر
الباب الثاني: نقد القيم الاجتماعية
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
الاشتراكية، والقيم الروحية1
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
العالم الثالث، والعقل الهارب1
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
بين التعليم وقيم المجتمع1
الباب الثالث: الفلسفة والمجتمع
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
اليمين واليسار في الفلسفة1
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
الفلسفة والتخصص العلمي1
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
نظريات حديثة في فلسفة الفن1
بين الفكر والآلة (1)
بين الفكر والآلة (2)
بين الفكر والآلة (3)
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
الباب الرابع: أفكار معاصرة
هيجل في ميزان النقد1
الجدل بين الوجودية والماركسية1
من الذي صنع الأخلاق؟1
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
الثورة والتمرد عند ألبير كامي1 «الحلم والواقع» لبرديايف1
أفق جديد للفلسفة1
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
تأليف
فؤاد زكريا
تصدير
يجمع بين موضوعات هذا الكتاب كلها - على تعددها وتنوعها - نزوع واحد إلى تأمل الأمور بنظرة عقلية وبمنهج نقدي، وأحسب أن هاتين السمتين هما اللتان تميزان طريقتي في التفكير وأسلوبي في النظر إلى الأمور حتى الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور؛ أما السمة الأولى، وهي النظرة العقلية - أو العقلانية بمعنى أدق - فلست أعني بها السير وراء ذلك العقل الجاف، المتعالي عن أمور الحياة ومشكلات الناس الواقعية، ذلك النوع من العقل الذي دأب الفلاسفة على تمجيده عصورا طويلة، والذي ازدهرت في ظله مذاهب فكرية شاملة كان معظمها يتطلع إلى عالم الإنسان بترفع وشموخ. ولست أعني ذلك العقل الذي يدعي الثبات ويتهم كل شيء عداه بالتغير والزوال والفناء. ولست أعني ذلك العقل الذي يزدري المشاعر والأحاسيس الإنسانية، ويتجاهل الانفعالات والعواطف على زعم أنها ترتبط بالتقلب والتحول وعدم الاستقرار، وإنما أعني العقل الذي يندمج في الحياة ويسخر نفسه لخدمتها، ويحقق ذاته على أكمل نحو بالتغلغل في مشكلاتها، وأعني العقل الذي يعترف بالتطور والنمو في كل ظواهر الكون والحياة والمجتمع، ويكرس جهده من أجل كشف مسارات هذا التطور والنمو، والاهتداء إلى دروبه ومسالكه المعقدة، جامعا بين الثبات والتغير في مركب يعلو على كل تناقض. وأعني أخيرا العقل الذي لا يحول بين الإنسان وبين الاستغراق في حب الفن والانفعال الخصب بالحياة؛ لأن أحاسيس الفن وانفعالات الحياة هي في نظر العقل السليم جزء لا يتجزأ من واقع البشر، وعنصر جوهري تكتمل به مقومات الإنسانية، ومن المحال أن يكتفي العقل بإنسان مبتور أو بإنسانية أحادية الجانب.
وأما السمة الثانية - وهي المنهج النقدي - فلا يخالجني شك في أنها ترتبط بالسمة الأولى أوثق الارتباط، بل تنبثق عنها انبثاقا عضويا؛ فالعقل - بالمعنى الذي حددته - لا بد أن يكون ناقدا، وفي تصوري أن العقل الذي يتأمل مشكلات الفكر وأوضاع المجتمع والناس بنظرة غير نقدية إنما يتنكر لطبيعته ويأبى أن يمارس وظيفته؛ ذلك لأن سمة العقل المميزة هي قدرته على تخطي ما هو شائع، وتجاوز الأمر الواقع من خلال مقارنته بصورة يرسمها الفكر المتطلع إلى أوسع الآفاق، ولو لم تكن لدى العقل تلك القدرة على التخطي والتجاوز لكان ملكة عاطلة، لا تمتاز بشيء عن تلك الحواس التي يقتصر إدراكها على ما يقع في نطاق محيطها المباشر، وأنا - على أية حال - ممن لا يستطيعون تصور التفكير إلا مصحوبا بالنقد، وممن يؤمنون بأن النقد هو أعلى مظاهر تحقيق الفكر لذاته. ومن هنا كانت الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب نقدية في صميمها، وهي في نقدها هذا إنما تعبر عن وجهة نظري الخاصة إلى المشكلات التي عالجتها، وإن كنت آمل أن تتجاوز وجهة النظر هذه النطاق الفردي لصاحبها؛ إذ إنني أرجو أن أكون في الوقت ذاته قادرا على إقناع الآخرين، ما داموا بدورهم يحتكمون إلى العقل.
وبعد، فإن هذا الكتاب يضم مجموعة من الدراسات والمقالات نشرت منذ عام 1964م حتى الوقت الراهن في مجلات «الثقافة» و«الكاتب» و«الكتاب العربي» و«الطليعة» و«المجلة»، وقبلها جميعا في مجلة «الفكر المعاصر»، ولقد صنفت هذه الكتابات إلى موضوعات رئيسية أربعة، تندرج تحت كل موضوع منها مجموعة من المقالات رتبت بقدر الإمكان ترتيبا منطقيا لا ترتيبا زمنيا.
وأود أن أقول - دون مواربة - إن هذه الدراسات والمقالات أقرب إلى التعبير عن فكري في صورته الصريحة المباشرة من أي شيء آخر كتبته من قبل، وهي بهذا المعنى معيار صادق لما أومن به ولما أرفضه، وإني - إذ أقدمها إلى القراء في هذه الصورة المتكاملة - لا أتوقع ولا أتمنى أن يوافقني الجميع على ما أقول، ولكن ما أتمناه حقا هو أن يناقشني الموافقون والرافضون معا على نفس المستوى العقلي والنقدي الذي كتبتها به؛ ذلك لأن أسعد لحظات المفكر هي تلك التي يحس فيها بأن ما كتبه قد حفز الآخرين إلى التفكير معه، وأتعس لحظاته هي تلك التي يشعر فيها بأن آراءه لم تثر في الناس إلا استجابات انفعالية متسرعة لا ترتكز على أساس من التعمق والتحليل. فليكن تقديم هذا الكتاب دعوة إلى المشاركة في السعادة الفكرية.
دكتور فؤاد زكريا
القاهرة 5 سبتمبر 1974م
الباب الأول
مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
يعتقد الكثيرون أن السمة الغالبة على الفكر في القرن العشرين هي أنه يعاني أزمة، ويرون أن أبرز صفات العقل في هذا القرن هي تلك المحنة التي جعلته يشك في أكثر مبادئه رسوخا وأشد بديهياته وضوحا، على أن هذا الاعتقاد تواجهه اعتراضات شديدة يرى أصحابها أنه ليس من الممكن - أو ليس من الواجب - الكلام عن أزمة العقل في القرن العشرين.
أما أن الكلام عن هذه الأزمة غير ممكن؛ فذلك لأن العقل لم ينتصر في أي عهد، فيما يرى أصحاب هذه الاعتراضات، مثلما انتصر في هذا القرن؛ فالعلم قد أحرز في فترة وجيزة مكاسب تزيد عما أحرزه طوال تاريخه السابق، والفكر الفلسفي قد ازدهر وتنوع وازداد خصبا على الدوام، وربما كان الأهم من ذلك أن حياة الإنسان ذاتها قد أصبحت تنظم على أساس يستحيل تصوره بدون العقل، سواء كنا نعني حياة الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى حياته اليومية، فهل يحق لأحد - بعد ذلك - أن يتحدث عن أزمة للعقل؟
وأما أن الكلام عن هذه الأزمة غير واجب؛ فذلك لأن هذا الكلام موجه إلى مجتمع يحتاج إلى من يحثه في كل لحظة على الثقة بالعقل والاعتماد عليه في فكره وفي فعله، وحتى لو كانت أزمة العقل - من الوجهة الموضوعية - حقيقة واقعة في المجتمعات الغربية، فمن الواجب أن يكون ما نعرضه على مجتمعنا الشرقي حافزا له على السير في طريق العقل الذي هو أحوج ما يكون إليه، لا أن يكون مشجعا للعناصر الضيقة الأفق فيه على الدعوة إلى الابتعاد عنه والاستعاضة عنه ببدائل أخرى طالما اقترحت علينا، وطالما جربناها ولم نفز منها إلا بالتخلف.
ولسنا نزعم أن هذا الاعتراض لا يقوم على أساس، ولكن من الصحيح بالرغم من ذلك أن موقف الفكر العالمي من العقل قد طرأ عليه - منذ مطلع القرن العشرين - تغير أساسي يستحق أن يوصف بأنه أزمة، وذلك إذا ما قورن بموقف الثقة من العقل الذي كان سائدا في القرون السابقة، ومن جهة أخرى فإن الإشارة الصريحة إلى أزمة العقل في مجتمع كمجتمعنا ليست على الإطلاق دعوة إلى الهروب من العقل أو تشجيع الاتجاهات المعادية له ، وإنما هي جهد يبذل من أجل التنبيه إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه في حياتنا ملكة كدنا أن ننساها، وإلى الثمن الباهظ الذي كلفنا إياه هذا النسيان.
على أنني أود - منذ البداية - أن أبين بوضوح قاطع أن أزمة العقل في مجتمعنا تعني شيئا مختلفا كل الاختلاف عنها في المجتمعات الغربية، ولا جدال في أن المقارنة بين مظاهر هذه الأزمة في نوعي المجتمع هذين يمكن أن تلقي ضوءا ساطعا على المشكلة بأكملها، بل يمكن أن يكون فيها رد كاف على الاعتراض السابق بشقيه معا؛ إذ إن هذه المقارنة ستكشف - من جهة - عن الملامح الإيجابية إلى جانب الملامح السلبية فيما يسمى بأزمة العقل في الفكر العالمي، وستثبت - من جهة أخرى - أن الأزمة التي نعانيها من نوع مختلف كل الاختلاف، وأن ما يصدق على المجتمعات الغربية في هذا الصدد لا يصدق على مجتمعاتنا على الإطلاق، وعلى هذا النحو نتحاشى خطر تشكيك شعوبنا في الالتجاء والاحتكام إلى العقل الذي هو أحوج ما تكون إليه في المرحلة الراهنة من تاريخها. •••
إن من الضروري لمن يتصدى لموضوع له مثل هذا الخطر، أن يبدأ بحثه وهو على وعي تام بما يستخدمه من ألفاظ وعبارات، وأفضل سبيل لتحقيق هذا الوعي هو أن يحاول تحديد المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها بقدر من الدقة يسمح له بالمضي في تناول الموضوع وهو آمن من التخبط أو التناقض غير الواعي، الذي يمكن أن يثيره الاستخدام الفضفاض للألفاظ.
ولعل أول لفظ ينبغي أن نعمل على إيضاحه هو لفظ «الأزمة»؛ فالأزمة - قبل كل شيء - انقطاع وانفصال عن حالة سوية أو مألوفة أو مستمرة، ومن شأن هذا الانقطاع أن يجلب اضطرابا أو ألما؛ لأن المألوف بطبيعته مريح، ولأن السوي بطبيعته صحي، وبهذا المعنى نتحدث عن المرض بوصفه أزمة، غير أننا إذا انتقلنا من المجال الجسمي إلى المجال المعنوي، وجدنا أن الأزمة هي التي تصبح أقرب إلى معنى الصحة؛ فالخروج عن المألوف - في هذا المجال - يظل يجلب الاضطراب والقلق، ولكنه لا يعد بأي معنى من المعاني تعبيرا عن المرض، بل إن أزمات العقل هي في معظم الأحيان دليل حيويته وفاعليته ونشاطه، ومن السهل تعليل هذا الاختلاف في معنى الأزمة بين المجالين؛ ذلك لأن الجسم بطبيعته يخضع لقوانين ثابتة، ومظهر الصحة فيه هو احتفاظه بقدرته على أداء وظائفه المحددة التي لا تتغير إلا في أضيق الحدود، أما العقل فإن صحته في تغيره وانتقاله على الدوام إلى مواقع جديدة، وأي تصور للعقل من خلال فكرة الثبات، أو فكرة الوظائف المحددة التي لا تتغير، هو إلى المرض أقرب، على أن من الواجب أن نتنبه إلى أن الأزمة في المجال العقلي تمثل خطوة أولى تتسم بطابع سلبي نحو تحقيق صحة العقل؛ فهي تعني الوعي بقصور القديم وضرورة تجاوزه، وهي بذلك تشكل الشرط الذي لا غناء عنه من أجل تحقيق هذا التجاوز، ولكن من الممكن أن تظل الأزمة في مرحلتها السلبية دون أن تهتدي إلى وسيلة تعين العقل على تجاوز ذاته، أو تؤدي إلى خطوة أخرى تبدو في مظهرها إيجابية، وإن كانت تمثل بالفعل ارتدادا لا تقدما، وفي هاتين الحالتين يمكن أن تكون أزمة العقل في عصر أو مجتمع معين مظهرا من مظاهر مرض هذا العصر أو المجتمع.
أما اللفظ الثاني الذي ينبغي أن نقوم بتحديد أدق لمعناه، فهو لفظ «العقل»، وهنا يتعين علينا أن ننبه إلى أن تعريفات هذا اللفظ بالذات يمكن أن تستغرق مجلدات بأكملها، بل إن من الفلاسفة من نظروا إلى تطور البشرية كلها - في جميع مظاهر حضارتها من فكر وفن وعلم ودين وتشريع - على أنه تطور للعقل، وعلى ذلك فإن مجرد الكلام عن تحديد لمعنى العقل في مقال كهذا، يبدو أمرا بعيدا كل البعد عن الروح العلمية ذاتها، ومع ذلك فسوف نحاول أن نقوم بتحديد، لا لمفهوم العقل ذاته، بل للمجال الذي يتناوله هذا المقال من مجالات العقل الكثيرة.
ولعل أفضل سبيل لفهم المقصود بالعقل - في الحدود التي تخدم أغراض بحثنا الحالي - هو أن نفهم العقل من خلال ما يقابله أو ما هو مضاد له؛ ذلك لأن كل أزمة يمر بها العقل كانت تؤدي إلى تغليب مفهوم آخر مضاد وتمجيده وإعلاء شأنه على حساب العقل، وعلى ذلك فإن قدرا كبيرا من الغموض الذي يحيط بطريقة فهمنا للعقل يمكن أن يتبدد لو عرفنا ما هي القوى أو الملكات المضادة التي يهيب بها الإنسان كلما مر العقل بمرحلة من مراحل الأزمة. (أ)
لعلنا جميعا نعرف - بصورة أو بأخرى - ذلك التقابل المشهور بين العقل والعاطفة أو الانفعال، ونعبر عن فهمنا لهذا التقابل حين نصف شخصا بأنه يحكم على الأمور بعقله وآخر بأنه يصدر أحكاما عاطفية، هذا التقابل يعبر في حقيقة الأمر عن تكامل؛ إذ إن العقل والعاطفة ليسا طرفين يستبعد كل منهما الآخر، بل هما قوتان تجتمعان معا في كل إنسان، وإن كان طغيان إحداهما على الأخرى في أفراد معينين هو الذي يبعث فينا الاعتقاد بأن كل قوة منهما مضادة للأخرى، والحالة السوية - بطبيعة الحال - هي تلك التي تلتزم فيها كل منهما مجالها الخاص، أو تتضافر مع الأخرى في إصدار حكم متكامل في الحالات التي يتعين فيها الرجوع إلى العقل وعدم تجاهل صوت العاطفة في الآن نفسه.
على أن العصور الرومانتيكية قد أثارت ما يمكن أن يسمى بأزمة للعقل، حين تمادت في العاطفية والانفعالية إلى حد اعتبار العقل ملكة انقطعت صلاتها بالمنابع الفياضة للنفس الإنسانية، وعملت على محاربة كل فكر منهجي ومنطقي بقدر من العنف وصل إلى حد الخصومة المرضية، وظهرت لدى أصحاب الأمزجة الرومانتيكية مجموعة كاملة من المبادئ التي ترتد في النهاية إلى العاطفة أو الانفعال، وتشترك كلها في التنديد بالعقل أو تأكيد قصوره، منها مبدأ الإرادة عند شوبنهور، أو إرادة القوة عند نيتشه، أو الحياة عند دلتاي، أو الحدس عند برجسون، في كل هذه الحالات يؤكد الفكر أن لدى الإنسان قوة أخرى تعلو على منطق العقل، وتنفذ إلى لب الأشياء أو جوهرها الباطن، على عكس العقل الذي لا يصل إلا إلى العلاقات الخارجية بين الظواهر فحسب. (ب)
أما المقابل الرئيسي الثاني للعقل، فهو السلطة، وإذا كان التقابل بين العقل والعاطفة (بأشكالها المختلفة واشتقاقاتها المتعددة) ينصب على «المضمون»، فإن التقابل بين العقل والسلطة ينصب على «الطريقة أو المنهج»؛ ذلك لأن التفكير على أساس السلطة لا يتعين أن يؤدي - بالضرورة - إلى نتائج مخالفة لتلك التي ينتهي إليها التفكير العقلي، بل قد يكون المضمون الفكري واحدا في الحالتين، ولكن طريقة التفكير أو منهجه هي التي تختلف؛ ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير خاضعا لمصدر يعلو عليه، ويقبل أحكامه بلا مناقشة، على حين أن التفكير المرتكز على العقل يعتمد على الموارد الإنسانية وحدها، ويؤمن بأن كل ما يصدر نتيجة لجهود الإنسان الخاصة يسري عليه كل ما يسري على الإنسان ذاته من قابلية التغير والتطور والتعديل الصحيح، وبينما يؤدي اتباع منهج الخضوع للسلطة إلى التحجر والجمود، فإن الارتكان إلى العقل يعني المرونة والتفتح واتساع الأفق.
وللسلطة - كما نعلم جميعا - أشكال متعددة؛ فهناك سلطة الأسرة أو القبيلة أو المجتمع، وحين يرتكز الفكر على واحدة من هذه السلطات يكون معنى ذلك كبت حرية العقل الفردي في فهم الأمور على أساس تقديره لها وحكمه الخاص عليها. على أن أشهر مظاهر السلطة هو - بلا جدال - سلطة الوحي الديني، ولقد آثرت أن أتحدث عن الوحي الديني بوصفه السلطة الحقيقية المقابلة للعقل، بدلا من الحديث عن الإيمان، على الرغم من أن التقابل بين العقل والإيمان كان له تاريخه الطويل منذ العصور الوسطى حتى أيامنا هذه؛ ذلك لأن الإيمان - في ذاته - لا يمثل بالضرورة قوة مضادة للعقل، أو حتى مخالفة له، وإنما هو قبل كل شيء طاقة انفعالية يمكن توجيهها في أي اتجاه نشاء؛ فمن الممكن أن يوجه العالم المتحمس لكشفه الجديد طاقة الإيمان لديه في الدفاع عن هذا الكشف والدعوة إليه، على الرغم من أن الكشف كان مرتكزا على أسس عقلية بحتة، وبذلك يمكن القول إن الإيمان - في معناه العام - قوة محايدة إزاء العقل، أما القوة التي تمثل التضاد الحقيقي فهي الوحي الديني، بوصفه مصدرا للسلطة يرى الكثيرون أنه ينافس العقل ويتفوق عليه؛ لأن السلطة في هذه الحالة إلهية تعلو على ضعف العقل الإنساني وقصوره. (ج)
أما المقابل الرئيسي الأخير للعقل فهو الأسطورة، التي كانت في العصور البدائية هي البديل الوحيد للعقل، نظرا إلى ضعف الإمكانات الفكرية للإنسان، ولكنها وجدت في العصور الحديثة ذاتها أنصارا يضعونها في مقابل العقل بوصفها تعبيرا رمزيا عن القوى الحيوية التي يباعد العقل بين الإنسان الحديث وبينها بما يفرضه عليه من كبت وقهر، ويمكن القول إن بعض جوانب نظرية التحليل النفسي - وخاصة ما يتعلق منها بالدلالة الرمزية للأحلام، وبالتضاد بين الشعور واللاشعور - تهيب مرة أخرى بقوة الأسطورة اللاواعية في مقابل العقل الواعي، هذا فضلا عن أن عددا لا يستهان به من المذاهب الفنية الحديثة - في التصوير والمسرح والنحت والأدب - قد تأثرت بهذا الجانب من نظرية التحليل النفسي، وهاجمت العقل الشعوري المنظم سعيا إلى استكشاف الأغوار الخفية للنفس البشرية في عالم الأسطورة الرمزية اللاشعورية.
يكفينا إذن - بالنسبة إلى أغراض هذا المقال - أن نشير إلى أن العقل قوة بشرية توضع في مقابل الانفعال أو العاطفة، وهي قوة مضادة للسلطة بشتى مظاهرها، تسعى إلى التخلص من كل آثار التفكير الأسطوري، ويكفي أن نشير إلى أن العقل يعاني أزمة في كل حالة يسعى فيها الإنسان إلى الدفاع عن إحدى هذه القوى المضادة وتغليبها عليه.
على أن هذا التحديد لمعنى العقل لن يكتمل إلا إذا أشرنا إلى بعد آخر للعقل لم يظهر بوضوح من خلال العرض السابق؛ ذلك لأن العقل كان يبدو لنا - في كل ما سبق - قوة للمعرفة أو العلم فحسب، ولكن للعقل جانبا عمليا أو جانبا أخلاقيا واجتماعيا لا يصح تجاهله؛ فمنذ أيام اليونانيين كان العقل مرتبطا بالتناسب الصحيح وبالعدل ، وفي أوروبا الحديثة كانت العقلانية فلسفة تنادي بإقرار العدل في نفس الوقت الذي تنادي فيه بتحقيق سيادة الإنسان على الطبيعة وإعلان حكم العقل في العالم.
ولو رجعنا إلى الأصول اللغوية لما وجدنا عناء في الاهتداء إلى الجوانب العملية في معاني كلمة العقل، بالإضافة إلى جوانبها النظرية؛ فالحقيقة (وهي الهدف النظري الرئيسي لكل تفكير عقلي) ترتبط لغويا بالحق ، أي بالمبدأ الأخلاقي الذي يدافع عنه الإنسان، وفي اللغات الأجنبية يظهر هذا الارتباط نفسه؛ ففي الفرنسية مثلا نستخدم كلمة
raison (العقل) للتعبير عن الحق أو المبرر، كما في قولنا:
il a raison (أي إن له حقا أو لموقفه ما يبرره)، ولفظ الفهم مرتبط بالتفاهم (عقليا واجتماعيا) في العربية وفي الإنجليزية
understanding
والفرنسية
entendement ، وإذا كان العقل قد ارتبط بالنور والعدل، فإن انعدام العقل قد ارتبط بالظلم، ويكفي أننا نتحدث دائما عن «ظلام الجهل»، وأن الارتباط قوي بين الظلام والظلم، أي بين المجالين النظري والعملي أو العلمي والأخلاقي، وإذا لم يكن هذا الاشتقاق اللغوي يقدم تبريرا كافيا لوجهة النظر هذه، فإن التاريخ ذاته خير شاهد على وثوق الارتباط بين الدفاع عن العقل والدفاع عن الخير والعدل؛ إذ كان كبار العقلانيين في أوروبا في القرن الثامن عشر هم أصحاب أقوى الأصوات دفاعا عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، على حين أن فلسفات اللامعقول (شبنجلر وروزنبرج) كانت تقدم مبررا لعهود الاضطهاد والديكتاتورية، أو تستخدم رغما عنها (كما في حالة نيتشه) من أجل تبرير أمثال هذه العهود. •••
هذا التحديد الذي قمنا به للمفاهيم الرئيسية التي تدور حولها المشكلة موضوع بحثنا، ليس على الإطلاق مقدمة تمهيدية، بل هو ينتمي إلى صميم البحث ذاته؛ فبفضل هذا التحديد نستطيع أن نوفر على أنفسنا عناء الدخول في كثير من المناقشات التفصيلية المتعلقة بطبيعة أزمة العقل في المجتمعات الغربية، وندرك بوضوح دلالة الأزمة المناظرة التي تمر بها مجتمعاتنا، ونجيب بسهولة عن السؤال الحاسم: هل تعد أزمة العقل لدينا صدى لأزمة الفكر العالمي، أم أنها شيء قائم بذاته، وبالتالي لا يصح أن تطبق عليه المقولات المستخدمة في وصف الأزمة الفكرية العالمية؟
لقد شهد الفكر الغربي - منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا - ظواهر لا يمكن أن توصف إلا بأنها أزمة؛ ففي وقت واحد على وجه التقريب، أصبحت منابع الفكر الفلسفي هي آراء برجسون ونيتشه وكروتشه وشبنجلر ووليم جيمس، وكلها آراء تمجد قوى أخرى غير العقل الاستدلالي المنهجي المنظم، وتهيب بمبادئ الحدس أو الإرادة أو القدر الصارم أو النجاح العملي، حتى أصبح أنصار العقل التقليديون - لأول مرة منذ عهد بعيد - أقلية ضعيفة خافتة الصوت، تدافع عن مواقعها بخجل واستحياء إزاء هجوم جارف لا سبيل إلى مقاومته.
وفي هذا الوقت ذاته كان علم النفس عند فرويد يجعل من السلوك الواعي ما يشبه «البناء العلوي» (بالمعنى الماركسي لهذا التعبير)، ويكتشف تحته طبقات كثيفة من «الأبنية الدنيا» التي تتحكم فيه، والتي تتألف من ذكريات وتجارب لا شعورية مكبوتة، وتكون عالما مظلما معتما لا يدرك إلا من خلال رموزه، ولا ينفذ إليه العقل الواعي، وإن كان هو أساس تفسير الكثير مما يدور في مجال الوعي.
وفي المجال الأدبي والفني، اتخذت الرواية والدراما والموسيقى والفنون التشكيلية طابعا خلا من الترابط المنطقي والقالب المحدد المنظم، وحلت محله الانطباعات السريعة المباشرة المختلطة والقوالب غير المألوفة، وأصبح الفن بدوره يخاطب القوى اللاواعية في الإنسان، ويبدو كما لو كان يريد الغوص في أعماق معتمة تقربه من المنابع السحيقة للحيوية البشرية.
وحتى في المجال العلمي النظري ذاته - وهو المجال الذي فيه يجد العقل نفسه «في بيته» كما يقولون - مر العقل بأزمة حادة تنازل من أجلها عن مبادئ ظل يتخذها أساسا يرتكز عليه طوال قرون عدة، وطرأ تغير أساسي على نظرته إلى العالم الأكبر والأصغر؛ فالنظرة الآلية إلى العالم أصبحت تحتاج إلى مراجعة جذرية، ومبدأ السببية ذاته أصبح موضوعا لهجوم جارف، وأشد البديهيات وضوحا حلت محلها مواضعات، والمطلق - في شتى المجالات - قد أنزل عن عرشه لكي يحل محله النسبي، والمبادئ التي كان يظن أنها سارية على كل ما في الكون أصبحت - على أحسن الفروض - تكتفي بمجالات معينة لا تدعي لنفسها الصحة خارجها، كما هي الحال في هندسة إقليدس، بل في منطق أرسطو ذاته.
هذه الظواهر يستحيل أن تجتمع كلها في توقيت زمني واحد، وتشير جميعها إلى اتجاه واحد، ما لم تكن تعبيرا عن أزمة واحدة؛ فمن المستحيل أن نفهم كيف تتوافق التطورات في ميادين متباعدة لا تجمعها أية رابطة ملحوظة، إلا إذا نظرنا إليها على أنها مظاهر مختلفة لجوهر واحد، هو وجود أزمة حادة يمر بها العقل.
ولكن ينبغي أن ندرك أن هذا الاستنتاج ذاته لم يتم التوصل إليه إلا عن طريق العقل، أي إن العقل الاستدلالي هو الذي يستنتج وجود أزمة عامة للعقل من ملاحظته لظواهر معينة تتلاقى كلها في نقطة واحدة، وتجمعها دلالة واحدة، وتلك في واقع الأمر هي أبرز سمات ما يسمى بأزمة العقل في العالم الغربي؛ فالأزمة في هذه الحالة ليست على الإطلاق اتجاها إلى التنازل عن العقل، وإنما هي سعي إلى الخروج به عن آفاقه المألوفة، واستكشاف أبعاد جديدة له، وإدماج قوى أخرى - حتى تلك التي تبدو مضادة له - في داخله. ومن المستحيل أن نفهم هذه الأزمة إلا في ظل حضارة كان لها مع العقل تاريخ بلغ من الطول حدا جعلها تضيق بالحدود التقليدية التي ظل العقل يحصر نفسه فيها، وتعمل على تفجير الحواجز التي ظلت تحول دون انطلاق العقل إلى أرحب الآفاق. إن العقل هنا هو الذي يتمرد على نفسه، وهذا التمرد على الذات هو أعلى درجات تحقيق العقل لذاته. •••
ولو شئنا أن نلخص في عبارة واحدة طبيعة الأزمة العقلية التي تمر بها المجتمعات الغربية، ونحدد وجه الاختلاف الأساسي بينها وبين أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية، لقلنا إن الأزمة عندهم هي أزمة ما بعد العقل، على حين أننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل، إنهم قد تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألفوه، أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهدا من أجل استكشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه الضرورية.
ولنضرب لذلك مثلا واحدا: ففي نقد الفكر الغربي لفكرة السببية، يرتكز هذا الفكر على التعقد الذي لا يسمح لنا بإخضاع كل نتيجة لسبب واحد بعينه، على النحو الذي كان سائدا في ظل الفهم الميكانيكي التقليدي لفكرة السببية، إن العقل هنا - بعد أن ظل يطبق فكرة السببية طويلا وبنجاح - يكتشف من المجالات ما يدعوه إلى تجاوزها؛ فهو يبحث عما بعد السببية وما بعد الضرورة دون أن يتخلى عن مبدأ السببية أو مبدأ الضرورة، وفي مقابل ذلك حارب العقل في حضارتنا مبدأ السببية (في أحوال معينة) دفاعا عن الفهم الغائي واللاهوتي للظواهر، ومع ذلك ترتفع أصوات باحثينا فخورة بأن نقد الغزالي لفكرة السببية - مثلا - قد استبق نقد هيوم، وربما استبق الاتجاهات المعاصرة ذاتها، دون أن يتنبهوا إلى أن الغزالي كان ينقد السببية لكي يدعم الغائية، على حين أن هيوم والمعاصرين ينقدون السببية لكي يوسعوا من نطاق العقل العلمي ويضموا إلى مملكته مجالات أرحب. إن الفرق هنا واضح بين أزمة العقل الناجمة عن رغبة العقل في تجاوز ذاته، وبين أزمته الناجمة عن هروب العقل من ذاته وعجزه عن تحقيق مطالبه وارتمائه في أحضان القوى التي تحكم عليه بالقصور الأبدي.
وفي وسعنا أن نعبر عن هذا الفارق تعبيرا آخر، فنقول إن الباعث إلى ظهور أزمة العقل الغربي هو الرغبة في إعطاء العقل مزيدا من «الحرية»، وفي مجال كهذا يكون للحرية معنى مزدوج، وهو رفض القديم من جهة، وخلق الجديد من جهة أخرى، والحق أننا لو حاولنا أن نتتبع السمة المشتركة بين تلك الظواهر المتعددة التي تنتمي إلى مجالات شديدة التباين، والتي تبين لنا من قبل أنها هي التي تؤلف ما يسمى بأزمة العقل في الفكر الغربي، لما وجدنا سمة تعبر عن روح هذه الظواهر جميعا خيرا من سمة الحرية؛ فالعقل يسعى إلى أن تكون له حرية حتى إزاء مبادئه الأساسية وبديهياته المطلقة، وإزاء كل نوع من الإلزام والضرورة العقلية، وهو يحارب كل محاولة لرد الإنسان إلى مجرد جزء من الطبيعة، ويهدف إلى تأكيد طابع الحرية فيه بوصفه مقابلا للضرورة السارية على الطبيعة، وهو يود التحرر من كل ما هو مطلق أو تقليدي أو مألوف، حتى لو كان هذا المألوف هو الشكل الطبيعي للأشياء، وليس أدل على أن مطلب الحرية هو الذي خلق أزمة العقل، وهو الذي يحل هذه الأزمة، من أن طريقة الخروج من هذه الأزمة كانت في معظم الأحيان وضع أنساق أرحب من الأنساق القديمة يستطيع العقل أن يتحرك خلالها بمزيد من الحرية، بعد أن كاد يختنق داخل الأنساق القديمة الضيقة، وفي مقابل ذلك يمر العقل في الشرق بأزمة ليس لها من سبب سوى الرغبة في تبديد حرية العقل وتضييق الخناق عليه؛ فالعقل يعاني من اتجاهات تريد تعطيله أو إلغاءه، زاعمة أنها تفعل ذلك لحساب سلطة دينية تعرف كل شيء، أو لحساب سلطة سياسية قادرة على أن تدبر للناس أمورهم وعلى أن تفكر بدلا منهم، وحين يستمر تعطيل العقل زمنا طويلا، يعتاد الناس إلغاء عقولهم، ولا يجدون أية غرابة في أن تطلب إليهم اليوم أن يتخذوا موقفا مناقضا لما كان يطلب إليهم بالأمس، بل إن الاعتداء على قانون التناقض ذاته لا يعود أمرا مستغربا، وحين يقترن هذا الصدأ العقلي بعامل الخوف من التفكير الحر، فإن العقول تفقد القدرة على ممارسة فاعليتها حتى عندما تزول الأسباب التي تؤدي إلى الخوف. ومجمل القول أن الفارق بين الأزمتين هو الفارق بين عقل يسعى دوما إلى توسيع نطاق حريته، وبالتالي إحكام سيطرته على العالم، وعقل تكبله الأغلال ويشغله الكفاح من أجل تحقيق الحد الأدنى من مطالبه الضرورية.
إن مستوى المناقشات التي تدور في مجتمعاتنا الشرقية حول مشكلة العقل كفيل بأن يكشف لنا عن نوع الأزمة التي نعانيها، أزمة «ما قبل العقل»، أو أزمة العقل الذي يكافح لكي يخرج إلى النور؛ فما زالت مشكلة التوفيق بين العقل والإيمان تشغلنا وتستغرق من جهودنا الفكرية قدرا غير قليل، وما زلنا نجد علماء يحاولون أن يثبتوا أن أحدث الكشوف العلمية لها أساس في النصوص الدينية، ورجال دين يسعون إلى إثبات أنهم مستنيرون لأنهم يسمحون للعقل بالتحرك في الحدود التي يسمح بها الإيمان فقط.
ولقد كان من العوامل التي أثارت هذه المشكلة - في العهود الأولى للمجتمع الإسلامي - أن المسيطرين على مقاليد الأمور (روحيا أو سياسيا) نبذوا الفلسفة على أساس أنها غريبة أو دخيلة، ما دامت يونانية الأصل، وكان من المحتم أن يؤدي نبذ الفلسفة هذا إلى نبذ للعقل ذاته؛ إذ إن خصوم الفلسفة قد خلطوا بين «المصدر» و«المبدأ»، أعني بين المصدر الذي أتت منه الفلسفة - وهو بالفعل يوناني دخيل - وبين مبدأ التفلسف ذاته، أي إخضاع الأمور لحكم العقل والمنطق، ومن المؤسف أن اسم الفلسفة ظل ردحا طويلا من الزمان محوطا بالشبهات، على أساس أنها بدعة دخيلة، ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا استغلالا لمصدرها الأجنبي من أجل تجريح أسلوب التفكير العلمي في ذاته، وحين يوضع الإيمان في كفة والتفكير العقلي الإنساني (وخاصة إذا كان معتمدا على مصادر دخيلة) في كفة أخرى، فإن النتيجة لا بد أن تكون معروفة منذ اللحظة الأولى.
إن مهمتنا ليست على الإطلاق إصدار حكم حول هذه المشكلة، بل إن كل ما نود أن ننبه إليه هو النتائج الحتمية التي يؤدي إليها الاهتمام المفرط الطويل الأمد بمشكلة مثل مشكلة التقابل بين العقل والإيمان؛ ذلك لأن تفضيل الوحي أو الإيمان معناه تفضيل الخصوصية على العمومية؛ فالإيمان خصوصي بطبيعته، والعقيدة بطبيعتها تسري على فئة محددة من الناس، هي فئة المؤمنين، وتصطدم بعقائد أخرى تؤمن بها فئات أخرى إيمانا مماثلا في قوته وحماسته، ولا جدال في أن لدى كل عقيدة ميلا إلى أن تضفي على نفسها طابع العمومية والشمول والوحدانية، غير أنها لا بد أن تجد في مواجهتها عقائد أخرى تدعي لنفسها هذا الطابع ذاته، ومن هنا لا يكون ثمة مفر من أن يظل الإيمان خصوصيا، مهما كانت قوة سعيه إلى العمومية، أما العقل فهو القوة الوحيدة التي لا يملك البشر غيرها حكما مشتركا بينهم، إنه عام وشامل بحكم ماهيته ذاتها، ومن هنا كان تغليب الإيمان على العقل يعني ضمنا انطواء ثقافة معينة على نفسها وتجاهلها للثقافات الأخرى ولحقيقة الاتصال التاريخي والاجتماعي بين البشر، وبطبيعة الحال لم تكن لمشكلة الاتصال هذه أهمية كبيرة في العصور الوسطى، حين لم تكن إنجازات العقل من الضخامة بحيث تستدعي مشاركة الجميع في الجهد العقلي وفي الانتفاع من ثمار هذه الإنجازات، أما في عصرنا الحاضر، فإن الحد الفاصل بين الحياة الخصبة والحياة العقيمة يتوقف على الاختيار بين التقوقع وبين المشاركة في ركب الحضارة العالمية؛ فعناصر النضال المشترك بين فئات هائلة من البشر أصبحت أقوى من أن يمكن تجاهلها بتأكيد خصوصية العقيدة في مقابل عمومية العقل، والأهداف العليا التي يسعى إليها الإنسان المعاصر - كتحقيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على الطبيعة وغزو آفاق جديدة في الكون - تحتاج إلى استخدام المعايير العقلية المشتركة، لا إلى انطواء الحضارة على ذاتها بتغليب معاييرها الإيمانية الخاصة.
وقد يجد بعض القراء أن فيما قلته عن استمرار مشكلة التقابل بين العقل والإيمان قدرا من المبالغة، ويستشهدون على ذلك بأن الاتجاه السائد الآن هو التوفيق بين العقل والإيمان، لا تأكيد التقابل بينهما، ولكن الاهتمام بالتوفيق بين أي طرفين يعكس تأكيدا ضمنيا لتقابلهما، ومن المؤكد أننا لم نكن لنبذل كل هذا الجهد في التوفيق لو لم نكن نؤمن بأن كلا من الطرفين يتجه إلى أن يكون مضادا للآخر.
ومن جهة أخرى فإن إلقاء نظرة سريعة عابرة إلى المشاكل التي تشغلنا يكفي لإقناع كل متشكك بأن مشكلة العقل والإيمان - التي تخلص منها الفكر الأوروبي منذ زمن بعيد - ما زالت تشكل جوهر أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية؛ فالمجتمع يلمس بنفسه - وبصورة واقعية تغني عن كل تبرير - أضرار الإباحة غير المقيدة لتعدد الزوجات وللطلاق، ويدرك أن حقوق المرأة الأساسية - وكذلك حقوق الطفل - تحتاج إلى قدر كبير من الدعم والحماية، ويعرف الأخطار الفعلية - التي تشهد بها تجربته اليومية - لزيادة النسل، ولكنه لا يزال يتخذ من هذه المشكلات كلها موقفا سلبيا يرجع في حقيقته إلى تغليبه لوجهة نظر الإيمان على وجهة نظر العقل في هذه الأمور، ولا بد أن يؤدي مثل هذا الموقف إلى توتر حاد، ربما وصل إلى حد التمزق الصامت، حين يجد الفرد العادي أن تجربته الفعلية (وبالتالي أحكام العقل) تثبت له أن نظام تعدد الزوجات - في صورته الراهنة - يجلب أضرارا اجتماعية لا حصر لها، ويجد من جهة أخرى أن حكم الشرع (أي حكم النص الديني) صريح في هذا الصدد، كما يقول له الفقهاء.
وفي وسعنا أن نضرب أمثلة كثيرة أخرى تثبت أن مشكلة التقابل بين العقل والإيمان ما زالت تقوم في مجتمعاتنا بدور رئيسي في حياتنا الفكرية، وأنها ليست على الإطلاق مشكلة كانت تنتمي إلى فترة تاريخية معينة، وتم حسمها بعد ذلك بصفة نهائية، من هذه الأمثلة تلك المناقشات الطويلة التي دارت - في صدد وضع الدستور الدائم - حول مركز الشريعة الإسلامية كأساس لأحكام الدستور، وأيا كانت النتيجة التي سوف تسفر عنها هذه المناقشات، فإن ما يهمنا هو دلالتها على وجود توتر بين حكم الإيمان، وهو توتر يعبر عن أزمة حقيقية، ولكنها أزمة «ما قبل العقل»، وخلال هذه المناقشات ذاتها ارتفعت أصوات لا حصر لها تنادي بأن سبب هزيمتنا في 5 يونيو هو انحرافنا عن طريق الإيمان، ووجدت هذه الأصوات صدى واسعا بين فئات عريضة من الجماهير، مع أن قليلا من التفكير في أوضاع الطرف الآخر الذي انتصر في 5 يونيو يكفي لإقناعنا بأن هذا الطرف المنتصر هو الذي حكم عليه - بموجب هذا الإيمان ذاته - بالتشرد الأبدي.
وأخيرا فقد يعترض علينا بأن الفئات التي تمثل هذه الأمور في نظرها مشكلات جدية لا تمثل المجتمع كله، وأن هناك إلى جانب هؤلاء من يكرسون حياتهم للعمل العلمي المرتكز على مبادئ العقل وحده، ولكن الواقع أن وجود هذه الفئة ذاتها يزيد من حدة المشكلة ولا يلغيها؛ إذ إنه يمثل تجسيدا حيا للتوتر العام بين العقل والإيمان في المجتمع الواحد، هذا فضلا عن التوتر الخاص بينهما في نفوس كثير ممن كرسوا حياتهم كلها للبحث العلمي الصرف (ارجع إلى شخصية «الدكتور سعيد» في مقالات الأستاذ توفيق الحكيم عن الشخصية المصرية في جريدة الأهرام، أعداد 30 يوليو، و6 و13 أغسطس 1971م )، ونتيجة ذلك كله هي أننا نقيم نظما تعليمية كاملة، تقدم خلاصة العلم الحديث (في حدود الإمكانات المتاحة بالطبع) فوق أرضية من العقلية الغيبية الأسطورية تتنافس مع تعاليم العلم تنافسا صارخا حينا، وتنافسا صامتا رهيبا في معظم الأحيان، وفي هذا التنافس الذي لا يزال العقل فيه يحتل مركزا ضعيفا تكمن أخطر مظاهر أزمة العقل في مجتمعنا.
ولو حاولنا أن نبحث عن الجذور الاجتماعية لهذه الأزمة فلن يكون من الصعب الاهتداء إلى أصولها إذا ما قارناها بالأزمة المماثلة التي مرت بها المجتمعات الغربية في البدايات الأولى للعصر الحديث؛ فالصراع بين القيم العقلية والقيم المرتكزة على سلطة الوحي كان في تلك المجتمعات صراعا بين أسلوب جديد للحياة (اصطلح على تسميته بالأسلوب البورجوازي) وبين الأساليب الإقطاعية الحريصة على التشبث بآخر معاقلها، ولم يكن من قبيل المصادفات أن ينتصر العقل، ويبدأ مسيرته الظافرة في نفس الوقت الذي توطد فيه أسلوب الحياة الجديد، وأخذت فيه النظم الإقطاعية تتداعى واحدا بعد الآخر، ولم تكن انتصارات العقل الساحقة - ابتداء من منظار جاليليو حتى خطوات أرمسترونج وجولات «لونوخود» على سطح القمر - تحدث في فراغ، بل كانت ترتبط على الدوام بتغييرات اجتماعية أساسية تمهد لها الطريق، وتهيئ الجو الملائم لانتفاع البشر بها.
وفي هذا الإطار ذاته يمكن القول إن الأزمة التي مر بها العقل الغربي، والتي بدأت في أوائل هذا القرن وما زالت مظاهرها مستمرة حتى اليوم؛ هي أزمة لنمط الحياة البورجوازي الجديد، وهي بطبيعة الحال لا تستهدف العودة إلى علاقات اجتماعية إقطاعية، بل تستهدف أولا التعبير عن ضيق الإنسان الغربي بالواقع البورجوازي السائد، وبحثه عن بديل لم تتحدد معالمه بعد، ولعل الدليل على أن هذا البديل لم تتحدد معالمه هو الأزمة الموازية التي يمر بها العقل في المجتمعات الاشتراكية الأوروبية والآسيوية؛ ففي هذه المجتمعات بدورها أخذ العقل يراجع خطواته ويعدلها وينقدها - وخاصة في الآونة الأخيرة - على نحو ينم عن قدر قليل من عدم الاستقرار، وازدادت المراجعات والتحريفات إلى حد زالت معه الحواجز بينها وبين «الأصل»، بل أصبح من الصعب الوصول إلى «أصل» تعد الاجتهادات الأخرى «تحريفات» بالقياس إليه، وأخذ كل اجتهاد في التفسير يؤكد لنفسه الحق في أن يعد أصلا من الأصول. وعلى الرغم من التباين الشديد بين جذور هذه الأزمة وجذور الأزمة في المجتمع البورجوازي، فإن الأمر المرجح هو أن وسيلة الخروج منها ستكون توسيعا لنطاق العقل وخروجا له من إسار الأنساق الضيقة التي كان من قبل منحصرا فيها.
فإذا طبقنا هذا التفسير على مجتمعاتنا، كانت النتيجة الواضحة هي أن استمرار الدفاع عن مبدأ السلطة - بشتى مظاهره - واضطرار العقل حتى الآن إلى اتخاذ موقع الدفاع، والمطالبة بالحد الأدنى من حقوقه، وهي حريته في التعبير عن نفسه؛ كل ذلك دليل على أن العلاقات الإقطاعية - ولا سيما في المجال الفكري - ما زالت متشبثة بمواقعها، وعلى أن المرحلة التالية في تطورنا الاجتماعي (التي نريدها أن تكون مرحلة اشتراكية) لم تستطع بعد أن توطد أقدامها، وأن تؤثر على عقول الناس وأساليب تعاملهم ونظرتهم العامة إلى الحياة.
وبعد، فلعل النتيجة التي تفرض نفسها بعد هذا الحديث الطويل عن أزمة العقل بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية، هي أن نوع الأزمة في الحالتين مختلف اختلافا جذريا، وأن إحداهما أزمة مجتمع فاض فيه العقل حتى طغت أمواجه على مجالات لم يكن يستطيع من قبل أن يقترب منها، على حين أن الأخرى أزمة مجتمع ما زال العقل فيه يكافح لكي يكتسب حقه المشروع في التعبير عن نفسه إزاء قوى متأصلة تهدده من كل جانب.
وفي اعتقادي أن الدرس الذي نخرج به من هذا التحليل هو أن أعراض الأزمة العقلية ينبغي أن تكون متباينة تماما في الحالتين، أو لنقل بعبارة أخرى إن من يتصور أن مظاهر أزمة العقل عندنا ينبغي أن تكون مماثلة لمظاهر الأزمة في الفكر العالمي لا بد أن يكون شخصا يخدع نفسه ويخدع الناس، ويكفي أن أضرب لذلك مثلا واحدا مستمدا من فكرة «العبث» أو «اللامعقول».
فالمجتمع الغربي قد سادته في وقت قريب موجة تصف العصر الحاضر بأنه عصر العبث الذي لا يكون فيه لأي شيء معنى ولا غاية، ولكن هذا الوصف للوجود بأنه عبث
absurde ، لا يمكن أن يكون له معنى إلا على أساس «مقارنة» ضمنية تحدث داخل ذهن كان يتوقع أن يجد العالم معقولا، وأن يجد له معنى، ولولا هذه المقارنة لما طرأت أصلا فكرة العبث أو اللامعقول على ذهن أحد؛ فالإنسان البدائي - مثلا - لا يصف العالم بأنه عبث، ولا تطرأ على ذهنه فكرة اللامعقول ، وذلك على الرغم من أنه يعيش هذه اللامعقولية في كل لحظة من حياته؛ لأنه لم يكن يتوقع أن يجد العالم غير ذلك، ولم يقم بأية مقارنة ضمنية بين الحالة الفعلية والحالة المتوقعة أو المرغوب فيها، ومن ثم فإن اللامعقولية تفرض نفسها عليه بوصفها الحالة الأصلية والدائمة والمفروضة للعالم، وعندما تكون اللامعقولية حالة أصلية على هذا النحو، يستحيل أن يصل الوعي إلى إدراك فكرة اللامعقول، وبعبارة أخرى: فإن اللامعقول لا يمكن تصوره إلا على أرضية خلفية من المعقول، وفي الحضارات العقلانية وحدها يمكن أن تظهر - من آن لآخر - فكرة العبث، وتبنى عليها فلسفات كاملة وأعمال أدبية وفنية كبرى، أي يمكن أن تصل هذه الفكرة إلى نطاق الوعي الإنساني.
هذا الكلام موجه - أساسا - إلى أولئك الذين يتصورون إمكان قيام فلسفة أو فن أو أدب للعبث في المجتمع الذي نعيش فيه؛ فبالقدر الذي لا تكون فيه مجتمعاتنا الشرقية قد مرت بتجربة عقلانية هزت حياتها من جذورها، لا يكون هناك معنى للقول إن الوجود عبث، لسبب بسيط هو أن العقل الذي يصدر هذا الحكم لم يكن يتوقع أن يجد الوجود على خلاف ذلك، إنه عقل اعتاد اللامعقول طويلا، وما زالت الخرافة وحرفية النص تحتل في حياته مكانة رئيسية، ومن ثم فلا معنى عنده لفلسفة العبث أو لفنون اللامعقول وآدابه، وإذا ظهرت هذه فلن تكون إلا محاكاة ببغائية تفتقر إلى الأصالة.
إن من يعيش طيلة حياته في اللامعقول لا يملك ترف التفلسف أو التفنن على أساس من اللامعقول؛ لأنه لا يشعر بتناقضه و«عبثيته» عن وعي، ولا يقارنه بأي مقياس عقلي مخالف، فلنعرف إذن حدود أزمتنا العقلية، ولنعمل على الخروج منها بمنح العقل حقوقه كاملة، بدلا من أن نقفز - دون تبصر - من مرحلة التفكير الأسطوري إلى مرحلة ما بعد العقل، متخطين المرحلة الوسطى، مرحلة ممارسة التفكير العقلاني، التي هي أملنا الوحيد في أن نصبح مجتمعا مسايرا للعصر.
نحن وثقافة الغرب1
في العالم اليوم حضارة متفوقة تفوقا لا شك فيه - هي الحضارة الغربية - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة ، وفيه أيضا حضارات لم تبلغ هذا القدر من التفوق، ولكن كلا منها يعتز بماض مجيد ويفخر بتراث أسهم بنصيب هام في بلوغ المدنية مستواها الحالي، ولما كانت الحضارة الغربية متفوقة ولكنها حديثة العهد نسبيا، والحضارات الأخرى - مع عدم تفوقها الحالي - لها جذور ممتدة إلى أقدم العهود؛ فقد ترتب على ذلك انقسام بين المثقفين من أبناء الحضارات غير الغربية حول الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه ثقافتهم، أهو مسايرة الحضارة الغربية الجديدة؟ أم إحياء الحضارة القومية الأصلية؟
ونظرا إلى أن الحجج التي يستند إليها كل من هذين الطرفين قوية مقنعة، فقد كان من الطبيعي أن يحتدم الخلاف بينهما، ويبدو كأنه خلاف يستحيل التوفيق بين أطرافه؛ ذلك لأن أنصار التمسك بالتراث يستندون في دعوتهم إلى أساس متين، هو ضرورة المحافظة على وحدة الأمة عن طريق التعلق بماضيها والاعتزاز به، وهو هدف لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته، حتى من كان له رأي مخالف في الوسائل المؤدية إليه، ومن جهة أخرى فإن أنصار مسايرة الحضارة الغربية الحديثة يرتكزون بدورهم على حجة لا مفر من الاعتراف بقوتها، هي عظمة حضارة الغرب في القرون الأخيرة وتفوقها الساحق في جميع المجالات، من علمية وفكرية وفنية واجتماعية، وهم يؤكدون أن من العبث اتخاذ موقف العناد في هذا الصدد؛ إذ إن الحضارة المتقدمة هي التي تسود دائما، ومن المحال أن تستطيع أمة أن توصد أبوابها في وجه التفوق الحضاري الذي يأتيها من مصدر خارجي؛ لأن هذا التفوق سيفرض نفسه سواء شاءت هذه الأمة أم أبت، وكل ما ستجنيه من العناد هو استمرارها في التخلف واستمرار الآخرين في السبق. •••
ومن المؤكد أن أنصار كل من هذين الطرفين يعانون - عن وعي أو دون وعي - نوعا من أزمة الضمير نتيجة لتشبثهم بموقفهم ذي الاتجاه الواحد؛ ذلك لأن من يدعو إلى المحافظة على التراث الحضاري القومي يعلم - على الرغم من قوة حجته - أن الحضارة الغربية لا تزال هي التي تقود العالم، ويدرك أن تجاهل هذه الحضارة والاكتفاء بإحياء التراث كفيل بأن يزيد الهوة بيننا وبينهم اتساعا، وهو يلمس حوله في كل يوم انتصارات جديدة في ميادين العلم، وتجارب شيقة غير مألوفة في الأدب والفن، فلا بد أن يؤدي به ذلك آخر الأمر إلى الإحساس بضعف موقفه، وبأن من الضروري إقامة نوع من الاتصال بين بلاده وبين أصحاب الحضارة المتقدمة، حتى يشعر المثقفون بأنهم يسايرون موكب الزمان ولا يتخلفون عن ركبه، ومن جهة أخرى فإن دعاة الاقتداء بالحضارة الغربية لا بد أن يشعروا - عاجلا أو آجلا - بأنهم قوم مقتلعون من جذورهم، وبأن روابطهم بماضيهم منعدمة، صحيح أنهم يشايعون حضارة تتميز بقوة مادية وروحية طاغية، ولكنهم يحسون بأنفسهم دخلاء على هذه الحضارة غرباء فيها، ويلتمسون لأنفسهم مكانا فيها فلا يجدونه، وينتهي بهم الأمر إلى إدراك قصور دعوتهم، والشعور بأنهم - بمعنى معين - قوم لا ينتمون إلى الماضي الأصيل ولا إلى الحاضر الدخيل. وبالاختصار فإن أزمة الضمير هذه تواجه أنصار التراث القومي وأنصار الحضارة الغربية معا، وذلك حين يتشبث كل منهم بموقفه ويأبى الاعتراف بسلامة موقف الطرف الآخر.
هذه الأزمة - كما قلت - تواجه المثقفين في جميع أرجاء العالم غير الغربي، وضمنه بطبيعة الحال العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، ومع ذلك ففي اعتقادي أن لهذه المنطقة الأخيرة على وجه التحديد وضعا خاصا ينبغي أن يخفف إلى حد بعيد من وقع هذه الأزمة على ضمائر المثقفين فيها، بل ينبغي أن يؤدي آخر الأمر إلى إزالة الخلاف بين وجهتي النظر المتعارضتين؛ فقد كان الاتصال وثيقا إلى أبعد حد بين حضارات الشرق الأوسط - ومنها الحضارة العربية - وبين الحضارة الغربية على مر العصور، وإذا كان إدراك هذه الرابطة القوية بين الشرق الأوسط وبين جذور الحضارة الغربية حقيقة لا يصعب إثباتها، فإن الكثيرين يعجزون عن استخلاص النتيجة الضرورية التي تترتب على هذه الحقيقة، وهي أن من الواجب ألا يجد المثقفون في هذه المنطقة من العالم - على وجه التخصيص - حرجا في مسايرتهم للحضارة الغربية؛ لأن هذه الحضارة ذاتها لم تتحرج في الماضي من استخلاص دعاماتها الأساسية من حضارات الشرق الأوسط، وبعبارة أخرى فإن العلاقة بين منطقة الشرق الأوسط بالذات وبين الغرب أعقد من أن تكون مجرد ازدواج حضاري، وإنما هي علاقة تداخل وتشابك وثيق، لا ينبغي معه أن يقوم بين المثقفين مثل هذا الخلاف الحاد حول الرجوع إلى التراث أو الاقتداء بالغرب.
وأستطيع أن ألخص النمط الذي جرى عليه الاتصال بين الشرق الأوسط بين الغرب - من الوجهة الحضارية - بأنه أخذ وعطاء متناوبان ومتكرران، أي إن الشرق الأوسط بدأ بإعطاء الغرب مقومات أساسية لحضارته، ثم أخذ منه عناصر دفعت بثقافته إلى الأمام، ثم عاد فأعطاه عناصر أخرى، وهكذا على التوالي، وعندما يكون الاتصال بين حضارتين على هذا النمط؛ فمن الصعب أن نتحدث في هذه الحالة عن حضارة غربية خالصة وحضارة شرقية خالصة؛ لأن كلتا الحضارتين تضم في تكوينها الداخلي عناصر أساسية من الحضارة الأخرى. (1)
كان أول اتصال سجله التاريخ بين حضارة الشرق الأوسط وبين الغرب يمثل مرحلة عطاء كبرى من الشرق إلى الغرب، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الشرق الأوسط - كما هو معروف - كان هو المهد الأول للحضارة العالمية الحالية، وقد كان لحركة العطاء هذه مظهر علمي وفلسفي في مطلع العصور القديمة؛ ذلك لأن فلسفة اليونانيين حين أخذت بوادرها في الظهور - في القرن السادس قبل الميلاد - كانت في واقع الأمر نقطة نهاية تطور فكري وعلمي في الشرق بقدر ما كانت نقطة بداية تطور عقلي في الغرب، وفي كل يوم يزداد رجحان كفة الرأي القائل بأن الفلسفة اليونانية لم تبدأ تلقائية - كما تصور الكثيرون في القرن الماضي - وإنما كان ظهورها على أرض اليونان نتيجة لمؤثرات قوية مستمدة أساسا من الحضارات القديمة في الشرق الأوسط.
ومن المؤكد أن الكلام عن «المعجزة اليونانية» ليس إلا اعترافا بالعجز عن تعليل قيام هذه الظاهرة الفذة في تاريخ الفكر البشري، وهي النمو السريع لمجموعة من المذاهب الفلسفية التي كان لها تأثيرها الدائم في الحياة العقلية للإنسان؛ فالتفكير العلمي يأبى الاعتراف بمثل هذه الطفرات المفاجئة، ويكشف لنا عن أدلة متزايدة على وجود تطور متدرج من الحكمة الشرقية إلى التفلسف اليوناني ، ويكفي لإثبات ذلك أن نقول إن أولى المدارس الفلسفية اليونانية كانت في مدن تنتمي جغرافيا إلى الشرق الأوسط، وإن تكن من الوجهة الحضارية مدنا يونانية، فضلا عن أن زيارات كبار الفلاسفة اليونانيين الأوائل لبلاد الشرق الأوسط وتأثرهم بعلمها هي حقائق ثابتة تاريخيا.
ولقد كانت شخصية أفلاطون - وهي أضخم الشخصيات في الفلسفة اليونانية - تجمع في ذاتها خلاصة هذه المؤثرات الشرقية؛ ذلك لأنه قام برحلات متعددة في الشرق، وخاصة مصر، واقتبس من حكمة الشرق عناصر كثيرة، وفضلا عن ذلك فقد ظهرت المؤثرات الشرقية في فلسفته بوضوح كامل؛ فالديانات والنحل الشرقية القديمة قد تركت آثارها واضحة في فلسفة أفلاطون، ولم تكن العقائد الأورفية والفيثاغورية التي كان لها أقوى الأثر في تفكيره إلا وسيلة لنقل التيارات الدينية في الشرق إلى اليونان، وفي وسع المرء أن يقول - بعد تحليل دقيق لاتجاه تفكير أفلاطون - إنه كان فيلسوفا نصف شرقي ونصف يوناني، وإنه هو ذاته كان أكبر دليل على اتصال حضارات الشرق الأوسط القديمة بالحضارة الغربية ممثلة في اليونان، فإذا أدركنا أن التفكير الغربي - منذ أيام اليونان القديمة حتى اليوم - يتضمن عنصرا أفلاطونيا متصلا يظهر أحيانا بصورة صريحة ويظهر في كثير من الأحيان بصورة ضمنية، وإذا أدركنا أن ظل أفلاطون ما زال ممتدا في طريقة التفلسف الغربية حتى عصرنا الحاضر، وأن حضارة الغرب بأسرها مبنية على أسس رئيسية من أهمها الأساس الأفلاطوني؛ إذا أدركنا هذا كله تبين لنا مدى تشابك الصلة بين الحضارات القديمة في الشرق الأوسط وبين الحضارة الغربية في تطوراتها الأولى، واتضح لنا أن عطاء الشرق للغرب - في هذه المرحلة الأولى من تاريخه الثقافي - لم يكن ثانوي الأهمية على الإطلاق كما دأب البعض على تصويره.
وفي أواخر العصور القديمة اتخذت حركة التأثير الشرقي في الغرب شكلا آخر هو الشكل الديني؛ ذلك لأن المسيحية - كما هو معلوم - ديانة شرقية خالصة، شقت طريقها إلى الغرب في الإمبراطورية الرومانية بصعوبة بالغة في بداية الأمر، حتى استتب لها الأمر في النهاية، وأصبحت هي العقيدة الرسمية للعالم الغربي بأسره، وبعبارة أخرى فإن الحياة الروحية في الحضارة الغربية ترتكز منذ أوائل العصر الوسيط على عقيدة تنتمي إلى صميم الشرق الأوسط، وترتبط ارتباطا أساسيا بالإقليم الذي نشأت فيه، ومن المعروف أن هناك خطا متصلا يربط بين عقائد الشرق الأوسط الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن هذا الخط يبدو أوضح ما يكون في نظر من يتأمل هذه العقائد من منظور عالمي شامل، ويقارنها بعقائد الشرق الأقصى مثلا، ومعنى ذلك أن الأساس الديني لشعوب الشرق الأوسط وللشعوب الغربية متقارب إلى أقصى حد، ولا جدال في أن هذه العقيدة الشرقية الأصل - أعني المسيحية - لها في حضارة الغرب أهمية أساسية، صحيح أن من الكتاب من يرون أن كل ما في الغرب من خصب فكري وعمق علمي قد ظهر على الرغم من المسيحية لا بسببها، ولكن هؤلاء الأخيرين أنفسهم يعترفون ضمنا بأن للمسيحية دورها الكبير في تشكيل حضارة الغرب، وإن يكن هذا الدور قد اتخذ طابعا سلبيا. وعلى أية حال فسواء نظرنا إلى هذا الدور على أنه سلبي أم إيجابي، فلا جدال في أن المسيحية - من حيث هي عنصر أساسي بنيت عليه الحضارة طوال الألفي عام الأخيرة - دليل حي على أن الرابطة بين حضارات الشرق الأوسط والحضارة الغربية رابطة تداخل وثيق، لا مجرد اتصال سطحي خارجي. (2)
أما المرحلة الثانية في علاقة هاتين الحضارتين فمن الطبيعي أن تكون مرحلة أخذ، أعني أن الغرب هو الذي قدم إلى الشرق في هذه المرحلة عناصر أساسية في غذائه الروحي؛ فقد ظهرت في الغرب - كما قلنا من قبل - مذاهب فلسفية شامخة، ونظريات علمية هامة، تمكن بها اليونانيون من أن ينقلوا الإنسان نهائيا من عهد الأسطورة والخرافة إلى عهد التفكير المنطقي المنظم، وكان من الطبيعي أن تمتد آثار هذه الحركة الفكرية الهائلة إلى الشعوب المجاورة، وبالفعل استجابت الشعوب العربية للمؤثرات اليونانية حالما سنحت لها الفرصة، وكانت حركة الترجمة الهائلة التي نقلت بها المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية دليلا آخر على مدى التقارب الحضاري بين هاتين المنطقتين، والواقع أن هذه الحركة كانت - بالنسبة إلى هذا العصر - تمثل ظاهرة فريدة ليس لها في العالم نظير. ولو سألنا أنفسنا: أي شعوب الأرض تمكنت من استيعاب تراث اليونانيين والإفادة منه بعمق ووعي في هذه الفترة البعيدة من العصور الوسطى؛ لكان الجواب: شعوب الشرق الأوسط وحدها؛ فهذه الشعوب - ولا سيما العرب - هي وحدها التي تجاوبت مع الثورة الفكرية الضخمة التي بدأها اليونانيون وأدمجت الفلسفات اليونانية في تراثها الحضاري، حتى أثمر هذا كله فلسفة إسلامية لا تستطيع أن تضع فيها الحد لفاصل بين ما هو إسلامي أو عربي بحت وما هو يوناني. (3)
وأعقبت مرحلة الأخذ هذه مباشرة مرحلة عطاء؛ ذلك لأن الفلسفة الإسلامية والعلم العربي - حين بلغا دور النضج - قد امتد تأثيرهما تدريجيا حتى وصل إلى الغرب، فإذا بالغرب يتعرف على فلسفته القديمة مرة أخرى، وبعد مضي أكثر من ألف عام على اختفاء آخر آثارها من خلال العرب.
وكانت الترجمات اللاتينية للترجمات العربية هي العامل الرئيسي الذي أدى إلى تعريف أوروبا بفلسفة اليونانيين في أواخر العصور الوسطى، وبفضل هذه الترجمات، وكذلك بفضل العلم العربي الأصيل الذي شق له طريقين رئيسيين إلى أوروبا: طريق الحروب الصليبية وطريق الأندلس؛ أتيح للأوروبيين أخيرا أن يعملوا على إحياء العلم والفكر في عصر النهضة بعد طول ركودهما في العصر الوسيط، والحق أن المرء حين يمعن الفكر في هذه الظاهرة التي أصبحت مألوفة يمر بها الكثيرون دون أن يجدوا فيها ما يستلفت النظر، يرى فيها ظاهرة فريدة بحق في تاريخ الاتصال الحضاري، فأين نجد مثالا آخر لحضارة تتعرف على نفسها وتهتدي إلى ذاتها وتحيي ماضيها عن طريق حضارة أخرى؟ من الواضح أن الصلة بين الحضارة العربية والحضارة في الغرب في آخر العصور الوسطى كانت صلة فريدة حقا؛ إذ إن الغرب لم يستطع أن ينهض من جديد بقواه الذاتية، وإنما احتاج إلى دماء جديدة تبعث فيه الحيوية وتمكنه من استرداد نشاطه الذي فقده في ظلام العصور الوسطى الطويل، فاستمدها من أقرب الحضارات إليه، وكان في ذلك نوع نادر من الأخوة الحضارية؛ حيث تقوم حضارة باختزان ثروة حضارة أخرى خلال فترة ضعف هذه الأخيرة واعتلالها، ثم تردها لها في الوقت المناسب - بعد أن تضيف إليها المزيد من عندها - لكي تعود هذه إلى استثمارها والانتفاع بها من جديد، فإذا أدركنا أن هذه الظاهرة التي نسميها بالأخوة الحضارية هي أهم العوامل التي ساعدت على قيام عصر النهضة الأوروبية، وإذا علمنا أن هذا العصر هو الذي بدأ حركة التقدم العلمي الهائل الذي تميز به الغرب طوال القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخه؛ لاتضح لنا مرة أخرى أن بين الغرب وبين الشرق الأوسط - ولا سيما العربي منه - روابط يستحيل معها الكلام عن أي تنافر بين حضارتيهما. (4)
وتلت مرحلة العطاء هذه مرحلة أخذ، هي الممتدة من عصر النهضة الأوروبية إلى عصرنا الحاضر، في هذه المرحلة أثبت الغرب تفوقه بما لا يدع مجالا للشك، وذلك في الميدان العلمي والفني والاجتماعي في آن واحد، وأتيح للغرب - بعد أن أحسن الإفادة مما تلقاه من العرب - أن يبني علما شامخا استطاع بتطبيقاته العلمية أن يغير وجه حياة الإنسان في العالم بأسره، وما زالت قدراته هذه في اتساع مستمر، وتلك هي الصفة الرئيسية للمرحلة الحالية من تاريخ العالم؛ فالعلم اليوم - كما يدرس في الشرق والغرب - هو علم غربي إلى حد بعيد، والنظريات الاجتماعية التي تهز أركان العالم وتقوض نظمه الموروثة وتمتد آثارها إلى أبعد أطراف الأرض هي في الأصل نظريات غربية مرتبطة بفلسفات غربية، وكل اتجاه فني جديد في الغرب - في الأدب أو الموسيقى أو الرسم أو النحت - يغزو العالم كله ويلهب خيال المثقفين فيه ويثير مناقشات ومجادلات مستمرة، لا في بلاده الأصيلة وحدها، بل في بلاد ذات جذور حضارية مختلفة عنها كل الاختلاف.
هذا النمط المتكرر من الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط وبين الغرب - بما فيه من أخذ وعطاء متعاقبين - يثبت لنا أن للعلاقة بين هذين الإقليمين طابعا خاصا فريدا يندر أن نجد له نظيرا في حالات الاتصال الحضاري الأخرى؛ ذلك لأن هناك أدلة لا شك فيها على أن ما وصل إليه الغرب في مرحلته الراهنة من تقدم، إنما كان نتيجة لتضافر حضارات الشرق الأوسط معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة؛ ففي مراحل متعددة كان الشرق يقدم إلى الغرب المادة الخام لحضارته، فيصوغها هذا في أشكال محددة منظمة: قدم إليه معلومات عملية تطبيقية مستمدة من خبرته الحرفية والزراعية القديمة، فصاغها الغرب في اليونان على شكل نظريات هندسية ورياضية أيام فيثاغورس وإقليدس، وقدم إليه مبادئ روحية في العقيدة المسيحية جعلها الغرب لاهوتا منظما في العصور الوسطى، وحورها تبعا لمقتضيات حياته الخاصة في حركات الإصلاح الديني في عصر النهضة، وقدم إليه ترجمات للفلسفة اليونانية وشروحا لها، ومناهج تجريبية للبحث العلمي الذي ازدهر في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاتخذ الغرب من هذا كله أساسا لنهضة علمية وفكرية ضخمة تتسع آفاقها حتى اليوم على نحو متزايد.
وعلى ذلك، فإذا كان الغرب في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم متفوقا على غيره من الحضارات تفوقا لا شك فيه، وإذا كان المثقفون المنتمون إلى حضارات متعددة يجدون حرجا في الأخذ عن حضارة غريبة تماما عنهم كالحضارة الغربية، فينبغي أن يخف هذا الحرج إلى حد بعيد عند المثقفين المنتمين إلى الحضارة العربية، وحضارة الشرق الأوسط بوجه عام؛ إذ إنهم حين يأخذون اليوم عن العرب فهم إنما يهتدون من جديد إلى كثير من العناصر التي سبق لبلادهم أن قدمتها للغرب وإن تكن مصوغة في شكل جديد، وإذا كان الأمر كذلك، فمن واجبنا أن نتخلى تماما عن ذلك الموقف الذي نعتقد فيه بوجود ثنائية حضارية قاطعة، لا يكون لنا فيها مفر من الاختيار بين أحد أمرين لا ثالث لهما، إما التمسك بتراثنا القومي، وإما مسايرة الحضارة الغربية؛ ذلك لأن تراثنا متداخل مع تاريخهم، وماضينا قد أثر في حاضرهم، والدور الذي قمنا به لكي تبلغ حضارة الغرب مستواها الحالي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولو جاز لنا أن نضع عقولنا أمام هذا الاختيار المزدوج ونرغمها على أن تنحاز إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لجاز للغربي بدوره أن يدعو إلى التخلي عن كل ما يتصل بالمسيحية من قريب أو بعيد؛ لأنها ذات أصل شرقي، ولجاز له أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي؛ لأن القوة الدافعة لها كانت علوم العرب وفلسفاتهم! •••
إن التضاد الحقيقي - والازدواج الحضاري بمعناه الصحيح - إنما يكون بين الغرب وبين بلاد الشرق الأقصى، ولو اتخذنا اليابان مثالا لبلدان هذا الإقليم؛ لوجدناها ظلت منعزلة عن كل المؤثرات الغربية انعزالا شبه تام حتى القرن التاسع عشر، ولم يكن يقوم بينها وبين الغرب أي اتصال حضاري يذكر قبل ذلك العهد، وفجأة ومنذ فترة لا تزيد عن المائة عام إلا قليلا، تحولت اليابان إلى بلد يقتبس الأساليب الغربية في كثير من مظاهر حياته، حتى أصبح اليوم غارقا في خضم الحضارة الغربية، تظهر فيه تياراتها الأدبية والفنية الجديدة بعد ظهورها في بلادها الأصلية بقليل، ويحاكي الشباب فيه أبناء الغرب في هواياتهم ومظهرهم وأساليب معيشتهم.
فإذا أدركنا أن التيار المحافظ على التراث القومي في هذا البلد الآسيوي ما زال محتفظا بقوته، وأن التقاليد الحضارية ما زالت لها مكانتها المتأصلة في نفس هذا الشعب؛ لأمكننا أن ندرك مدى حدة الازدواج الحضاري في هذه الحالة، ومدى الأزمة التي يعانيها المثقفون نتيجة لهذا الازدواج.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأوروبي عندما يبحث عن نمط من الحياة مخالف تماما للنمط الذي يعيش عليه، لا يلتمسه في الشرق الأوسط، بل في الشرق الأقصى؛ فهناك يجد ما ينشده من حضارة مختلفة كل الاختلاف عن حضارته الغربية، هناك يجد شعوبا عاشت آلاف السنين بعقائد مختلفة وتقاليد خاصة بها، ويجد تراثا ظل قرونا طويلة مقفلا على نفسه في وجه المؤثرات الخارجية ولا سيما الأوروبية، أي إنه بالاختصار يجد نمط الحياة الذي يقف مع النمط الغربي على طرفي نقيض، أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط فإن الاختلاف مهما بلغ مداه لا يكون كبيرا إلى هذا الحد، وحتى التراث الروحي الديني لشعوب هذه المنطقة من العالم يشترك في نقاط كثيرة مع نظيره في الغرب؛ فليست بلاد الشرق الأوسط هي تلك التي يحس فيها الأوروبي بالتضاد الحضاري الحقيقي، لا من حيث مظاهر حياتها الحديثة، ولا من حيث تراثها الحضاري الماضي.
ففي رأيي إذن أن مشكلة التضاد بين التراث القومي والحضارة الغربية الحديثة، لا ينبغي أن تحتل في تفكيرنا المعاصر كل هذه الأهمية؛ لأن هذا التضاد غير قائم أصلا بالصورة التي يقوم بها بين حضارات كثيرة أخرى، وليس معنى ذلك - بطبيعة الحال - أننا نستطيع أن نهتدي مباشرة - في الحضارة الغربية - إلى عناصر شرقية يسهل التعرف عليها؛ إذ إن هذه العناصر قد مرت بشتى أنواع التغيير والتحوير، وإنما الحقيقة التي أود التنبيه إليها هي أن الشرق الأوسط والغرب كان بينهما من الروابط على مر العصور ما يجعل من المستحيل وضع حد فاصل بين النصيب الذي أسهم به كل منهما في تقدم الحضارة البشرية.
والحق أن من الظواهر التي تسترعي الانتباه في بلادنا - وتعد دليلا عمليا على هذا الرأي - أن بعض المفكرين الذين هم من أشد الناس تحمسا للحضارة الغربية، هم في الوقت ذاته من أقدر الناس على تعمق روح أمتهم، ومن أحرص الناس على تراثهم القومي، ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى شخصيتي طه حسين وحسين فوزي في مصر؛ فقد حورب طه حسين في وقت من الأوقات بحجة أنه يدعو إلى ثقافة مستوردة من الغرب، ويتحمس لها إلى حد التعصب، ومع ذلك فإن كتابا قلائل في البلاد العربية هم الذين بلغوا مستواه في فهم طبيعة الحضارة العربية والقدرة على تحليلها بطريقة عميقة واعية، كذلك فإن حسين فوزي يقف اليوم على رأس الفريق الذي يدافع عن الثقافة الغربية في بلادنا، ولا يخفي في أي مجال إعجابه بكل ما هو أصيل وعميق في حضارة الغرب، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس تعمقا في فهم الشخصية المصرية والتعبير عن طبيعتها الباطنة في مختلف العصور التاريخية بوعي كامل، فكيف اجتمعت لهذين المفكرين صفتا الإعجاب المفرط بالغرب، والإخلاص الكامل للثقافة القومية؟ في رأيي أن هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك جذورا مشتركة بين الحضارتين، ولولا أن الشرق الأوسط والغرب كانا على مر العصور متنافرين - رغم اختلاف ظروفهما المحلية - في الإسهام بدورهما في بناء الحضارة الإنسانية، وخلال ذلك الشوط الطويل الذي قطعه الإنسان، منذ أن ظهرت لديه أولى بوادر الوعي الحضاري في مصر القديمة وبابل وآشور، حتى انطلقت صواريخه بين الكواكب في الحضارة الغربية المعاصرة، كان الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط والغرب من أهم العوامل التي ساعدت على بلوغ الإنسان في كافة أرجاء العالم ما بلغه اليوم من تقدم مادي ومعنوي.
دفاع عن الثقافة العالمية1
إن الحديث عن وجود نوع من «الفراغ الحضاري» - أو بتعبير أدق: نوع من «الغزو الحضاري» - الذي يمارسه الغرب ضدنا لا بد أن يثير فينا التفكير في أسباب هذا الغزو، وفي العوامل التي تجعل حضارة تغزو حضارة أخرى؛ ففي اعتقادي أن الكلام عن الغزو - بوصفه أمرا واقعا - لن يكون مثمرا ما لم يسبقه تحليل للعوامل التي تؤدي إلى هذا الغزو، ومن هذا التحليل تتضح الحلول التي ينبغي اتباعها للتحرر من كل غزو حضاري.
وأود أن أتساءل في البداية: هل نحن حقا - في علاقتنا بالحضارة الغربية - خاضعون لغزو آت من الخارج؟ هل تعد كلمة الغزو أدق وصف لهذه العلاقة؟ يبدو لي أن لفظ «الغزو» لا ينطبق إلا على المرحلة التي كان فيها الاستعمار الأجنبي يفرض علينا فيها ثقافته فرضا، أما فيما عدا ذلك من المراحل، وكذلك في البلاد التي لم تمر بمرحلة الاستعمار المباشر، فإن الظاهرة لا يمكن أن توصف بأنها «غزو»، وإنما هي تأثر أو اقتباس؛ فالحضارة الغربية لم تفرض علينا أدبها وفنها، وإنما نحن الذين اقتبسناه وتأثرنا به، والفارق كبير بين إرغام الآخرين على قبول ثقافة ما، وبين تقبل الآخرين لهذه الثقافة بمحض اختيارهم.
ومع ذلك، فمن حقنا أن نظل نتساءل: ما الذي يجعل ثقافة معينة تؤثر في شعوب أخرى غير تلك التي ظهرت بينها؟ وهل المسألة أشبه بالحروب حيث يغزو شعب أرض شعب آخر، ثم يرحل عنها متى توافرت للشعب المهزوم من العزيمة ما يتيح له أن يرد الغاصب مدحورا؟ في اعتقادي أن الأمر في حالة الثقافة مختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو في رأيي أشبه ما يكون بقانون «الأواني المستطرقة»، حيث ينتقل السائل حتما من المنسوب المرتفع إلى المنسوب المنخفض ما دام هناك اتصال بين الاثنين، وعلى الرغم من أن هذا لا يعدو أن يكون تشبيها، فإنه في اعتقادي تشبيه مفيد إلى أقصى حد، يصلح لإلقاء ضوء وضاح على الظاهرة التي نحن بصددها.
ذلك لأن الانتقال في هذه الحالة «حتمي» ما دام هناك ارتفاع من جهة وانخفاض من جهة أخرى في المستوى؛ فالمسألة ليست متوقفة على رغبة الطرف المتلقي في أن يتخلص مما يأتيه من الخارج، بل إن هناك حالة واحدة يستطيع فيها أن يضمن عدم نفاذ العناصر الخارجية إليه، هي أن يرتفع بمستواه بحيث يغدو مكافئا للمستوى الآخر، وربما أمكنه أن يعطي هذا الآخر شيئا من عنده لو استطاع أن يعلو عليه.
ومن جهة أخرى فإن «قانون الأواني المستطرقة» لا ينطبق إلا في حالة وجود اتصال، وهذا يصدق على الحضارات بدورها؛ إذ إن الاتصال بينها هو الذي يجعل الحضارة الأضعف تمتص عناصر من الحضارة الأقوى، وكلما كانت سبل الاتصال أيسر؛ ازداد انطباق هذا القانون إحكاما، ولهذه الحقيقة أهمية كبرى في المقارنة بين موقفنا الحاضر من الثقافة الغربية، وبين موقف الحضارة الإسلامية من الثقافة اليونانية.
ولنتوقف قليلا عند هذه النقطة الأخيرة، التي يبدو أن لها أهمية خاصة في نظر الكثيرين ممن يريدون لنا أن نتحرر من الثقافة الغربية، فيذكروننا دائما بموقف المسلمين من الثقافة اليونانية الوافدة، وكيف أنهم تمكنوا من استيعابها داخل ثقافة إسلامية أو عربية أصيلة.
ولعل أول ما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد هو أن موقف الفلاسفة لم يكن متحررا إلى الحد الذي يتصوره البعض، وأن الرأي الغالب هو أنهم نقلوا عن الثقافة اليونانية أكثر بكثير مما أضافوا إليها، وأقول إن هذا هو الرأي الغالب؛ لأنه ليس رأي المستشرقين أو الباحثين الأجانب بوجه عام فحسب، بل إنه أيضا رأي كثير من المفكرين الإسلاميين الذين لا يجدون الرد الحقيقي على مشكلة الثقافة الإسلامية لدى الفلاسفة. وبعبارة أخرى فليس من المؤكد على الإطلاق أن الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا موقفا خاصا بهم من التراث الغربي المعروض عليهم في تلك الأيام، وإنما الرأي المرجح أنهم أخذوا كثيرا ولم يعطوا إلا قليلا، ومن هنا رأى البعض أن الثقافة الإسلامية الأصيلة تتمثل في علم الكلام، ورأى البعض الآخر أنها تتمثل في مدرسة بعينها من مدارس علم الكلام هي الأشعرية، ورأى غير هؤلاء أن أهل السنة هم خير معبر عن هذه الثقافة. وهكذا نستطيع أن نميز مراتب أو درجات أربعا على الأقل، لا أقول إنها درجات في اليسارية أو اليمينية أو في التقدم والرجعية حسب الاصطلاح السياسي الحديث، وإنما أقول إنها درجات في الاقتراب من حرفية العقيدة: الفلاسفة، فعلماء الكلام من المعتزلة، فعلماء الكلام من الأشاعرة، فأهل السنة، ولكل فريق من هؤلاء أنصار، وغني عن البيان أن أنصار الفريق الأخير مثلا يحكمون على الفريق السابق - حتى لو كان يضم مفكرا كالغزالي - بأنه متحرر أكثر مما ينبغي، ويؤكدون أن موقفهم هو الاقتراب إلى تمثيل الروح الإسلامية على حقيقتها، وقل مثل هذا عن الباقين جميعا، كل حسب نظرته الخاصة إلى الأمور. ومجمل القول أن النظر إلى الفلاسفة على أنهم هم الذين استطاعوا أن يتخذوا من التراث الغربي (اليوناني) الوافد عليهم موقفا سليما، وعرفوا كيف يصبغوه بالصبغة الإسلامية، ليس أمرا مؤكدا كل التأكيد، وإنما هو رأي يقال به من وجهة نظر خاصة تنطوي ضمنا على طريقة خاصة في الحكم على الحضارة الإسلامية، وهي طريقة سنعرض لها في هذا المقال بعد قليل.
على أن أهم ما في الأمر أنه إذا لم يكن من الممكن التأكيد على نحو قاطع بأن الفلسفة الإسلامية هي التي استطاعت أن تكون مركبا يجمع بين الثقافة الأصيلة والثقافة الدخيلة، فإن كل محاولة للاقتداء بها في عصرنا الحالي تغدو أمرا لا يستطيع أحد أن يضمن ما يسفر عنه من نتائج، وإذا كان فلاسفة الإسلام قد عانوا صعوبات في تأكيد موقفهم الخاص إزاء الثقافة الوافدة من الخارج، فلا بد أن تزداد هذه الصعوبات بالنسبة إلينا - في عصرنا الحاضر - أضعافا مضاعفة.
ذلك لأن الاتصال بين الثقافات أصبح الآن أقوى إلى حد لا متناه مما كان عليه في عصر ازدهار الفلسفة الإسلامية، ولست بحاجة إلى أن أكرر ما يردد على مسامعنا كل يوم من أن التكنولوجيا الحديثة أزالت المسافات مكانيا وثقافيا، ومن أن العالم يتجه سريعا إلى أن يصبح وحدة واحدة؛ فهذه حقائق لا سبيل إلى الشك فيها، لو طبقنا في ضوئها القانون الذي تحدثنا عنه من قبل؛ لأصبح من المؤكد أن انتقال الثقافات من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى قد غدا في عصرنا الحاضر أمرا محتوما؛ لأن الاتصال بين الأواني المستطرقة قد أصبح أشد إحكاما، وصار حقيقة من حقائق العصر الضرورية.
ومن جهة أخرى فإن الحضارة الإسلامية حين واجهت الفكر اليوناني كانت تواجه ثقافة انتهى عهدها، وتحددت كل معالمها، وعرفت جميع حدودها وأبعادها، كان أمام المسلمين «كم» معين من التفكير الفلسفي، ظهر على شكل مجموعة من المدارس المتعاقبة، واكتمل هذا الكم ثم توقف نهائيا قبل أن يتلقاه المسلمون بما لا يقل عن خمسة قرون، وبالاختصار، وجد المسلمون أنفسهم إزاء «تراث» فكري يستطيعون أن يحددوا موقفهم منه بوضوح (وإن كان هذا الموقف ذاته قد تفاوت بين قبول يكاد يكون تاما وبين رفض قاطع كما أشرنا من قبل)، أما اليوم فإن الثقافة الغربية بعيدة كل البعد عن أن تكون «تراثا»، إنها شيء حي تام متحرك، وفي اليوم الذي يبدو لنا فيه أننا قد اتخذنا من هذه الثقافة موقفا محددا، نراها قد تحركت إلى مواقع جديدة، وفاجأتنا بتيارات لم تكن في حسباننا، بل إن الأهم والأخطر من ذلك أن سرعة تحركها أعظم بكثير من قدرتنا على ملاحقتها، وأن المسافة تزداد اتساعا، والمنسوب العالي في «الأواني المستطرقة» يزداد ارتفاعا، ومن ثم تشتد قوة التيار الذي يسير في اتجاه واحد، من المرتفع إلى المنخفض، هذا وضع جديد كل الجدة، لا يمكن مقارنته على أي نحو بموقف الإسلاميين من التراث اليوناني الذي كان قد بلغ مرحلة الجمود والاكتمال ، والذي ظل متوقفا حيث هو، ينتظر من الآخرين اللحاق به واتخاذ موقف واضح منه.
والحق أن مشكلة ازدياد الهوة اتساعا بين العالم المتخلف - بوجه عام - وبين العالم المتقدم منظورا إليه بأوسع معانيه، هذه المشكلة لا بد أن تؤرق كل من يفكر باستبصار في مستقبل العلاقات بين هذين العالمين؛ ذلك لأن معدل النهوض - في البلاد التي تقدمت بالفعل - يزداد سرعة، ويبدو أن ازدياد السرعة هذا يؤدي بذاته إلى الجمود أو التوقف في البلاد المتخلفة؛ لأن بطء معدل نموها - إذا حدث مثل هذا النمو - يجعلها تبدو أشبه براكب الدراجة الذي يبدو متراجعا إلى الوراء حين يمرق بجانبه قطار سريع، ومن العبث أن نعزي أنفسنا بأن تقدم الغرب تكنولوجي فحسب، وبأننا نستطيع أن نتفوق عليه في ميدان الثقافة؛ ذلك لأن التكنولوجيا تخلق لنفسها ثقافتها الخاصة، وهي ثقافة ما زلنا بعيدين عنها بعدا كبيرا، ومن الخطأ الفادح أن نتصور أن النهضة التكنولوجية لا ترتبط بنهضة ثقافية، بل إن كل الظواهر تدل على أن النجاح التكنولوجي قد أسدى إلى الثقافة خدمات هائلة، وأن هناك ازدهارا ثقافيا وتنوعا وتعددا وتخصصا وتعمقا لا يقل في أهميته عما نجده - مثلا - في تكنولوجيا الفضاء. أما العزاء الآخر الذي نقدمه إلى أنفسنا بين الحين والحين، وهو أن الغرب سائر إلى الانهيار لتحل حضارات أخرى محله، فهو عزاء واهم إذا صدر عن أناس لم يبذلوا أدنى جهد لمغالبة الغرب والتفوق عليه، ولن يكون له ما يبرره إلا عند الشعوب التي أثبتت بالفعل قدرتها على الكفاح والصمود والبناء في ميادين التنظيم الاجتماعي كما في ميادين التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي.
والحق أنه لمما يبعث على القلق حقا أن نرى مدى اتساع الهوة بيننا وبين الثقافات العالمية المتقدمة، ثم نكتفي بالقول إننا أخذنا ما فيه الكفاية، وإن دور النقل انتهى وحان وقت اتخاذ المواقف المستقلة؛ فبأي مقياس يقال إننا نقلنا عن ثقافة الغرب ما فيه الكفاية؟ هل نحن حقا قد استوعبنا هذه الثقافة حتى نستطيع أن نقف منها موقف الند للند؟ إن الإجابة بالإيجاب ترضي كبرياءنا وتشعرنا بالاطمئنان، ولكن هذا لن يكون إلا رضاء أجوف واطمئنانا زائفا، وإن نظرة واحدة إلى الأجيال الجديدة من دارسينا لتقنعنا بأن قدرة هذه الأجيال على استيعاب الثقافات العالمية الجادة تتضاءل دوما (وذلك لأسباب قد يكون معظمها خارجا عن إرادتها)، ويزداد كل يوم الاتجاه إلى الاكتفاء من هذه الثقافات بالقشور، والاعتماد على ترجمات ركيكة معيبة غير علمية، تعد هي الزاد الأكبر لدى نسبة كبيرة ممن نعتمد عليهم في النهوض بثقافتنا في المستقبل، وما زالت أمهات الكتب الثقافية العالمية غير معروفة لدى جماهير القراء؛ لأننا لم ننقلها بعد إلى لغتنا نقلا أمينا، ولم نعمل على وضعها في متناول أيدي طالبي الثقافة بشروط ميسرة، فكيف يقال بعد ذلك إننا نقلنا وشبعنا، وحان وقت الهضم والاستيعاب والتمثل والبناء الجديد؟
إن رأيا كهذا يلقى استجابة وترحيبا بمجرد أن يصدر، ولكن هذه الاستجابة الفورية يمكن أن تكون عائقا في وجه الإدراك الصحيح للحقائق، وهي أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاستيعاب الكامل للثقافة العالمية، وأن هناك أوضاعا قد تؤدي إلى زيادة الإقلال من قدرتنا على فهم هذه الثقافة، فإذا اقترن هذا العجز المتزايد بشعور بالرضا عن الذات؛ كانت حصيلة الجمع بينهما وضعا خطيرا بحق، نكون فيه بعيدين على نحو متزايد عن المستوى العالمي، ونتصور أننا وصلنا إليه وتجاوزناه، ومن هنا فإن الواجب الأكبر الذي يقع على عاتق المثقفين في بلادنا في الوقت الراهن ليس - في رأيي - أن يبعثوا في الناس أحاسيس الرضا عن الذات، بل أن يثيروا فيهم القلق والرغبة في تجاوز أوضاعهم الراهنة، ومن أهم عناصر هذا القلق أن يدركوا اتساع الهوة بينهم وبين المجتمعات المتقدمة ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا، وإني لأعتقد اعتقادا راسخا بأن أول خطوة في سبيل عبور هذه الهوة، وتضييق شقة التخلف، أن نكون في البداية على وعي بمدى اتساعها، وأن نعمل جادين على فهم أسباب تقدم الآخرين لكي نتمكن من اللحاق بهم ثم التفوق عليهم.
على أن الكلام عن «ثقافة عالمية» لا بد أن يصطدم برأي شائع يؤكد أن الحضارة الأوروبية - في جانبيها المادي والمعنوي - ذات طابع محلي، وأن ما أنجزته لا يصلح إلا للمجتمعات التي خلقت هذه الحضارة فحسب، والواقع أن المبالغة في تأكيد الطابع المحلي للثقافة الأوروبية - بل حتى للعلم والتكنولوجيا الأوروبية - تنطوي في رأينا على أخطار لا يستهان بها؛ ذلك لأنها تعني المبالغة في تقسيم البشر إلى أنماط يعد كل منها مقفلا على نفسه، وتغفل الطابع الإنساني العام الذي تتسم به كل نواتج العبقرية البشرية، وصحيح أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اصطباغ الثقافات بلون محلي مستمد من الظروف الخاصة للمجتمع الذي تظهر فيه، ولكن هذه النواتج الثقافية المحلية ذاتها تنطوي - في كل الأحوال - على جانب إنساني لا يصح التغاضي عنه.
ففي ميدان النظم الاجتماعية - على سبيل المثال - لن ينكر أحد أن الإقطاع والرأسمالية في أوروبا كان لهما طابع محلي، وأن الظروف الخاصة التي عاشتها أوروبا في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث كانت هي العامل الحاسم في إعطاء هذين النظامين طابعهما المميز، ولكن هذا لن يمنع من تكرار هذين النظامين في بيئات أخرى مغايرة لتلك التي ظهر فيها الإقطاع والرأسمالية الأوروبيان؛ فمع اختلاف الصبغة المحلية يوجد اتفاق في الإطار العام بين الرأسمالية في الولايات المتحدة واليابان مثلا، ومن هنا كان مما يفيد الاشتراكيين في مختلف بلاد العالم - ولا سيما العالم الثالث - أن يدرسوا النظم الاجتماعية الأوروبية لا على سبيل زيادة العلم فحسب، بل على أساس أن أوروبا قد مرت بتجارب يمكن أن تمر بها الإنسانية كلها من بعدها، مع اختلاف في التفاصيل بطبيعة الحال.
إن عوامل الوحدة بين التجارب الإنسانية أقوى في رأيي بكثير من عوامل التباين والاختلاف، وإذا كان من المعترف به أن الإنسان يكون - من الناحية البيولوجية - نوعا واحدا يمكن فيه التزاوج والإنجاب بين أقزام الغابات الاستوائية الزنوج وعمالقة السويد الشقر، وأن مشاعر كالحب والغضب والفرح عنده واحدة، فينبغي أن نعترف أيضا بأن هذه الوحدة تكون أساسا كافيا لتشابه مماثل في التجارب البشرية الأشد تعقيدا، فحين يتخلص بلد أوروبي من عوامل الاستغلال بفضل بنائه نظاما اشتراكيا، ينبغي أن نؤمن بأن النظام الذي بناه يصلح - من حيث المبدأ - للتطبيق على بلاد أخرى تريد بدورها أن تتخلص من الاستغلال؛ إذ إن أنماط الاستغلال واحدة، وطرق التخلص منها متقاربة إلى حد بعيد. أما أن يقال مثلا إن الفلسفة الاشتراكية جزء من الحضارة الأوروبية، وإنها ظهرت في ظروف معينة وبيئة خاصة لا يمكن أن تنطبق إلا فيها وحدها، فإن هذا ينطوي على تجزئة غير مشروعة للتجربة البشرية، فضلا عما يؤدي إليه من أضرار سياسية واجتماعية للبلاد غير الأوروبية، صحيح أننا نستطيع أن نكيف التجربة مع ظروفنا المحلية كما نشاء، ولكن لا ينبغي أن ننكر المبدأ العام، وهو أن الشعوب التي سبقت غيرها من ميدان الحضارة تمر بتجارب يمكن أن تمر بها هذه الشعوب الأخرى في مستقبلها، ومن ثم فلا محل للفصل بين الشعبين بحجة أن الحضارات محلية فحسب.
وإذا كان هذا القول يصدق على ميدان السياسة والمجتمع، فهو - بلا شك - أصدق في ميدان الفنون والآداب، أو في ميدان الثقافة بوجه عام، بل إني لأومن إيمانا راسخا بأن التأثر في هذا الميدان بالذات أوضح منه في غيره بكثير، إني لا أستطيع أن أنكر أن بيتهوفن نتاج لحضارة طويلة امتدت جذورها من أيام المسيحية الأولى وربما قبل ذلك، وأن موسيقاه مرتبطة ببيئة مختلفة عن بيئتي اختلافا بينا، وأنها ظهرت في نظام اجتماعي ربما لم يكن له نظير في مجتمعي، ولكني لا أستطيع - في الوقت ذاته - أن أمنع نفسي من أن أحب بيتهوفن وأن أرى موسيقاه فنا رفيعا يخاطبني بوصفي إنسانا، ويكلمني بلغة أفهمها (لأني تعودت عليها بما فيه الكفاية ) ويبعث في مشاعر لا تختلف عن تلك التي يبعثها في أبناء حضارته، وقل مثل هذا عن كثير من الأدباء والمصورين والمفكرين الذين سما إنتاجهم حتى استطاع أن يخاطب «الإنسان» لا الفرد في هذا المجتمع أو ذاك، ولست أرى في ذلك طغيانا ولا غزوا، بل هو في رأيي إثراء للتجربة الإنسانية وتعميق لها.
على أن الكثير من مفكرينا يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة لإثراء تجربتنا - مع تخليصها من تأثير الثقافات الوافدة - هي اتخاذ التراث الماضي بديلا عن المؤثرات الحضارية الدخيلة، ويرون أن هذه الوسيلة هي الكفيلة بالقضاء على الاغتراب الثقافي الناشئ عن اندماجنا في حضارة غريبة عنا.
وأود في هذا الصدد أن أطرح سؤالا لا أهدف منه إلى التعبير عن رأيي الخاص بقدر ما أهدف إلى إثارة مشكلة قد تجد من يبحثها فيما بعد بمزيد من التفصيل: أليس من المحتمل أن يكون هناك اغتراب عن الماضي، يعادل الاغتراب عن العنصر الوافد الدخيل أو يزيد عليه؟ وبعبارة أخرى، هل يشعر المرء نحو ماضيه - إذا كان ذلك الماضي بعيدا، وإذا كانت ظروفه قد تغيرت على نحو جذري - بمزيد من الألفة بالقياس إلى ما يأتي إليه من مؤثرات، هي حقا خارجية، ولكنها تعيش معه في عصر واحد وفي ظروف متقاربة؟ أليس بعد الشقة في الماضي - بدوره - عاملا من عوامل الاغتراب؟ وهل نستطيع أن نطمئن - حين ننادي ببعث حضارة ماضية تفصلنا عنها فترات زمانية واختلافات هائلة - إلى أننا قد تخلصنا حقا من الاغتراب عن أنفسنا؟
إن «الاغتراب عن الماضي» فكرة لا أعتقد أنها تلقى ترحيبا من الكثيرين، ومع ذلك فإني أطرحها آملا أن تبحث بمزيد من العناية، وكل ما أود أن أقوم به الآن هو أن أثير الموضوع فحسب، ولعل أبعاد المشكلة تظهر بمزيد من الوضوح إذا تأملناها في ضوء الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وهي ظروف تختلف اختلافا جذريا عما كان عليه الإنسان في أي عصر مضى.
إن عصرنا الحاضر يسير في تطور يؤدي - على نحو متزايد - إلى اختصار المسافات المكانية وتضييق شقة الاختلافات الموضعية، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تأكيد الفوارق الزمنية ومضاعفة تأثيرها، وفي كلتا الحالتين يظهر التأثير الحاسم للتفاعل بين التكنولوجيا والثقافة؛ فالتكنولوجيا - كما هو معروف - تتجه بفضل عدد كبير من المخترعات الحديثة إلى صبغ العالم بصبغة ثقافية تزداد تقاربا وتشابها، وبذلك تلغي بالتدريج تأثير الفوارق بين الحضارة، أو تتيح وضع الحضارات المختلفة في إطار معاصر موحد، هذه حقيقة معروفة طالما نبه إليها الكتاب، ولكن الذي لم يتنبه إليه من كتبوا في هذا الموضوع، هو أن نفس العملية التي تؤدي إلى إزالة الحواجز المكانية، وتقريب الشقة بين الثقافات تؤدي من ناحية أخرى إلى زيادة الإحساس بتأثير الفوارق الزمنية؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة بدورها هي التي جعلت الإنسانية تمر خلال عشر سنوات من عصرنا الحالي بتجارب تزيد على ما كانت تمر به في العصور السابقة خلال قرن كامل، وهي التي ستجعل معدل التغير هذا يزداد سرعة على الدوام، والمعنى الواضح لازدياد سرعة معدل التغير - في فترات زمنية تزداد قصرا على الدوام - هو أن الشقة بين الماضي والحاضر تزداد اتساعا بلا انقطاع، أي إن الإنسان المعاصر يشعر بأنه أبعد عن إنسان القرن الماضي إلى حد يزيد كثيرا عن إحساس إنسان القرن الثاني عشر بابتعاده عن إنسان القرن الثاني مثلا، وهكذا فإن المكان والطابع المحلي يتجه إلى التقارب والتوحد، على حين أن الفواصل الزمنية بين الحاضر والماضي تزداد حدة على الدوام، وإذا لم نكن على ثقة من ذلك، فإن حركات الشباب، وشعور الأجيال الجديدة بأنها عاجزة عن الالتقاء على أرض مشتركة مع الأجيال الأقدم التي لا تزال تعيش معها في عصر واحد، إنما هو الدليل الملموس الصارخ على ازدياد حدة الفوارق الزمنية في عصرنا الحاضر على نحو لم يكن له نظير في أي عصر سابق.
وإذن فمن سمات هذا العصر الذي نعيش فيه تلك السمة التي لم تظهر بوضوح إلا في وقتنا الراهن، وإن كانت ستزداد ظهورا ووضوحا في المستقبل، وأعني بها تضييق المكان وتوسيع الزمان، وفي مثل هذا الوضع - الذي نعتقد أنه جديد كل الجدة - يكتسب السؤال السابق الذي أثرته للمناقشة دلالته العميقة: فهل يقتصر الاغتراب الثقافي على صلتنا بالثقافات الأجنبية فحسب؟ ألا يمكن أن يظهر - إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل - اغتراب ثقافي أشد من ذلك حدة بين الحاضر والماضي؟ وفي هذه الحالة، ماذا يكون مصير تلك الدعوات التي ترى أن طريق التحرر من الثقافات الدخيلة إنما يكون بإحياء ثقافات تفصلنا عنها مسافات زمنية كبيرة؟ أنستطيع حقا أن نتخذ من هذه الثقافات القديمة مرشدا وموجها لنا ونحن آمنون من أن رجوعنا إليها سيخلصنا من كل اغتراب؟
التعصب ... من زاوية جدلية1
عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانا متباينة من التعصب؛ فقد حفظ لنا الشعر معلومات هامة وقيمة عن التعصب القبلي، وسجل التاريخ - وما زال يسجل - حالات لا حصر لها للتعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات - وخاصة في عصرنا الحديث - ضروبا متعددة من التعصب العنصري أو العرقي، وفي هذه الحالات كلها كان التعصب يمثل انتماء زائدا إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء، وارتباطا بها يصل إلى حد الاستبعاد التام للآخرين أو كراهيتهم أو التعالي عليهم.
والواقع أن التعصب - بوصفه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان - يمكن أن يعالج بمناهج وأساليب متعددة، تبعا للزاوية التي نتأمله منها؛ ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية؛ في استطاعة هذه العلوم كلها أن تلقي أضواء كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان على إزالة هذه الغشاوة التي أعمت بصيرة البشرية ردحا طويلا من الزمان، ومع ذلك فإن المعالجة الفلسفية لهذه الظاهرة تستطيع أن تكشف عن جوانب خفية وأساسية منها، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة، ومن خلال مفاهيمه ومناهجه المميزة، فهناك إذن أبعاد لمشكلة التعصب أعمق من تلك التي تتناولها العلوم الخاصة، وحين أقول «أعمق» فلست أعني بذلك حكما تفضيليا ، بل إن كل ما أقصده هو العمق بمعناه الأصلي لا المجازي، أعني عمق القاع بالقياس إلى السطح، هذه الأبعاد العميقة التي تكمن من وراء كل معالجة علمية خاصة لمشكلة التعصب، تنكشف للتفكير الفلسفي وحده، ربما كان أصلح منهج يتبع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصب ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، وأعني به المنهج الجدلي أو الديالكتيكي .
إن التعصب - كما هو واضح - يتضمن عنصرين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها - سواء أكانت قبيلة أم وطنا أم مذهبا فكريا أو دينيا - أسمى وأرفع من بقية الفئات، والعنصر السلبي هو اعتقاده بأن تلك الفئات الأخرى أحط من تلك التي ينتمي إليها، وقد يبدو من الأمور البديهية أن يكون هذان العنصران متلازمين؛ إذ إن اعتقاد فئة معينة بتفوقها يعني آليا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدرا، ومع ذلك فإن هناك نوعا من التميز بين وجهي التعصب هذين، على الرغم من ارتباطهما الوثيق.
ذلك لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي؛ فالشخص المتعصب هو - قبل كل شيء - ذلك الذي يحتقر فئة معينة أو يتحامل عليها، صحيح أن هذا التحامل ينطوي ضمنا على اعتقاد بأنه أرفع من تلك الفئة التي يتحامل عليها، أو أنه بريء من نقائصها، ولكن هذا لا يعدو أن يكون اعتقادا مضمرا فحسب، وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، أو الاعتقاد بأنهم يتمتعون بمزايا يعجز المرء عن بلوغها، وعلى أية حال فإن كراهية الآخرين هي الصفة الغالبة على المتعصب، أما استعلاؤه بنفسه فهو صفة ثانوية، على الرغم من كونها نتيجة لازمة - في معظم الأحيان - عن كراهية الآخرين.
فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا إلى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الجانب الإيجابي في هذه العلاقة الجدلية لا يؤدي بالضرورة إلى التعصب، فتأكيد المرء لذاته أو اعتقاده بسمو الفئة التي ينتمي إليها، لا يترتب عليه بالضرورة ازدراء للآخرين، ولقد سمعنا كثيرا عن تلك الفلسفة التي تؤكد الأرستقراطية والاستعلاء، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهرا لا يتمشى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته؛ فالرفيع والنبيل حقا - عند نيتشه - لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم؛ لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين، ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات - في الفلسفات التي تنحو منحى ديمقراطيا - يزداد بالتكاتف مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم.
ومعنى ذلك أن الوجه الإيجابي في علاقة التعصب - وهو تأكيد استعلاء الذات - لا يمثل جوهر التعصب، وأن النظرة السلبية إلى الآخرين هي الطابع المميز لذلك النوع الشائع من الانحراف. •••
ولا جدال في أن تلك النظرة السلبية إلى الآخرين ترتكز على اعتقاد بوجود نوع من الشر الكامن فيهم، والذي يبرر به المتعصب تحامله عليهم، ولعل أول ما يطرأ بالذهن هو أن يبادر إلى الكشف عن زيف هذا الاعتقاد بوجود الشر في الآخرين، ويبحث عن أسباب نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، أو إيجاد منفذ لشعورهم هم أنفسهم بالإثم أو بالعجز أو بالإخفاق، ومن المؤكد أن ظاهرة التعصب تنطوي على شيء من هذا كله، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أعقد من أن تفسر من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يرتكز على القول بأن التعصب علاقة بين ظالم ومظلوم، وهذه العلاقة المعقدة لا يمكن التعبير عنها أو فهمها إلا من خلال منهج جدلي.
ولعل تعقد هذه العلاقة يتكشف بوضوح لو ضربنا لها مثلا مستمدا من بلد التعصب المتسق والمنظم، أعني من الولايات المتحدة؛ فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيرا من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، ويتجنبون الأحياء والمساكن التي يسكنها «الملونون»، مع أن بلادهم الأصلية تتخذ موقفا مستنيرا من مشكلة الاضطهاد العنصري، وتنتقد الأمريكيين البيض انتقادا مرا على تعصبهم، وحين أتيحت لي فرصة الاطلاع عن كثب على أحوال الزنوج، تكشف لي السبب بوضوح؛ فقد وجدت في حياتهم بالفعل عناصر منفرة، وكانت الأحياء التي يسكنونها أقذر من أحياء البيض إلى حد يدعو الاشمئزاز، كما كان مسلك الكثيرين منهم - على المستوى الشخصي - ينم عن قدر غير قليل من الانحلال.
عند هذا المظهر الانحلالي يتوقف التفكير الذي يسير في اتجاه واحد، فيحكم على الأقلية الزنجية بالشر الكامن، ويجد مبررا للتفرقة التي تمارسها الأغلبية البيضاء ضدها، ولكن التفكير الجدلي يستطيع أن يتوصل - من وراء هذا المظهر السطحي - إلى التعقد والتشابك الحقيقي الذي تنطوي عليه علاقة التعصب؛ فانحطاط الزنجي ليس سببا للتعصب ضده فحسب، بل هو قبل ذلك نتيجة لهذا التعصب، وممارسة التعصب تزيد من تدهور الجماعة التي يمارس ضدها التعصب، وبذلك تكتمل عناصر الحركة الجدلية في علاقة التعصب؛ إذ إن من يمارس الاضطهاد يعمل - عن وعي أو بغير وعي - على إبقاء من يضطهده في حالة يكون فيها جديرا بأن يضطهد، وكلما ازداد الاضطهاد وطال أمده، اشتد التدهور الذي يبرر الاضطهاد ويخلق له المعاذير، وازداد التباعد والاستقطاب بين طرفي علاقة التعصب.
ومثل هذا يقال عن شكل آخر من أشكال التحامل، هو اتهام الأقليات بالتقوقع والتساند والتكاتف فيما بينها على حساب تعاونها وتضامنها مع الأغلبية؛ ففي هذه الحالة بدورها تؤدي ممارسة الأغلبية للاضطهاد إلى رد فعل لدى الأقلية يتمثل في مزيد من الانطواء على ذاته والحرص الشديد على مصالح أفرادها، وهذا الحرص يدفع الأغلبية إلى مزيد من الاضطهاد، فتقابلها الأقلية بمزيد من الأفعال «الدفاعية» التي تزيد من كراهية الأغلبية لها، وهكذا تتوالى الحركة الجدلية حتى تصل إلى تضاد بين قطبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
فهل لا يوجد سبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهل يتحتم أن يظل طرفا هذه العلاقة في تباعد وتنافر يتزايدان بلا انقطاع؟ إن المنطق السليم يقنعنا بأن المشكلة ليست مما يستعصي حله، وبأن هذا الحل لا بد أن يبدأ بجهود تبذلها الأغلبية لا لأنها هي الأفضل، بل لأنها هي المسيطرة، وهي التي تملك زمام المبادرة؛ فمن الممكن أن تسير الحركة الديالكتيكية في الاتجاه العكسي، وأن يتضاءل التباعد والتنافر إذا خطت الأغلبية خطوة تقربها من الأقلية، وتعيد إليها ثقتها بنفسها، وعندئذ يحق لنا أن نتوقع خطوة مماثلة من الطرف الآخر، ويستمر التقارب باطراد، فيسحق في طريقه بذور التعصب. •••
إن من الشائع - عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب - أن يقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولا، وإن تعصب هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية، ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية، غير أن هناك حالات قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف؛ أعني حالات يبدأ فيها التعصب لدى الأقلية، وتضطر الأغلبية إلى القيام بردود فعل دفاعية ضدها، أو إلى ممارسة تعصب مضاد أشد وأعنف من التعصب الأصلي.
وقد شهد عصرنا الحاضر نموذجا فريدا لهذا اللون من التعصب في روديسيا وفي جنوب أفريقيا؛ حيث تمارس أقلية بيضاء من أصل أوروبي اضطهادا جماعيا شاملا ضد أغلبية أفريقية من سكان البلد الأصليين؛ ذلك لأنه على الرغم من وجود أوجه تشابه قوية بين هذا النوع من الاضطهاد العنصري وبين نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بينهما فارقا بنائيا لا يصح تجاهله، هو أن الأول تعصب عدواني من الأقلية تجاه الأغلبية، على حين أن الأغلبية في الحالة الثانية هي التي تمارس التعصب على أقلية مغلوبة على أمرها، ولا شك في أن تعصب الأقلية ضد الأغلبية أشد ألوان التعصب شراسة؛ إذ إن هذه الأقلية تدرك أنها - من الوجهة العددية على الأقل - في مركز الضعف، ومن ثم فهي تعوض ضعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالة لا تسمح لها بالانقضاض عليها، ومن هنا كانت أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر هي تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب أفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين.
على أن تاريخ اليهودية يمكن أن يعد مثلا صارخا - امتد عبر مئات طويلة من السنين - لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية، ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن - في أية حالة من الحالات - أقلية حاكمة مسيطرة على زمام الدولة كما هي الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب أفريقيا، وإنما كانت أقلية ضعيفة من الوجهة السياسية، ومع ذلك فقد كانت - وهي في حضيض الضعف - تمارس نوعا من الاستفزاز يدفع المجتمع الذي توجد فيه إلى اضطهادها رغما عنه.
ذلك لأن أسطورة شعب الله المختار - مهما قيل عنها - تقوم بدور حقيقي في التراث اليهودي، صحيح أن المستنيرين من أبناء هذا التراث يحاولون تفسيرها بمعان غير عنصرية، ولكن هناك شواهد قاطعة على أن هذه الأسطورة تكون جزءا لا يتجزأ من التكوين العقلي لليهودي العادي، وتدفعه إلى أنواع من السلوك لا بد أن تؤدي آخر الأمر إلى التصادم بينه وبين مجتمعه.
وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبش فداء» يفرغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الإخفاق - وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه في حالات معينة على الأقل - فإن وقوع الاختيار على الأقلية اليهودية بالذات طوال ألوف السنين لكي تكون «كبش الفداء» هذا؛ هو أمر يدعو إلى التأمل العميق، ويدفعنا إلى البحث عن جذور التعصب في هذه الأقلية ذاتها قبل أن نبحث عنها في المجتمع المحيط بها.
فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر رد فعل من جانب الأغلبية على الأقلية، إنه في حقيقته اضطهاد مضاد، أما الاضطهاد الأصلي فهو ذلك الذي تمارسه الأقلية اليهودية، وهو - بطبيعة الحال - اضطهاد صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضعف، ولكنه ينقلب إلى وحشية مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، كما هي الحال في مذابح فلسطين المشهورة. وعلى ذلك فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، لقلنا عنه إنه تعصب مضاد، أو إنه في معظم حالاته رد فعل، أما الفعل الأصلي والتعصب الأساسي، فيرجع إلى خرافات وأساطير استفزازية عنيدة على الدوام تكون جزءا لا يتجزأ عن التراث اليهودي.
ولعل أبلغ دليل على ما نقول هو أن اليهود - مهما كان مقدار ضعفهم في مجتمع ما - يرفضون الاندماج في هذا المجتمع، ويعدون هذا الاندماج علامة على انهيارهم، فيعملون على مقاومة هذا الانهيار بكل ما يملكون من قوة.
ذلك لأن الاندماج في الأغلبية والحصول على نفس حقوقها على قدم المساواة هو الحلم البعيد الذي تكافح من أجله الأقليات المضطهدة في جميع أرجاء العالم، وحسبنا شاهدا على ذلك كفاح زنوج أمريكا في سبيل المساواة في فرص العمل والتعليم والحقوق السياسية، وسعيهم الدائب من أجل أن يسمح لهم المجتمع بأن ينصهروا فيه ويكونون جزءا لا يتجزأ منه، أما في حالة الأقلية اليهودية فإن الاندماج يعد في نظرها أفظع الجرائم التي يمكنها أن ترتكبها في حق ذاتها، إنه خيانة للتراث اليهودي، وضياع لكل ما هو مميز «للشعب المختار»، ومن هنا كانت صعوبة التعامل مع الأقليات اليهودية، وحتمية تحول هذا التعامل إلى اضطهاد حتى في المجتمعات التي لم تكن تنوي ممارسة هذا الاضطهاد أصلا؛ إذ إن هذه المجتمعات لو منحت الأقلية اليهودية حقوقها المتساوية وعملت على إدماجها فيها وإذابتها ذوبانا تاما؛ لقوبل هذا الإدماج بمقاومة عنيفة منها، ولو تركتها تعيش على هامش الجماعة الكبيرة لارتفع صراخها بالشكوى من الاضطهاد!
وواقع الأمر أن وجود نوع من الإحساس بالظلم والاضطهاد كان - ولا يزال - جزءا لا يتجزأ من القوة الدافعة التي ساعدت اليهود على التماسك والاحتفاظ بتراثهم على مر العصور، وإذا وعينا هذه الحقيقة جيدا؛ لتبين لنا أن الوصول إلى تسوية نهائية على أساس التعايش السلمي مع دولة قائمة على أساس عنصري مثل إسرائيل، هو أمر يكاد يكون في حكم المستحيلات، ليس فقط بسبب الأطماع المتزايدة التي تنتمي إلى صميم بناء هذه الدولة، بل لأن قادتها يدركون أن حالة السلام الدائم هي أكبر خطر يمكن أن يتعرض له كيان الشعب اليهودي في إسرائيل؛ فهذه الحالة كفيلة بأن تقضي على الدينامية العدوانية النشطة لدى هذا الشعب، وتهدد تماسكه الداخلي وتضامنه مع الطوائف اليهودية في الخارج، وتمزق المتناقضات التي ينطوي عليها هذا التجمع المصطنع الذي لا يوحده إلا الشعور بالخطر، ولما كانت تصريحات القادة اليهود - على مر العصور - تكشف عن وعيهم المكتمل بهذه الحقيقة، فإننا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن بأن دولة مثل إسرائيل لن تكف عن إثارة القلاقل والمشاكل من حولها، حتى ولو تهيأت لها في المنطقة كل أسباب السلام، وذلك على الأقل من أجل الاحتفاظ بتماسكها وفاعليتها عن طريق الاحتفاظ بجذوة الإحساس بالخطر متقدة على الدوام.
وأخيرا فلعل أهم الأسئلة التي يثيرها التفكير الجدلي في ظاهرة التعصب، هو السؤال عما إذا كان التعصب منتميا إلى البناء الأعلى
superstructure
أو إلى البناء الأدنى أو الأساس
infrastructure ، أعني عما إذا كان التعصب ظاهرة تفسر بذاتها، أم لا تفهم إلا من خلال ظواهر أخرى أكثر أولوية منها؟
ونستطيع أن نقول - بوجه عام - إن التعصب كان يفسر بذاته في العصور القديمة التي كانت كل الأسس فيها خافية، وكانت الأبنية العلوية فيها هي كل شيء، أما في عصرنا هذا، عصر الكشف عن الأسس الخبيثة، وفضح الأسباب الحقيقية المستورة، فقد أصبح التعصب يرد دائما إلى أصول أخرى أسبق منه وأقدر على تفسيره.
ولقد قام علم النفس بدور هام في الكشف عن الجذور العميقة للتعصب في النفس البشرية، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن تفسيرات علم النفس ذاتها تعد - في نظر الكثيرين - منتمية إلى البناء العلوي، على الرغم من أنها تتركز على الجذور الخفية اللاواعية لظاهرة التعصب، أما البناء الأساسي الذي يقدم تفسيرا كافيا لهذه الظاهرة ، فهو في نظر هؤلاء البناء الاقتصادي؛ فالتعصب - تبعا لهذا التفسير - لا يعدو أن يكون مظهرا من بين مظاهر استغلال الإنسان للإنسان، سواء في المجتمع الزراعي أم في المجتمع الصناعي، إنه التبرير الأيديولوجي للاضطهاد الواقع على فئات معينة يستغل المجتمع طاقتها دون أن يمنحها حقوقها المشروعة.
وليس في وسعنا أن نجزم إن كان هذا التفسير صالحا للانطباق على كل حالات التعصب التي شهدها البشر على مر التاريخ، ولكن الأمر المؤكد هو أن النظرة الفاحصة إلى مظاهر التعصب في عالمنا المعاصر تقنعنا بأن هذا هو التفسير الأكثر انطباقا على الواقع الذي نعيش فيه؛ فالحكم على الزنوج بالدونية هو الذي يجعل الأغلبية البيضاء في أمريكا، والأقلية البيضاء في روديسيا وجنوب أفريقيا، تستغل عملهم بأبخس الشروط، وتبرر لنفسها ذلك بضمير مستريح.
والاعتقاد بأن الشعب اليهودي شعب مختار وعده الله منذ ألوف السنين بأرض فلسطين هو الذي يبرر للصهيونية طرد العرب من ديارهم واستغلال من بقي منهم أسوأ استغلال بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. •••
فإذا صح أن التعصب - في عالمنا المعاصر - هو في أساسه تبرير ظاهري لعلاقة الاستغلال التي تمارسها فئة قوية على فئة أخرى تحتل - لسبب أو لآخر - مركزا أسوأ، كانت النتيجة الحتمية المترتبة على هذا هي أن الكفاح ضد التعصب لا يمكن أن يكون كفاحا إصلاحيا يتم على مستوى الوعظ الأخلاقي، بل هو في أساسه كفاح أيديولوجي واجتماعي وسياسي يؤلف جزءا لا يتجزأ من إطار أوسع، هو نضال الإنسان المعاصر في سبيل التحرر من كافة أشكال الاستغلال.
مشكلة الكم والكيف والثقافة1
في 13 نوفمبر 1965م نشرت مجلة «الاشتراكي» مشروع دستور ثقافي، يستهدف توحيد فكر المثقفين حول قضايا أساسية، وفي المقال التالي يناقش المؤلف قضية رئيسية ورد ذكرها في المشروع المشار إليه، وهي قضية الكم والكيف في الثقافة. ***
لا أخفي على القارئ أنني فوجئت بالنص الذي تضمنه مشروع الدستور الثقافي - كما نشرته مجلة «الاشتراكي» - عن مشكلة الكم والكيف، وأعدت قراءة هذه الفقرة مرارا حتى أتأكد مما تضمنته من معان، ولا أخفي على القارئ أيضا أنني عندما قرأت أول عبارة تضمنها هذا المشروع حول هذه المشكلة - وهي «الرجعيون وحدهم هم الذين يدعون إلى تغليب الكم على الكيف في الأعمال الفنية» - كان إحساسي مزيجا من الدهشة والارتياح؛ أما الدهشة فلأن كثيرا من «الدساتير الثقافية» أو «المنشورات الفنية» أو ما يشابهها من البيانات التي تعلن مبادئ عامة يلتزمها المثقفون في عدد غير قليل من البلدان الاشتراكية، تتضمن تأكيدا عكسيا، أي إنها تذهب إلى أن الرجعيين هم الذين يدعون إلى تغليب الكيف على الكم. وأما الارتياح فلأن واضعي هذا المشروع لم يقعوا - لحسن الحظ - في هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الاشتراكيين في بلدان أخرى، وإنما حذرونا بأشد لهجة من الاعتقاد بأن الانتشار العددي للإنتاج الفني هو أمر أجدر بالاهتمام من ارتفاع مستواه من حيث النوع. •••
أما أن تغليب الكم على الكيف خطأ فادح يقع فيه كثير من الاشتراكيين في البلدان الأخرى، فذلك ما يتضح من الارتباط الوثيق الذي يقيمه هؤلاء بين كل ما له قيمة وكل ما هو شعبي، وهذا أمر يمكن أن يصدق على مجالات متعددة، ولكنه لا يصدق على مجال الفن والأدب والثقافة بوجه عام؛ فليس يكفي أن يكون العمل الفني منتشرا على نطاق شعبي لكي يكون عملا قيما؛ إذ إن هناك أعمالا لا يمكن أن يكون جمهورها كبيرا، ومع ذلك تعد أعمالا رفيعة بحق. وبعبارة أخرى فقد اعتقد كثير من الاشتراكيين أن شعبية العمل الفني هي دائما هدف ينبغي أن يتجه إليه الفنان، وحكموا بالتالي على الأعمال التي لا تلقى إقبالا واسعا بأنها انعزالية أرستقراطية، أي بأنها رجعية، وبذلك ربطوا بين الرجعية وبين تغليب الكيف على الكم.
غير أن من الإنصاف أن نقول إن السنوات الأخيرة شهدت تحولا كبيرا في تفكير نفس أولئك الاشتراكيين الذين أذاعوا هذه الدعوة، وكان الدافع الأول إلى هذا التحول ذلك العقم الفني الذي أدت إليه هذه النظريات؛ فقد أدى استهداف «الشعبية» غاية لكل عمل فني إلى تحول الفن إلى نوع من المخاطبة السطحية الساذجة للجماهير في صورة دعاية صريحة مضمونها سياسي وشكلها بعيد في أغلب الأحيان عن الفن الصحيح؛ لذلك اتجهت الدعوة في السنوات الأخيرة إلى تحقيق المزيد من التوازن بين مطلب التوجيه السياسي ومقتضيات الشكل الفني السليم، والتخلي تدريجا عن النظرة «الكمية» إلى الفن والأدب في سبيل الاعتراف بأهمية الكيف وقيمته.
والأمر الذي لا شك فيه أن واضعي مشروع الدستور الثقافي قد أفادوا من تلك التجربة التي مرت بها بلاد أخرى سعت من قبلنا إلى ربط الفن بالهدف الاجتماعي الذي تخطته الدولة نفسها، ولكنها تخبطت وتعثرت في البداية، فكان من الطبيعي أن نعمل نحن على تجنب تكرار هذا التخبط والتعثر في تجربتنا الخاصة، وأن نؤكد منذ البداية أن معيار الحكم على سلامة العمل الفني هو نوعه ومستواه لا مقدار انتشاره.
ومعنى ذلك أن دعوتنا إلى جودة العمل الفني والاهتمام بالكيف قبل الكم ليست ردا على الرجعيين الهدامين فحسب، بل هي أيضا رد على كثير من التقدميين من أصحاب النظريات غير الناضجة في الفن، ومن هنا لم يكن الرجعيون «وحدهم» هم الذين يدعون إلى تغليب الكم على الكيف في الأعمال الفنية، وكان لا بد لنا أن نحدد موقفنا في هذا الصدد بأنه يرتفع عن مستوى النظرة النفعية المادية التي تسود لدى الرجعيين من جهة ومستوى النظرة السطحية الدعائية التي تسود لدى بعض التقدميين من جهة أخرى. •••
وفي اعتقادي أن قضية الكم والكيف في الفن والأدب هي قضية تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه إصدار حكم عام بشأنها إلا إذا قمنا بتحديد دقيق للمجال الذي تنطبق عليه، ولما كان لكل عمل فني طرفان أساسيان على الأقل: أولهما خالق العمل الفني نفسه؛ أعني الفنان أو الأديب. وثانيهما متذوق ذلك العمل؛ أعني الجمهور الذي يوجه إليه العمل، فلا بد في رأيي من معالجة منفصلة لقضية الكم والكيف بالنسبة إلى الفنانين الخالقين من جهة، وبالنسبة إلى جماهير المتذوقين من جهة أخرى.
ولنبدأ أولا ببحث المشكلة من زاوية الفنان أو الأديب الخالق، عندئذ تتخذ المشكلة طابع الإنتاج المستمر الذي لا ينقطع من جانب فئة محدودة من المؤلفين، ولهذه الظاهرة أسباب متعددة، منها افتقار الميدان الفني والثقافي إلى العدد الكافي من المنتجين الخلاقين، ومنها الرغبة في الحصول على مجد أو ثراء شخص عن طريق تضخيم الإنتاج وزيادة كميته، وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فلا جدال في أن من أوضح العيوب التي ينبغي أن نعمل على تلافيها في الحقل الثقافي بكل فروعه، نزوع الكثير من المشتغلين في هذا الحقل إلى الإكثار من إنتاجهم دون أن يلقوا بالا إلى نوع هذا الإنتاج أو مستواه.
فما زال عدد غير قليل من المثقفين يقيس قدرة المؤلف في أي ميدان بمقدار إنتاجه، وما زال كثير من المؤلفين يظنون أن غمر الأسواق بإنتاجهم هو أفضل وسيلة تضمن لهم الشهرة وعلو المكانة في الأوساط الأدبية؛ ففي مجال التأليف نرى الكاتب يفخر بعدد ما ينتج أكثر مما يباهي بمستوى إنتاجه، ونرى مؤسسات تتخذ لنفسها شعارات «كمية» خالصة لا تخدم الثقافة الحقيقية في شيء. وفي ميدان الترجمة يقتصر الإنتاج على عدد قليل يكاد أفراده يحتكرون هذا الميدان الحيوي ولا تتاح لغيرهم فرصة الإنتاج فيه، حتى أصبح من أعقد مشكلات الترجمة تزاحم الأعمال على هذه القلة المحدودة وما يستتبعه ذلك من ضعف في مستوى إنتاجها، أما في الميادين الفنية على التخصص - كالتمثيل والموسيقى والسينما - فإن هذه المشكلة أوضح وأفدح بكثير؛ إذ إن الوجوه المعروفة تتكرر على الدوام، وما دام إنتاجها مطلوبا بلا انقطاع فإنها لا تبذل أية محاولة جادة لتنويع أسلوبها أو تجديد فنها أو النهوض بمستواها، بحيث يمكن القول إن هناك احتكارا حقيقيا للإنتاج الفني في هذا المجال، يؤدي إلى زيادة إنتاج البعض إلى حد الإفراط الشديد، وعجز البعض الآخر عن الحصول على «جواز مرور» يتيح لهم اختراق الحاجز الكثيف الذي فرضه الأولون على الميدان الفني.
ولا جدال في أن الأمور ستظل تسير على هذا النحو إلى أن تتسع قاعدة الإنتاج الأدبي والفني إلى الحد الذي يكفي لاستبعاد العناصر الضعيفة أو المستغلة من هذا المجال، فلا سبيل إلى القضاء على هذا الطوفان الكمي الذي تقتصر على إنتاجه فئة محدودة إلا بأن يزيد عدد المشتغلين في ميدان الفن والثقافة بوجه عام، بحيث لا يعود الإنتاج الهزيل قادرا على الصمود في الميدان، ويتجه الفنانون والأدباء تلقائيا إلى إتقان عملهم «كيفيا» حتى يكتب له البقاء، أما إذا ظل الميدان مقتصرا على فئة قليلة، فإن الإلحاح المستمر على أفرادها وخلو الميدان من المنافسة الحقيقية يدفعهم حتما إلى الابتذال، ويؤدي إلى خفض مستوى مقاييسهم على الدوام، على أن اتساع قاعدة الإنتاج في المجالات الثقافية مرتبط أوثق الارتباط بالأحوال الاجتماعية العامة للبلاد، بحيث يمكن القول إن النهوض في هذا الميدان لا يمكن أن ينفصل عن النهوض الحقيقي في المرافق التي تتحكم في حياة المجتمع، ولا سيما في جانبها الثقافي. وبعبارة أخرى فظاهرة تغليب الكم على الكيف من وجهة نظر الفنانين أو الأدباء، ليست ظاهرة منعزلة، وإنما هي ظاهرة وثيقة الارتباط بعوامل تزداد عمومية بالتدريج حتى تنتظم المجتمع بأسره. •••
أما الوجه الآخر من مشكلة الكم والكيف في الثقافة، فهو ذلك الذي يتعلق بالجمهور، أو بمن يتجه إليهم العمل الفني، ومن الواجب أن نشير منذ البداية إلى الصلة الوثيقة بين هذا الوجه والوجه السابق؛ إذ إن ضعف حساسية الجمهور يشجع الفنان على الابتذال ويهبط بمستوى إنتاجه، كما أن هبوط مستوى الفنان يؤدي بدوره إلى زيادة ضعف الحساسية الفنية للجمهور وإفساد الأذواق فيه، ومثل هذا يقال بطبيعة الحال عن التأثير المتبادل بين ارتفاع مستوى الفنان وارتفاع مستوى جمهوره. وإذن فهذان الوجهان للمشكلة مرتبطان أوثق الارتباط، ومن المستحيل تصور أحدهما منفصلا عن الآخر.
إن الأمر المشاهد فعلا هو أن كثيرا من الأعمال الفنية والأدبية الضعيفة تلقى رواجا كميا هائلا، صحيح أنه قد يظهر - من آن لآخر - عمل فني كبير يلقى رواجا ضخما بين الجمهور، غير أن من السهل تحقيق رواج أكبر بعمل تافه مبتذل، ولهذه الظاهرة تعليلات واضحة؛ ذلك لأن العمل قد يتعمد إثارة غرائز الجماهير كما في القصص الجنسية الصريحة أو أغاني «الصالات» بما فيها من تصريحات أو تلميحات، وقد يقدم ذلك العمل إلى الجمهور وسيلة يروح بها عن نفسه ويضيع بها وقت فراغه، كما في حالة أفلام الجريمة والروايات البوليسية، والأهم من هذه الأسباب كلها أن العمل التافه لا يقتضي إلا مجهودا ذهنيا ضئيلا، ومن هنا كان من السهل انتشاره بين أكبر عدد ممكن من الناس، ولكي يتضح للقارئ معنى هذه النقطة الأخيرة، فما عليه إلا أن يقارن بين حالة جمهور المستمعين إلى أغنية سطحية أو قطعة موسيقية خفيفة راقصة، وبين حالتهم عندما يستمعون إلى فن موسيقي رفيع، إنهم في الحالة الأولى يستمعون وهم يتحدثون أو يأكلون، وقد يرددون الأنغام من آن لآخر خلال انشغالهم بأعمال أخرى بعيدة عن حالة التذوق الفني كل البعد، أما في الحالة الثانية فلا بد لهم من التركيز والانصراف عن أية مشاغل أخرى، ولا بد لهم من أن يهبوا أنفسهم للعمل الفني ولا ينشغلوا إلا به، وهذا أمر يحتاج إلى جهد غير قليل، وإذا كان من الصحيح أن هذا الجهد يقدم إلى المتذوق جزاء ومكافأة كبرى في صورة ممتعة فنية أرفع وأعمق بكثير من تلك التي يوصله إليها العمل السطحي، فإن من الصحيح أيضا أن هذه الآفاق البعيدة للمتعة الجمالية بما تقتضيه من جهد وتركيز ذهني لا تتيسر للجميع؛ إذ إن الجزء الأكبر من الناس يؤثرون الراحة ويفضلون متعة سطحية بجهد قليل على متعة عميقة بجهد كبير، ومن هنا كان رواج الأعمال المبتذلة وانتشارها بين الجماهير على أوسع نطاق.
وإذن فالواقع نفسه يثبت أن الثقافة التي يغلب فيها الكم على الكيف، هي ثقافة لا تدافع عن أية قيمة إنسانية شريفة، وإنما ثقافة تخدر حواس الإنسان وتشل تفكيره وتجذب خياله إلى مجال أحلام اليقظة، وتبدد طاقته في أمور لا تجديه ولا تسهم في تقدم حياته، والواقع نفسه يشهد بأن مثل هذه الثقافة - إن كانت تستحق هذا الاسم - هي التي تزدهر وتنتشر حين تكون القيم التجارية هي وحدها المتحكمة فيما يقدم إلى عقول الناس وأرواحهم من إنتاج فني وأدبي، أما الثقافة الرفيعة فلا بد لكي تزدهر من حماية ورعاية يكفلها سيادة قيم إنسانية تعلو على دوافع الربح وتتجاوز مقتضيات السوق وعوامل العرض والطلب. وبعبارة أخرى، فهناك ارتباط لا يمكن إنكاره بين القيم الرأسمالية وبين ثقافة الكم من جهة، وبين القيم الاشتراكية وثقافة الكيف من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن هذه هي النغمة الرئيسية التي تتردد في مشروع الدستور الثقافي، فإن هناك مبادئ معينة تبدو - في ظاهرها - متعارضة مع هذه النغمة الرئيسية، أي إنها تنطوي على نوع من الدفاع عن الكم أو تغليبه على الكيف، ولكن التحليل الدقيق لهذه المبادئ يثبت أن هذا التعارض ظاهري فحسب، وأن من الممكن إدماج هذه المبادئ ضمن القاعدة الرئيسية - وهي تغليب الكيف على الكم - دون أي تناقض.
أما المبدأ الأول:
فهو قبول الفن الدعائي - ذي الأهداف الواضحة المباشرة - في الريف، وذلك - كما جاء في مشروع الدستور - من أجل تخليص الفلاح من عادة سيئة، أو غرس مادة طيبة في نفسه أو محيطه، مثل هذا الفن هو بطبيعته فن كمي، يضحى فيه بالكيف في سبيل ضمان نشر المعاني المتضمنة فيه على أوسع نطاق ممكن، غير أن لهذه التضحية طابعا مؤقتا، ولا بد أن ينتهي الأمر - على المدى الطويل - إلى عودة الاهتمام بالكيف، والعمل على رفع مستوى الشكل الفني إلى جانب المضمون. وعلى أية حال فإن هذا النوع من التوسع الكمي يختلف كل الاختلاف عن ذلك النوع الآخر الذي استهدف المشروع محاربته؛ فليس الهدف من التوسع في هذه الحالة تخدير الجماهير أو تضليلها أو إبعادها عن أهدافها الحقيقية، وإنما هو يرمي - على العكس من ذلك - إلى زيادة وعي الجماهير وتنبيهها إلى حقوقها المشروعة، وهكذا يمكننا أن نتصور - في هذه المرحلة المؤقتة - نوعا من الفن الذي يعتمد على الكم قبل الكيف، دون أن يكون ذلك الفن رجعيا على الإطلاق.
وأما المبدأ الثاني:
فهو مستمد من ضرورة وجود معنى لكل عمل فني، بحيث يخاطب ذلك العمل بيئة معينة، ويعبر عن مجتمعه مثلما يعبر عن الفنان الخالق له، وقد عبر مشروع الدستور فن هذا المبدأ في نهاية الفقرة السادسة من المبادئ العامة، فقال: «ولهذا فإن الأعمال الفنية التي تخاطب أعدادا كبرى من الناس، وتحظى برضاهم أو اهتمامهم، هي بالضرورة أفضل من أعمال أخرى أقل منها جمهورا، وذلك شريطة أن تجذب الأعمال الفنية جمهورها دون ابتذال أو تملق الغرائز، أو تضحية بهدف الفن الدائم، وهو الحق والخير والجمال.»
ومن المؤكد أن العبارة السابقة تثير عديدا من الإشكالات، فهي تفترض إمكان وجود أعمال فنية رفيعة المستوى، ليس فيها ابتذال أو تملق الغرائز، ولكنها مع ذلك ترضي جمهورا كبيرا، وهي تضع نوعا من المعيار الكمي - هو رضا الجمهور - للتفضيل بين الأعمال الفنية التي تشترك في الصفات السابقة، وإذا أمكن وجود مثل هذه الأعمال الفنية ذات المستوى الرفيع، وكان في وسع هذه الأعمال أن تخاطب أعدادا كبرى من الناس فتجد منهم استجابة ورضاء واهتماما، فعندئذ لن تعود مشكلة الكم والكيف قائمة، ولن يصبح في وسع تجار الثقافة أن يغرقوا الأسواق بإنتاجهم المبتذل، ما دام هناك إنتاج رفيع يرضي الجموع الكبيرة من الجماهير.
وهذا يؤدي بنا إلى نقطة أعتقد أنها على جانب عظيم من الأهمية، وعن طريقها يمكننا رفع التناقض الذي أشرنا إليه من قبل، تلك هي أن المثل الأعلى للثقافة وللتربية الفنية والأدبية هي إزالة التعارض بين الكم والكيف، أعني الوصول إلى حالة تستطيع فيها الجموع الكبيرة من الجماهير تذوق أرفع أنواع الإنتاج الفني، بحيث يكون أجمل الأعمال الفنية هو في الوقت نفسه أوسعها انتشارا، وبحيث لا يلقى العمل المبتذل استجابة على الإطلاق، وهذا دون شك هدف بعيد يصعب تحقيقه، ولكنه مع ذلك هدف ينبغي أن يضعه مخططو الثقافة نصب أعينهم على الدوام؛ لأنه هو الأمنية التي يتجه كل مجتمع اشتراكي أصيل إلى تحقيقها بكل قواه.
فالتعارض الشديد بين الكم والكيف مرتبط - دون شك - بنوع من التخلف الثقافي، تكون فيه القلة أو الصفوة هي وحدها القادرة على تذوق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبية العظمى من الناس عاجزة عن الاستمتاع إلا بالأعمال السطحية المبتذلة، وفي مثل هذا المجتمع المتخلف ثقافيا تتخذ مشكلة الكم والكيف صبغة حادة، ويكون الباب مفتوحا على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الجماهير بثقافة سطحية تتملق غرائزهم أو تخدر عقولهم، وكلما ازداد نصيب المجتمع من الثقافة أو نصيب الثقافة من اهتمام المخططين الاجتماعيين؛ خفت حدة التعارض بين الكم والكيف، واتجها إلى التقارب التدريجي حتى ينتهي بهما الأمر إلى الاتحاد في المجتمع المثقف بالمعنى الصحيح، فلو تصورنا مثلا مجتمعا يكون التعليم الثانوي فيه إلزاميا لكل الفلاحين ، ويكون التعليم العالي أو الجامعي من نصيب فئة كبيرة من العمال الصناعيين، فسوف يكون في وسع الأعداد الكبيرة من الجماهير في مثل هذا المجال أن تستمتع بأعمال على مستوى شكسبير ودستويفسكي وبلزاك، ويصبح مدى إقبال الناس على العمل الفني عندئذ معيارا لقيمة هذا العمل في ذاته، وصحيح أن هذا مجتمع فرضي يصعب تحقيقه في ظروف الحرب الباردة والتسلح التي تقف حائلا بين عالم اليوم وبين توجيه الاهتمام الكافي إلى تنمية الثقافة وغيرها من الجوانب المعنوية في حياة الإنسان، ولكن من الواجب أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا، وندرك أن الهدف النهائي لجهودنا في هذا الميدان ينبغي أن يكون عبور الهوة بين الكم والكيف ورفع التناقض بينهما، والوصول إلى الحالة التي يصبح فيها أرفع أنواع الفن هو أكثرها انتشارا بين جموع الناس.
ولعل القارئ قد أدرك - من خلال المناقشة السابقة لمشكلة الكم والكيف في الثقافة - أن المسئولية الكبرى عن حل هذه المشكلة - في المجتمع الاشتراكي - لا بد أن تقع على عاتق الحكومة، صحيح أن المشروع الذي نناقشه موجه أساسا إلى الفنانين أنفسهم، ولكنه في الوقت ذاته يمثل نوعا من الدستور الثقافي الذي يحدد دور الفن والأدب في المجتمع الاشتراكي، كما يحدد موقف المجتمع الاشتراكي - ممثلا في حكومته - من الفن والأدب، وإذا كان من المفيد أحيانا أن نتوجه إلى الفنانين بالنداء حتى يهتموا برفع مستوى أعمالهم قبل اهتمامهم بكثرة الإنتاج أو وفرته، فإن مثل هذه الفوائد تتضاءل إلى جانب النفع العظيم الذي يمكن أن يجنيه الأدب والفن لو وضع الإطار التنظيمي الذي يكفل تحقيق هذا الهدف، ولو توافرت الشروط الموضوعية التي تضمن الاهتمام بالكيف قبل الكم أو معه، بحيث لا تعود المسألة متوقفة على إرادة الفنانين أو استجابتهم فحسب، بل يصبح الجو الفكري ذاته هو الذي يحتم حدوث هذا التحول الأساسي، وفي اعتقادي أن على الحكومة - في سبيل تحقيق هذا الهدف - واجبا عاجلا وواجبا آجلا، كليهما لا بد منه لضمان الحل الصحيح لمشكلة الكم والكيف.
أما الواجب العاجل فهو تهيئة الظروف التي تجعل الإنتاج الفني والأدبي مستقلا عن مطالب السوق ومقتضياته؛ ذلك لأن مركز الفن في المجتمع - بوصفه سلعة تسري عليها قوانين السوق - هو الذي يؤدي إلى الاستغلال الرأسمالي وإلى كل الأضرار الأخرى المترتبة على تطبيق مبدأ الربح على مجال الإنتاج الفني. ومن هنا كان تشجيع الدولة للفنانين والأدباء على رفع مستوى إنتاجهم، وتعويضها إياهم عن الخسارة المادية التي يمكن أن يلحقها بهم عرض هذا الإنتاج الرفيع في السوق؛ ضرورة حتمية من أجل ترجيح كفة الكيف على الكم، وفضلا عن ذلك فإن رعاية الدولة أساسية حتى لا يضطر الفنان - جريا وراء لقمة العيش - إلى التبذل والإسفاف والهبوط عمدا بمستوى فنه لإرضاء مطالب السوق، وربما كان الأهم من هذا وذاك أن الدولة وحدها - بما لها من إمكانيات ضخمة ومن نظرة موضوعية إلى الأمور - هي وحدها القادرة على الأخذ بيد الفنانين الناشئين وتشجيعهم على الوقوف إلى جانب مشاهير الفنانين، وبهذا وحده تتسع قاعدة الإنتاج الفني إلى الحد الذي لا يعود من الممكن معه احتكار فئة محدودة للإنتاج وإغراقها للسوق بأعمال متلهفة تفتقر إلى الصقل والنضج.
وأما الواجب الآجل فهو الاهتمام العام بالثقافة بوصفها جزءا من النهضة الاجتماعية الشاملة؛ فبهذه النهضة وحدها تجد مشكلة الكم والكيف حلها الصحيح، وهو - كما قلنا - أن تزول الهوة بينهما، ويلقى أرفع الأعمال الفنية أكبر استجابة من الجماهير العريضة، وهذا هدف لا يخطر بالذهن إمكان تحقيقه إلا في المجتمع الاشتراكي، حيث يربط التخطيط بين كل مظاهر حياة المجتمع في وحدة واحدة، ومن هنا كان الحل الصحيح لمشكلة الكم والكيف - في رأيي - هو أن نعمل على إلغاء هذه المشكلة بإنهاض المجتمع تدريجيا إلى المستوى الذي يكفل رفع ملكة التذوق الثقافي لدى الجماهير الكبيرة من الناس، أما المشكلة بوضعها الحالي - أعني مشكلة وجود تعارض بين الكيف والكم، وانتشار الأعمال التافهة على أوسع نطاق ممكن، واقتصار الأعمال الرفيعة على جمهور ضئيل بحيث يتحتم حمايتها من طغيان الرغبة في الكسب المادي - فهي مشكلة ترتبط أساسا بنوع من التخلف الثقافي يتحتم على المجتمع الاشتراكي أن يكرس كل جهوده للقضاء عليه.
حديث عن الشباب والثقافة1
كان الحافز لي إلى كتابة هذا المقال موضوعا كتبته فتاة فرنسية في السابعة عشرة من عمرها، لا تزال طالبة بالمرحلة الثانوية؛ فقد دأبت مجلة «ألفيجارو الأدبية» على نشر أفضل موضوعات الإنشاء (أو التعبير) التي يكتبها طلبة البكالوريا الفرنسية (الثانوية العامة)، وكان العدد الذي وقع في يدي من هذه المجلة يضم ثلاثة موضوعات لطلاب يمتحنون في مجموعات مختلفة، كان الموضوع الأول بعنوان: «هل يمكن أن نقبل - بلا تحفظ - الرأي القائل إن العمل مصدر الثروة؟» والثاني: «هل يكفي أن يكون لدى المرء منهج لكي يجري بحثا علميا؟» والثالث: «هل نحن أدوات في يد التاريخ أم نحن صانعوه؟»
ولقد كان النضج والتعمق الذي عالج به شبان في مرحلة المراهقة موضوعات معقدة كهذه أمرا يدعو إلى الدهشة حقا؛ فقد كانت كتابتهم على مستوى المفكرين الكبار، بحيث يستحيل أن يبدي المرء نحوهم إعجابا نسبيا، يأخذ فيه أعمارهم الصغيرة بعين الاعتبار، ويعدهم متفوقين بالقياس إلى الشباب في مثل سنهم، بل إن المرء لا يملك إلا أن يعجب بعمق الثقافة ودقة التفكير والتخيل ناسيا تماما أنه إزاء مراهقين صغار.
وسيجد القارئ في الجزء الأخير من هذا المقال ترجمة كاملة لثالث هذه الموضوعات، أقدمها مهداة إلى شبابنا الذين نضع أملنا في المستقبل بين أيديهم، ولكنني لا أود أن أعرض عليهم هذه الترجمة إلا بعد أن أقف معهم، ومع كل من تهمه قضايا الفكر والثقافة والشباب في بلادنا؛ لنناقش بهدوء بعض المشكلات التي أثارتها في ذهني قراءة هذه الموضوعات. •••
لقد دأب جيل الكبار في بلادنا على اتهام الشباب بالتقصير في التزود بالعلم والثقافة، وربما كان قدر كبير من هذا الاتهام راجعا إلى رغبة الكبار في تمجيد جيلهم والإشادة بفضله، لا بدافع الاستعلاء فحسب، بل بدافع التشبث بالماضي الذي يعني بالنسبة إليهم أكثر مما يعني الحاضر، ورغبة في الدفاع عن النفس والتمسك بأهداب الزمن الذي ينقضي رغما عنهم، ولا يكف عن الإفلات من قبضة يدهم.
وأنا من المؤمنين بأن الشباب في كل بلد هو على ما يريده الكبار أن يكون، إنهم أبناء جيل الكبار، والآباء - في معظم الأحيان - هم المسئولون عما يلحق بأبنائهم، وكما أن من الأمور المثيرة للسخرية أن يعيب الأب على طفله الصغير - الذي لم تتح له بعد فرصة الاندماج في أي عالم سوى عالم أسرته المباشرة - تفوهه بألفاظ غير لائقة، أو اكتساب عادات سلوكية قبيحة؛ لأن هذه العادات وتلك الألفاظ لم تستمد - في واقع الأمر - إلا من الآباء أنفسهم، فكذلك يكون من قبيل الظلم والعجز عن فهم الأمور أن يعيب الجيل الأقدم على الجيل الأحدث أمورا لا يمكن أن يكون الجيل الأحدث قد اختارها لنفسه، بل لا بد أنه تلقاها على هذا النحو ممن في يدهم مقاليد أموره.
فقبل أن نصدر أي حكم على موقف الشباب من العلم ومن الثقافة الجادة، ينبغي علينا - نحن الكبار - أن نسائل أنفسنا، هل وفرنا لأبنائنا الجو الذي يكفل إقبالهم على المعرفة وسعيهم إلى توسيع آفاق عقولهم؟ هل أنشأنا لهم المدارس الكافية؟ هل قدمنا إليهم برامج تعليمية تساعد على إثارة حب العلم في النفوس؟ هل عهدنا بهذه البرامج إلى معلمين أكفاء يفهمون التعليم على أنه زيادة قدرة العقول على فهم الأمور لا حشوها بمعلومات فجة؟ هل زودنا مدارسهم بمكتبات كافية، ونمينا فيهم حب القراءة والاطلاع؟ هل استطعنا أن نفصل بين الرغبة في التعلم والرغبة في التخلص من ذلك الشبح المخيف؛ شبح الامتحان؟ هل تقوم وسائل الإعلام لدينا بدورها في نشر الثقافة وتشجيع الأجيال الجديدة على أخذ أمور حياتها مأخذ الجد؟ وربما كان الأهم من ذلك كله، هل استطعنا - نحن الكبار - أن نخلص أنفسنا من السطحية والجري وراء المصالح، وأن نضرب لأبنائنا مثلا صالحا في احترام العلم والثقافة؟
تلك بعض الأسئلة التي لا بد أن تؤدي الإجابة عنها إلى تذكير كل من يوجه الاتهام إلى الشباب بكلمة المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر! فنحن في واقع الأمر ندين أنفسنا كلما اتهمنا شبابنا بالتقصير في طلب العلم والثقافة، ولن يكون لهذا الاتهام أساس إلا لو كان جيل الكبار قد أدى بالفعل واجبه كاملا نحو الجيل الذي سيحمل الأمانة من بعده.
على أنني لا أملك - برغم كل هذه العوامل - إلا أن أقرر بعض الحقائق، وأعقد بعض المقارنات، يدفعني إلى ذلك اعتباران: أولهما أن في استطاعة المرء أن يقوم بمهمة التشخيص، ويعدد العيوب وينبه إليها، دون أن تقترن بذلك التشخيص إدانة أو يترتب عليه لوم للشباب أنفسهم؛ فمع الاعتراف الكامل بمسئولية المجتمع ككل - تحت قيادة جيل الكبار - عن جوانب النقص التي يعاني منها الشباب، ينبغي التنبيه بكل قوة إلى هذه الجوانب، وتبديد ذلك الوهم الكبير الذي يجعلنا ميالين دائما إلى تصوير أمورنا كما لو كانت على خير ما يرام.
أما السبب الثاني والأهم فهو أن من وراء كل حتمية في المجال الإنساني قدرا معينا من التلقائية والاستقلال عن التحديد الدقيق، وحين نطبق هذا الحكم على مجال الشباب، نجد أن لدى الشباب - من الوجهة النظرية - القدرة على التحرر من القيود التي فرضتها عليهم أخطاء الكبار، أو على تجاوز الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وذلك في حدود معينة على الأقل، هذا القدر من التلقائية هو الذي يتحقق به التقدم، وهو الذي يجعل كل جيل يضيف جديدا إلى الجيل الذي سبقه بالرغم من تحكم هذا الجيل السابق في مصيره، وباسم هذه التلقائية ينبغي أن يتحمل الشباب نصيبهم من المسئولية عن تكوين أنفسهم، مع اعترافنا الكامل بأن الكبار لم يتحملوا القدر الخاص بهم من هذه المسئولية تحملا كاملا.
ولقد كان الشباب أنفسهم هم الذين طالبوا بهذه المسئولية، واعترفوا بوجود هذا القدر من التلقائية في سلوكهم، حين أكدوا - في مجتمعات كثيرة - أن الكبار لم يعودوا يصلحون لإدارة دفة هذا العالم الذي يسير على حافة الهاوية، وحين فرضوا - بتصرفاتهم العملية - مفهوم «الفجوة بين الأجيال» على باحثي العلوم الاجتماعية، وجعلوا منه إطارا أساسيا تفهم من خلاله العلاقة بين جيل الشباب وجيل الكبار في العالم المعاصر، هذه «الفجوة» إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الجيل الجديد يشعر بقدر متزايد من الاستقلال عن الجيل القديم، ولا يقبل أن يعتبر نفسه مجرد «ضحية» لأخطاء الجيل السابق، أي إنه لا يقبل الاعتراف بالحتمية التي يتحكم بموجبها القديم في الجديد، ويؤكد أن لديه قدرة - تتزايد جيلا بعد جيل - على أن يشكل حياته بنفسه، ويأخذ مقاليد أموره بين يديه، على الرغم من أن الكبار هم الذين يتخذون القرارات الحاسمة المتعلقة به، وهم الذين يملكون سلطة تنفيذها.
في ضوء هذه التلقائية وهذه المسئولية التي هي مطلب أساسي للشباب أنفسهم، يحق لنا أن نحاسب شبابنا على ما يبذلون من جهود في الميدان الثقافي ونحن آمنون من أن يوجه إلينا ذلك الاعتراض الصارخ: «وما ذنبنا نحن إذا كنتم أنتم - أيها الكبار - المتحكمون في مصيرنا؟»
لعل أوضح مظاهر ثقافة الشباب في أيامنا هذه، تلك الظاهرة التي أحب أن أطلق عليها اسم «العطاء قبل الأخذ»، وإنا لنعلم جميعا أن هذه صفة محمودة في مجال العلاقات الإنسانية، لا سيما وأنها هي بعينها شيمة كل من يتصف بالكرم والسخاء، ولكن مثل هذا الكرم ينقلب إلى شيء مذموم في الميدان الثقافي؛ إذ إنه يعني أن يقدم الإنسان إلى الآخرين زادا ثقافيا في الوقت الذي يكون فيه هو ذاته ما زال محتاجا أشد الاحتياج إلى مثل هذا الزاد.
وفي اعتقادي أن من له صلة بميدان النشر - سواء أكان ذلك نشر الكتب أم المقالات - هو أقدر الناس على أن يلمس هذه الصفة في الأجيال الجديدة من المثقفين؛ ففي حالات عديدة - ولا أقول في كل الحالات بالطبع - يجد المرء لدى هذه الأجيال ميلا طاغيا إلى التعجل بتقديم إنتاج هو أبعد ما يكون عن النضج، ولا مفر عندئذ من أن تترتب على هذا التعجل الشديد آفات كل منها أخطر وأفدح من الأخرى.
فهناك فئة كاملة من المثقفين تكاد صلتها الوحيدة بالثقافة العالمية أن تقتصر على قراءة تلك الترجمات الشوهاء المبتورة المتخلفة التي يغرق بها الأسواق ناشرون لا يعبئون في عملهم بشيء سوى الربح - والربح وحده - في عواصم عربية معروفة، وكثير من أفراد هذه الفئة يتسابقون إلى النشر وهم لا يملكون من حطام الدنيا إلا فتات من المعلومات صيغت بأسلوب عجيب كاد أن يصبح - في أيامنا هذه - لغة قائمة بذاتها، لها مصطلحاتها وتركيباتها وتعبيراتها المحفوظة المتداولة، وهكذا لم يعد من المستغرب في أيامنا هذه أن نجد كاتبا يتحدث عن شكسبير وهو لم يقرأ له عملا واحدا قراءة كاملة في لغته الأصيلة، أو تجد مجموعات من المثقفين يعالجون كل مشكلات العالم من وجهة نظر ماركسية وهم لم يقرءوا في حياتهم نصا واحدا لماركس بلغة أجنبية ترجمت إليها أعماله ترجمة علمية أمينة، أما هيجل وسارتر فالكل يتكلم عنهما، بل ويكتب عنهما، ولكن من قرأ لهما نصوصا أصلية لا يعدون على الأصابع، وأصبح من الشائع في الجو الثقافي أن يتكلم الناس بجرأة شديدة عن أهم الشخصيات وأخطر المشكلات دون أن يكون لديهم أي إلمام بها إلا عن طريق مصادر الدرجة الثالثة التي أصبحت - بفضل الأسلوب المشوه والفهم المبتور - ثالثة مخفضة، والأخطر من ذلك أن أحدا لم يعد يرى في ذلك أمرا مستغربا، بل أصبح شيئا مقبولا يكاد يرقى إلى مرتبة المسلمات.
ومن الطبيعي أن تؤدي سطحية الثقافة من ناحية، والرغبة الملحة في النشر من ناحية أخرى، إلى انتشار صفات مذمومة كان المفروض أن يترفع عنها الشباب وهم في مرحلة المثاليات والمبادئ الرفيعة، فأمثلة الاقتباس المفرط غير المشروع من أعمال الغير مألوفة وشائعة، وأمثلة التحزب والتكتل وتبادل المصالح أصبحت لا تقل انتشارا في عالم الشباب عنها في عالم الكبار، ووجه الخطورة في هذا أن الكبار الذين تشيع بينهم هذه الآفات بدأ الكثير منهم حياته بداية تتسم بقدر غير قليل من التمسك بالمبادئ، ثم انزلقوا تدريجيا وبفعل ظروف معقدة، حتى وصلوا إلى ما هم عليه، أما إذا كانت نقطة البداية عند الشاب الناشئ هي ذاتها نقطة النهاية عند الشيخ اليائس المستسلم، فعندئذ يحق للمرء أن ينظر إلى المستقبل نظرة قاتمة.
ولكن ما دمت قد أخذت على عاتقي أن أقوم بمهمة التشخيص، فلا بد لي من أن أحاول البحث عن أسباب لهذه الظواهر التي قد يميل البعض - ممن يفتقرون إلى الأسلوب العلمي في التفكير - إلى النظر إليها على أنها نتيجة انحلال أخلاقي عام أو انصراف عن التمسك بأهداب الفضيلة ... إلخ. ولكي تكون هذه الأسباب مقنعة فلا بد أن تكون موضوعية قدر الإمكان.
أول هذه الأسباب - في رأيي - زيادة الطلب على العرض في ميدان الثقافة؛ فقد أتيحت لأبناء هذا الجيل فرص - في ميدان الثقافة - تزيد بكثير عن تلك التي كانت متاحة لكل الأجيال السابقة؛ فهناك - إلى جانب الصحافة - حاجة متزايدة إلى الإنتاج الثقافي في ميدان التأليف بكافة أنواعه، وفي ميدان الترجمة وفي المجلات المتخصصة؛ نتيجة لاتساع قاعدة القراء وظهور جمهور جديد يحتاج إلى إنتاج ثقافي لا ينقطع، وقد أتاحت الإذاعة والتليفزيون فرصا جديدة أمام المثقفين؛ إذ إن ساعات إرسال المواد الثقافية - وإن كانت من حيث النسبة العامة لا زالت قليلة بالقياس إلى مواد الترفيه غير الثقافي - قد زادت زيادة كبيرة، وهي تمثل طلبا يوميا ملحا يحتاج إلى إنتاج دائم، كل هذه المجالات الجديدة أدت إلى ظهور تلك الفصيلة الجديدة من المثقفين، أولئك الذين يضعون في حقيبتهم شتى أنواع المنتجات الثقافية الرائجة، من مقالات مثيرة إلى أحاديث خاطفة إلى ندوات جذابة ... إلخ، ويدورون بها من جريدة إلى استوديو إلى مؤسسة للنشر، يعرضون عليها آخر عينات بضاعتهم المرغوبة المطلوبة، ولا يفوتهم أن يلمحوا - من حين لآخر - إلى ما يمكنهم أداؤه للآخرين من خدمات مماثلة لو قبلوا شراء شيء مما تحمله الحقيبة.
ويرتبط بذلك ارتباطا وثيقا ظاهرة مقابلة نشهدها جميعا في عالم الكبار، ولا يكاد المرء يعرف لها تعليلا، وأعني بها «قصر العمر الثقافي »؛ ذلك لأن المثقفين الذين تجاوزوا مرحلة الشباب لا يدوم اهتمامهم بالإنتاج الثقافي إلا أمدا قصيرا، وفي كثير من الحالات تنقطع الأنفاس وينضب المعين بمجرد بلوغ منصب مرموق - علميا كان أو إداريا - ويعيش المثقف الكبير (سنا) على ذكرى فترة ماضية في حياته، كان فيها إنسانا جادا ينتظر له الجميع مستقبلا باهرا، ويظل يرتزق بفضل هذه الشهرة طوال حياته، مثل هذا الانسحاب المبكر من ميدان العمل الثقافي الجاد يخلق فراغا لا بد أن يشغله أناس لم يبلغوا بعد مرحلة النضج العقلي الكافي، ويفتح الباب على مصراعيه أمام المتعجلين الذين يقدمون إلى الناس ثمار إنتاجهم وهي لم تزل فجة.
وأخيرا فربما كانت القدوة السيئة من أقوى أسباب هذا الاندفاع المحموم إلى تقديم ثقافة تفتقر إلى النضج؛ ذلك لأن الشباب يجدون في المجتمع - من آن لآخر - نماذج صارخة لأناس تمكنوا - بأساليب متباينة لا تشترك إلا في شيء واحد، هو أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بعلمهم أو ثقافتهم - من إحراز نجاح صاروخي في دويه وفي سرعته، ولا مفر من أن يؤدي تأثر الشباب بهذه النماذج إلى أن يرسخ في أذهانهم الاعتقاد بأن التعمق والجدية هما أسوأ وأبطأ وسائل النجاح، ومن ثم فإنهم يؤثرون العمل على اكتساب شهرة سطحية أو مسطحة، ويتدربون في الوقت ذاته على ممارسة الأساليب الأخرى التي يرون بأعينهم أنها حققت لغيرهم أبهر النجاح.
والنتيجة - بعد هذا كله - هو أن نموذج الشاب الرزين، الذي يعكف على أخذ الثقافة قبل أن يفكر في إعطائها، والذي يزيد من تعميق فكره قبل أن يخطر بباله نشر شيء من إنتاجه على الناس، والذي يفضل أن يظل مجهولا بدلا من أن يحرز بين الناس شهرة كاذبة، هذا النموذج كاد أن يختفي اختفاء تاما، وكاد أصحابه أن يصبحوا - بين الشباب - نوعا أوشك على الانقراض. •••
إن أي مجتمع لا يستطيع أن يأمل في مستقبل مزدهر إلا إذا كانت أجياله الشابة تؤدي رسالتها كاملة في التزود بالثقافة قبل أن تفكر في تزويد الآخرين بها، وإذا كنت في بعض أجزاء هذا المقال قد وصفت شبابنا بعبارات ربما بدت في نظر البعض قاسية، فما ذلك إلا لأني آمل في الكثير. ومع اعترافي الكامل بمسئولية الكبار عن كثير من مظاهر القصور في حياة الشباب الثقافية، فإني أومن بأن لدى الشباب قدرة على تخطي العقبات التي وضعها الكبار - مختارين أو مرغمين - في طريقهم، بل إنني لأومن بأن استغلال الشباب لقدرتهم هذه لن يتيح لهم مراجعة نظرتهم إلى الثقافة فحسب ، بل سيمكنهم من أن يفرضوا إرادتهم - في حدود مطالبهم المشروعة - على الكبار أيضا، فلو اجتمعت كلمة الشباب على طلب أي نوع من الثقافة الجادة، فما أظن أن الكبار سيملكون عندئذ أن يرفضوا لهم مثل هذا الطلب، ولو اجتمعت كلمة الشباب على رفض التزييف الذي يقدم إليهم في رداء زاه براق - كالترفيه الكاذب الذي يغويهم ويشغلهم عما هو جاد من الأمور، في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى التفكير الموضوعي المركز (وأعني به عروض كرة القدم التي يبدو أنها ستطل برأسها من جديد)، أقول إنه لو اجتمعت كلمة الشباب على رفض مثل هذا الإغراء المزيف لما جرؤ الكبار على فرضها عليهم.
إن موضوعا قصيرا كتبته فتاة فرنسية في السابعة عشرة من عمرها، قد أثار في ذهني خواطر لا حصر لها عن موقف شبابنا من الثقافة، وأنا لا أزعم على الإطلاق أن المقارنة جائزة أو مشرعة بين حالة واحدة كهذه - قد تكون استثنائية تماما - وبين أحوال الجموع الكبيرة من شباب بلد لا يزال يعاني كثيرا من مظاهر التخلف، ولكن تقديم النماذج الصالحة أمر مفيد على الدوام.
وأحسب أن هذا النموذج كفيل بإقناع شبابنا بأن صورة الشاب الأوروبي ليست صورة الشعر المتهدل والملابس الغريبة والعادات المتحدية للعرف الأخلاقي فحسب، بل هي أيضا - ومن وراء هذا كله، بل قبل هذا كله - صورة الجدية في طلب العلم والتعمق في تحليل المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وهو أيضا كفيل بإقناع فتياتنا بأن المرأة - حتى في بلاد الأناقة والتألق والمساحيق المبتكرة والحب المتحرر من القيود - تستطيع أن تكون - إلى جانب هذا كله - إنسانة مثقفة واعية بما يجري حولها في العالم، وبدور الإنسان في صنع التاريخ.
هل نحن أدوات في يد التاريخ، أم نحن صانعوه؟
كاتبة الموضوع:
تيريز بريزاك.
السن:
17 سنة.
المدرسة:
ليسيه فنلون.
لو نظرنا إلى أنفسنا على أننا «أدوات في يد التاريخ» لكان معنى ذلك أننا نجعل من التاريخ فكرة، وتجريدا مستقلا عن تحققه، وبالتالي شيئا لا يمكن التأثير فيه، أي إننا إما نجعل منه تسلسلا من الحتميات التي تماثل في ثباتها قوانين الجاذبية الكونية، وإما نجعل منه - على عكس ذلك - تعاقبا لمصادفات ليس للإنسان أي سلطان عليها، وفي هذا إغفال لحقيقة لا شك فيها، وهي أن التاريخ لا يوجد إلا لأن هناك بشرا يصنعونه ويفكرون فيه.
إن من الواضح أن علم التاريخ علم إنساني، ولكنه ما دام علما فلا بد أيضا أن تكون هناك روابط سببية وقوانين عامة في المسار التاريخي، وعلى ذلك فليس التاريخ مجرد تراكم سطحي «لمصائر عظيمة» أو لأفعال فردية، أي إن القول بأن الإنسان صانع التاريخ لا يقدم تفسيرا واضحا للمسار الكلي للتاريخ؛ فمن الواجب إذن إيضاح الدور الحقيقي للبشر بالنسبة إلى التاريخ ومعرفة ما إذا كنا نحن الذين نصنع التاريخ، أم أنه هو الذي يحركنا.
إن التاريخ هو عملية تغيير الطبيعة والمجتمع عن طريق فاعلية البشر؛ ففي كل لحظة إذن يكون التاريخ ناتجا عن ملايين الأفعال الفردية التي توجد لها أسباب ولها غايات متباينة، بل متناقضة في كثير من الأحيان، ومن ثم فهي أفعال يستحيل التعرف عليها في محصلتها النهائية، مع أن هذه المحصلة لم تتكون إلا منها. ولكن إذا كان السبب الرئيسي لكل هذه الأفعال هو الصراع من أجل الحياة ضد القوى المعادية في الطبيعة، أو الصراع من أجل مصالح فردية متباينة، فمن الواضح أن لها أساسا مشتركا، يتمثل في حالة الثروات المتراكمة، وحالة الأساليب التكنيكية والمعارف في عصر معين، وفي الظروف السياسية والثقافية والصراعات والعادات الموروثة من العصور الماضية؛ ذلك لأنه إذا كانت هذه العوامل كلها نتاجا للإنسان، فإنها مع ذلك توجد خارجه، ووجود هذه العوامل الموضوعية جميعها يتحكم في مسار التاريخ في أية لحظة بعينها.
وصحيح أن مجموع هذه الشروط هو نتاج لتراكم عمل البشر ولتفاعلهم بعضهم مع البعض، غير أن الروابط التي تربطها بأسبابها وتربطها بعضها ببعض، لما كانت أعقد من أن تظل روابط واعية، فإنها تصبح بالفعل معرضة للتجاهل والإغفال، وهكذا لا يكون التاريخ حصيلة الفعل الواعي للبشر، بل حصيلة الحالة الموضوعية للعالم الذي يمارس البشر فعلهم عليه؛ ذلك لأنه لا يوجد أي إصرار واع يتدخل في محصلة هذه الأفعال الفردية، التي هي أصل كل تغيير أولي، وهكذا يبدو للبشر أن مسار تاريخهم الخاص غريب عنهم؛ لأن الناس يكونون بالفعل عاجزين - على المستوى الفردي - أمام التاريخ، إن لم يرتكزوا على تلك الحقيقة الواقعية التي تتحكم فيهم بقدر ما تكون قد اكتسبت وجودا مستقلا ودينامية مستقلة («من المستحيل إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء» من المستحيل العودة إلى العصور الوسطى).
وعلى ذلك فإن الناس يبدون كما لو كانوا أدوات في يد التاريخ، ولكنهم يبدون أيضا كما لو كانوا صانعيه، أعني صانعين غير واعين عندما يكون فعلهم مقتصرا على المساهمة الفردية في الحياة الاجتماعية (كالعمل والقراءة والدراسة والانتخاب)، أو صانعين واعين - على ما يبدو - حين يكون الأمر متعلقا بأفراد يقومون بدور «تاريخي» (نابليون أو هتلر)، ولكنهم في الواقع يكونون عندئذ أيضا معتمدين على التاريخ «الموضوعي»، ما داموا لا يكونون - في أية لحظة بعينها - سادة للتاريخ ومتحكمين فيه إلا لأن الناس لا يمكنهم أن يستعيدوا السيطرة على التاريخ بصورة واعية، ولا يظلون سادة له إلا بقدر ما يمتثل الناس لرغبات الجماعات المسيطرة في تلك اللحظة، وهذه الجماعات لا تكون هي ذاتها مسيطرة إلا لأسباب مادية تبدو في الظاهر عشوائية.
ولكن إذا كان التاريخ غريبا بالنسبة إلى الفاعل الرئيسي، فمرد ذلك إلى أن الإنسانية ليست كلا متجانسا متماسكا؛ فمن الجلي أننا لا نستطيع أن نصبح صانعين للتاريخ إلا عن طريق الفهم الفعلي العلمي للمسار الموضوعي، وعن طريق أخذنا لهذا المسار على عاتقنا، واستيعابه في داخلنا، أي عن طريق فهم الواقع فهما شاملا؛ فليس من الممكن التأثير في كل معقد ومتناقض إلا عن طريق معرفة عناصره الرئيسية، ولنلاحظ أننا عندما نتحدث عن الإنسان بوصفه صانع التاريخ، فلا بد أن يكون حديثنا منصبا على مجموع البشر، لا على جماعة فوضت إليها البشرية أمرها على نحو ما. وعلى ذلك فمن المستحيل أن يحدث ذلك إلا عن طريق التأثير المباشر في التاريخ، أي عن طريق معرفة قوانينه، والواقع أن تلك العصور التي صنع فيها الإنسان تاريخه - كعصر ثورة 1789م (الثورة الفرنسية) - تتميز بالتوافق بين اتجاهات المسار التاريخي (أي نمو الطبقة البورجوازية وتداعي السلطة الملكية) وبين وعي الناس، أما حين لا يوجد هذا التوافق من تلقاء ذاته، فمن المستحيل خلقه إلا عن طريق الفهم العام ومعرفة هذه القوانين عن وعي.
إن من الواضح أن ما يؤدي إلى وجود فجوة بين أفعال البشر والتاريخ هو الاختلاف والتناقض بين مصالح القائمين بهذه الأفعال، والواقع أن من المستحيل أن يأخذ المجتمع على عاتقه - عن وعي - مهمة تنظيم تاريخه إذا كان هذا المجتمع قائما على الصراع الفردي من أجل العيش، وعلى ذلك فلا يمكن التأثير في التاريخ إلا بتوحيد المصالح الأساسية ككل (وهو التوحيد الذي قامت به - مثلا - الثورة الفرنسية في عام 1789م ضد السلطة الملكية)، وهذا التوحيد لا يأتي إلا بالعمل في نفس اتجاه المسار غير الواعي، فلا يمكن التأثير في التاريخ إلا بمعرفة قوانينه، ولا يمكن الانتفاع من هذه القوانين إلا باتباعها (وهكذا فإن قيام شعوب كالشعب الجزائري بأخذ مستقبلها الاقتصادي في قبضة يدها، يعد تحقيقا واعيا ومنظما لمهمة التصنيع التي تمت بصورة طبيعية أو تلقائية في البلاد الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر).
إن التاريخ لا يوجد خارج البشر رغما عنهم إلا لأن ما يطلق عليه اسم البشرية هو في واقع الأمر مجموعة من القوى المتباينة المتناقضة، وبالتالي لأن التاريخ هو محصلة هذه الصراعات، وهي محصلة تتحقق على أساس التاريخ الماضي بعد أن أصبح حقيقة موضوعية «طبيعية» لا واعية على نحو ما.
وبهذا القدر يكون الإنسان أداة في يد التاريخ، ولكنه بمعنى أهم هو صانعه، ليس فقط لأنه هو الذي ينتج التاريخ، بل أيضا لأنه يستطيع أن يتحكم فيه عن طريق إعادة السيطرة على ناتجه الذي أصبح غريبا عنه، وذلك بفضل المعرفة والتنظيم.
فمن الواجب إذن أن ننظر إلى أنفسنا على أننا صانعو التاريخ، ما دام هذا وحده هو سبيلنا إلى أن نصبح صانعيه بالفعل، أي أن نقبض بكلتا يدينا على زمام تاريخنا، ونجعل تلك العملية الفعلية - عملية إنتاج البشر للتاريخ - عملية واعية لإرادتنا.
عن الإنسان والقمر
خواطر هادئة حول رحلة القمر
1
قلت لنفسي - وأنا أتأهب لتدوين خواطري عن أروع حدث علمي وحضاري مرت به البشرية منذ قرون عديدة - راحت السكرة وجاءت الفكرة؛ فقد كنت أريد أن أفكر لا أن أنفعل؛ ولذلك آثرت ألا أكتب عن هذا الحديث فور وقوعه، لقد كان العالم كله مبهورا، وكانت العقول مسحورة بالرحلة التي تجاوز الواقع فيها أقصى حدود الخيال، وكان لا بد لمن يريد أن يتأمل الأمور في منظورها الحقيقي أن يتريث قليلا حتى تهدأ النفوس وتخف حدة الانفعالات، وتعود أنفاس الناس ودقات قلوبهم إلى إيقاعها السوي المنتظم، ويستطيع هو ذاته أن يستجمع شتات أفكاره بهدوء، وبلا انفعال مفرط يبدد طاقة العقل.
ولست أدري هل مضى من الوقت ما يكفي لكي يطمئن المرء إلى أنه يكتب وهو غير منفعل؛ فأغلب الظن أن ما حدث سيظل يلهب خيال الناس طويلا، ولكن الذي أستطيع أن أقرره مطمئنا هو أنني حاولت - بقدر ما استطعت - أن أجمع الخيوط المتفرقة التي تحيط بهذا الحدث الجليل، وأن أتأمله من منظور أوسع، دون أن تنبهر عيناي بوهج الكشف العظيم وحده، فتختفي من حوله عناصر الإطار الذي لا يفهم هذا الكشف إلا من خلاله، وأحسب أن القارئ بدوره قد بدأ يستعيد من رباطة الجأش ما يتيح له أن يستمع إلى حديث هادئ عن حدث لم يعرف الناس من بعده الهدوء.
القمر وسياسة الأرض
لقد كنا جميعا - خلال المرحلة الرومانتيكية التي أعقبت هذا الحدث مباشرة - نؤكد أن هذا نصر جديد للإنسانية كلها، ونردد مع زائر القمر الأول هتافه: إنها خطوة صغيرة لإنسان واحد، ولكنها قفزة هائلة للبشرية! وكان طبيعيا أن يتردد صدى هذه النغمة الجميلة في جنبات عالم مفتون بالإعجاز الذي تحقق، ولكن هل كانت هذه قفزة للبشرية كلها؟ وهل تسمح حقائق العالم الذي نعيش فيه بأن تتشارك الإنسانية كلها في جني ثمار نصر علمي كهذا؟
إن من خصائص التفكير الرومانتيكي - بوجه عام - أنه يتجاهل الحقائق العلمية والأمور الواقعة لا سيما إذا كانت قبيحة، ومن المؤكد أن العالم قد مر - على أثر هبوط الإنسان على القمر - بفترة نشوة رومانتيكية كان يحن إليها منذ أمد بعيد بعد أن ظلت أسلاك البرق لا تحمل إليه - خلال سنين طويلة - إلا أنباء المعارك والمجازر والتسابق على القتل وتوازن الرعب بين طرفين يقف كل منهما مترصدا كل حركة للآخر، في مثل هذا العالم بدت رحلة القمر - في أيامها الأولى - نبأ رائعا من نوع غير مألوف؛ لأنه أول نبأ غير عسكري أو غير سياسي يحتل المكانة الأولى في صحف العالم وإذاعاته، وفي أحاديث الناس داخل بيوتهم وخارجها، ولأنه أول نبأ يتركز فيه اهتمام العالم كله على موضوع يعلو على خلافات المعسكرات السياسية ومشاحناتها، بل يعلو على مشكلات الأرض كلها، وينتقل بعقولنا لأول مرة - وعلى نحو حقيقي لا مجازي - إلى ما يسمو على عالمنا الأرضي.
ولكن النشوة الرومانتيكية لم تدم طويلا، وكان أصحاب الانتصار العظيم هم أنفسهم الذين ذكروا العالم بحقائقه العملية القبيحة مرة أخرى، وهم الذين سكبوا ماء باردا على رءوس الناس بعد أن أسكروها بكشفهم الرائع، فحتى قبل هبوط رواد القمر الثلاثة إلى الأرض، كان الرئيس نيكسون قد بدأ رحلته إلى بعض الدول ذات الوضع الشائك في آسيا وأوروبا، واستقبل رواد القمر وهو في منتصف الطريق إلى رحلته، ولم ينتظر ولو يوما واحدا بعد النصر العظيم، وكان واضحا أنه أراد أن يطرق الحديد وهو ساخن، بل وهو في أتون الفرن، وأنه - بعد تاريخ حافل بالاستقبالات العدائية قل أن تحظى به شخصية عالمية أخرى (خلال مدة نيابته لرئاسة الجمهورية منذ ما يقرب من عشر سنوات) - أراد أن يستغل الانتصار الرائع في نفس لحظة حدوثه، عله يلقى هو وبلاده معاملة مختلفة من شعوب العالم المحرومة، ومع ذلك فقد حملت إلينا الأنباء أن الهتافات العدائية - من أمثال «اقذفوا به إلى القمر!» - ظلت تتردد طوال الرحلة، وربما كان التاريخ الحافل الذي أشرت إليه قد ظل يلاحق صاحبه حتى اليوم ، ولكن الأهم من ذلك هو ما يدل عليه الهتاف نفسه من أن حقائق الموقف العالمي قد عادت وفرضت نفسها على الناس، وأنهم أفاقوا سريعا من النشوة، ولم يستطيعوا - بالرغم من روعة الحدث - أن ينسوا مشكلات عالمنا وصراعاته، وإنما بادروا إلى إدخال الكشف العظيم في إطار الخلافات العالمية السائدة.
والدلالة الواضحة لواقعة بسيطة كهذه هي أن الانتقال إلى القمر لا يمكن أن ينظر إليه - في عصر كهذا الذي نعيش فيه - من منظور إنساني شامل، بل إن الناس لا يجدون مفرا من أن يربطوا بينه وبين صراعات الفترة الزمنية التي يمر بها العالم، وعلى حين أن هذا الحدث العظيم قد أتاح للإنسان - لأول مرة - أن يرى بعينه المجردة كوكبنا هذا وقد بدا كرة صغيرة محلقة في فضاء فسيح، فقد تبين للبشر مع ذلك أنه ليس ثمة مفر من تأمل هذا الفتح الرائع في ضوء الخلافات الجزئية التي يحتشد بها كوكبنا المزدحم المعقد.
خلاصة القول أن غزو القمر في هذا العصر الذي نعيش فيه وفي الظروف التي تم فيها، لا يمكن أن يكون عيدا خالصا للإنسانية، بل هو بالإضافة إلى ذلك مرحلة من مراحل الصراع داخل الأرض نفسها؛ فللحدث العظيم وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر: وجه إنساني شامل، ووجه سياسي واقتصادي وعسكري تتغلغل جذوره في صراعات العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين.
والآن فما الذي نرى لو تأملنا ارتياد القمر من هذين الوجهين معا؟
إن الحقيقة الأولى والأساسية هي أن عصر الفضاء بأكمله إنما بدأ أصلا بوصفه واقعة من وقائع الحرب الباردة، وجزءا لا يتجزأ من الصراعات المرتبطة بهذه الحرب؛ ففي أكتوبر من عام 1957م عندما أعلن الاتحاد السوفييتي افتتاح هذا العصر بإرسال «سبوتنيك» إلى الفضاء، كان من الواضح أن هذا الكشف الجديد - والمذهل في ذلك الحين - مرتبط أوثق الارتباط بحقائق الحرب الباردة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي ترك الولايات المتحدة تنفق ألوف الملايين من الدولارات لكي تحيطه بقواعد عسكرية تساعدها على الوصول بالطائرات السريعة إلى قلب بلاده في حالة الحرب، وركز جهوده على سلاح جديد يجعل من هذه القواعد العسكرية شيئا عقيما لا جدوى منه، هو القذائف العابرة للقارات، ولقد كانت القوة الدافعة لهذه القذائف هي ذاتها التي أتاحت إرسال أقمار صناعية تدور حول الأرض، وكان إطلاق القمر الصناعي الأول ينطوي على الوجهين معا بوضوح كامل؛ فهو من جهة كشف علمي عظيم فتح أمام العقل البشري آفاقا جديدة، بل إنه ظهر أصلا بوصفه جزءا من برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» (العام 1957م)، وهو من وجهة أخرى إيذان ببداية مرحلة جديدة في الاستراتيجية العسكرية العالمية، ودليل على أن أسلوب القواعد العسكرية القريبة من أراضي العدو والمحيطة به من كل جانب، قد أصبح أسلوبا عفا عليه الزمان، وعلى أن الدول المتفوقة تكنولوجيا تستطيع أن تصيب أهدافا على بعد آلاف الأميال، دون أن تضطر إلى مغادرة أرضها، وكانت التعليقات التي استقبل بها العالم هذا الحدث تكشف بوضوح عن تلازم هذين الوجهين، فبالإضافة إلى الترحيب بدخول البشرية عصرا جديدا - هو عصر استكشاف الفضاء - كان هناك إدراك واضح - لا سيما في الولايات المتحدة - للإمكانات الاستراتيجية التي ينطوي عليها هذا الفتح الجديد، ولم يكن من الممكن أن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي وهي تشهد خصمها ينقل توازن القوى إلى مرحلة جديدة ترجح فيها كفته رجحانا واضحا، وهكذا قررت الولايات المتحدة أن تدخل سباق الفضاء بكل قواها، وكان من الواضح أن تضافر الأموال الأمريكية والعقول الألمانية يستطيع أن يحقق الكثير.
ومنذ ذلك الحين كانت كل مرحلة من مراحل سباق الفضاء تكشف عن التداخل الوثيق بين الوجهين: العلمي والسياسي أو الإنساني والعسكري ، فعلى حين أن أوزان الأقمار الصناعية أخذت تثقل وحمولتها البشرية تزيد وفوائدها العلمية تتراكم، فإن استخداماتها الحربية كانت في الوقت ذاته تتنوع، من صواريخ تحملها الغواصات السريعة التنقل، إلى صواريخ مدفونة تحت الأرض ومصوبة إلى أهداف محددة في أراضي العدو، إلى صواريخ متعددة الرءوس ... إلخ. وبينما كان العالم يهلل لأقمار الاتصال التي أتاحت الربط بين أجزاء كبيرة من العالم في شبكة تليفزيونية ولاسلكية واحدة، كان نوع مشابه من الأقمار يقوم بمهمة الجاسوس العالمي الذي يدور حول العالم على فترات منتظمة لكي يصور بدقة ما يجري في كل بقعة صغيرة منه، وهكذا كان عنصر المنافسة العسكرية - التي تعد انعكاسا للمنافسة الأيديولوجية - واضحا منذ اللحظة الأولى، إلى جانب عنصر المنافسة العلمية.
وأصبح كل نصر جديد يحرزه أحد الطرفين في ميدان الفضاء لا يعد دليلا على ارتفاع مستواه العلمي والتكنولوجي فحسب، بل يستغل أيضا بوصفه مظهرا لتفوق نظامه الاجتماعي، ولم تكن الحرب الدعائية - التي تكمن من وراء المنافسة في ميدان الفضاء - خفية أو متوارية خلف ستار، بل كانت صريحة سافرة، وعلى الرغم من «الروح الرياضية» التي دأب كل من الطرفين على أن يبديها إزاء الآخر، فيبعث إليه ببرقيات التهنئة كلما أحرز نصرا جديدا، فإن السباق كان يجري على أشده لكي يثبت كل طرف للآخر ولبقية العالم، أن نظامه الذي أتاح له إحراز هذا النصر أفضل من النظام الآخر، وحين ظهر بوضوح للدولتين المتنافستين أن كشوف الفضاء هي أكثر أنباء عالمنا المعاصر إثارة لشعوب الأرض كلها، وأقواها تأثيرا في ميدان الدعاية، أخذت حرارة المنافسة بينهما تشتد، ولم تعد كل منهما تبخل بجهد وبمال على هذا الميدان الذي لم يكن له وجود منذ سنوات قلائل، وفي اعتقادي أن هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى الإسراع بسباق الفضاء، وإعطائه الأولوية في ميزانيات الدولتين المتنافستين.
وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن القول إن وصول إنسان أمريكي إلى القمر يعد دفعة قوية للنظام الرأسمالي بأسره، وهي دفعة ينبغي أن تعمل لها الدول البعيدة النظر حسابا، صحيح أن أناسا كثيرة قد شعروا بالأسف لأن المجتمع الذي تم على يديه هذا الكشف هو نفسه المجتمع الذي يسحق الإنسان في فيتنام، ويمتص خيرات أمريكا اللاتينية، ويهدر حقوق شعب بأكمله في فلسطين، ولكن للقوة في عالم القرن العشرين احترامها مهما كانت غاشمة، وأبلغ دليل على ذلك أن بلدا هائلا كالصين قد عمد إلى إخفاء أنباء رحلة القمر فترة طويلة، وذلك - قطعا - بدافع الخوف مما يمكن أن تحدثه هذه الأنباء من تأثير في معنويات شعبه، مع أن هذا الشعب ربما كان أشد شعوب الأرض عداء للنظام الأمريكي وإصرارا على مواجهته.
وعلى أية حال فإن الأمر المؤكد الذي يثبته هذا الكشف هو أن أصحاب الحلول السهلة والعبارات الروتينية المحفوظة عن الانهيار الوشيك للرأسمالية التي تتآكل بفعل تناقضاتها الداخلية ينبغي أن يدركوا أن الواقع أعقد بكثير مما يتصورون، أما بالنسبة إلينا - نحن سكان العالم الثالث - فهذا دليل آخر - إن كان يعوزنا الدليل - على أن المستقبل رهن بالتقدم العلمي، وعلى أن إنسان المستقبل لن تكون له كرامة إلا بقدر علمه، وعلينا أن ندرك أن الهوة تزداد اتساعا بسرعة مخيفة بين الأمم العارفة وغير العارفة، وأن نركز كل طاقتنا في اللحاق بالركب.
العلم والتخطيط في عصر القمر
إن روعة الكشف الذي تم والدقة المذهلة التي أنجز بها، ربما جعلت الكثيرين ينسون حقيقة معروفة، هي أن عصر الفضاء بأكمله يقل عمره عن اثني عشر عاما! فلم يكن أحد يتصور - قبل انطلاق «سبوتنيك السوفييتي» في أكتوبر من عام 1957م - أن الفضاء قابل للاستكشاف وللملاحظة التجريبية المباشرة بواسطة الآلة، وبواسطة حواس الإنسان ذاتها، وما زلت أذكر ذلك المثل الذي ساقه برتراند رسل في أحد كتبه الفلسفية التي صدرت قبل هذا التاريخ بفترة غير طويلة، حين وصف أية قضية تتحدث عن الوجه الآخر للقمر بأنها قضية غير قابلة للتحقيق التجريبي، هكذا كانت العقول الممتازة ذاتها تتصور الأمور قبل أكتوبر 1957م!
لكن هل كان أحد يتصور - بعد هذا التاريخ ذاته مباشرة - أن التطور سيسير بهذه السرعة المذهلة؟ لقد حاولت الولايات المتحدة في أواخر العام نفسه أن تدخل سباق الفضاء، وكان أول مشروعاتها صاروخ «فانجارد»، ولن أنسى تلك التجربة الأولى التي شاهدتها بنفسي على شاشة التليفزيون الأمريكي في يوم من أيام ديسمبر عام 1957م، حين كان الشعب الأمريكي كله يترقب بأعصاب متوترة صعود الصاروخ الذي يحمل قمرا صناعيا أظن أن وزنه كان خمسة أرطال، فإذا بالصاروخ بعد أن أصدر ضجيجا يصم الآذان ودخانا يغشى العيون، يرتفع بتؤدة فوق الأرض مسافة لا تزيد عن المترين، ثم يميل بتثاقل على أحد جانبيه؛ لينتهي به الأمر إلى رقاد مريح، وفي الأيام التالية كانت السخرية تنهال على المشروع بأكمله، حتى إن ابن مصمم المشروع كان يشكو من أن تلاميذ المدرسة الصغار أخذوا يعيرونه ولا يكفون عن سؤاله: متى يقذف أبوك بهذه الكرة إلى أعلى؟
بين هذا الحادث وبين أول خطوة خطاها نيل أرمسترونج على أرض القمر أقل من اثني عشر عاما، فما دلالات هذا التطور المذهل؟
إن أولى الدلالات - بطبيعة الحال - هي المعدل المخيف لسرعة التقدم العلمي والتكنولوجي؛ ففي جيل واحد - بل في فترة قصيرة من حياة ذلك الجيل - استطاع العقل البشري أن ينتقل من الإخفاق في إرسال كرة صغيرة في مدار حول الأرض، إلى النجاح في إرسال مركبة كاملة تهبط برفق، ومعها حمولتها من البشر والآلات فوق القمر، ثم تغادره وتعود إلى الأرض في زمانها ومكانها المحددين، وخلال هذه السنوات القلائل تمكن الإنسان من أن يسيطر على آلاف المشكلات المتعلقة بقوة دفع أحمال ضخمة بسرعة هائلة تكفي للإفلات من جاذبية الأرض، والتغلب على الحرارة الشديدة الناتجة عن الاحتكاك بالغلاف الجوي عند العودة، وتحديد اتجاه الصاروخ حين يخرج من أرض تتحرك بسرعة هائلة ليصيب قمرا يتحرك بدوره بسرعة هائلة على مسافة مئات الألوف من الأميال، وحل عشرات المشكلات الطبية والبيولوجية المتعلقة بحياة رواد الفضاء في مركبتهم وتنفسهم وتغذيتهم وغير ذلك من وظائفهم الطبيعية في جو محكم الإغلاق، ونوع ملابس الرواد في كل مرحلة من الرحلة، والانفصال عن السفينة الأم وعودة الاتصال بها، والسير دون خطأ على أرض كوكب مجهول، والاتصال اللاسلكي والتليفزيوني بالأرض من هذا البعد السحيق، إلى آخر المشكلات الهائلة العدد التي كان أبسط خطأ يرتكب في إحداها كفيلا بإفساد الرحلة كلها، وكان حل هذه المشاكل يعني تقدما علميا وتكنولوجيا في مجالات الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضة والحاسبات الإلكترونية والفسيولوجيا والطب والتغذية وغير ذلك من الميادين المعروفة، والميادين الجديدة التي استحدثها عصر الفضاء.
ومن الأمور البالغة الدلالة - بالنسبة إلى هذه الرحلة القمرية - أن كل شيء، فيها كان محددا بدقة ، حسب تخطيط محكم وضع منذ سنوات طويلة؛ فالعالم كله كان منذ سنوات يعرف التاريخ المحدد لهبوط الإنسان على القمر، وإني لأعترف بأنني كنت كلما سمعت ذلك التاريخ انتابني الشك في إمكان بلوغ هذا الهدف الطموح، ولم أصدق ما حدث إلا بعد أن حدث! والأمر الذي يدعو إلى الحيرة حقا هو أن هذا التخطيط البالغ الدقة قد تم وضعه وتنفيذه بنجاح في ظل نظام اجتماعي كان على الدوام يشكك في قيمة التخطيط الذي يحشد له المجتمع أكبر قدر من موارده لكي يحقق هدفا حدده مقدما، ولست أدري هل سيؤدي هذا النجاح إلى تطبيق التجربة نفسها في ميادين أخرى؟ أم سيظل هذا المجتمع يعترف بقيمة التخطيط في ميدان وينكرها في سائر الميادين؟
هذا السؤال له - في نظري - أهمية بالغة، ولكي يتصور القارئ ما أعنيه، أود أن أعقد مقارنة بين الطريقة التي تم بها الوصول إلى القمر، وطريقة البحث عن علاج لمرض السرطان في الولايات المتحدة؛ فمن المعروف أن مشكلة مكافحة السرطان - الذي يعد أشد الأمراض فتكا بالإنسان، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة - تحتل في تفكير كل أمريكي - وربما كل إنسان في العالم - أهمية لا تقل عن أهمية الوصول إلى القمر، ومن المؤكد أن فرحة العالم - وضمنه الشعب الأمريكي - بالوصول إلى علاج حاسم للسرطان ستزيد أضعافا مضاعفة عن فرحته بنزول الإنسان على القمر، ومع ذلك فكيف تجرى الأبحاث في أمريكا للتغلب على هذا المرض القاتل؟ إن أساس هذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث الخاصة بالأمراض الأخرى هو التبرعات التي تقدمها المؤسسات الخيرية والأفراد، وتشرف على حملات التبرع هذه شركات للإعلان والعلاقات العامة، تتقاضى بالطبع مبالغ باهظة، وبقدر براعة الشركة المشرفة على الحملة تتحدد الأموال التي تخصص للبحث العلمي في أي مرض بعينه، وكثيرا ما يحدث أن ينال مرض ضئيل الانتشار أموالا هائلة، بينما لا ينال مرض أخطر منه وأوسع انتشارا بكثير ما هو جدير به من التبرعات، لا لشيء إلا لأن الشركة التي تشرف على الحملة الإعلانية للمرض الأول أبرع من الأخرى، أو لأن ممثلا مشهورا تطوع بإقامة برامج تليفزيونية لصالح هذا المرض (وهو تطوع يكتسب بفضله الممثل - في الوقت ذاته - صورة نبيلة في أعين الجماهير، تعود عليه آخر الأمر على شكل مزيد من الإقبال على أفلامه)، والمهم في الأمر أن عوامل عرضية كثيرة تتدخل في تحديد مقدار الأموال التي تخصص للبحث العلمي في الأمراض، وصحيح أن مرضا كالسرطان لديه موارد ثابتة من مؤسسات مضمونة، ولكن هذه الموارد لا تقاس على الإطلاق - سواء من حيث انتظامها - بقدر ضئيل من الموارد المخططة لبرنامج الفضاء.
ومن الأمور التي تدعو - لأول وهلة - إلى الدهشة في برنامج الفضاء الذي توج بالوصول إلى القمر أن التخطيط العلمي في هذا البرنامج لم يكن يعترف بأية مشكلات متعلقة بقدرة العقل البشري أو عدم قدرته على الاختراع؛ ففي الوقت الذي وضع فيه البرنامج، وحدد فيه وقت معين للنزول على القمر، كانت هناك آلاف المشكلات لم تحل بعد، والمفروض - من وجهة النظر التقليدية المألوفة - أن التنبؤ الدقيق بمراحل الكشف في المستقبل يستحيل ما دامت هناك مشكلات لم يتيسر حلها، وما دام وصول العبقرية البشرية إلى حلول ناجحة لمشكلاتها أمرا لا يمكن تحديده بزمان ثابت، أو التنبؤ به مقدما، ومع ذلك فإن البرنامج لم يقم أي وزن لهذه العقبة، بل وضع تخطيطا معينا، ونفذ كل مرحلة في هذا التخطيط في موعدها المحدد.
والفكرة الجديدة في هذا هي أن المجتمع إذا استطاع أن يعبئ الموارد اللازمة - مهما عظمت - والعدد الكافي من العلماء والفنيين - مهما كبر - فعندئذ لن تقف عقبة في وجه البرنامج الذي يخططه على أساس مدروس بدقة، وبعبارة أخرى فإن الفهم التقليدي للكشف العلمي والتكنولوجي الذي يعتمد على انتظار هبوط الوحي بالحل السعيد على ذهن العالم أو المخترع، قد طرح جانبا في هذا البرنامج، وأصبحت الأمور تسير على أساس مبدأ جديد هو: لا تبخل بالمال ولا بالرجال، وسيتم كشف كل ما هو مجهول في الموعد المطلوب، ويمكن القول - بناء على ذلك - إن نجاح رحلة القمر في موعدها، والوصول إلى حلول لألوف المشكلات التي كانت مجهولة في الوقت المحدد، ربما كان إيذانا ببداية عصر جديد، لا في كشف الفضاء الكوني وحده، بل في منهج البحث العلمي ذاته.
هذا المبدأ لو طبق على السرطان أو على غيره من الآفات التي تفتك بالبشر، لكان كفيلا بحل المشكلة، والأمر الذي يكاد يكون مؤكدا هو أنه لو خصصت لهذا النوع من المشكلات الإنسانية نفس الجهود ونفس الأموال، وكرست لها موارد وإمكانات مجتمع صناعي متقدم كالمجتمع الأمريكي؛ لأصبح السرطان وغيره من الأمراض الفتاكة مجرد ذكريات أليمة لا ترد إلا في القصص وكتب التاريخ.
إنني لست الآن في معرض اللوم أو النقد، ولست أود أن أردد مع الكثيرين من أصحاب النزعات الإنسانية: ألم يكن هذا أجدر بالاهتمام من ذاك؟ وهل انتهت مشكلات الإنسان على الأرض لكي نكرس كل قوانا للانتقال إلى القمر؟ هذه في رأيي أسئلة ليس لها الآن جدوى، وذلك لسببين: أولهما أن نجاح التخطيط العلمي في ميدان معين هو في ذاته أمر يدعو إلى التفاؤل؛ لأنه يجعلنا نتطلع إلى اليوم الذي يتحقق فيه تخطيط مماثل في سائر الميادين. والسبب الثاني هو أن كثيرا من أروع الكشوف العلمية والثورات الحضارية التي غيرت مجرى الحياة البشرية، قد ظهرت في البداية نتيجة لدوافع ليست كلها إنسانية خالصة، وإلى هذا العامل الثاني أنتقل الآن.
شيء من الخيال
إن وصول الإنسان إلى القمر - مهما كانت دوافعه الأيديولوجية أو العسكرية - هو في رأيي أمر يدعو إلى التفاؤل لأكثر من سبب، ولست أود أن أتحدث عن نتائجه المباشرة التي يعرفها الجميع، كما أنني لا أود أن أطيل الكلام عن نتائجه غير المباشرة، التي تتلخص في أن البلايين التي أنفقت لم تصرف كلها من أجل سفن «أبولو» وحدها، بل إن هناك كشوفا جانبية عديدة تمت أثناء الإعداد لهذا البرنامج الضخم، لا بد أن تنعكس آثارها على حياة الإنسان اليومية في هذه الأرض خلال السنوات القليلة المقبلة، وإنما الذي أود أن أتحدث عنه - بشيء من الخيال - هو ما يمكن تسميته بالنتائج البعيدة لهذا الحدث العظيم.
في رأيي أنه ليس من المصادفات أن يتمكن الإنسان من استبدال القلب البشري، ومن الهبوط إلى سطح القمر في فترة متقاربة، إنه في كلتا الحالتين لا يرضى بوضع طبيعي فرض عليه منذ آلاف السنين، ويحاول أن يصنع لنفسه - بيديه - وضعا آخر، ومن المسلم به أن مسار المدنية كلها - منذ بدايتها حتى الآن - يتلخص في عدم رضاء الإنسان بالأوضاع التي يجد نفسه فيها، ومحاولته أن يتحكم بنفسه في حياته وفي بيئته، ولكن ما يتم في هذه الأيام شيء أعمق من ذلك بكثير، إن الإنسان يحاول أن يتحكم في تركيبه الداخلي «الطبيعي» من جهة، ويحاول من جهة أخرى أن يتلمس لنفسه سبيلا للحياة في وسط مخالف لذلك الوسط «الطبيعي» الذي كان يعتقد أنه لا يصلح إلا للعيش فيه، هذا الاتجاه إلى تحدي كل ما درجنا على أن نعده «طبيعيا» - سواء في ذلك تركيب عقولنا وقدراتنا الذهنية والبدنية وتكويننا البيولوجي وطريقة تكاثرنا ... إلخ - هو الذي سيسير فيه التطور في المستقبل.
وبالمثل فليس من قبيل المصادفات - في اعتقادي - أن يتمكن الإنسان من الوصول إلى القمر قبل وقت غير طويل من تلك اللحظة الحرجة التي يتوقع علماء السكان أن يصل إليها العالم، حين يصل عدد سكانه إلى حد لا تعود عنده موارد الغذاء كافية، بل لا يعود فيه مجال كاف لتحرك البشر في يسر على سطح الأرض، وها هي ذي بوادر الحل قد ظهرت.
إن المستقبل يحمل في طياته للجنس البشري نوعا من الحياة يمكنه أن يستبدل فيه بأعضائه الطبيعية التالفة أعضاء أخرى صناعية أفضل وأكفأ، وأن يكتسب القدرة على استئصال الأمراض كلها، فإذا تحقق ذلك، فما الذي يمنع من تصور إنسان يعيش في المتوسط مائتي عام ثم خمسمائة عام؟ وما الذي يمنع من محاولة قهر الموت؟
ولنتأمل الأمر من زاوية أخرى: إن جاذبية القمر سدس جاذبية الأرض، والجهد الذي يتحمله قلب الإنسان على سطح الأرض يستطيع أن يتحمل ستة أضعافه على سطح القمر، وهذا وحده كاف - حتى بدون التقدم الطبي - لكي نتصور إنسانية تحقق لنفسها - في السماء - حياة أخرى أبقى من الحياة الأرضية، وستكون هناك علاقة متبادلة بين طول عمر الإنسان وبين استكشافه لأبعاد الكون الفسيح؛ إذ إن الحياة في الفضاء بلا جاذبية أو بجاذبية قليلة، ستؤثر هي ذاتها في إطالة عمر الإنسان، واستكشاف الكواكب ثم النجوم البعيدة يحتاج من جهة أخرى إلى إنسان يعيش مئات السنين حتى يقطع الرحلة الطويلة، ولنتخيل ماذا يستطيع مثل هذا الإنسان - سواء على الأرض أو في الفضاء الفسيح - أن ينجزه خلال حياته الطويلة، لقد أنجز الإنسان في جيلنا الحاضر كشوفا مذهلة في ميدان الفضاء في مدى اثني عشر عاما فقط، ومعدل التقدم العلمي في ازدياد مستمر، فما ننجزه الآن في خمسين عاما سينجزه الإنسان في نهاية القرن في عشرة أعوام، وربما أنجزه في القرن التالي في عامين أو ثلاثة، وهلم جرا، فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة كبيرة في عمر الإنسان، ومزيدا من الخبرات لكل جيل على حدة (إذا ظل هناك معنى لكلمة «جيل» في المستقبل) فهل يستطيع الخيال عندئذ أن يحيط بما يمكن إنجازه؟
إن تطورات مذهلة تنتظر الإنسان، وما نشاهده اليوم ليس إلا أول البدايات، فما زال تاريخ البشر حتى الآن «أرضيا»، ولكن بوادر التاريخ «السماوي» قد بدأت تظهر، والمهم أن تظل البشرية حية، وتلقي جانبا بتلك الألعاب الخطرة السخيفة المسماة بالأسلحة النووية وبالأسلحة الكيميائية والبكتريولوجية، وعندئذ نستطيع أن نتساءل: إذا كانت الإنسانية قد انتقلت من عصر الخيل إلى عصر الصواريخ والقمر في مائة عام، فما الذي ستكون عليه أحوالها لو عاشت ألف عام أخرى؟
لنسرح بخيالنا كما نشاء، فسوف تظل عقولنا الحالية - مهما أسرفت في التخيل - عاجزة عن إدراك لمحة واحدة من أبعاد هذا الأفق الفسيح.
الباب الثاني
نقد القيم الاجتماعية
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
في كل عصر من عصور التحول الكبرى تتكرر من جديد قصة «دون كيخوته»، فتجد في ذلك العصر نفوسا تدافع بحرارة وإخلاص عن قيم تجاوزها ركب الزمان، وتتوهم أن هذه القيم أزلية مخلدة، وتشن حربا شعواء على كل من يدعو إلى أي نوع من التجديد أو التغيير فيها، أما الدعوة إلى التخلي عنها وإحلال قيم أخرى محلها، فتلك في رأيها قمة الكفر وأوضح الدلائل على المروق.
وعصرنا هذا عصر تحول حاسم في تاريخ البشرية، بل إن الفترة الراهنة من تاريخ العالم قد تكون أهم نقطة تحول طوال ذلك التاريخ، صحيح أن كل عصر يظن نفسه «حاسما»، وأن المفكرين في كل زمان كانوا دائما يعتقدون أنهم يقفون في مفترق الطرق، ويتصورون الفترة التي يعيشون فيها على أنها أعظم أهمية بالنسبة إلى مصير البشر من كل فترة مرت بالإنسان من قبل، هذا صحيح كل الصحة، ويبدو أنه يرجع إلى ميل طبيعي في العقل البشري إلى إعلاء شأن العصر الذي يعيش فيه، والنظر إليه على أنه محور التاريخ كله. ومع ذلك فإن القول بأن عصرنا هذا هو عصر التحول الأكبر في تاريخ الإنسانية لا ينبع من أي ميل عاطفي إلى إعلاء الذات، أو أية رغبة متعمدة في تأكيد أهمية هذا العصر، وتأكيد أهمية أنفسنا معه، وإنما هو يرجع إلى حقائق موضوعية لا تقبل الخلاف أو الجدل، ويكفي دليلا على ذلك أن ندرك حقيقتين أساسيتين: الأولى أن هذا العصر هو الذي سيقرر نهائيا مصير مشكلة الحرب والسلام، فإن كانت حرب فهي الأخيرة، وإن كان سلام فهو السلام الذي لا حرب بعده. والحقيقة الثانية أن عصرنا هذا هو الذي سيشهد التحول الحاسم للعلاقات البشرية من علاقات استغلال إلى علاقات مشاركة وتضامن ومساواة، فإذا تذكرنا أن الحرب ظاهرة قديمة قدم التاريخ، حتى لقد تحدث البعض عن «غريزة القتال أو الحرب» في الإنسان، أدرجوها ضمن غرائزه المتأصلة التي لا يستطيع التخلص منها، وإذا تذكرنا أيضا أن استغلال الإنسان للإنسان ظل على الدوام صفة ملازمة للعلاقات البشرية منذ أقدم عصور التاريخ؛ لأدركنا أننا حين نصف عصرنا هذا بأنه عصر التحول الحاسم، فإننا لا نكون في ذلك مغالين على الإطلاق، ولا يكون حكمنا هذا صادرا عن أي غرور أو رغبة في تأكيد أهمية الذات.
في مثل هذا العصر تعيش القيم المتطلعة إلى الوراء والقيم المتطلعة إلى الأمام جنبا إلى جنب، ويدور بين هذه وتلك صراع فكري عنيف، تزداد حدته بقدر رغبة القديم في التشبث بآخر معاقله، والجديد الوليد في تأكيد ذاته وإثبات جدارته بالحياة. ومما يزيد هذا الصراع الحاد تعقيدا أنه لا يتخذ على الدوام شكل تعارض بين قيم رجعية وقيم تقدمية، وإنما يتخذ في كثير من الأحيان شكل اختلاف في تفسير قيم واحدة؛ فقد تظل نفس القيم باقية، ولكنها تكتسب مع أنصار الجديد دلالة جديدة، على حين أن أنصار القديم يتمسكون بدلالتها التقليدية، فيزداد الصراع بين الطرفين تعقيدا؛ لأن كليهما ينادي بنفس القيم، وإن تكن المعاني الكامنة من وراء هذه القيم المشتركة مختلفة كل الاختلاف.
وعلى ذلك فإن بحثنا في قيم التخلف وقيم التقدم لا بد أن يتشعب إلى فرعين: أحدهما يتناول المقارنة بين أنواع متقابلة من القيم، والآخر يقارن بين معان ووجهات نظر مختلفة لقيم واحدة.
ومن المحال أن يتسع المجال في هذا المقال لبحث شامل أو قريب من الشمول لموضوع عظيم الاتساع كهذا، ومن هنا كان علينا أن نكتفي بتناول نماذج من القيم الرئيسية، نستطيع أن نستخلص منها بوضوح تلك الصفات المميزة للنظرة الراجعة إلى الوراء، وللنظرة المتطلعة إلى الأمام، وأن ندرك بالتالي طبيعة القيم التي قدر لها الزوال، وتلك التي سيكتب لها البقاء.
القيم الفردية، والقيم الجماعية
لا جدال في أن جزءا كبيرا من الصراع الفكري الذي يدور اليوم بين قوى التقدم والتخلف، يتركز في التعارض بين القيم الفردية والقيم الجماعية، وكثيرا ما يتخذ أنصار الفردية أسلوب المدافعين عن الكرامة الإنسانية وعن حرمة الشخصية البشرية، وهم في ذلك يقتربون كل القرب من موقف ذلك الفارس النبيل الذي أشرنا إليه في مستهل هذا المقال - أعني «دون كيخوته» - في تعلقه الإنساني المخلص بقيم فات أوانها وانقضى عهدها إلى غير رجعة.
وذلك لأن الفرد - من أية زاوية تتأمله منها - لا يمكن أن يكون ذرة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ - على حد تعبير الفيلسوف الألماني المشهور ليبنتس - وإنما هو ملتقى طرق طولية وعرضية لا حصر لها ولا عدد، إنه أشبه بالنقطة الهندسية التي لا تعرف بذاتها، وإنما تعرف بأنها موضع التقاء خطين أو أكثر، ولا تفهم إلا من حيث هي موضع التقاء فحسب، ولقد دارت مناقشات طويلة حول معنى الفردية وإمكانها من الوجهة الفلسفية، ولست أهدف هنا إلى إضافة أي جديد إلى هذه المناقشات التي أصبحت عناصرها الأساسية مألوفة لكل مثقف، وإنما أود أن أتناول المشكلة من حيث علاقتها بالقيم الأخلاقية، أي في صلتها بالموضوع الرئيسي لهذا المقال.
إن المبالغة في تأكيد قيمة الفردية يؤدي - سواء شاء المرء أم لم يشأ - إلى نوع من التغليب للروح الأنانية؛ ذلك لأن هناك أنواعا أساسية من الكفاح لا يمكن أن تتم على المستوى الفردي على الإطلاق، وإذا قام بها أفراد منعزلون فإن النتيجة تكون دائما إخفاقا وشعورا مريرا بخيبة الأمل؛ فالكفاح الأساسي ضد الاستغلال والاستعباد بشتى أنواعه (وأقول إنه أساسي لأنه هو وحده الذي يمهد الطريق لجميع مظاهر التحرر الأخرى) ينبغي أن يتم على مستوى التضامن الجماعي، إن شئنا أن يتحقق له أي قدر من النجاح، وعلى ذلك فإن إنكار قيم التضامن هذه يؤدي - ولو بطريق غير مباشر - إلى تأكيد حالة الاستعباد، وتأخير لحظة التحرر بالنسبة إلى المجتمع وإلى الفرد ذاته.
ولقد كان المقابل الاقتصادي لمبدأ الفردية هو تأكيد دافع الربح؛ ففي الحضارة الرأسمالية تسير الفكرتان جنبا إلى جنب، بحيث يؤكد المفكرون والأدباء من جهة قيمة الفردية، ويقوم الاقتصاد من جهة أخرى على مبدأ تشجيع حافز الربح في الأفراد إلى أقصى مدى ممكن، ولقد أصبح من الشائع في هذه الحضارة أن ينظر إلى قيمة الفردية ومبدأ الربح على أنهما وجهان - أحدهما أخلاقي والآخر اقتصادي - لحقيقة واحدة، ومع ذلك فلا جدال - في رأيي - أن هناك تناقضا صارخا بين هذين المبدأين، حتى إن تأكيد أحدهما يؤدي حتما إلى القضاء على الآخر.
ولكي نكشف هذا التناقض، علينا أن نتساءل: ما الذي يعنيه تأكيد دافع الربح في المجتمع الرأسمالي؟ إنه يعني اعتقادا ضمنيا بأن أقوى الدوافع المسيطرة على الفرد هو تحقيق منفعته الذاتية، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، إنه ينطوي على اعتراف صريح بأن الإنسان أناني بطبعه، وبأن الاعتبارات المعنوية أو الأخلاقية لا يمكنها أن تكون حافزا كافيا لجهد الإنسان ونشاطه، على حين أن الاعتبارات المادية هي الأقدر على أن تحفزه إلى الفعل وبذل المجهود ... ولسنا الآن بسبيل مناقشة مدى صحة هذه النظرة إلى طبيعة الإنسان (وهي النظرة التي يراها البعض تعبيرا صريحا عن «الواقع المؤسف»، ويؤكد البعض الآخر أنها ليست صحيحة على الإطلاق، وإنما هي وليدة أوضاع وعلاقات معينة ظلت سائدة في المجتمع البشري حتى اليوم، وليس هناك ما يمنع من تغييرها جذريا في المستقبل) وإنما الذي يعنينا من هذا هو التناقض الصارخ الذي تكشف عنه هذه النظرة، بين الأساس الاقتصادي والبناء المعنوي أو الأخلاقي للحضارة الرأسمالية التي تسود فيها؛ ذلك لأن محور الدعوة الأخلاقية في المجتمع الرأسمالي هو تأكيد كرامة الفرد، وفلسفة هذا المجتمع ودعايته تنصب على تأكيد أن الحضارة الأخرى - أعني الحضارة الاشتراكية في شتى مظاهرها - تقضي على الكرامة الفردية وتجعل من الأفراد «أرقاما» في مجتمع من «النمل والنحل»، والأهم من ذلك أن المجتمع الرأسمالي نفسه هو الذي يطالب لنفسه بحق الدفاع عن القيم الروحية، ويتهم المجتمع المقابل له بتأكيد المادية واتخاذها محورا لنشاط الإنسان في كل الميادين.
وهنا يظهر لأعيننا بكل وضوح مدى التناقض في بناء عالم القيم في المجتمع الرأسمالي؛ ذلك لأن هذا البناء يرتكز على مبدأ اقتصادي يفترض ضمنا أن غاية الإنسان الكبرى هي تحقيق الربح والمصلحة الذاتية، وهي غاية مادية صرف، ولكن واجهة البناء تتخذ شكلا روحيا رفيعا، ينصب فيه المفكرون أنفسهم مدافعين عن كرامة الإنسان وجدارته، وعلى حين أن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الحضارة هو المادية في أوضح وأصرح صورها، فإن المحور الذي تدور حوله الدعوات الفكرية والمذاهب الفلسفية فيها هو الروحانية في أرفع مظاهرها، ومثل هذا التناقض الصارخ علامة من علامات الانهيار؛ إذ إن الفكر الواعي لا بد أن يتنبه إليه، ويعمل على إزالته، وهذا لا يكون إلا بتغيير حاسم لبناء القيم من أساسه.
ولا يقتصر تطبيق مبدأ «حافز الربح» هذا على العلاقات بين الأفراد فحسب، بل إن المجتمع الرأسمالي يطبقه على العلاقات بين الدول وبين الأجيال أيضا؛ فالاستعمار هو بهذا المعنى تطبيق مباشر لهذا المبدأ على مستوى الدول؛ إذ إن نفس العلاقات التي تربط بين صاحب العمل وبين العامل من جهة - في ظل مبدأ حافز الربح - هي التي تربط بين الدولة الاستعمارية وبين مستعمراتها من جهة أخرى، وكما أن من غير الطبيعي من وجهة النظر الإنسانية أن يصبح الفرد الواحد من أصحاب الملايين على حساب شقاء الألوف من العاملين، فإن من غير الطبيعي أيضا أن تصبح الدولة الواحدة خيالية الثراء على حساب شقاء عشرات الدول المنتجة الأخرى، ولا بد - في هذه الحالة الأخيرة - من أن ينسب هذا التفاوت بين ثروات الدول إلى أوضاع غير طبيعية في علاقاتها، وهي أوضاع تخضع بدورها لمبدأ «حافز الربح» وتعبر عن فكرة الاستغلال أوضح تعبير، وهنا أيضا نجد تناقضا بين الأساس المادي الصريح لهذا النوع من العلاقات الدولية، وبين الواجهة الظاهرية لبناء القيم المعبرة عن هذه العلاقات، حيث يشيع الحديث عن «الإخاء»، و«التضامن»، و«التحالف من أجل التقدم» وكلها تركيبات معنوية زائفة تتناقض مع الدعامات الفعلية التي ترتكز عليها، ولا بد للتخلص من هذا التناقض من تغيير بناء القيم بأسره.
وأخيرا فإن الروح الفردية المتطرفة تؤدي إلى مظهر آخر من مظاهر الأنانية، هو أنانية الأجيال المتعاقبة؛ فالافتقار إلى التخطيط الطويل الأمد - في المجتمعات الرأسمالية - يعني أن كل جيل يفكر في نفسه فقط، ولا يعبأ بما سيئول إليه أمر الأجيال التالية، وبالفعل نجد في أرقى البلاد الرأسمالية مفكرين ينبهون إلى خطورة الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية دون حساب للمستقبل، وإلى الفوضى التي تؤدي إلى تضخم الإنتاج في سلع ثانوية الأهمية، ولكنها تدر ربحا، وتضاؤل الإنتاج في سلع عظيمة الأهمية، ولكن ربحها قليل، أما سياسة التخطيط البعيد الأمد فهي لا تعني إلا شيئا واحدا، هو أن الجيل الحالي يفكر في الأجيال المقبلة بطريقة أساسها إنكار الذات ويقبل التضحية من أجلها بكثير من مطالبه، وهكذا فإن التخطيط هو - من الناحية الأخلاقية - تعبير عن نوع من «الغيرية» على مستوى الأجيال المتعاقبة، على حين أن ما يسمى «بالإنتاج الحر» إنما هو تعبير عن أنانية الجيل الحاضر وجشعه الذي يحول بينه وبين التفكير في المصالح البعيدة المدى للأجيال المقبلة، وفي هذه الحالة بدورها يتناقض الهيكل المعنوي للمجتمع - الذي تنتشر فيه أفكار مثل «حرية الإنتاج» و«حرية العمل» - مع التركيب الحقيقي الذي تسوده الفوضى والقيم الأنانية، ويتحتم إحلال قيم جديدة محل القيم «الفردية» - على مستوى الأجيال المتعاقبة بدورها - من أجل القضاء على هذا التناقض.
في كل هذه الحالات ينتهي الأمر بالفيلسوف الداعي إلى الفردية إلى تأكيد قيمة الأنانية في صورة من صورها، على الرغم من أن نواياه قد تكون حسنة، ورغبته قد تكون حقيقية في اتخاذ دعوته هذه وسيلة لتأكيد كرامة الإنسان، ومن هنا كان عليه أن يراجع موقفه المعنوي بأسره إذا شاء ألا يكون وسيلة لخدمة قيم التخلف، وإذا أراد أن يكون تفكيره عاملا على إعلاء مكانة الإنسان بحق.
الثبات والتغيير
ومن البديهي أن الإيمان بالتقدم هو ذاته أحد القيم الأساسية في كل مذهب تقدمي، على حين أن إنكار التقدم من أوضح صفات المذاهب الفكرية المرتكزة على قيم متخلفة، على أن فكرة التقدم تفترض مقدما فكرة أخرى، هي فكرة التغير؛ لأن التقدم لا يكون حقيقة أساسية إلا في فلسفة تؤمن بإمكان التغيير وضرورته، فما هو موقع فكرة التغير بالنسبة إلى قيم التقدم؟ وعلى أي نحو ترتبط بها؟
نستطيع أن نقول إن الإيمان بالتغير هو الشرط الأول الضروري لكل القيم التقدمية؛ فلقد أتى على الناس حين من الدهر كان الإيمان بالتغير يعد فيه مظهرا من مظاهر النقص، وكان كل ما هو كامل يوصف بالثبات والأزلية، في ذلك الوقت كانت القيم المحافظة هي السائدة، وكانت الثورة والرغبة في التغيير تعد خروجا على النظام الأزلي للكون، ولم يكن من المستغرب أن نجد في فلسفة أفلاطون أقوى دفاع عن فكرة ثبات القيم، وأن يكون أفلاطون في الوقت ذاته هو الداعية الأكبر إلى تركيب سكوني ثابت للمجتمع، تؤدي فيه كل طبقة من طبقات المجتمع ما تصلح له - بحكم تكوينها الطبيعي - من الأعمال، ولا يحق لها فيه أن تتطلع إلى أعمال الطبقات الأخرى؛ ذلك لأن الارتباط بين فكرة أزلية القيم وبين ثبات التركيب الاجتماعي، هو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أية إشارة خاصة، ومنذ ذلك الحين أصبح من سمات التفكير المحافظ المرتكز على قيم متخلفة: الإيمان بأن الكمال مرتبط بالثبات، وبأن التغير نقص، وأصبح هذا النوع من التفكير - الذي ظل مسيطرا على الأذهان عصورا طويلة - ينظر إلى الإنسان على أن له طبيعة ثابتة لا تتغير، ويؤكد أن القيم الأساسية أزلية لا تتبدل، ويساعد بالتالي على توطيد دعائم الاستغلال القائم بتأكيد استحالة تغييره.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون عصر التحول الاجتماعي الجذري - أعني القرن التاسع عشر - هو ذاته العصر الذي تأكدت فيه فكرة التغير في جميع المجالات، وعلى رأسها مجال القيم؛ ففي نفس الوقت الذي أخذت فيه فكرة التاريخ والزمانية تحل محل فكرة الثبات والأزلية بوصفها أساسا لتفسير الظواهر، في نفس هذا الوقت كانت تحدث - على المستوى العملي - تغييرات اجتماعية هائلة تبشر بقرب حدوث ثورة شاملة في علاقات القوى بين البشر، وعندئذ بدأت تظهر لأول مرة حقيقة هائلة كانت هي المقدمة العملية الكبرى لكل ثورة، هي أن النظم الاجتماعية ليست أزلية منزلة من السماء، وإنما هي من صنع الإنسان ومن خلقه، وفي وسعه أن يعدل منها ما يشاء، بل إن الإنسان نفسه ليست له طبيعة ثابتة، ولا تحكمه مجموعة ثابتة من القيم وإنما هو كائن قابل للتشكل إلى غير حد، ولا يقف شيء في وجه قدرته على التغيير.
فالثورة والتقدم يتوقف مصيرهما على الإيمان بفكرة قابلية الإنسان وما يضعه من النظم للتغيير، ومن المؤكد أن آمال الإنسان في تطوير حياته وتحسين أحوال معيشته لا تعود تعرف حدودا منذ اللحظة التي يدرك فيها أن طبيعته ذاتها قابلة للتغيير، وليس أدل على مدى التحول الهائل الذي طرأ على موقف الذهن البشري في هذا الصدد، من أن عصرنا الحالي أصبح يعد التطور والتغير مظهرا من مظاهر الكمال، ويرى في الثبات علامة من علامات النقص؛ فالظواهر التي تنتمي إلى مجال العلم والمعرفة والنظم الاجتماعية ومظاهر الخلق والإبداع بكافة أنواعه، كل هذه أصبح التغير والنمو دليلا على حيويتها وقدرتها على مسايرة الزمن، أما صفة الثبات التي كانت منذ عصر أفلاطون حتى عهد قريب تعد أهم معيار للحقيقة في مجال المعرفة، وأكبر دليل على الاستقرار في مجال العلاقات الاجتماعية؛ فقد أصبحت تعني التحجر والجمود، وتعد عائقا في وجه تحقيق الإنسان لكل ما فيه من إمكانات.
أخطاء التقدميين
على أن كثيرا من المؤمنين بالقيم التقدمية يقعون - دون وعي منهم - في أخطاء موروثة من تلك العهود الطويلة التي كان الثبات والأزلية يعدان فيها قيمة عليا لكل الظواهر التي تتصل بالإنسان، من أهم هذه الأخطاء التقيد المفرط بالسلطة؛ فمن أوضح الصفات المميزة للتقدميين في عصرنا هذا، التجاء الكثيرين منهم إلى نصوص ثابتة يعدونها مرجعا أخيرا وحكما فاصلا في كل المشكلات التي يدور حولها أي خلاف، والحجة التي يتذرعون بها هي أن هذه النصوص ذات طابع تقدمي في أساسه، ومع ذلك فمن الواضح أن النص التقدمي عندما يصبح مرجعا نهائيا، وعندما يتخذ سلطة أخيرة لا تناقش، يتحول إلى أداة تخدم أغراض التخلف؛ ذلك لأن الإيمان العميق بالتغيير، وبأن الواقع المتطور نفسه هو المعيار النهائي لكل حقيقة، يحتم علينا ألا نقف من النص موقف التقديس الخاشع مهما كانت درجة تقدميته ، وأقصى ما يمكننا أن نفعله إزاءه هو أن نتخذه دليلا هاديا، أما إذا أصبح متعارضا مع التجربة الفعلية للمجتمع (وهو أمر لا بد أن يحدث بمضي الوقت) فلا مفر عندئذ من التضحية بالنص ومجاراة الواقع، وفي اعتقادي أن الخطأ الذي يرتكبه كثير من التقدميين في هذا الصدد إنما يرجع إلى تحمسهم البالغ للحقيقة الجديدة التي كشفها لهم النص التقدمي، وهي حقيقة تبهر عيونهم وقد تعطل - إلى حين - ملكة التفكير النقدي لديهم، وهذا أمر مشاهد بالفعل في كل عصور التحول الكبرى؛ ففي الفترات الأولى بعد ظهور الأديان كانت القاعدة الشائعة هي التمسك بحرفية النص الديني، واتهام كل من يحاول إيجاد تفسير مستنير له بالمروق والخروج عن الدين، ولكن استمرار التطور أدى في معظم الحالات إلى التخفيف من هذا التزمت، وإلى النظر بعين التسامح والفهم إلى كثير من «الخوارج» و«المارقين»، ومثل هذا لا بد أن يحدث - وهو قد بدأ يحدث بالفعل - في مجال التفكير السياسي بدوره؛ فالإيمان الحقيقي بالتطور لا بد أن يخلص الأذهان من عادة الاستشهاد - في كل صغيرة وكبيرة - بنص جامد، والاعتقاد بأن أي خلاف في الفكر النظري أو التطبيق العملي يمكن أن يحل بالرجوع إلى ما ورد عنه في الكتب، حتى لو كانت هذه الكتب وثائق كبرى للفكر التقدمي.
أما الخطأ الآخر الذي يقع فيه كثير من التقدميين فهو الاعتقاد بأن التغير ينبغي أن يسري على القيم المتخلفة وحدها، على حين أن القيم التقدمية - عندما تتحقق لها السيطرة - ستظل ثابتة، أي بأن الهدف النهائي لكل تطور هو تحقيق مجتمع اشتراكي مكتمل العناصر، بالمعنى الذي نفهمه الآن لهذه الكلمة. هذا الاعتقاد في رأينا غير صحيح لسبب جوهري هو أن التطور لا يعرف غاية نهائية يقف عندها؛ فمنذ اللحظة التي نعترف فيها بأن الإنسان كائن قابل للتشكل، وبأن التطور الدائم يكون جزءا من طبيعة الحضارة البشرية، يصبح من الضروري أن نمتنع عن تحديد أية نهاية لعملية التغير والنمو التي تطرأ على أنظمة المجتمعات وعلى نواتج العبقرية البشرية، ومعنى ذلك أن غاية التطور - عند من يؤمن حقا بالقيم التقدمية - ليست هي الاشتراكية وحدها، وليست أي نظام آخر يستطيع العقل البشري أن يتصوره في مرحلته الراهنة، إن الاشتراكية هي في واقع الأمر نقطة بداية تطورات هائلة لا بد أن تتلوها، وهذه التطورات سوف تسفر قطعا - خلال المستقبل البعيد للبشرية - عن أنواع من التنظيم لا نستطيع الآن أن نتكهن بها ولو على صورة تقريبية، وكل ما يمكن تأكيده بشأنها هو أنها - من الوجهة السلبية - ستخلو تماما من جميع مظاهر الاستغلال؛ ففي التطور العلمي المذهل الذي تزداد سرعته بمضي السنين، تفتح في كل يوم إمكانات جديدة أمام الإنسان، وإذا اقترن ذلك بتنظيمات اجتماعية تتخلص تماما من الاستغلال، فإن النتيجة تكون ظهور عهود جديدة للإنسان لا يستطيع أشد الناس إغراقا في الخيال أن يتخيلوها، والمهم في الأمر أن هذا التطور لن يسير حتما حسبما تقرره الكتب أو الدراسات النظرية، وإنما سيسير مسترشدا بالتجربة ويأتينا على الدوام بالجديد الذي لم يكن نحلم به.
الحرية حالة أم عملية؟
ولست أود أن أطيل الحديث عن ذلك النوع الآخر من القيم الذي يتمسك به التقدميون والرجعيون في آن واحد، ولكنهم يختلفون أساسا في تحديد معانيه، وهو النوع الذي وعدت القارئ في بداية المقال بالحديث عنه؛ فلدينا لهذا النوع أنموذج واحد عظيم الأهمية، تغنينا معالجته عن الكلام في القيم الأخرى المنتمية إلى هذه الفئة، ذلك الأنموذج الواحد هو قيمة الحرية.
ففكرة الحرية تكون جزءا أساسيا من مجموعة القيم التي لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها، وإن يكن فهمه لها يختلف من النقيض إلى النقيض تبعا لفلسفته العامة في الحياة، وهكذا يدعو أنصار التخلف وأنصار التقدم معا إلى الحرية، ويعدونها قيمة رئيسية تتوج حياة الإنسان المعنوية، ولكن الاختلاف بينهما في تفسير معناها يصل إلى حد التضاد التام، بحيث لا يعود هناك عنصر مشترك بين هذه الحرية وتلك سوى اللفظ فحسب.
ولقد أسهب المفكرون في إيضاح مفهومي الحرية عند أنصار التقدم والتخلف إلى حد لا يعود من الممكن معه إضافة أية فكرة جديدة إلى هذا الموضوع في مثل هذا الحيز الضيق، ومع ذلك فربما كان من المفيد أن نقدم إلى القارئ صيغة موجزة تعبر بدقة عن التضاد بين النظرة التقدمية والنظرة الرجعية إلى قيمة الحرية، هذه الصيغة هي أن الحرية في التفكير الرجعي «حالة»، وفي التفكير التقدمي «عملية»؛ فعندما يتحدث الداعون إلى قيم التخلف عن الحرية، يعنون بذلك حالة معينة يتصف بها الإنسان، ويدور كل الخلاف الميتافيزيقي بين أنصار الحرية وأنصار القهر أو الجبرية حول السؤال الآتي : هل هذه الحالة أم عكسها هي التي تلازم الإنسان؟ أعني هل يعد الإنسان بحكم تركيبه وتكوينه كائنا حرا أم مجبرا؟ مثل هذا السؤال لا يحتمل إجابة وسطا، وإنما هو يقرر أحد الأمرين على نحو مطلق، فإما أن تكون للإنسان حرية كاملة أو لا تكون له حرية على الإطلاق، أما الداعون إلى قيم التقدم فإنهم يتحدثون عن الحرية على أنها عملية نامية متطورة، تسير مع تاريخ الإنسان بالتدريج ولا يمكن أن تقف عند حد أو تكتسب كاملة، وهكذا تتمشى النظرة «السكونية» إلى الحرية - عند أنصار القيم المتخلفة - مع موقفهم العام في الدفاع عن الثبات والأزلية وإنكار حقيقة التغير، على حين أن المفهوم «الحركي» للحرية عند أنصار القيم المتطورة يتلاءم تماما مع فكرة التغير والتقدم التي وصفناها من قبل بأنها جزء أساسي من البناء التقدمي للقيم، بل إن التقدم في معناه الحقيقي إنما هو نفس العملية التي تنمو بها الحرية، وتتحقق بها سيطرة الإنسان على الكون وتنميته لمواهبه وقدراته، وبهذا المعنى تكون الحرية عملية مستمرة، لا تعرف حدا نهائيا تتوقف عنده، وتظل تنمو طوال تاريخ الإنسان؛ ففي كل اختراع جديد - من العجلة الخشبية إلى الصاروخ الموجه - مزيد من الحرية، وفي كل مرض يقهره الإنسان مزيد من الحرية، وفي كل عائق طبيعي يتغلب عليه الإنسان مزيد من الحرية، وبالاختصار فإن الإنسان لا «يكون» حرا، وإنما «يصبح» حرا على قدر ما يبذل من الجهد وما يحقق من التقدم.
هذه بعض القيم الفلسفية الرئيسية في مفاهيمها التقدمية والرجعية، ومن الواضح أن الاختلاف في هذه المفاهيم ليس مجرد خلاف نظري أو فلسفي، وإنما هو خلاف في النظرة الكاملة إلى العالم، وفي الطريقة التي يحكم بها الإنسان على حاضره ومستقبله، والسؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا في هذه المرحلة من تاريخنا هو: إلى أي حد استطاعت أذهاننا أن تتخلى عن قيم التخلف وتتحول إلى قيم التقدم؟ وإلى أي حد أمكنها أن تجعل من هذه القيم الأخيرة، لا مجرد أقوال تسرد بل أسلوبا كاملا في الحياة؟
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
في رأيي أن ضرورة التجديد كامنة في صميم الفكر الاشتراكي ذاته؛ فهناك على الأقل مبدآن رئيسيان في هذا الفكر، يحتمان القيام بمراجعة دائمة لأصول النظرية الاشتراكية:
أول هذين المبدأين:
أن كل نظرية إنما هي انعكاس لواقع معين وتعبير عنه، وأنها ليست بناء فكريا يرتكز على فراغ، بل إن جذورها تتغلغل دائما في الواقع الذي نبتت منه.
وثانيهما:
أن الواقع في تغير مستمر، وأن التحول قانون الحياة في العالم الطبيعي والإنساني معا.
فإذا جمعنا بين هذين المبدأين، أمكننا أن نقرر أن الفكر الاشتراكي ينطوي - ضمن مقوماته الرئيسية التي لا تنفصل عنه - على مبدأ ضرورة مراجعته وتعديله وإعادة النظر فيه، ولو لم نعترف بهذا المبدأ الأخير، لكنا نرتكز في عدم اعترافنا هذا على قضايا تتنافى مع أصول الفكر الاشتراكي نفسه؛ إذ إننا عندئذ إما أن نكون ممن ينكرون تغير الواقع، فنظن أن هذا الواقع قد ثبت وتحجر عند وضع معين، وإما أن نكون من القائلين بإمكان وجود نظرية تظل محتفظة بصلاحيتها بالرغم من تغير الواقع الذي ظهرت أصلا لكي تعبر عنه.
على أن لفظ «المراجعة» قد أصبح من الألفاظ المشينة في المصطلح الاشتراكي، وأصبح الاتصاف به وصمة لا تغتفر، والواقع أنه إذا كان المقصود من المراجعة هو معنى المروق والخيانة؛ لكان لهذه الطريقة في فهم اللفظ ما يبررها، أما إذا كان المقصود منه مجرد الانحراف عن خط أصلي أو إعادة النظر فيه، فلست أرى في اللفظ ما يشين؛ إذ إن الخط الأصلي قد ظهر في ظل واقع معين، والواقع دائم التغير، فلا بد من عملية إعادة نظر دائمة في هذا الخط، وإذا أدرك المرء هذه الحقيقة عن وعي، واستوعب مضمونها استيعابا كاملا؛ لتبين له عندئذ أن الوضع المرغوب فيه هو «المراجعة» - بشرط أن تكون مخلصة واعية - وأن الوضع الذي ينبغي أن تنصب عليه الإدانة والاتهام هو التمسك المتحجر بقضايا ونظريات تتغير الأرض من تحتها دون انقطاع.
على أن تغيير الواقع الذي يستتبع ضرورة مراجعة النظرية لا يعني أن النظرية ذاتها عميقة ، أو أنها تعجز عن أن تقدم إلينا أي أساس للتنبؤ؛ ذلك لأن التغير - كما قلنا من قبل - حقيقة طبيعية ترتكز عليها كل فلسفة ذات صبغة علمية، ومن جهة أخرى فإن هناك نوعا آخر من التغير، يمكن أن يوصف بأنه تغير مفتعل أو متعمد، يتم فرضه على الواقع قسرا من أجل هدم الأساس الذي ترتكز عليه النظرية، والحيلولة دون حدوث النتائج التي تتنبأ بها؛ فالنظرية الاشتراكية تتنبأ بانهيار النظام الرأسمالي، أو على الأقل بتزعزع أركانه؛ نتيجة لحدوث تطورات معينة، تتخذ صبغة التناقض الحاد في داخله، والنظام الرأسمالي حريص على بقائه، ويدرك من جهة أخرى أن تطوره لو سار في طريقه الطبيعي فسوف يؤدي إلى تحقيق التنبؤات التي تقول بها النظرية الاشتراكية، ومن هنا فإنه يعمل على تغيير مسار تطوره بطريقة مفتعلة حتى يحول دون تحقيق تنبؤاتها، مثل هذا التغير هو بمعنى معين - أي بالمعنى السطحي الظاهري - تكذيب للنظرية الاشتراكية، ولكنه بمعنى آخر أعمق تأييد وتأكيد لها؛ إذ إنه لم ينبعث إلا عن مقاومة النظام الرأسمالي لها، وإدراكه لخطرها على كيانه، أي عن اعترافه الضمني بصحتها.
ومع ذلك فإن النظرية الاشتراكية إذا تمسكت بطابعها التقليدي، ولم تعمل على مواجهة الواقع الذي تعمد النظام الرأسمالي إحداث تغيرات مفتعلة فيه، فإنها تكون بذلك قد ساعدت - بطريقة غير مباشرة - على تحقيق أهداف خصومها، وبالتالي على هدم نفسها بنفسها، وبعبارة أخرى فإذا كان كل تنبؤ يرتكز على واقع معين، وإذا كان النظام الرأسمالي قد تعمد تغيير الواقع الذي يعتمد عليه التنبؤ الاشتراكي، فإن من الخطأ التمسك بحرفية هذا التنبؤ المبني على واقع تم تجاوزه - حتى لو كان هذا التجاوز قد تم بطريقة مفتعلة - بل إن المسلك الصحيح في هذه الحالة هو التعديل المستمر للنظرية في ضوء الواقع الجديد.
وربما بدا للمرء أن هذه عملية لا نهاية لها؛ إذ إن هذا الواقع الجديد بدوره يمكن تغييره، وعندئذ يتعين على النظرية أن تعدل نفسها من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية، ومن الجائز أن هذا صحيح، بل إن من الممكن أن يذهب المرء إلى حد القول إن نفس عملية وضع نظرية ترسم خطوطا محددة للثورة الاشتراكية في المستقبل، يمكن أن تعد بمعنى معين معوقا لهذه الثورة ذاتها، من حيث إنها تنبه الخصم إلى نقاط ضعفه الداخلية وتدفعه إلى بذل جهوده من أجل تلافيها، والحيلولة دون تحقيق الظروف التي تصدق في ظلها النظرية، كل ذلك قد يكون ممكنا، ولكنه لا يدعو إلى اليأس أو التوقف عن العمل والتفكير، بل إن كل ما يدل عليه هو أن طريق الكفاح أمام الفكر الاشتراكي طويل وشاق ومتعرج، وأن أصحاب النظريات التي ترسم لهذا الكفاح مسارا واحدا يسير في خط مستقيم، غالبا ما ينتهي بهم الأمر إلى واقع يصدمهم ويكذب تنبؤاتهم.
وعلى الرغم من أن ضرورة إعادة النظر في أسس الفكر الاشتراكي تبدو أمرا واضحا لا يحتاج إلى تبرير، فإن الكثيرين ممن تتيح لهم تجاربهم ويسمح لهم مستواهم الفكري، بممارسة نقد النظرية الاشتراكية، يحجمون عن ذلك النقد، أو لا يسيرون فيه إلى الحد الذي ينبغي عليهم أن يمضوا إليه، وبطبيعة الحال فإن أعداء النظرية لا يترددون في توجيه شتى ألوان الانتقادات إليها، ولكنا لا نود أن نتحدث عن هذا النوع المغرض من النقد، بل إن موضوع اهتمامنا هو النقد النزيه المحايد، فضلا عن النقد النابع من باطن الفكر الاشتراكي ذاته، مثل هذا النقد الأخير يعاني في عصرنا أزمة ينبغي له أن يتغلب عليها، وربما أمكننا أن ندرك أسباب هذه الأزمة إذا اختبرنا الموقف الذي تتخذه كل فئة من فئات المفكرين القادرين على النقد، إزاء أسس النظرية الاشتراكية.
فهناك فئة من المفكرين تجعل للاتساق المنطقي أهمية تعلو على كل الاعتبارات العملية، وهذه الفئة لا تتردد - حين تجد ما تتصور أنه تناقض في النظرية الاشتراكية - في الانحياز فكريا إلى المعسكر الآخر، بحيث إن خصومتها الفكرية البحتة تنتهي بها إلى اتخاذ موقف الدفاع عن الرأسمالية، هذه الفئة التي تبدأ في واقع الأمر بداية محايدة لا تتحكم فيها اعتبارات المصلحة أو التحيز، تغفل في تفكيرها حقيقة هامة لا ينبغي أن تغيب عن ذهن أي مفكر نزيه؛ هي أن الاشتراكية حتى لو بدت مفتقرة إلى الاتساق المنطقي ومنطوية على بعض الصعوبات الفكرية، هي في الوقت ذاته ضرورة عملية، وإن قيمتها العملية هذه ينبغي أن تدفعنا إلى بذل الجهد اللازم من أجل تخليصها من أية صعوبات نظرية تقع فيها، وإذن فموقف هذه الفئة من المفكرين سلبي ومفتقر في حقيقة الأمر إلى تلك النزاهة التي يدعيها أصحابها لأنفسهم، وحسبنا أن نذكر أن النظام المضاد - الذي ينتهون إلى الدفاع عنه - ينطوي على مزيد من التناقضات النظرية، فضلا عن أضراره العملية والإنسانية الفادحة.
وهناك فئة أخرى من المفكرين تدرك عن وعي هذه الحقيقة التي نبهنا إليها في صدد الفئة السابقة، فتوجه إلى الفكر الاشتراكي نقدا نظريا، ولكنها تؤكد ضرورة التمسك بممارسته عمليا، هذه الفئة - وإن كانت أشد إخلاصا من الفئة السابقة - تعاني نوعا من «الفصام»؛ إذ إن موقفها النظري يسير في جانب وموقفها العملي يسير في جانب آخر، مع أن التجانس بين النظر والعمل شرط لا بد من تحقيقه لكي يكتمل إيمان الإنسان بالهدف الذي يعمل من أجله؛ فالمفكرون المنتمون إلى هذه الفئة يتخذون إذن موقفا لا يمكن الاستقرار عنده طويلا، بل ينبغي تجاوزه.
وهناك فئة ثالثة تخشى أن يؤدي بها نقد الفكر الاشتراكي إلى النهاية التي انتهت إليها الفئة الأولى، أي الانحياز إلى الموقف المضاد، فتحجم عن النقد، لا خوفا من أي عامل خارجي، بل حرصا على البقاء في زمرة المفكرين التقدميين، هذه الفئة تؤمن بحتمية انتصار الاشتراكية في آخر الأمر، وتعلم أن السير في طريق الاشتراكية معناه مسايرة تيار التاريخ ذاته، ونظرا إلى أنها لا تريد أن تقف في وجه حركة التاريخ، فإنها تمتنع عن الجهر بما تشعر به في قرارة نفسها من ضرورة مراجعة أسس فكرية معينة للنظرية الاشتراكية، وهذا الموقف بعيد كل البعد عن الانتهازية، بل إنه ناجم عن الإخلاص الشديد للمبدأ الاشتراكي ذاته، وعن الرغبة في عدم اتخاذ موقف النقد حتى لا يفيد منه الخصم في المعركة الضارية التي يشنها على الحركة الاشتراكية، ومع ذلك فإن حركة التاريخ هذه لا تسير آليا، وعلى نحو منفصل عن جهود الإنسان من أجل تحقيقها، بل إن سيرها في طريقها الصحيح يتوقف إلى حد بعيد على قدرتنا على تخليص القوة الدافعة للتاريخ - أعني المبدأ الاشتراكي - من كل ما يمكن أن يبعث فيها أي نوع من الوهن أو التردد، وإذن فموقف هذه الفئة بدورها يفتقر آخر الأمر إلى الحكمة وبعد النظر.
كل هذه الفئات إذن تمثل اتجاهات في النقد الاشتراكي تفتقر إلى الاكتمال أو النضج بدرجات متفاوتة، والواجب أن يتسع الفكر الاشتراكي لكل نوع من النقد ما دام هذا النقد مخلصا لا يصدر بدافع الاصطياد المتعمد للأخطاء، بل إن قوة الفكر الاشتراكي وحيويته - في هذه الفترة التي نمر بها من تاريخ العالم - تتوقفان على مدى قدرته على مراجعة ذاته، ومقارنة أسسه النظرية بطبيعة الواقع الذي أصبحت هذه الأسس تطبق عليه، وتعديل هذه الأسس على النحو الذي يقطع على الخصم طريق استغلال أي تناقض بين الفكر النظري والممارسة العملية. •••
في ضوء هذا المبدأ العام - أعني الاعتراف بأن المراجعة المستمرة ضرورة حيوية للفكر الاشتراكي، بل هي الموقف الذي يتمشى بالفعل مع أسس هذا الفكر - يصبح من واجب الكاتب ألا يتردد في الإدلاء برأيه فيما يرى أنه تعديلات لا بد من إدخالها على الفكر الاشتراكي حتى يكون أقدر على مواجهة الخصومة العنيدة للفكر الرأسمالي، وعلى أن يحقق إيجابيا رسالته الإنسانية الرفيعة.
ومن المحال أن يتسع مقال كهذا - بطبيعة الحال - لأية مناقشة مفصلة لموضوع على هذا القدر من الخطورة، فضلا عن أن هذه المسألة يمكن - بمعنى معين - أن تعد المحور الذي يدور حوله كل ما يصدر من دراسات عن الاشتراكية، ولن يستطيع المرء في مثل هذا الحيز أن يضع رءوسا لمسائل تستحق أن تكون موضوعا لتفكير أكثر تعمقا وتفصيلا؛ فالنقاط التي سنشير إليها في هذا المقال لا تعدو أن تكون طرحا لأسئلة تحفز على مزيد من التفكير، أما الإجابات ذاتها فإن الزمن والتجربة والممارسة هي الكفيلة بأن تضع لها أفضل صيغة ممكنة.
فكرة الصراع الطبقي
مفهوم الطبقة من المفاهيم الأساسية في التفكير الاشتراكي، والتقسيم الطبقي الثنائي التقليدي - أعني تقسيم المجتمع إلى من يملكون ومن لا يملكون أو المستغلين والمضطهدين - هو واحد من الأسس الكبرى التي يقوم عليها التفسير الاشتراكي لتطور العلاقات الاجتماعية، ولقد كان الفهم التقليدي للطبقات، في النظرية الاشتراكية، فهما مبسطا إلى حد ما، يرتكز على وجود ثنائية تتخذ أشكالا متباينة في مختلف فترات التطور الاقتصادي، ويقوم بين طرفيها تناقض حاد هو الذي يحرك التاريخ، وآخر أشكال هذه الثنائية في العصر الرأسمالي هو التضاد بين الطبقة البورجوازية والبروليتاريا أو الطبقة العاملة، وعلى أساس الصراع بين هاتين الطبقتين في عصرنا هذا تحدد نتيجة الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.
ولقد ظهر بوضوح - منذ تجربة الثورة الاشتراكية الرائدة في روسيا - أن مفهوم الطبقة هذا يحتاج إلى بعض التعديل؛ إذ إن الثورة ظهرت في بلد لا يمثل العمال فيه نسبة غالبة أو قوة ضاغطة تستطيع بمفردها أن تحمل على أكتافها عبء الثورة، وكان اشتراك العمال والفلاحين في الثورة الروسية مؤديا إلى إدخال تعديل على مفهوم الطبقة، وعلى طبيعة الصراع الطبقي في العصر الحديث، وسميت هذه «المراجعة» المبكرة باسم «النظرية اللينينية» التي أصبحت عنصرا جديدا مضافا إلى النظرية الاشتراكية، وإن كان نجاحها على المستوى العملي، واندماجها في التيار الرئيسي للفكر الاشتراكي، قد حال دون النظر إليها على أنها «مراجعة» بالمعنى السيئ لهذه الكلمة.
على أن التطورات الأخيرة للتجربة الاشتراكية في مختلف أنحاء العالم قد أضفت على مفهوم الطبقة تعقيدا هائلا، بحيث أصبحت الثنائية التقليدية مجرد إطار خارجي عام، توجد في داخله اتجاهات متشابكة ومعقدة يتحتم على الفكر الاشتراكي أن يواجهها ويعمل لها حسابا إذا شاء أن يحتفظ بقدرته على فهم حركة المجتمع الإنساني والتحكم فيها.
فالفكر الاشتراكي التقليدي يرتكز إلى حد بعيد على فكرة وحدة الطبقة العاملة في مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك فإن هذه الوحدة بعيدة كل البعد عن التحقق في وقتنا الحالي؛ ذلك لأن الفارق بين مستوى الطبقة العاملة في البلاد الغنية، ونظيرتها في البلاد الفقيرة، يبلغ من الضخامة حدا يحول دون تصور أية وحدة في المصالح بينها، ويجعل من الضروري إعادة النظر في الدعوة إلى اتحاد «عمال العالم» من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية.
ففي البلاد الرأسمالية الكبرى، أصبح العمال في مجموعهم على مستوى شبه بورجوازي، بحيث غدا من الصعب التأثير فيهم عن طريق الإشارة إلى حالة الفقر التي تزداد سوءا في ظل النظام الرأسمالي، ومن الواجب أن ننبه - كما قلنا من قبل - إلى أن هذا الارتفاع في مستوى معيشتهم ليس ناجما عن تطور داخلي في النظام الرأسمالي نفسه، أو عن ميزة يتسم بها هذا النظام وتؤدي به إلى رفع مستوى العمال في داخله، بل إنه في واقع الأمر محاولة دفاعية من النظام الرأسمالي لحماية نفسه، وبالتالي فهو نتيجة غير مباشرة للدعوة الاشتراكية ذاتها، ومن ذلك فإن الأمر الواقع - الذي ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يواجهه - هو أنه لم يعد من الممكن مخاطبة العامل في الدول الرأسمالية المتقدمة عن طريق تنبيهه إلى حالة البؤس التي يعيش فيها، وبعبارة أخرى فإن شعار «أيها العمال، ليس لديكم ما تفقدونه إلا أغلالكم» لا يمكن أن يكون قوة محركة للعامل الأمريكي أو الألماني الغربي مثلا؛ إذ إن لديه - إلى جانب أغلاله - الكثير مما يخشى أن يفقده، ولا بد للفكر الاشتراكي من أن يبحث عن وسيلة أخرى لمخاطبة مثل هذا العامل.
ومن جهة أخرى، ففي البلاد المتخلفة يمكن أن يؤدي الفقر الشديد وانتشار الجهل والانحلال العام الذي يولده تراكم البؤس جيلا بعد جيل، إلى ضياع قدر كبير من صلابة الطبقة العاملة وإصرارها على الكفاح، بحيث يسهل وقوع العمال أو وقوع الأقلية المتزعمة لهم فريسة للإغراءات والمساومات، وتصبح الطبقة العاملة في عمومها قوة أقرب إلى السلبية، يسهل التسلط عليها وتوجيهها في اتجاهات تتعارض مع مصالحها الحقيقية، وفي هذه الحالة قد يكون من المفيد التفكير في إعطاء دور أكبر للقوى المثقفة، التي يمكن أن يؤدي وعيها وفهمها العام للأمور إلى إكسابها مزيدا من الصلابة في الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.
وعلى أية حال، ففي عالم اليوم من التغيرات ما يجعل من الضروري على المفكرين الاشتراكيين أن يعيدوا النظر في فكرة التعارض الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا، وفي الشعارات التي تجعل من هذه الطبقة الأخيرة القوة التقدمية الوحيدة التي يمكنها أن تحمل لواء الدعوة الاشتراكية، وليس معنى ذلك أن هذه الشعارات باطلة، بل معناه أن الواقع الحالي - في تعقده الشديد - يحتاج إلى مراجعة وتعديل لهذه الأفكار التي ظهرت في ظل واقع أبسط بكثير.
ولقد أدى التفاوت الشديد بين مستوى الطبقات العاملة في البلدان المختلفة إلى جعل الفوارق القومية - في بعض الأحيان - أشد تأثيرا من الفوارق الطبقية؛ فالدول نفسها أصبحت تكون طبقات فيما بينها، وهناك دول «رأسمالية» حتى بطبقاتها العاملة ودول أخرى «بروليتارية» حتى بطبقاتها البورجوازية، ويؤدي التباين الهائل في المستوى العلمي والتكنولوجي بين هذه الدول إلى مزيد من التعقيد في معنى الصراع الطبقي؛ إذ إن طبيعة هذا الصراع وأهدافه لا بد أن تختلف في حالة الدول المتخلفة، بل إن من الواجب - حتى في الدول الاشتراكية ذاتها - أن تكون أساليب التطبيق في دولة متقدمة ثقافيا وتكنولوجيا - مثل تشيكوسلوفاكيا - مختلفة إلى حد بعيد عن أساليب التطبيق في دولة مثل بلغاريا، ومثل هذه المرونة في تطبيق المبدأ الاشتراكي ذاته كان يمكن أن تؤدي إلى الحيلولة دون وقوع كثير من المصاعب التي تتردد على الأسماع في هذه الأيام.
مشكلة السياسيين والخبراء
ومن المشكلات الهامة التي تستحق التفكير والمراجعة، مشكلة العلاقة بين الجهاز السياسي والجهاز الفني أو جهاز الخبراء في النظم الاشتراكية، فحتى الآن كان الاتجاه السائد هو أن تكون للجهاز السياسي السلطة العليا الموجهة، ولجهاز الخبراء سلطة التنفيذ في الحدود التي يرسمها الجهاز الأول، ولا جدال في أن الدوافع التي أملت هذا الوضع - في البداية - كانت تغليب المصلحة العليا للأهداف الاشتراكية العامة على أي اعتبار آخر، ولكن الخبرة الطويلة في تطبيق هذا النظام كشفت - في حالات غير قليلة - عن صعوبات لم يكن من الممكن التنبه إليها في المرحلة الأولى من مراحل التطبيق، وهي مرحلة تتسم عادة بقدر غير قليل من المثالية؛ ففي كثير من الأحيان أدى إعطاء السلطات الرئيسية للجهاز السياسي إلى تجاهل أو إهمال لآراء الخبراء، وإلى تهاون من جانب هؤلاء الأخيرين، حين يجدون أن خبراتهم لا تجد لنفسها مجالا تمارس فاعليتها فيه، ومن جهة أخرى تحول الجهاز السياسي في بعض الأحوال إلى فئة محترفة تستهدف المحافظة على مصالحها الخاصة، وتضع هذه الغاية فوق أي اعتبار آخر، ومثل هذا التحول يمكن أن يلحق ضررا كبيرا بالمرافق التي تحتاج إدارتها إلى خبرة وكفاءة فنية، فضلا عن أنه يهبط بمستوى العمل السياسي ويشوه صورته في أعين الناس.
فأمام الفكر الاشتراكي إذن مهمة حيوية، هي أن يعيد النظر في العلاقة بين سلطة الأجهزة السياسية وسلطة أجهزة الخبراء، ويعيد تخطيط الحدود بينهما في ضوء الخبرة المكتسبة من تجارب دول عديدة، واضعا نصب عينيه أن التعارض القديم بين هذين الطرفين قد بولغ فيه، وأن هذه المبالغة ألحقت في بعض الأحيان أضرارا فادحة بالأهداف الحقيقية للعمل السياسي والإنتاج الاجتماعي في آن واحد.
التنمية والإنسان
ولقد اكتسب الفكر الاشتراكي - ولا سيما في الآونة الأخيرة - من التجارب ما يسمح له بأن يعيد النظر في مشكلة أساسية من المشكلات التي تواجهه، ألا وهي العلاقة بين هدف التنمية الاقتصادية وبين القيم الإنسانية بوجه عام؛ ذلك لأن الفكرة الاشتراكية ظهرت أصلا من أجل تحقيق أهداف إنسانية رفيعة، والقوة الدافعة لكبار الاشتراكيين كانت رد اعتبار الإنسان من بعد أن حالت عوامل الظلم والاستغلال طويلا بينه وبين تحقيق إمكانياته بحرية، وبعبارة أخرى فالفكر الاشتراكي يتميز منذ عهوده الأولى بنزعة إنسانية واضحة كل الوضوح، ومع ذلك فإن من أكبر الانتقادات التي يوجهها خصوم هذا الفكر إليه في هذه الأيام - والتي يجيد هؤلاء الخصوم استغلالها ويجنون منها فائدة كبرى - تجاهله للإنسان، فكيف استطاع أعداء الاشتراكية أن يوجهوا إليها نقدا كهذا؟
من الأمور المسلم بها أن عملية بناء الاشتراكية قد اقترنت - في بعض الدول - بنوع من الضغط القاسي الذي يصعب على الإنسان أن يتحمله، وإذا كانت الغاية في هذه الحالة سليمة، فإن الوسيلة يمكن أن تلحق بالغاية أفدح الضرر؛ ذلك لأن هذا الضغط الزائد على قوة تحمل الإنسان يفترض في أفراد المجتمع نوعا من الغيرية، والتضحية في سبيل الأجيال التالية، لا يستطيع كل الناس اكتسابه في ظل القيم التي ظلت البشرية تعيش عليها حتى اليوم، وما زال من الحقائق المؤكدة حتى اليوم أن لدى كل إنسان ميلا إلى أن يشاهد في حياته جزءا على الأقل من ثمار الجهود التي أفنى عمره في بذلها، ويتمتع بها معنويا وماديا، وقد عرف مفكرو النظام الرأسمالي كيف يستغلون نقطة الضعف هذه، وربما كان جزء كبير من الاضطراب الذي تعانيه بعض التجارب الاشتراكية راجعا إلى هذه المسألة بالذات.
ومن جهة أخرى، فإن هذا الضغط الزائد على طاقات الإنسان، وكذلك الحاجة إلى توجيه المجتمع حسب خطة مرسومة مقدما، أثار تعارضا آخر مع النزعة الإنسانية، يتمثل في تقييد بعض الحريات الأساسية، والحق أن المفكر النزيه لا يملك إلا أن يشعر بالحيرة حين يجد بعض النظم الاشتراكية تعطي الرأسماليين المستغلين كل الفرص التي تتيح لهم أن يعلنوا من أنفسهم حماة لحرية التفكير والتعبير وغيرها من الحقوق التي كافح الإنسان من أجلها قرونا عديدة. وأقول إن هذا الأمر محير للمفكر النزيه؛ لأن مثل هذا المفكر يعلم حق العلم مدى زيف الحرية المزعومة في المجتمعات الرأسمالية، ومدى الخبث والدهاء اللذين يشكل بهما النظام الرأسمالي اتجاهات الرأي العام في بلاده من خلال كافة أجهزة الإعلام، التي هي في الوقت ذاته مرافق ذات مصالح رأسمالية معروفة، هذه حقيقة واضحة، ومع ذلك فإن كل شيء يبدو - على السطح - كما لو كان يسير تلقائيا بحرية تامة، أما في تلك التجارب الاشتراكية التي نتحدث عنها، فإن الاعتراف بتقييد الحرية علني صريح، مما يعطي الخصوم فرصة - هم أبعد الناس عن استحقاقها - لكي ينادوا بأنهم هم وحدهم الحريصون على حرية الإنسان.
فهل كتب على الفكر الاشتراكي أن يقف عاجزا إزاء مشكلة الحريات التي يسميها - على نحو غير مقنع تماما - باسم الحريات الليبرالية، ويجعل منها جزءا من تكوين النظام الرأسمالي وحده، ويعطي بذلك للخصوم سلاحا لا يحلمون به؟ هل سيظل هذا الفكر يحكم على نفسه بالابتعاد عن النزعة الإنسانية التي كانت هي مصدر قوته الأولى؟ وإلى متى سيظل يسمح لأعداء الإنسان باتهام الاشتراكية بأنها لا تعيش إلا داخل جدران أغلقت نوافذها وأوصدت أبوابها بإحكام؟ أليس التفكير في وسيلة للخلاص من هذا المأزق أقدس رسالة ينبغي أن يكرس لها مفكرو الاشتراكية جهودهم في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ نضالهم؟
إن من الأمور المسلم بها أن أيدي خصوم الاشتراكية تتدخل بكل ما تملك من قوة لكي تثير الصعوبات أمام أي نظام اشتراكي تستطيع أن تمارس مؤامراتها عليه، ولكن هناك حقيقة ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يعترف بها ويواجهها صراحة، وهي أن هذا التآمر وهذا التخريب إنما يستغل أخطاء موجودة بالفعل، وبقدر ما يجد التآمر صدى في نفوس الجموع الكبيرة من الناس - حتى أصحاب المصلحة الحقيقية في بقاء النظام الاشتراكي منهم - تكون هذه الأخطاء أفدح وأخطر، وفي مثل هذه الأحوال لا ينبغي أن تقتصر مهمة الفكر الاشتراكي على التنديد بتآمر الخصم وتخريبه، بل ينبغي عليه أن يبحث بصدق وأمانة وصراحة في أصل العيوب ونقاط الضعف التي استطاع التآمر أن يستغلها، والتي لولاها لما استطاع أن يجد لنفسه منفذا، وكلما كان الفكر الاشتراكي أسرع إلى كشف أخطائه الداخلية ومعالجتها قبل أن تستفحل، كان ذلك خيرا ألف مرة من الانتظار حتى يفلت الزمام، ومعالجة الداء في آخر لحظة بطريق البتر.
سياسة التعايش السلمي
وأخيرا فلعل من أهم المسائل التي تشكل تحديا جبارا أمام الفكر الاشتراكي في أيامنا هذه بالذات، مسألة حدود سياسة التعايش السلمي، وأوضح دليل على خطورة هذه المسألة أن الآراء منقسمة حولها داخل المعسكر الاشتراكي إلى ما يزيد عن أربعة اتجاهات يمكن تمييزها بوضوح، والإشكال الذي يواجهه مبدأ التعايش ذاته والذي يحتم بالتالي إعادة تقدير حدود هذا المبدأ ومدى إمكان استمرار تطبيقه، هو أن فكرة التعايش - التي كان المقصود منها في الأصل تقليم أظافر المعسكر الرأسمالي - بإشاعة جو سلمي يتنافى مع مصالح الرأسمالية التي لا تزدهر إلا في جو يسوده التوتر والعدوان، هذه الفكرة قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى أداة تخدم المعسكر الرأسمالي.
ولسنا نرى ما يدعو إلى تقديم أي شرح مفصل للطريقة التي استطاع بها المفكرون المدافعون عن الرأسمالية أن يقلبوا مبدأ التعايش من أداة لتوريط نظامهم إلى أداة لخدمة مصالحهم، تسبب لأصحاب هذا المبدأ وواضعيه أنفسهم حرجا شديدا، لكن يكفينا أن نشير إلى أنهم - مع احتفاظهم بنوع من التعايش السلمي على مستوى الدول الكبرى - ينتهزون كل الفرص لخرق هذا التعايش على كل المستويات الأخرى، أعني لإيجاد حالة من التوتر المستمر، تهدد بقيام حرب شاملة وإن لم تكن تؤدي إليها بالفعل، هذا التوتر يعطي القوى العدوانية حرية العمل، ويشل في الوقت ذاته حركة القوى ذات المصلحة في السلام؛ لأن تدخلها لا بد أن يزيد من التوتر إلى الحد الذي يهدد السلام العالمي تهديدا فعليا، ومن هنا كانت حرية الحركة الواضحة التي اتسمت بها سياسة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي استطاعت بفضلها أن تلحق بالمعسكر الاشتراكي وبمعسكر الحياد الإيجابي نكسات على جبهات متعددة.
هناك إذن حاجة ملحة إلى إعادة تقويم سياسة التعايش السلمي واختبارها في ضوء التجارب الأخيرة، لا سيما وأن هناك ثورة على هذه السياسة داخل المعسكر الاشتراكي نفسه، ولكن مما يزيد المسألة تعقيدا أن اتباع هذه السياسة يبدو أمرا لا مفر منه ما دام المعسكر الرأسمالي - وعلى رأسه الولايات المتحدة - لا يزال هو المتفوق اقتصاديا وعسكريا؛ فالمواجهة المباشرة مستحيلة ما دام الخصم سيلجأ فيها - إذا وجد نفسه في مأزق شديد - إلى استخدام كل ما يملك من قوة، وعلى هذا الأساس يبدو المعسكر الاشتراكي مضطرا إلى الأخذ بشكل من أشكال سياسة التعايش السلمي، إلى أن ينقلب الميزان الاقتصادي لصالحه، وبعبارة أخرى فهناك نوع من المهادنة السياسية والعسكرية، يجري خلالها العمل على أشده من أجل تعويض النقص وسد الفراغ في الميدان الاقتصادي، وبهذا المعنى يبدو التعايش السلمي مرحلة مؤقتة تمنح المعسكر الاشتراكي مهلة يستطيع خلالها أن يلحق بالمعسكر الرأسمالي ثم يسبقه في الميدان الحقيقي الذي سيقرر نتيجة المعركة، وهو ميدان الإنتاج الاقتصادي، فإذا ما تحقق له هذا السبق؛ أمكن أن تحل كل المشكلات الأخرى دون عناء.
ولكن هذا التصوير للموقف يكشف لنا عن تعقيدات هائلة في الصراع الراهن بين المعسكرين؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي يدرك بدوره هذه الحقيقة، ويعمل كل ما في وسعه للحيلولة دون تحقق الظروف التي قد تساعد الخصم على التفوق عليه، وليس التوتر الذي يخلقه والحروب الصغيرة والمتوسطة التي لا يكف عن إثارتها سوى محاولات لزيادة عبء التسلح على العالم الاشتراكي والعالم الثالث، أي على المعسكر صاحب المصلحة في السلام، ومن الواضح أن التفوق الاقتصادي الراهن للمعسكر الرأسمالي يسمح له بتحمل أعباء التسلح والرفاهية الاجتماعية في آن واحد، على حين أن هذه الأعباء تحد من قدرة المعسكر الاشتراكي على تحقيق الرفاهية، فضلا عن أنها تؤخر عملية لحاقه بالعالم الرأسمالي في الميدان الاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن التعايش السلمي في ظل التوتر الراهن لا يحقق الغرض المقصود منه، وهو أن يعطي المعسكر الاشتراكي فسحة من الوقت يستطيع خلالها أن ينال بالتدريج قصب السبق في البناء الاقتصادي.
ومن جهة أخرى فإذا حاول النظام الاشتراكي أن يضاعف من جهده حتى يستطيع تحمل أعباء التسلح والنمو الاقتصادي معا، فإنه سيصطدم حتما بذلك العامل الإنساني الذي أشرنا إليه من قبل، وسيضطر إلى اتخاذ مزيد من تدابير الضغط المادي والمعنوي، وهذا وحده عامل من عوامل تأخير التفوق المنشود.
إنها إذن صورة معقدة غاية التعقيد ، وهي نوع من المعادلة الصعبة ذات الحدود المتعددة، وفي اعتقادي أن الفكر الاشتراكي يستطيع أن يجد لنفسه مخرجا من هذا المأزق لو واجهه في تعقده وتشابكه مواجهة صريحة، وتلك على أية حال من التحديات الكبرى التي تقابل هذا الفكر في المرحلة الراهنة من تاريخه. •••
إن مراجعة الفكر الاشتراكي لنفسه في ضوء التطورات الأخيرة ضرورة لا مفر منها، بل هي المعيار الحقيقي الذي يكشف عن مدى إخلاص هذا الفكر لأهدافه، أما التمسك الحرفي بالنظريات التقليدية دون محاولة لتجديدها تمشيا مع ظروف عالم سريع التغير، فلا يؤدي إلا إلى تشويه للفكر الاشتراكي، وللتجربة الاشتراكية ذاتها، وفي اعتقادي أن تحقيق تجربة اشتراكية مشوهة أشد ضررا حتى من العجز عن تحقيق أي نوع من التجربة الاشتراكية؛ ذلك لأن من السهل أن يخلط الناس بين الصورة المشوهة وبين مبدأ الاشتراكية ذاته، فيكون في ذلك ما يعوق ظهور أي تطبيق صحيح لهذا المبدأ في المستقبل.
إن طريق الاشتراكية هو طريق التاريخ، ولكن التاريخ لا يصنع نفسه بنفسه، ولا يكشف عن مساره إلا لأولئك الذين يحسنون التفكير فيه، ويتبينون اتجاهه من خلال ذلك الضباب الكثيف من التعقيدات التي تخفي معالمه، ولن يكون في وسع أي مفكر أن يساير حركة التاريخ لو سار معها ردحا من الزمن ثم تصور أنه اهتدى إلى الطريق، وظل سائرا بعد ذلك في خط مستقيم لا يلتفت يمنة ولا يسرة. كلا، إن أعين العقل ينبغي أن تظل مفتوحة على الدوام، ومسار التاريخ في هذا العالم المعقد الذي نعيش فيه شديد التعرج والالتواء، واتجاهه يزداد تعقيدا كلما بدا لنا أننا نقترب من الهدف، ولا بديل لكل مفكر تقدمي من أن يبذل كل ما أوتي من قوة لكي يحلل الواقع المعقد الذي نعيش فيه، ويتجاوز في تحليله هذا مرحلة الحلول السهلة والإجابات السريعة والتفسيرات المعدة سلفا.
في هذا الطريق الشاق الطويل الذي ينبغي سلوكه من أجل تحقيق الاشتراكية، لن يكون في وسع أحد أن يدعي أنه توصل وحده إلى كل الإجابات عما يعترضه من المشكلات ، ولكن حسب الفكر أن يثير التساؤلات وينبه إلى خطورة العقبات، أما الاهتداء إلى الإجابات الصحيحة، والسعي العملي من أجل تحقيقها، فتلك مهمة أجيال إنسانية كاملة.
الاشتراكية، والقيم الروحية1
في أذهان كثير من المثقفين تصور للعلاقة بين الاشتراكية والقيم الروحية أود أن أعلن - منذ بداية هذا المقال - أنني أرفضه من أساسه، بل إنني ما كتبت هذا المقال إلا لكي أفنده وأثبت أن الاعتقاد النظري به ينطوي على استحالات ومتناقضات عقلية، على حين أن التطبيق العملي له يجر وراءه من التشتت في السلوك، والتردد والتعثر في العزم والقصد، ما لا تملك أمة تسعى إلى الأخذ بأسباب النهوض أن تترك نفسها فريسة له.
هذا التصور الذي أعترض عليه يمكن التعبير عنه - في صيغة موجزة - بقولنا إن الاشتراكية والقيم الروحية تسيران جنبا إلى جنب حتى مرحلة معينة، ثم تفترقان بعد ذلك، وبعبارة أخرى فالاشتراكية تظل غير متعارضة مع القيم الروحية ما دامت معتدلة، أما إذا تطرفت، فإنها ترفض هذه القيم الروحية، ويفترق طريقاهما إلى الأبد.
وتجد هذه الدعوى تأييدا قويا من ذلك الميل الطبيعي في نفوسنا إلى قبول شكل من أشكال «نظرية الوسط» التي وضعها أرسطو في الأخلاق، والتي تعبر عن نفسها في أمثال شعبية مثل «خير الأمور الوسط»، هذه النظرية تذهب إلى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، كالشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور، أي إن هناك خطا ممتدا يتميز بالاشتداد والتكثيف التدريجي لصفة ما، وهذا الخط يبدأ من رذيلة وينتهي إلى رذيلة، بينما تقع الفضيلة في موقع ما عند الوسط أو بالقرب منه، وعلى ذلك فإن الإفراط في الفضيلة شأنه شأن التفريط فيها ينقلب إلى رذيلة، وبهذا المعنى يكون الإفراط في الاشتراكية - تبعا لهذا الرأي الشائع - رذيلة تؤدي إلى ضياع القيم الروحية والتنكر لها.
ولعل أول ما ينبغي أن نشير إليه - ونحن في معرض مناقشة هذه الدعوى - أن مبدأ «خير الأمور الوسط» ليس مبدأ مطلق الصحة في كل الأحوال؛ ففي حالة فضائل معينة لا تكون الحالة المثلى على الإطلاق هي أن يكون لدينا من هذه الفضيلة قدر معقول فحسب، فهل الأفضل - مثلا - أن يكون المرء معتدلا في نزاهته أم مفرطا فيها؟ وهل المجتمع الأمثل هو ذلك الذي يسوده قدر معقول من العدالة، أم عدالة كاملة بلغت أقصى حدود «التطرف»؟ وهل يعد الغش صفة يستحسن أن يكون لدى الإنسان «قدر» منها مهما كان بسيطا، أم إن التفريط الكامل في هذه الصفة أمر مستحب؟ من الواضح أن «نظرية الوسط» لا تسري آليا على كل الفضائل، وأن هناك صفات معينة يكون المرء أكمل من غيره لو أنه تحلى بأكبر قدر أو بأقل قدر منها.
وعلى الرغم من أن هذه المناقشة لا تتصل اتصالا كاملا بالموضوع الذي نعرض له في هذا المقال، فإن بلوغها بنا إلى هذه النتيجة يمكن أن يكون مقدمة مفيدة غاية الفائدة، تساعد على تحقيق الهدف الذي نرمي إليه؛ ذلك لأن الكثيرين منا يعتقدون أن مبدأ «خير الأمور الوسط» هو مبدأ يصدق بصفة آلية على كل شيء، ولا يتصورون أن هناك «أمورا» معينة ينبغي على الإنسان ألا يكتفي فيها بالوسط، أو هم - بتعبير آخر - لا يدركون أن اتخاذ الموقف الوسط، أو التزام جانب الاعتدال في أمور معينة، يعني مهادنة الشر والرذيلة، والتخلي عن قدر كبير من الفضيلة، هو ذلك القدر الذي نتركه جانبا بحجة أنه يمثل حد «التطرف».
ولو نظرنا إلى الاشتراكية بمعنى أنها «العدالة الاجتماعية»؛ لظهر بوضوح أنها واحدة من تلك الأمور التي لا يكفي فيها اتخاذ الموقف الوسط؛ إذ إننا جميعا - دون شك - نود أن يتحقق من العدالة الاجتماعية أعظم قدر يمكن تحقيقه، ونحس بقصور سلوكنا لو أننا اكتفينا منها بحد «الاعتدال» وتعمدنا ألا نحققها كاملة حتى لا نصل إلى حد «التطرف»، فكيف إذن يقال إن هذا التحقيق الكامل لمطلب أساسي عزيز على الإنسان، يتعارض مع القيم الروحية؟ وكيف شاع - بين كثير من مفكرينا العرب على وجه الخصوص - ذلك الاعتقاد الذي تصبح فيه الاشتراكية أشبه ما تكون بالخمر، قليل منها يصلح «معدة» المجتمع، وكثير منها يفسد المجتمع ويصيبه بعلل، أولها فقدان الإحساس بأهمية القيم الروحية التي هي أسمى غاية يتطلع إليها البشر؟
إن المرء لا يحتاج إلى تفكير طويل لكي يدرك أن هناك فئة من القائلين بالتعارض بين الاشتراكية - إذا تطرفت - وبين القيم الروحية، لا تؤكد هذه الفكرة إلا لأنها كارهة - أصلا - للاشتراكية، هذه الفئة لا تستطيع أن تجهر بالعداء لمبدأ الاشتراكية حين يصبح هذا المبدأ سياسة رسمية للدولة، فيكون الحل الذكي الذي تلجأ إليه هو أن تحد من نطاق الاشتراكية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأبسط وسائل هذا الحد هو أن تؤكد أضرار «التطرف»، وتقيم تعارضا مزيفا بينه وبين القيم التي يعتز بها المجتمع، وبذلك تضمن أن المبدأ الذي هي في صميمها كارهة له كراهية شديدة - وإن كانت غير معلنة - قد ظل حبيس إطار محدود لا يخرج عنه، وتضمن في الوقت ذاته أنها بدعوتها هذه إلى تقييد المبدأ الذي تبغضه، قد اتخذت مظهر المدافع المخلص الغيور عن أسمى ما يملكه الإنسان من قيم.
ولكني لا أود أن أتريث طويلا لمناقشة موقف أمثال هؤلاء المفكرين؛ ذلك لأن المعارضة الصريحة للاشتراكية أشرف - في رأيي - من ذلك الالتفاف من حولها بغية طعنها من الخلف، والمعارض الصريح - وإن كان يرتكب خطأ عقليا أفدح - يتسم على الأقل بمستوى أخلاقي أرفع من مستوى هؤلاء الأعداء المتنكرين في ثياب الأصدقاء، فضلا عن أنه قابل للاقتناع إذا كان أمينا، وإذا لم تكن لعدائه أسباب خفية مرتبطة بالمصالح الشخصية، ومن هنا فإني أود أن أتوجه بحديثي إلى المعارضين الأمناء - لا المنافقين - وأن أناقش معهم ذلك المبدأ الذي يأخذونه قضية مسلما بصحتها، مبدأ التعارض بين القيم الروحية وبين الاشتراكية، إذا سارت حتى آخر مدى يمكن تصوره لها.
ما هي «الروحانية»؟
إن قدرا كبيرا من سوء الفهم، يرجع إلى الافتقار إلى الدقة في تحديد معنى «الروحانية»؛ فالكثيرون يتصورون أن الروحانية هي الاعتراف النظري بعقيدة معينة، وأداء شعائرها وطقوسها، ومثل هذا المعنى شكلي بحت، وهو لا يمثل إلا السطح الظاهري مما تدل عليه الروحانية الصحيحة، وقد يظن من يعترف نظريا بمثل هذه العقيدة ويؤدي شعائرها، أنه قد حقق بذلك القيم الروحية في نفسه. ولكن هل من الصحيح أن مثل هذا المسلك يوفي القيم الروحية حقها؟
إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الروحانية هي - قبل كل شيء - جهاد وكفاح ومغالبة، وذلك الذي يقتصر على الاعتناق الشكلي للعقائد لم يكافح ولم يغالب شيئا، ولو وضعت مصالحه الحقيقية في كفة وجوهر عقيدته في كفة أخرى، لسعى بكل قواه إلى ترجيح الأولى. على أن جانب الخطورة لا يتمثل في الوجه الفردي لهذه الظاهرة ، بل يكمن في وجهها الاجتماعي؛ ذلك لأن المجتمع بدوره يقر مثل هذا السلوك ويعده أمرا طبيعيا لا غبار عليه، خذ مثلا ذلك التاجر الذي يؤدي فروض الدين كلها كأحسن ما يكون الأداء، ثم يعلم أن بضاعة مختزنة لديه قد شحت في الأسواق، فلا يتردد لحظة واحدة في رفع سعرها، مثل ذلك السلوك الفردي ينطوي على تجاهل تام للروحانية الحقيقية، ولكن الأهم من ذلك أن المجتمع لا يجد في هذا المسلك مأخذا؛ فسلوك هذا التاجر في نظر المجتمع مشروع ما لم يكن الأمر متعلقا بسلعة محددة السعر، وهو في نظر معارفه دليل على الفطنة وبعد النظر، ولا تعارض بينه على الإطلاق وبين المظهر «الروحي» الخارجي الذي عرف به صاحبه بين الناس.
على أن هذا الفهم الباطل للروحانية قد اتخذ في عالمنا المعاصر مظهرا أخطر بكثير، هو المظهر الأيديولوجي، الذي أصبحت فيه الروحانية وسيلة لمقاومة الاشتراكية في صورتها المكتملة، وهذا المظهر الأيديولوجي هو الذي ينبغي التنبه إليه وتحليل أسبابه وتحديد مدى البطلان فيه.
ذلك لأن من أعجب المفارقات في عالمنا المعاصر أن الدفاع عن القيم الروحية أصبح هو الشعار الذي تنادي به أشد النظم الاجتماعية إغراقا في الماديات، وأبعدها عن كل ما تسمو به الروح وتزهو به الفضيلة والأخلاق؛ ففي عالمنا هذا تتكرر مرة أخرى، قصة التاجر الذي يسرق عملاءه، ويظهر أمامهم برغم ذلك بمظهر الغيور على التقوى والإيمان، فكيف وصل فكرنا إلى الوقوع راضيا في هذا التناقض؟
إننا نعلم جميعا أن أشد الدول الرأسمالية إغراقا في استغلال الإنسان - داخل بلادها وخارجها - وفي العدوان على كل القيم التي تعتز بها البشرية، تتباكى من الوجهة الأيديولوجية على القيم الروحية التي تقضي عليها الاشتراكية المتطرفة، وتعلن على البسطاء والسذج أن هذه القيم لا حياة لها إلا في ظل نظامنا الاجتماعي والاقتصادي الخاص، وفي كل يوم يتفاخر الدعاة الأيديولوجيون للنظام الرأسمالي بتميزهم عن «الماديين» من الاشتراكيين، ويتباهون بأن «الروحانية» لا حياة لها إلا بين ظهرانيهم، وربما عقدوا محالفات صريحة أو ضمنية مع هيئات دينية - كالكنيسة الكاثوليكية مثلا - يضفون بها على هذه المزاعم بركة «سماوية»، وإنك لتجد الجندي الأمريكي يقتل النساء والأطفال في فيتنام، ويلقي القنبلة الذرية في هيروشيما، وينقض على ثورات التحرر في أمريكا اللاتينية، ثم يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد راضيا، دون أن يشعر بوجود أي تناقض بين هذا المسلك وذاك، وقد يكون هذا نفاقا تمليه المصالح الخاصة لشعب أو لنظام اجتماعي معين، ولكن العجيب حقا هو أن تبادر هيئات دينية واسعة النفوذ إلى الاعتراف بأن القيم الروحية لا تجد من يحميها إلا بين أنصار النظام الاجتماعي الذي يرتكب كل هذه الشرور، والأعجب من هذا وذاك أن يصدق هذه المزاعم قطاع لا بأس به من الرأي العام في العالم، بل وفي عالمنا العربي بدوره، فيسلم بالتعارض بين القيم الروحية وبين الاشتراكية المكتملة التحقق.
ولكي تكتمل لدينا صورة الزيف الفكري الذي يسيطر على أذهان كثير من الناس في عالمنا المعاصر، ينبغي أن نتأمل نماذج من سلوك أولئك الاشتراكيين «المتطرفين»، الذين يشيع وصفهم بأنهم أعداء للقيم الروحية، وبأنهم لا يبنون سلوكهم إلا على أساس من المادية اللاإنسانية.
خذ مثلا سلوك شعب فيتنام، أيشك أحد في أن البطولات الأسطورية التي يسجلها هذا الشعب الصغير ضد أعتى جهاز عسكري وحربي عرفه الإنسان طوال تاريخه، هي انتصار قاطع وحاسم للروح على المادة؟ إن السلاح الحديث الوفير الذي تدعمه أعظم البحوث العلمية، والأموال التي تصل إلى أرقام فلكية، والثراء وكثرة العدد وضخامة الأجسام وحسن التغذية والعقول الإلكترونية، كل هذه تقف عاجزة حائرة أمام شعب فقير ضئيل العدد قليل العدة، يحيا حياة ريفية بسيطة، ولا يعتمد في تدبير أموره إلا على موارد شحيحة لا تكفي سكان بلدة متواضعة في أشد ولايات أمريكا تأخرا.
فما هي القوة التي تحرك الجسد النحيل الهزيل لتجعله يصرع أضخم جبابرة الأرض؟ أيستطيع أحد أن يزعم لحظة واحدة أن قوة المادة هي التي تمنح الفيتنامي القدرة على الصمود والانتصار على أشد أجهزة القتل والدمار كمالا، وتعطي عقله البسيط المباشر مقدرة التفوق على أدهى ما تتفتق عنه أذهان محترفي العسكرية، مقترنة بأعقد خطط العقول الإلكترونية؟ إن الفيتنامي الفرد - في هزاله وضآلة جسمه وفقره وبساطة حياته - ما هو إلا كتلة متحركة من القيم الروحية - بأرفع ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان - تقف بإصرار وإباء أمام جبروت المادة وتقهرها دون عناء؛ لأن الروح المتفانية أقوى - في نهاية الأمر - من كل مادة فجة غاشمة.
وقل مثل هذا عن أفراد كثيرين عاشوا في عالمنا هذا مثالا للتفاني في سبيل أسمى ما تعتز به البشرية من القيم: هوشي منه، الذي يأبى إلا أن يكون عظيما حتى بعد لحظة مماته، فيطلب في وصيته ألا تقام له إلا جنازة بسيطة قصيرة، «حتى لا يكون في ذلك مضيعة للجهد والمال»! وجيفارا الذي يأخذ على عاتقه تحقيق رسالة الثورة ضد الظلم في كل مكان، ويترك جاه الحكم ونفوذه ونعمه جانبا ليعود مرة أخرى مناضلا بسيطا يحارب في أقسى الظروف التي يمكن أن يتصورها إنسان.
ومع ذلك فإن هؤلاء المناضلين جميعا - الأفراد منهم والجماعات - يمكن أن يحسبوا - في نظر البعض - ضمن «خصوم» القيم الروحية؛ لأنهم يؤمنون بنوع من الاشتراكية «المتطرفة» التي يعدها الكثيرون متعارضة مع تلك القيم، فهل هناك دليل أبلغ من ذلك على ضيق نظرة هؤلاء إلى القيم الروحية وقصور فهمهم لمعناها؟ إن من هؤلاء من هم مخلصون - بلا شك - لمعنى الروحانية، حريصون على توطيد أركانه، ولكن ما أجدر هذا الفريق بأن يراجع تفكيره في هذا الأمر مراجعة شاملة، وأنا على ثقة من أنه لو فعل فسوف يتبين له أنه ضيق من نظرته إلى الروح وإلى قيمها أكثر مما ينبغي، وأنه أخرج من مجالها أنواعا من السلوك لا يستطيع أحد أن يشك في صدورها عن دوافع روحية خالصة.
بين الخبز والروح
إن شعار «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» هو الكلمة السحرية التي يرددها أنصار «القيم الروحية» بمعناها الضيق، ويزعمون أنهم يفحمون بها خصومهم، ويثبتون حرصهم على إنسانية الإنسان، وردا على هذا الشعار، أكد الكثيرون أنك لا تستطيع أن تقنع به الفقير الجائع الذي تدور معدته في خواء، فهل يعني ردهم هذا أنهم ينكرون أن في الحياة الإنسانية ما هو أسمى من الخبز؟
الحق أن مشكلة العلاقة بين الاشتراكية والقيم الروحية إنما يمكن حلها في الرد على هذا السؤال البسيط؛ ذلك لأن الإنسان لا يحيا حقا بالخبز وحده، ولكنه لا يستطيع أن يطبق هذا المبدأ إلا حين يتوافر لديه الخبز، وهذا هو لب الموضوع، فحين يعز الخبز على الإنسان يصبح هو الغاية القصوى - بل الوحيدة - لكل سلوك يقوم به، وتلك بلا ريب حالة من الضعة أشبه ما تكون بحالة الحيوان الأعجم، ومن عجيب أمور الفكر البشري أن ذلك الذي يدعو إلى توفير الخبز للجميع إنما يهدف إلى أن يرتفع بالإنسان فوق مستوى التفكير الدائم في الخبز والانشغال الذي لا ينقطع به، حتى يستطيع أن يتفرغ لما هو أرفع منه، على حين أن ذلك الذي يؤكد - في ترفع وتسام - أن الإنسان يحيا بما هو أسمى من الخبز، قد تؤدي دعوته هذه إلى أن يتجاهل الناس مشكلة الخبز، فتكون النتيجة أن يظلوا أسرى لها إلى الأبد، ويعجزون بالتالي عن بلوغ مستوى الخبز ومستوى ما فوق الخبز معا.
ولو شئنا أن نترجم هذا الكلام إلى اللغة الفلسفية، لقلنا إن الدفاع عن المادة كثيرا ما يكون - في حقيقته - دفاعا عن الروح بمعناها الحق، على حين أن الدفاع عن المثل الروحية كثيرا ما يحمل - بين طياته - أشد النزعات المادية عنفا وقسوة، ومن المؤكد أن لفظي «المادية» و«المثالية» مسئولان عن قدر كبير من المغالطات التي يعش الإنسان المعاصر ضحية لها.
ذلك لأن لكل من هذين اللفظين معنى عقليا خالصا أو نظريا فلسفيا، ومعنى آخر عمليا أو أخلاقيا، وفي تفكير معظم الناس خلط دائم بين هذا المعنى وذاك؛ فحين يتحدث أحد عن المادية - بالمعنى النظري الفلسفي وحده - ينصرف الذهن تلقائيا إلى المادية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء قبيح ينفر منه كل إنسان لديه ذرة من حب الخير والجمال، وحين يتحدث آخر عن المثالية - بمعناها العقلي البحت - ينصرف الذهن أيضا إلى المثالية بمعناها الأخلاقي، وهي شيء رائع يسعى إليه كل من يقدر القيم الرفيعة.
ومع ذلك فإن تاريخ الفكر البشري حافل بأمثلة الفلسفات التي جمعت - دون أي تناقض - بين المادية النظرية والمثالية العملية أو الأخلاقية، والفلسفات التي ارتبطت فيها مثالية الفكر النظري بأقبح مظاهر المادية في السلوك العملي، وتكاد هذه أن تكون قاعدة مطردة، أو قانونا يحكم العقل البشري، ومع ذلك فما أسهل المغالطة حين يكون الأمر متعلقا بالجمع بين معان بلغت كل هذا الحد من التضاد!
على أنه إذا كان هذا هو الأصل الفلسفي للفهم الباطل لمعنى الروحانية (التي هي وثيقة الارتباط بالمثالية)، فإننا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى الخوض في أعماق بحر الفلسفة كما ندرك أن «الدفاع عن الروح» قد أسيء فهمه وأسيء استخدامه في عالمنا هذا إلى حد يؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بقضية الروح ذاتها، ولا أشك لحظة في أن الأمثلة الملموسة التي قدمتها في موضع سابق من هذا المقال، كفيلة - إذا ما تعمقنا فهم دلالتها - بتنبيه هذه الأذهان إلى خطورة الالتباس الذي وقعت فيه.
إن فهمنا لطبيعة القيم الروحية ومجالها يحتاج إلى مراجعة جذرية، تؤدي بنا إلى ألا نقتصر على المعنى الشكلي لهذه القيم، بل نضيف إليه أهم المعاني جميعا، وهو المعنى الجوهري للروح، والحق أننا لو شئنا أنموذجا صارخا في هذا العالم الذي نعيش فيه للفهم الشكلي للروحانيات، لكان هذا الأنموذج هو الأيديولوجية الصهيونية؛ فهذه الأيديولوجية ترتكز على الاستمساك المريض بحرفية عقيدة تعتقد أنها هي وحدها العقيدة الروحية المقدسة، وكل ما تقدمه هذه الأيديولوجية لتصرفاتها من تبريرات يرتكز على دعائم من هذه العقيدة الروحية، ومع ذلك فما أعظم التباين بين ادعاء الدفاع عن عقيدة روحانية، وبين المسلك الإجرامي الذي تحبذه هذه الأيديولوجية وتدفع أنصارها إلى القيام به دون وازع من مبدأ أو ضمير، ومنذ أن كانت لليهود حياة متميزة محددة المعالم، كان هذا الازدواج العجيب بين التمسك بالعقيدة وبين الجري اللاهث وراء الماديات، هو السمة المميزة لحياتهم، وما هذه - في رأيي - سوى النتيجة القصوى للتمسك الشكلي البحث بالروحانية، دون اكتراث بجوهرها ومعناها العميق.
إن القيم الروحية - إذن - ليست شكلا فارغا أو إطارا من الشعائر والأقوال التي تتردد آليا على الألسن، بل هي قبل كل شيء سلوك عملي في الحياة، والحريص حقا على القيم الروحية ليس ذلك الذي يردد ألفاظا أو يؤدي طقوسا، بل هو ذلك الذي يثبت بسلوكه في الحياة أنه يتخذ لنفسه هدفا رفيعا، ويضحي من أجل تحقيقه بكل ما يملك.
أما ثاني الأخطاء التي ينبغي أن يؤدي بنا التفكير الجاد في هذه المشكلة إلى التخلص منها، فهو الاعتقاد بأن القيم الروحية لا تعدو أن تكون تراثا قديما يتعين علينا أن نحتفظ به سليما؛ ذلك لأن القيم الروحية - وإن تضمنت هذا العنصر من غير شك - تتجاوز هذا النطاق بكثير؛ فهي في أساسها خلق متجدد في ميدان العمل، وهي مرشد يهدينا في محاولتنا بناء مستقبل أفضل، وليست مجرد أثر من آثار الماضي يتعين علينا أن نكرس حياتنا لحمايته من عوادي الزمان. إن القيم الروحية تختنق لو أصبحت مجموعة من المبادئ الموروثة، وتحيا وتزدهر إذا استحالت إلى قوة دافعه توجه المرء في حاضره ومستقبله، ولن يخدم القيم الروحية في شيء ذلك الذي يقتصر على اختزان مبادئ التراث في صندوق مقفل خشية أن تمتد إليها يد لتختطف منها شيئا، بل إن خادمها الحقيقي هو ذلك الذي يجددها، ويخلق منها المزيد في كفاحه من أجل حياة أفضل للناس جميعا.
ولو قمنا بهذه المراجعة - بصدق وإخلاص - لما عاد هناك تعارض بين الاشتراكية أيا كان المدى الذي تبلغه وبين القيم الروحية، ولاختفى نهائيا ذلك الوهم الذي صور لبعض الناس أن هذه القيم تمسك بيد الاشتراكية حتى منتصف الطريق - وربما ربع الطريق أو عشره - ثم تفترق عنها إلى غير رجعة.
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
خلال ذلك الوقت العصيب الذي انقضى منذ هزيمة يونيو، والذي كنا نتلمس فيه أسباب الهزيمة داخل نفوسنا وفي عقولنا وطرائق تفكيرنا، دار قدر كبير من النقاش الذي أثارته هذه الصدمة الأليمة حول موضوع العلم، وكان هناك ما يشبه الإجماع بين كل من أدلوا بآرائهم في هذا الموضوع على أن موقفنا من العلم كان من أول أسباب الهزيمة، وعلى أن تعديل هذا الموقف أو تغييره جذريا هو أول خطوة في الطريق الشاق الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى النصر.
ولقد سارت المناقشات التي استهدفت تحليل موقفنا من العلم في اتجاهين: أحدهما يدعو إلى توسيع نطاق «مضمون» العلم ورفع مستواه، وذلك بإبداء مزيد من الاهتمام بالبحث العلمي وتدريس العلوم وتقديم كافة التيسيرات التي تتيح للعلماء جوا مستقرا يمارسون فيه أبحاثهم على النحو الذي يكفل - آخر الأمر - أقصى انتفاع من العلم لصالح المجتمع ذاته. أما الاتجاه الآخر فيدعو - بالإضافة إلى ما سبق - إلى الأخذ «بالمنهج العلمي» أو «بالأسلوب العلمي في التفكير»، في مقابل الأسلوب الخرافي أو العشوائي الذي كان ولا يزال سائدا في جوانب متعددة من تفكيرنا، ويتميز هذا الاتجاه الثاني بأن تطبيقه لا يقتصر على المجال العلمي البحت فحسب، بل إنه يمتد إلى كافة جوانب حياتنا العملية أيضا؛ فالأسلوب العلمي في التفكير يمكن أن يستخدم بنجاح في ميادين كالحرب والدعاية والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي وفي السياسة الداخلية والخارجية، وغير ذلك من المجالات التي يؤدي تطبيق المنهج العلمي فيها إلى تغيير طريقة تناولنا لها من التخطيط والارتجال إلى التنظيم والترتيب والتعمق.
على أن للمشكلة جانبا ثالثا لم يعره أحد اهتماما، وكأنه جانب مهمل لا قيمة له في تحديد موقفنا من العلم، مع أنه ربما لم يكن يقل أهمية عن الجانبين السابقين، بل قد يكون هو الذي يحدد مقدار انتفاعنا أو عدم انتفاعنا من هذين الجانبين، هذا الجانب هو «الأخلاق العلمية»، أعني تلك المجموعة من القيم والقواعد والمعايير التي ترتبط بممارسة العمل العلمي، وإن لم تكن هي ذاتها من صميم العلم، والأخلاق العلمية كما أود أن أتحدث عنها في هذا المقال، ليست هي السلوك الشخصي للعالم من حيث هو إنسان، بل هي سلوكه من حيث هو عالم فحسب، أعني أسلوبه وطريقة تعامله مع الآخرين في المجال العلمي ذاته؛ فليس هدفي هنا هو الحديث عن الأخلاق في صلتها العامة بالعلم، بل هو ينصب على وجه بعينه من أوجه الأخلاق، هو ذلك الذي يمارسه المرء بوصفه عالما فحسب.
وعلى الرغم من أن الأخلاق العلمية شيء متميز عن العلم ذاته، فإن بين الاثنين علاقة متبادلة وثيقة، صحيح أن العلم ينتمي إلى مجال تقرير الواقع وفهمه، وأن الأخلاق تتعلق بتقدير القيم والسلوك على أساسها، ومع ذلك فإن كلا من العلم والأخلاق العلمية يدعم الآخر ويزيده من الارتقاء في الأخلاق العلمية ومن الحرص على مراعاتها، والتمسك بالأخلاق العلمية يؤدي - من جهة أخرى - إلى مزيد من التقدم العلمي، ويزيل كثيرا من العقبات التي تعترض طريق العلم، ولكن هذا الحكم العام لا يمنع - بطبيعة الحال - من وجود حالات فردية لا يجتمع فيها العلم مع الأخلاق العلمية، ولا يعمل فيها كل منهما على دعم الآخر.
والأمر الذي لا شك فيه أننا - في تلهفنا الشديد على بلوغ مستوى علمي رفيع نعتقد عن حق أنه هو الكفيل بحل مشاكلنا القريبة المدى والطويلة الأجل - لم نحاول إبداء أي قدر مماثل من الاهتمام بالأخلاق العلمية، ومعنى ذلك أننا نتصور إمكان حدوث نهضة علمية دون أن يواكبها ارتفاع مناظر في مستوى القيم التي يسلك بمقتضاها المشتغلون بالعلم، وهو في رأيي تصور باطل من أساسه؛ ذلك لأن كل نهضة علمية تحتاج إلى مناخ أخلاقي معين لا تزدهر إلا فيه، وكل تقدم في العلم يرتبط بمراعاة تقاليد سلوكية راسخة توطدت دعائمها في المجتمعات التي سبقتنا في هذا المضمار، وازدادت فيها تأصلا كلما ازداد العلم ذاته نهوضا.
ومن المؤسف أن الجرائد اليومية هي التي ذكرتنا بهذه الحقيقة الأليمة - أعني افتقارنا إلى التقاليد العلمية الراسخة - بطريقة قد لا تخلو من الابتذال، ولكنها لا تغير من الواقع المؤلم ذاته شيئا، وعلى الرغم من أني لست في وضع يسمح لي بأن أصدر حكما على اتهامات السرقة العلمية التي وجهتها الصحف، في الآونة الأخيرة إلى أكثر من واحد من أساتذتنا الجامعيين، ولا أود أن أشارك في تعبئة مشاعر الرأي العام المثقف ضدهم، فإني أعتقد مع ذلك أن الطريقة الدرامية الصارخة التي اتبعتها الصحف اليومية في إثارة هذا الموضوع الشائك لا تخلو من فائدة؛ فهي أشبه بالصدمة الكهربائية التي تنبه الحواس الخاملة، وهي بالفعل قد أثارت فينا سلسلة من ردود الأفعال العنيفة المفاجئة، ولكن التفكير الذي أثارته كان مقتصرا على الوقائع التي كشف عنها النقاب فحسب، ولم يمتد إلى الجذور العميقة للظاهرة نفسها.
إن ظاهرة الاستيلاء على ثمرة جهود الآخرين - في الميدان العلمي - ظاهرة لا تقل خطورة عن السرقة الفعلية، بل إننا نجد لدى سارق الممتلكات المادية - في معظم الأحيان - دوافع ترغمه على ارتكاب جريمته، فضلا عن أن مستواه العقلي - في الغالب - هابط إلى حد لا يسمح له بتقدير مدى الخطأ الذي يرتكبه، أما العدوان على الجهد العلمي للآخرين فيقوم به شخص ليس مضطرا إلى ارتكاب هذه الجريمة لكي يعيش أو يعول أسرة، فضلا عن أن قدراته العقلية تسمح له بأن يكون على وعي كامل بمدى مخالفة فعلته هذه لكل ما تعارفت عليه الأوساط العلمية من قيم.
ولكن إذا كان موقف من ينتحل لنفسه جهد الآخرين أمرا مؤسفا، فإن الأكثر منه مدعاة للأسف هو موقف المسئولين من أمثال هؤلاء الأشخاص؛ ففي معظم الأحيان يكون أول ما يتبادر إلى أذهان المسئولين هو «ستر الفضيحة» وتجنب إثارة الضجة بأي ثمن، ويتحقق ذلك بإيجاد أي مبرر مفتعل يخفف من وطأة الخطأ الذي ارتكب، ثم تبرئة مرتكبه أو توجيه لوم شكلي إليه، وبذلك يتحقق الهدف الأكبر، وهو التكتم على الفضائح العلمية، أما علاج الظاهرة ذاتها فلا يفكر فيه أحد.
وأبسط علاج في نظري هو الردع الصارم؛ فالتدليل المفرط لمن يرتكب «فعلا فاضحا» في مجال العلم لن يؤدي إلا إلى استفحال هذه الظاهرة والتشجيع على تكرارها، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن ضمير من يصدرون الحكم على هذه الحالات لا يزيد في يقظته كثيرا عن ضمير من يحكم هؤلاء عليهم، ولا أظن أنني أقرر شيئا غريبا أو غير مألوف إذا قلت إن أبسط رد فعل على هذه الفضائح ينبغي أن يكون استبعاد من يثبت عليه ارتكابها من أية هيئة علمية استبعادا لا رجعة فيه، ولو كان هذا مسلكنا منذ البداية لأصبح نطاق هذه الظاهرة في وقتنا الحالي أضيق بكثير مما هي عليه الآن.
ومن الطريف أن دفاع مرتكبي هذه الفضائح العلمية عن أنفسهم يتخذ في معظم الأحيان صبغة المغالطة المعروفة التي تشير إلى دوافع من يهاجمونهم، بدلا من أن ينصب على موضوع الهجوم ذاته؛ ففي كل حالة تثار فيها فضيحة كهذه، يؤكد مرتكبها - في معرض الدفاع عن نفسه - أن من أثارها شخص مغرض حقود حسود ... إلخ، وهذه الصفات قد تكون كلها صحيحة، وقد لا تكون دوافع الهجوم علمية على الإطلاق، ولكن هذا كله لا يؤثر في قليل أو كثير على طبيعة الجرم الذي ارتكب في حق العلم؛ فالعبرة إنما هي بمضمون الواقعة ذاتها، لا بدوافعها أو الظروف المحيطة بها.
هذه الملاحظة تؤدي بنا إلى مظهر آخر من مظاهر افتقارنا إلى التقاليد العلمية، وهو الخلط بين الحقائق والأشخاص؛ ففي أكثر مناقشاتنا جدية ننسى - أو نتعمد أن ننسى - الحقائق الرئيسية في الموضوع، ونخلط بين الوقائع الموضوعية وبين الصفات الذاتية للأشخاص، وبدلا من أن نناقش الرأي في ذاته، نتهرب من المناقشة - عمدا أو عن غير عمد - بالطعن في شخصية صاحب الرأي، أو بالتشكيك في دوافعه، وما أكثر ما نستخدم في جدلنا العلمي عبارة «إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الناس بالحجارة» أو ما يشابهها، لكي نتخلص بواسطتها من المناقشة الموضوعية للآراء، ونستعيض عنها بالمهاترات الشخصية، أو - على أحسن الفروض - بمحاولة إثبات أن الخصم ذاته ليس أفضل منا، وكأن خطأ الآخرين يعفينا من أي خطأ ثبت أننا ارتكبناه.
ولكن لعل أوضح مظاهر افتقارنا إلى الأخلاق العلمية موقفنا من النقد العلمي؛ ففي الأوساط العلمية بجميع بلاد العالم المتمدين، استقر مفهوم النقد العلمي منذ عهد بعيد، وأصبح جزءا من الحياة العقلية لهذه البلاد يستحيل الاستغناء عنه، ولا يمكن لأحد أن يجد فيه مسبة أو عارا، بل إن العلماء والمفكرين أنفسهم يرحبون بالنقد ويطلبون إلى الآخرين بإلحاح أن ينقدوهم؛ إذ إن مثل هذا النقد هو الوسيلة الوحيدة لاختبار الأثر الذي يحدثه العمل العلمي في عقول الآخرين، وهو معيار نجاح العمل أو إخفاقه، والنقد الموضوعي - سواء أكان مدحا أم ذما - له في الحالتين فائدته؛ فهو يحفز الناقد على التفكير بإمعان فيما يقرأ، ويخلصه من داء القراءة السطحية المتعجلة، أما ذلك الذي يوجه إليه النقد فسوف يعلم - إذا تلقى المديح - أنه سار في طريق الصواب، وإذا عيب عليه عمله - كله أو بعضه - أدرك أن عليه مراجعة خطواته، وبذلك يتدارك خطأه قبل فوات الأوان، ويغير خط سيره قبل أن يتمادى في اتجاه البطلان.
النقد الموضوعي إذن جزء لا يتجزأ من الحياة العقلية في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، أما في بلادنا فهو - على مستوى الأشخاص - لا يقل خطورة عن إعلان الحرب بين الدول، إنه يؤخذ على أنه مظهر خصومة ودليل على العداء، لا على أنه سعي متبادل إلى بلوغ حقيقة تعلو على الأشخاص، ولا يستطيع الفرد الواحد - أيا كان - أن يبلغها بجهوده الخاصة.
ولكي نحلل موقفنا من النقد ينبغي أن نتأمله في ضوء أطرافه الثلاثة: الناقد والمنتقد والجمهور الذي يحكم بينهما، وسوف يظهر لنا بجلاء أن هؤلاء الأطراف الثلاثة يسيئون - في معظم الأحيان - فهم مهمة النقد، ويفتقرون بذلك إلى عنصر أساسي من عناصر الأخلاق العلمية.
فالناقد كثيرا ما يكتب لإرضاء أغراض شخصية لا توخيا لأغراض موضوعية، ودليل ذلك أن أبحاثنا ومقالاتنا النقدية تحتشد عادة بالألفاظ والتعبيرات التي تبعد كل البعد عن الروح العلمية السليمة، فلا يكاد الناقد يلتقط خطأ حتى يسارع إلى الصياح والتهليل، ويتعجب من «جهل الكاتب» و«غروره» وربما «غبائه» و«افتقاره إلى الفهم السليم»، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تبعد بالنقد عن وظيفته الأصلية، وتحوله إلى مباراة في السباب، ويستطيع المرء أن يقول مطمئنا إن النقد الحاد اللهجة المشحون بالانفعالات الصبيانية أكثر شيوعا من كتاباتنا من النقد الهادئ الذي لا يستهدف إلا إظهار الحقيقة وحدها، وكثيرا ما يتخذ النقد ذريعة لشفاء الغليل من عدو، أو إساءة سمعة منافس، أو الانتقام من خصم، وفي كل هذه الحالات تنطق سطور النقد ذاته - بما تحفل به من انفعال وتشنج - بأن هدفه إنما هو تصيد الخطأ بطريقة مصطنعة متكلفة، وليس تنبيه المنتقد إلى الصواب.
أما موقف المنتقد فيختلف من النقيض إلى النقيض تبعا لنوع النقد، فإن كان النقد مدحا، تملكه الغرور حتى لو كان هذا المدح من قبيل التملق والنفاق الرخيص، أما إذا كان النقد ذما، فإن أبعد الأمور عن ذهنه هو التفكير الموضوعي في مضمونه النقد. إن جهوده كلها تنصرف عندئذ إلى البحث عن دوافع ذاتية وشخصية لدى الناقد، يتصور أنها هي التي دفعته إلى «تجريحه»، وحتى لو كان النقد موضوعيا خالصا، لا يشوبه أي انفعال، ولا ينطوي على أي لفظ ينم عن السعي إلى التشنيع أو التهويل، فإن المنتقد ينظر إلى الناقد - إذا كان قد كشف له عن أخطاء جسيمة في عمله العلمي - كما لو كان قد ارتكب في حقه جريمة «السب العلني»، وينسى تماما مضمون النقد، ويغفل تماما ما قد يكون فيه من حقائق موضوعية، وينظر إلى الأمر كله من وجهة النظر الشخصية الضيقة.
وحين يتخذ رد الفعل مثل هذا الطابع، تضيع الحقيقة التي استهدف النقد بلوغها في غمار الانفعالات الحامية، ويغمض المنتقد عينيه عن الأخطاء التي وقع فيها، ولا يعود له من هدف سوى رد كرامته التي يتصور أنها أهينت، وتتجسم أمام عينيه انتقادات الآخرين كما لو كانت جرائم لا تغتفر، بينما ينسى أخطاءه الخاصة أو يتناساها وسط ضباب الغضب العارم، بل إن هذا الغضب يتخذ في بعض الحالات المتطرفة طابع السلوك الدفاعي اللاشعوري؛ إذ يصرف ذهن المنتقد عن مظاهر النقص التي كشف عنها النقد، ويحوله إلى اتجاهات لا يضطر المرء فيها إلى توجيه اللوم إلى ذاته، وربما كان الغضب الذي ينصب على «الآخر» في هذه الحالة شكلا لا شعوريا من أشكال الغضب على الذات، والاستياء مما وقعت فيه من أخطاء، أما السعي إلى الارتقاء الذاتي، وإلى اتخاذ الأخطاء الماضية عبرة للمستقبل، وإلى الإفادة إيجابيا من السلبيات التي نبه إليها النقد، فهو آخر ما يخطر ببال من يواجه الانتقادات بهذه الروح العدائية.
وأخيرا فإن الطرف الثالث في الموقف النقدي - وهو الجمهور المثقف - كثيرا ما يستسلم بدوره للانفعالات، حين يجد نفسه حكما في قضية نقدية، ويسلك على نحو ينم عن الافتقار التام إلى فهم دلالة النقد ودور القارئ الواعي إزاءه؛ فالحجج الانفعالية والأسلوب الخطابي لهما فيه تأثير يفوق بكثير تأثير الحجج الهادئة المتزنة المرتكزة على المنطق السليم، وكثيرا ما تتردد على لسان الجمهور تعبيرات تدل على أن أهم المعايير التي يرتكز عليها - في حكمه على القضية موضوع البحث - هي الشفقة، أو «مراعاة السن»، أو عوامل الإخلاص والوفاء، وكلها مشاعر شخصية لا ينبغي أن يكون لها اعتبار في أحكامنا العلمية. ومجمل القول أن استجابة الجمهور المثقف للمعارك النقدية كثيرا ما تكون مشابهة لاستجابة جمهور الكرة للمباريات؛ فهو يصفق ويهلل ويستهويه كل ما هو مثير، أما الحقيقة المجردة فلا يهتم بها أحد.
نحن إذن ما زلنا بعيدين كل البعد عن أصول الأخلاق العلمية كما توطدت دعائمها وتأكدت في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، فما زالت كثرة غالبة من المشتغلين بالعلم بيننا تخلط - على نحو مؤسف - بين الأمور الذاتية والأمور الموضوعية، وما زالت هذه الكثرة الغالبة عاجزة عن إدراك الفارق الواضح الحاسم - الذي سبقتنا إلى إدراكه كل أمة ناهضة - بين العلاقات والمشاعر والانفعالات الشخصية وبين الحقائق اللاشخصية التي تؤلف بناء العلم.
ومن المؤكد أن الوعظ وحده لن يستطيع أن يصلح من هذا الوضع شيئا، فإذا كنا نعيب على الجو العلمي السائد بيننا افتقاره إلى الأخلاق العلمية، فليس معنى ذلك أننا ندعو إلى إصلاح أخلاق المشتغلين بالعلم عن طريق «الدعوة» أو «التوعية» أو غير ذلك من الوسائل التي لا تجدي في هذا الميدان، بل إننا نعتقد اعتقادا راسخا بأن ارتفاع مستوى الأخلاق العلمية أو هبوطه يرجع إلى أسباب موضوعية لا تقوم فيها النزاهة الفردية للعالم ذاته إلا بدور ضئيل.
فالتقاليد العلمية السليمة قد أرسيت في البلاد التي توطدت فيها دعائمها على قاعدتين متينتين: قاعدة رأسية، وأخرى أفقية.
أما القاعدة الرأسية فهي قدم العهد بممارسة العلم ورسوخ مبادئه وقيمه في أذهان أجيال متعاقبة من المشتغلين به، والنتيجة الحتمية لذلك هي أن حداثة عهدنا بممارسة العمل العلمي تحتم ظهور نوع من التراخي في الأخذ بالقيم الأخلاقية، صحيح أن لنا تاريخا قديما في الاشتغال بالعلم، قد يرجعه البعض إلى أيام ازدهار الحضارة العربية، وقد يرتد به البعض الآخر إلى ما قبل ذلك بكثير، ولكن هذا التاريخ لا يتصل بالحاضر اتصالا مباشرا، وإنما حدثت فترة انقطاع طويلة بدأت بعدها حركة إحياء العلم تشق طريقها - منذ عهد قريب - وكأنها تبدأ من جديد، وهكذا أصبحنا نفتقر إلى ذلك التراث المتصل من القيم والمبادئ الذي يتوارثه جيل عن جيل، والذي يزداد رسوخا في النفوس كلما قدم به العهد، ومن المؤكد أن أية دولة ذات تقاليد علمية وطيدة الأركان قد شهدت في بداية عهد نهضتها العلمية تهاونا في الأخذ بأصول الأخلاق العلمية لا يختلف كثيرا عما نعاني منه في أيامنا هذه؛ فالأمر - في هذه الحالة - لا يرجع إلى عيوب كامنة في شعوب معينة بقدر ما يرجع إلى واقع موضوعي يتجاوز الخصائص المميزة لشعب عن شعب آخر.
وأما القاعدة الأفقية فهي اتساع نطاق المشتغلين بالعلم في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، هذه الكثرة العددية البحتة عامل عظيم الأهمية من عوامل إقرار القيم الأخلاقية العلمية في البلاد المتقدمة؛ إذ إنها تسد الطريق أمام أية محاولة لاغتصاب جهود الغير في الميدان العلمي، فحتى لو وجد الشخص الذي تسمح له أخلاقه بأن ينتحل لنفسه ثمار جهد غيره، فلا بد لمثل هذا الشخص من أن ينكشف؛ إذ سيظهر في مكان ما - من بين الأعداد الهائلة التي تعمل في مختلف فروع التخصص - من يكتشف هذه السرقة العلمية.
وبطبيعة الحال فإن العامل السابق لا يمكن أن يكون عاملا فعالا لو لم يتوافر شرطان أساسيان يدعمان تأثيره: أولهما أن هذه القاعدة العريضة من المشتغلين بكل فرع من فروع العلم تضم عددا كبيرا من الباحثين الذين توافر لهم من الفراغ ومن مصادر المعرفة ما يسمح لهم بالاطلاع المستمر على الإنتاج القديم والحديث في ميادين تخصصهم، وهو أمر لا يمكن القول إنه قد تحقق في حياتنا العلمية بعد، وثانيهما أن عقوبة الخروج عن التقاليد العلمية في هذه المجتمعات صارمة حازمة؛ فمخالفة الأخلاق العلمية - حتى لو حدثت على نطاق أضيق بكثير مما يشيع حدوثه بيننا - كفيلة بأن تقضي على المستقبل العلمي للمرء قضاء مبرما.
فالأخلاق العلمية إذن وليدة ظروف موضوعية تهيأت للمشتغلين بالعلم في بلاد معينة، ولم يتهيأ ما يناظرها في بلادنا بعد، ومع ذلك فمن الواجب أن نتذكر أن الأخلاق في هذا الميدان - كما في غيرها من الميادين - تتحول بمضي الزمن إلى مبادئ ذاتية يدين بها المرء دون أن يفرضها عليه أي قهر خارجي؛ ففي البداية تؤدي العوامل الموضوعية بالمرء إلى أن يسلك بمقتضى القواعد الأخلاقية سواء شاء أم لم يشأ. ثم يحدث بالتدريج تحول لهذه القواعد إلى باطن الذات، حتى تكون جزءا من «الضمير الأخلاقي» للمرء، بحيث تمارس تأثيرها دون أي ضغط أو إكراه خارجي، ومن المؤكد أن نسبة كبيرة من المشتغلين بالعلم في البلاد المتقدمة أصبحوا يطبقون القواعد الأخلاقية العلمية بوازع من ضمائرهم وحدها، دون خوف من أن يفتضح أمرهم، أو رهبة من عقوبة توقع عليهم.
ومن الطبيعي أن الشروط المهيئة لتكوين مثل هذا «الضمير العلمي» لم تتوافر كلها في بلادنا بعد؛ فالمشتغلون بالعلم ما زالوا قلة، وما زالت فرص ارتكاب الأخطاء الخلقية في هذا المجال، دون خوف من الانكشاف، كثيرة، وبالتالي فنحن ما زلنا بعيدين عن تلك المرحلة التي تتحول فيها القاعدة الأخلاقية الموضوعية إلى قاعدة ذاتية يطبقها المرء على نفسه بوحي من ضميره فحسب.
وإلى أن نبلغ هذه المرحلة، لا بد لنا من أن نأخذ الأمور مأخذ الحزم والحسم، ولا بد لنا من أن نقلع عن هذا التهاون والتراخي الذي يجعل أشد الفضائح العلمية هولا يمر دون أن يثير استنكار الناس أو اشمئزازهم، ودون أن تحل على مرتكبه جزاءات معنوية أو مادية .
إن التهاون في ميدان الأخلاق العلمية يؤدي إلى مزيد من التراخي والتساهل بين الأجيال المقبلة، حين لا تجد حولها سوى أسوأ أمثلة السلوك حتى في ميدان العلم ذاته، وعلينا - قبل أن يفوت الأوان - أن نتدارك الأمر حتى لا يأتي يوم نجد بيننا وبين بلاد العالم المتقدمة فارقا في الأخلاق العلمية يزيد عن ذلك الذي يفصل بيننا وبينها في ميدان العلم ذاته، فنقف عندئذ يائسين من اللحاق بركب التطور حتى في ميدان الأخلاق والمعنويات، ذلك الميدان الذي كنا نتباهى على الدوام بأن لنا فيه تاريخا طويلا وتقاليد راسخة، والذي كنا نعزي أنفسنا دوما بأنه خير ما يعوضنا عن تخلفنا في مجال «الماديات».
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
في كثير من المواقف الحاسمة في حياة الفرد يتساءل المرء إن كانت التجربة المباشرة - التي قد تقترن بالعذاب والمعاناة - تستحق كل ما يبذل فيها من عناء، ويتمنى لو أتيحت له فرصة يتجنب فيها معاناة التجربة بنفسه، ويفيد من تجارب الآخرين على نحو يؤدي به إلى بلوغ الهدف المنشود مباشرة، دون حاجة إلى ممارسة كل تجربة بنفسه، ومع ذلك فإنه حين يمعن الفكر سوف يتبين له - على الأرجح - الوجه الآخر من المشكلة، وهو أن المعاناة والممارسة يمكن أن تكون هدفا في ذاته، وأن تحقيق المرء لهدفه بعد أن يمر بتجربة زاخرة غنية، يختلف اختلافا كليا عن بلوغه هذا الهدف بأقصر الطرق، وعن طريق الإفادة من تجارب الآخرين، صحيح أن طريقه في الحالة الأولى سيكون أبطأ وأشق، ولكن ثراء التجربة وسلوكها مجراها الطبيعي وعمق الدروس التي يتعلمها المرء منها، لا بد أن يعوضه خير تعويض عن كل ما عاناه في سبيل اكتساب تجربته الخاصة من مشقة.
وفي اعتقادي أن انتقال مجتمعات العالم الثالث إلى الاشتراكية يثير هذه المشكلة ذاتها، ولكن على الصعيد الاجتماعي لا الفردي؛ ففي اللحظة التي تقرر فيها هذه المجتمعات أن تأخذ بالنظام الاشتراكي، يتعين عليها أن توجه إلى أنفسها هذا السؤال الحاسم: أيهما أجدى بالنسبة إلى مستقبل المجتمع على المدى البعيد؛ أن يمر المجتمع بجميع المراحل التي تجعل الانتقال إلى الاشتراكية أمرا طبيعيا؟ أم أن يختصر هذه المراحل وينتقل مباشرة إلى الاشتراكية، مستعينا على هذا الانتقال بالإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى التي سبقته في هذا المضمار؟
والأمر الذي لا شك فيه أن تصميم مجتمع متخلف على أن يأخذ بالنظام الاشتراكي، يعني أنه قد أخذ بالحل الثاني، وقرر أن يسلك إلى الاشتراكية طريقا مختصرا، والواقع أن المسألة - بالنسبة إلى المجتمعات المتخلفة - ليست مسألة اختيار بين طريق الممارسة والتجربة المباشرة وطريق الإفادة من تجربة الغير؛ إذ إن التخلف لا يترك لهذه المجتمعات مجالا للاختيار، ومع ذلك فإن من واجب أي مجتمع يتخذ هذا القرار أن يدرك عن وعي طبيعة التحول الذي سيطرأ عليه حين يأخذ بالنظام الاشتراكي، والفرق بين هذا النظام حين يطبق في مجتمع متخلف، وبينه حين يطبق في مجتمع صناعي متقدم، والالتزامات التي تترتب على وجود هذا الفرق بالنسبة إلى طبيعة التطبيق الاشتراكي في البلد المتخلف.
إن النظرة الكلاسيكية إلى الاشتراكية كما كانت سائدة في القرن التاسع عشر، أعني في عصر التفكير النظري، متميزا عن عصر التطبيق والتجارب العملية المتعددة في القرن العشرين، تجد غرابة - وربما استحالة - في الانتقال من التخلف إلى الاشتراكية قفزة واحدة؛ ذلك لأن الاشتراكية - في وجهها الكلاسيكي - هي رد فعل على الرأسمالية، صحيح أن الرأسمالية تعد مرحلة ممهدة لظهور الاشتراكية، ولكنها مع كونها ممهدة لها، هي مرحلة لا غناء عنها من أجل قيام الاشتراكية، بل من أجل مجرد تصورها.
إن النموذج التقليدي للثورة الاجتماعية هو ذلك الذي تنبثق فيه الاشتراكية من قلب النظام الرأسمالي؛ فالاشتراكية - تبعا لهذا النموذج التقليدي - ليست بديلا عن الرأسمالية فحسب، بل هي مرحلة أعلى في تطور اجتماعي متصل، تضم في داخلها الصفات الإيجابية للنظام الرأسمالي، وتتجاوز هذا النظام مع كونها منطوية على أفضل ما فيه، أما اشتراكية العالم الثالث فلا تتجاوز الرأسمالية؛ لأن كثيرا من بلاد العالم الثالث تختار الطريق الاشتراكي دون أن تكون قد مرت بمرحلة توافرت فيها أهم عناصر النظام الرأسمالي، ولا سيما وجود تصنيع متقدم وطبقة عاملة واعية بذاتها وبوضعها الاجتماعي، ومعنى ذلك أن اشتراكية العالم الثالث ليست تجاوزا للرأسمالية، بل هي بديل عنها، أو بعبارة أخرى فإن مجتمعات العالم الثالث تقف في مفترق طريقين: أحدهما طريق الرأسمالية والآخر طريق الاشتراكية، وهي لا تلجأ إلى الطريق الثاني بعد أن تكون قد جربت الطريق الأول وسارت فيه حتى المرحلة التي لا يعود من الممكن فيها التوفيق بين متناقضاته، بل هي تلجأ إليه منذ بداية وعيها بأهمية التصنيع، وتحاول أن تضفي على تطورها - حتى في أول مراحله - طابعا اشتراكيا.
ومن المؤكد أن الاشتراكيين لم يكونوا على خطأ - من الوجهة النظرية - عندما تصوروا الاشتراكية على أنها رد الفعل على الرأسمالية بعد أن تصل هذه الأخيرة إلى قمة التناقض والتمزق الداخلي، أي عندما أكدوا أنه لا قيام للاشتراكية بدون مرحلة رأسمالية مكتملة العناصر تسبقها وتمهد لها الطريق؛ ذلك لأن الاشتراكية تستطيع أن تتعلم من الرأسمالية الكثير؛ ففي الرأسمالية يتحول الإنتاج إلى مرحلة الترشيد الدقيق، وتكتسب عادات الدقة والنظام والانضباط والإفادة الكاملة من كل الطاقات، وإذا تركنا جانبا نواحي الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، فمن المؤكد أن هذا المجتمع يحرز تقدما لا تستطيع الاشتراكية أن تتجاهله، بل إن عليها أن تستوعبه في داخلها استيعابا كاملا، وتعمل بعد ذلك على تجاوزه بتصفية العلاقات الإنتاجية من كل آثار الاستغلال. وبعبارة أخرى فإن الصورة النموذجية للثورة الاشتراكية - في علاقتها بالنظام الرأسمالي - هي في صميمها صورة جدلية، لا يعمل الجديد فيها على استبعاد القديم والحلول محله ، بل يمتص في داخله ذلك القديم ويستخلص منه كل عناصره الإيجابية، ثم يعمل على دفعه إلى الأمام في صورة جديدة كل الجدة، وفي ظل علاقات مغايرة تماما للعلاقات القديمة.
ولقد كان أقطاب التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر على وعي تام بهذه الحقيقة، وتجلى ذلك الوعي واضحا في موقفهم المزدوج من الرأسمالية؛ فالرأسمالية كانت في نظرهم - من جهة - مرحلة تقدمية إذا قيست بالمراحل السابقة لها، ومرحلة رجعية إذا قيست بالتطور المنتظر للمجتمع في ظل الاشتراكية، وكانت القوى الرأسمالية والبورجوازية تمثل في نظرهم قوى الثورة والتقدم في مرحلة الصراع بينها وبين النظام الإقطاعي، كما كانت العقلية الرأسمالية هي التي تدفع المجتمع إلى الأمام في الفترة التي كان فيها النبلاء والإقطاعيون يحرصون على التمسك بعاداتهم وتقاليدهم وامتيازاتهم العتيقة البالية، ولا تتحول الرأسمالية في نظرهم إلى عامل من عوامل التخلف إلا حين يستتب لها الأمر، وحين تصبح مقاليد الحكم في أيدي البورجوازيين يسيطرون على نظم المجتمع وقوانينه، ويتحكمون في الرأي العام ويوجهون أفكاره لصالحهم، فيبذلون طاقتهم من أجل المحافظة على الأوضاع الراهنة، والإبقاء على استغلالهم للطبقات العاملة، ومعنى ذلك أن الرأسمالية مرحلة ضرورية في الطريق الذي يوصل آخر الأمر إلى الاشتراكية، وأن الاشتراكية لا يمكنها أن تتحقق إلا في مجتمع مر بالتجربة الرأسمالية، وسار فيها حتى أبعد مراحلها، أعني حتى المرحلة التي استنفدت فيها الرأسمالية - من حيث هي نظام متقدم - أغراضها، وأحالتها متناقضاتها الصارخة إلى نظام رجعي لا بد من تجاوزه.
على أن تجربة العالم الثالث قد أثبتت أن هذا النمط الكلاسيكي للتحول إلى الاشتراكية ليس هو النمط الوحيد، وأن الاشتراكية يمكن أن تظهر، لا بوصفها رد فعل على الرأسمالية، بل بوصفها بديلا عنها في مجتمعات لم تعرف النظم الرأسمالية بمعناها الدقيق، أعني في بلاد متخلفة لم تمر إلا بالمراحل الأولى للتصنيع، ولم تتحدد فيها العلاقات بين أصحاب العمل والطبقة العاملة وفقا للنماذج الرأسمالية المألوفة، بل إننا لو أخذنا في اعتبارنا ذلك التخلف الذي كانت تتسم به المجتمعات التي ظهرت فيها الثورات الاشتراكية الكبرى في القرن العشرين - وعلى رأسها روسيا القيصرية والصين - لأمكننا القول إن جميع التجارب الفعلية للتحول إلى الاشتراكية لم تكن منتمية إلى النمط الكلاسيكي انتماء كاملا، والاستثناء الوحيد من هذا الحكم هو حالة تشيكوسلوفاكيا، ومع ذلك فإن هذا الاستثناء يؤيد ويثبت القاعدة التي تقول إن التحقق الفعلي للتحول إلى الاشتراكية لم يحدث بنجاح إلا في بلاد لم تمر بالمرحلة الرأسمالية في صورتها المتقدمة؛ إذ إن الكثيرين يعزون المتاعب التي واجهتها التجربة الاشتراكية في تشيكوسلوفاكيا إلى هذه الحقيقة بالذات، أعني إلى أن تشيكوسلوفاكيا هي البلد الوحيد الذي بدأت فيه الاشتراكية على قاعدة رأسمالية قوية في مجتمع صناعي متقدم، ولكن حتى لو كان من الصحيح أن التجارب الناجحة في التحول إلى الاشتراكية قد حدثت في بلاد تتسم كلها بالتخلف، ولا يمكن أن توصف بأنها بلاد صناعية بالمعنى المتقدم لهذه الكلمة، فإن هذا التخلف متفاوت في الدرجة إلى حد يسمح لنا بتمييز بلاد العالم الثالث على أساس أنها فئة قائمة بذاتها؛ لأنها أولا تتسم بقدر كبير من التخلف؛ ولأنها ثانيا كانت إلى حد قريب خاضعة لنفوذ استعماري، أي إنها لم تنل استقلالها إلا حديثا، وكما هو واضح فإن هاتين الصفتين - أعني التخلف الشديد والخضوع طويلا للاستعمار - مرتبطتان ارتباطا وثيقا.
والسؤال الذي يتعين على هذه البلاد أن تطرحه بأمانة وتبحث عن إجابة صادقة عنه هو: ما السمات المميزة لهذا التحول من التخلف إلى الاشتراكية مباشرة؟ وكيف يمكن تجنب المشكلات التي يثيرها هذا التحول المباشر؟
إن النمط الكلاسيكي للتحول إلى الاشتراكية يكتسب - كما قلنا من قبل - مزايا كثيرة؛ إذ إنه يستفيد من جميع الخبرات التي تكتسبها الرأسمالية في مرحلة تقدمها الظافر، بحيث يبدأ المجتمع الاشتراكي مسيرته مسلحا بتصنيع متقدم، وبأساليب إنتاجية راقية وبقدرات إدارية وتنظيمية فعالة، فضلا عن إفادته من التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير الذي كان ملازما للعصر الرأسمالي منذ بدايته، ولا يزال سمة من سماته حتى اليوم. وهكذا فإن الاشتراكية حين تصبح هي النظام السائد في مجتمع كهذا، تستطيع أن تبني نفسها على قاعدة صلبة من التقدم الاجتماعي، تضيف إليها علاقات إنسانية خالية من أي استغلال، وبذلك يمكنها أن تطلق أعظم الطاقات الخلاقة للإنسان من أجل بلوغ حياة أفضل ماديا وروحيا.
أما المجتمع الذي ينتقل من التخلف إلى الاشتراكية مباشرة فإن من المتوقع - نظريا - أن تكون مشكلاته أكثر تعقيدا؛ ذلك لأن المهام التي يتعين على الاشتراكية تحقيقها في مجتمع كهذا لا تنحصر في نطاق العلاقات الإنتاجية أو الإنسانية، بل إن أولى هذه المهام هي إيجاد قاعدة إنتاجية متينة عن طريق التصنيع بوجه خاص، وعن طريق التقدم الاقتصادي بوجه عام، وبعبارة أخرى فإن العالم الثالث حين يجرب الاشتراكية فإنه يجربها بوصفها وسيلة لبلوغ التقدم الاقتصادي، وللتغلب على التخلف وتجاوزه، لا بوصفها وسيلة للقضاء على الاستغلال الطبقي في مجتمع متقدم أصلا، وبعبارة موجزة فإن الاشتراكية يتعين عليها - في العالم الثالث - أن تحقق هدفي التقدم والعدالة الاجتماعية، على حين أن مهمتها - في العالم الذي مر بالمرحلة الرأسمالية - تقتصر أساسا على تحقيق هدف العدالة الاجتماعية.
مثل هذا الانتقال المباشر للمجتمع المتخلف إلى الاشتراكية يثري التجربة الاشتراكية ذاتها بعناصر إيجابية لا يمكن أن تظهر بنفس القدر من الوضوح في المجتمعات التي تمر أولا بالمرحلة الرأسمالية المتقدمة، ولكن هذا الانتقال يتضمن في الوقت نفسه عناصر سلبية ينبغي أن تتنبه لها المجتمعات المتخلفة إذا شاءت أن تواجه مشكلاتها بصدق وأمانة، حتى لا تتحمل الفكرة الاشتراكية ذاتها وزر التطبيق الفاسد، ولنبدأ بالعناصر الإيجابية:
أولا:
حين ينتقل مجتمع من حالة التخلف - التي قد تكون نظاما إقطاعيا أو قبليا أو استعماريا - إلى الاشتراكية مباشرة، فإن المكاسب التي يحققها هذا التحول للجماهير الشعبية تكون أوضح بكثير منها في المجتمعات التي تنتقل من الرأسمالية المتقدمة إلى الاشتراكية، ففي هذه الحالة الأخيرة قد يؤدي تطبيق المبادئ الاشتراكية إلى حرمان الطبقات العليا وفئات من الطبقة المتوسطة من امتيازاتها القديمة، فيؤدي ذلك إلى تكوين قاعدة من السخط ربما انتقلت عدواها إلى بعض عناصر الطبقة العمالية ذاتها، أعني إلى العناصر المتطلعة إلى ترف الحياة، والتي تتخذ من الطبقات الأعلى منها أنموذجا تهفو إلى تحقيقه، أما في الحالة الأولى - أعني حالة المجتمعات المتخلفة - فإن القاعدة التي تنتفع من مكاسب الاشتراكية تكون أوسع بكثير، ومن السهل أن تنضم الجماهير الغفيرة إلى النظام الجديد قلبا وقالبا، بمجرد أن تقارن بين حياتها الجديدة وحياتها السابقة، ولا ينطبق ذلك على العمال وحدهم، بل إنه ينطبق أيضا على الفلاحين الذين يجدون في الاشتراكية منقذا لهم من الاستغلال البشع الذي كانوا يتعرضون له في ظل النظم الإقطاعية.
ثانيا:
يمكن أن يكون التخلف ذاته رصيدا يزيد من ثراء التجربة الاشتراكية في بلاد العالم الثالث؛ ذلك لأن هذه البلاد - التي تفتقر إلى التجارب السابقة في ميدان تنظيم الإنتاج الاقتصادي - يمكن أن تكون أكثر تفتحا لأية تجربة جديدة من البلاد التي استقرت فيها تقاليد معينة نتيجة لطول عهدها بأساليب الإنتاج الرأسمالية، وهنا نجد أن نفس العامل الذي ساعد بلادا معينة على المضي بخطى أسرع في طريق التصنيع الرأسمالي في أول عهد الثورة الصناعية، هو الذي يمكنه أن يجعل طريق العالم الثالث إلى التجديد في أساليب الإنتاج أيسر؛ فمن المعروف أن من الأسباب الهامة لظهور الثورة الصناعية في إنجلترا عدم وجود تقاليد راسخة تفرضها الطوائف الحرفية على أساليب الإنتاج، في الوقت الذي كانت فيه بلاد كثيرة من القارة الأوروبية تتمسك بالأساليب التقليدية التي ظلت تلك الطوائف تفرضها طوال أجيال عديدة متلاحقة، كذلك فإن وجود مصالح رأسمالية معينة، مرتبطة بأساليب خاصة في الإنتاج، يمكن أن يكون حائلا دون اتباع أساليب أخرى أو تقبل أفكار جديدة، ولكن هذه العوائق تزول كلها حين يبدأ المجتمع تجربته الاشتراكية دون أن تكبله أغلال تاريخ رأسمالي طويل.
ثالثا:
لما كانت معظم بلاد العالم الثالث قد خرجت حديثا من قبضة الاستعمار، فإن سعيها إلى التخلص من كل ارتباط بالاستعمار يجعلها أكثر حرصا على تطبيق الاشتراكية؛ لأن هذا التطبيق سيزيد من وثوق ارتباطها بالمعسكر المعادي للاستعمار، ولأن النظام الرأسمالي هو العامل الذي يرتد إليه - في نهاية الأمر - كل نزوع استعماري، وهنا تقوم الاشتراكية بدور ثالث إلى جانب الدورين اللذين أشرنا إليهما من قبل، وهما تحقيق التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية؛ فالاشتراكية هي - بالإضافة إلى ما سبق - وسيلة البلاد المتخلفة للتحرر الوطني الحقيقي، ولتحقيق استقلال لا تشوبه روابط ظاهرة أو خفية بالمصالح الاستعمارية القديمة.
على أن العناصر السلبية في تجربة التحول المباشر من التخلف إلى الاشتراكية ربما كانت هي الأحق باهتمامنا وعنايتنا؛ إذ إن عدم مواجهتها بصراحة وأمانة يمكن أن يلقي ظلالا من الشك، لا على التطبيق الاشتراكي في هذه المجتمعات فحسب، بل على الفكرة الاشتراكية ذاتها من حيث المبدأ، فإذا كانت هناك مزايا تكتسبها المجتمعات المتخلفة من انتقالها إلى الاشتراكية مباشرة، فهناك أخطار ينبغي أن تتنبه إليها هذه المجتمعات إذا شاءت ألا تولد تجربتها الاشتراكية شوهاء، وألا تصاب بنكسة تقضي على إيمان الجماهير صاحبة المصلحة الأولى في الاشتراكية بمبدأ التحول الاشتراكي ذاته.
أول هذه الأخطار ناجم عن إطار التخلف ذاته، الذي تطبق في ظله الاشتراكية؛ ذلك أن المرحلة الرأسمالية تساعد - على الرغم من كل سلبياتها - على دفع عجلة المجتمع إلى الأمام، أما المجتمع الذي لم يمر بهذه المرحلة، فلا مفر له من أن يعاني آثار التخلف فترة طويلة، ويكون كفاحه من أجل الاشتراكية مزدوجا، أعني أنه كفاح يستهدف إرساء قاعدة متينة من التقدم الاقتصادي - والصناعي في المحل الأول - كما يستهدف في الوقت ذاته تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية، وحسبنا أن ننظر إلى المشكلة من زاوية واحدة، هي زاوية العلم؛ لكي ندرك الصعوبات التي يثيرها بناء الاشتراكية في مجتمع متخلف؛ ذلك لأن الاشتراكية في أساسها نظرة علمية إلى الأمور، وهي تقتضي انتشارا على أوسع نطاق ممكن للتعليم، وارتفاعا دائما في مستواه، ومهما كانت النوايا طيبة، فإن التراث الطويل من التخلف العلمي كفيل بأن يقف عقبة كأداء في وجه التحول السليم إلى الاشتراكية، وهكذا تعاني مجتمعات العالم الثالث في هذا الصدد توترا خطيرا بين عالمين يؤثر كل منهما في اتجاه مضاد للآخر؛ فالتخلف الطويل الأمد يؤدي إلى إبطاء معدل النمو الاقتصادي والاجتماعي بالقياس إلى المجتمعات التي تبدأ مسيرتها من نقطة متقدمة نسبيا، ومع ذلك فهي في حاجة ملحة إلى الإسراع بمعدل تقدمها؛ لأن هذا التقدم مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها، وهو وحده الذي يضمن لها ملاحقة ركب العالم السريع التطور، وبين الحاجة إلى التطور، والعوائق الأساسية التي تبطئ من معدل هذا التطور تقف الدول المتخلفة حائرة، وتقف التجربة الاشتراكية ذاتها مهددة بالمخاطر في بلاد العالم الثالث.
ولعل أخطار التخلف العقلي والمعنوي أفدح - بالنسبة إلى العالم الثالث - من أخطار التخلف المادي والإنتاجي؛ وذلك لأن بلاد العالم الثالث لم تتح لها فرصة اكتساب ذلك الحد الأدنى من العادات العقلية المرتبطة بالتقدم الصناعي كالنظرة الموضوعية والعقلانية إلى الأمور؛ فهذه البلاد - حين تبدأ في خوض تجربة التحول الاشتراكي - تنتقل من حالة عقلية معنوية تسيطر عليها الخرافة إلى نظام اجتماعي يستحيل أن يطبق بنجاح إلا في مجتمع يؤمن إيمانا كاملا بقيمة العقل، وبأهمية التفكير الموضوعي، في تسيير دفة الأمور.
إن العقلية الريفية - وخاصة في مجتمع ظل خاضعا لسيطرة الإقطاع ردحا طويلا من الزمن - لا تستطيع أن تتخلص بسهولة من صفات وقيم تتعارض بشدة مع أي اتجاه إلى التنظيم الرشيد للمجتمع في ظل إنتاج ذي طابع صناعي؛ فالعلاقات الشخصية تظل تقوم بدور أساسي حتى في صميم المسائل المتعلقة بالعمل والإنتاج، بحيث تختلط النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية إلى الأمور حتى على المستويات العليا للتنظيم الاجتماعي، ويتحول بطء الإيقاع - الذي تتسم به الحياة الزراعية - إلى تكاسل في المجتمع الصناعي، وإلى عدم احترام لقيمة الوقت وأهميته القصوى في الإنتاج، ويؤدي عدم وجود تراث يقدس العمل إلى إشاعة عدم الاهتمام بفضائل النشاط والمثابرة، حتى ليتساوى المنتج والخامل في نظر المجتمع، بل ربما ارتفعت قيمة الخامل إذا استطاع أن يوطد علاقاته الشخصية بأولي الأمر.
وعلى حين أن التقدم العلمي والعقلي الذي عرفته المجتمعات الغربية في المرحلة الرأسمالية قد أعان هذه المجتمعات على التخلص إلى حد بعيد من تأثير الأسطورة والخرافة، بحيث تستطيع أن تضمن تطورا لا تعوقه الجهالة ولا تكبله الغيبيات، سواء واصلت السير في طريقها الرأسمالي أم تحولت منه إلى الاشتراكية، فإن النظم الاشتراكية التي تطبق في مجتمعات العالم الثالث كثيرا ما تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة العقلية الأسطورية قبل أن تمضي في طريقها خطوة واحدة، وتتخذ هذه المواجهة صورا متعددة، فهي أحيانا تتخذ شكل تعايش سلمي بين الاشتراكية والتفكير الخرافي، بحيث تترك الاشتراكية هذا التفكير على ما هو عليه، ولا تحاول التصدي له وكشف أخطاره، آملة أن تتمكن بذلك من كسب أكبر عدد ممكن من الجماهير إلى صفها، ولكن خطورة هذا المسلك تتضح في أن تحقيق التعايش بين نمطين - أحدهما عقلي والآخر لا عقلي - من أنماط التفكير لا يمكن إلا أن يكون انتهازية أو نفاقا رخيصا من جانب السلطة الحاكمة، فضلا عن أنه يساعد على إبقاء الجماهير في حالة تخلف معنوي لا يرجى معها أي نهوض حقيقي للمجتمع، وفي مثل هذا الجو العقلي المتناقض يستحيل أن تحقق الاشتراكية إمكاناتها وتقدم إلى المجتمع أفضل ما لديها، بل إن مثل هذه الاشتراكية لا بد أن تكون جوفاء مبتورة، أما إذا اتخذت مواجهة الاشتراكية للخرافة شكل التحدي والنزاع السافر فإن مثل هذه المواجهة الحاسمة يمكن أن تؤدي - في حالة التخلف الاجتماعي الشديد - إلى استفزاز مفرط للجماهير، يبعد بها عن طريق التعاطف مع الأيديولوجية الاشتراكية التي هي أحوج ما تكون إليها، وهكذا تجد الاشتراكية نفسها في مأزق إزاء العقلية الخرافية المنتشرة في المجتمعات المتخلفة، سواء اكتفت بالتعايش معها سلميا أم شنت حربا صريحة عليها، ومثل هذا المأزق يقتضي من التنظيم الاشتراكي جهدا هائلا من أجل الارتفاع بالجماهير فوق مستوى النظرة الخرافية إلى الأمور دون استفزاز لمشاعرها أو استعداء لها بلا مبرر.
والواقع أن من الخطأ المبالغة في تصوير خطورة التعارض بين النظرة الخرافية وبين الدفاع المتحمس عن الاشتراكية، صحيح أن طرق التفكير البالية والانسياق الأعمى وراء الجهالات يمكن أن يكون عقبة لا يستهان بها في وجه كل محاولة لتنظيم المجتمع على أسس عقلية رشيدة، ولجعل عالم الإنسان جنة أرضية، ومع ذلك فإن الحد الفاصل بين انحياز الجماهير إلى نظام اجتماعي معين أو نفورها منه هو - في نهاية الأمر - ما يقدمه إليها هذا النظام من مكاسب، وليس في هذا المعيار ما يستوجب الخجل؛ إذ إن النظام الاجتماعي الذي يعطي جماهيره مكاسب أكبر لا يقدم إليها رشوة، وإنما يحقق لها هدف الحياة على نحو أفضل، ولنذكر أن الرشوة على نطاق الجماهير العريضة مستحيلة، فضلا عن أنها تفقد معناها حين تصبح شاملة ومستمرة، أي إنه - مع تحوير بسيط للكلمة المأثورة المعروفة - فأنت تستطيع أن ترشو بعض الناس كل الوقت، أو كل الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن ترشو كل الناس كل الوقت، فإذا استطاع نظام اجتماعي أن يثبت للناس أنه يقدم إليهم مكاسب حقيقية لها طابع الدوام، وأن يرفع مستوى حياتهم ماديا ومعنويا بصورة لا يملك أحد إنكارها، فأغلب الظن أن التفكير اللاعقلي مهما بلغ من تأصله في نفوسهم - أو القيم العتيقة مهما بلغ رسوخها - لن يستطيع أن يقف عقبة في وجه المسيرة الاشتراكية الظافرة، أما إذا كانت الاشتراكية مترددة خائرة، وإذا كانت مكاسبها أمرا مشكوكا فيه على الدوام، فعندئذ تستطيع الخرافة أن تطل برأسها في شماتة، وتستطيع الجهالة أن تجد لنفسها - في المجتمع المتخلف أصلا - أنصارا يتزايدون باطراد.
على أن التخلف العقلي والمعنوي ليس هو العقبة الوحيدة التي تحول بين جماهير المجتمعات المتخلفة وبين السعي المتحمس إلى تحقيق الاشتراكية، بل إن هذه الجماهير كثيرا ما تكون مفتقرة إلى الوعي الاجتماعي الذي يسمح لها بإدراك ضرورة الثورة على التخلف، على الرغم من أن هذه الثورة هي التي يكمن فيها أملها الوحيد في المستقبل؛ ذلك لأن الطبقة العاملة - التي تعتمد عليها الاشتراكية التقليدية - لا تكون فئة عريضة في مثل هذه المجتمعات، فضلا عن أن هذه الطبقة لم تتح لها فرصة اكتساب الروح الثورية العميقة التي تغلغلت في نفوس عمال المجتمعات الرأسمالية بفضل تجاربهم الطويلة وتراثهم البعيد الأمد؛ فمن الصعب أن نتوقع من طبقة عاملة قليلة العدد محدودة التجارب - خرج معظم أفرادها حديثا من بيئات ريفية غير ثورية - أن تحقق كل الآمال التي تعقدها الاشتراكية الكلاسيكية على «البروليتاريا» في العالم الرأسمالي، ومن هنا فإن التجارب الاشتراكية الناجحة في بلاد العالم الثالث تجد لزاما عليها أن تعتمد على طبقات أخرى؛ فطبقة الفلاحين قد تمكنت من أن تكون العمود الفقري لثورات اشتراكية متعددة في شرق آسيا وجنوبها الشرقي، ولكن نجاح هذه الثورات كان يقتضي تنظيما عبقريا يزيل من الفلاح رواسب التواكل والاستسلام التي خلفها في نفسه نظام إقطاعي ظل يتحكم في مقدراته المعنوية والمادية ألوف السنين، كذلك فإن الطبقة الوسطى - ولا سيما القطاعات المثقفة منها - يجب أن يعطى لها دور أهم بكثير من الدور الذي يعزى إليها في المذاهب الاشتراكية الكلاسيكية، بل إن الطلبة بالذات يمكنهم أن يقوموا - في بلاد العالم الثالث - بدور لا يقل أهمية عن دور البروليتاريا في البلاد الرأسمالية العريقة، بل إن من الممكن الاهتداء إلى أوجه تشابه غير قليلة بين هاتين الفئتين، من حيث إن كلا منهما تمثل الضمير الواعي لمجتمعها، ولا ترتبط بأجهزة الحكم القائمة أو تكون جزءا منها، وليس لديها - حسب التعبير المشهور - ما تخسره إلا الأغلال، وإذا كانت بوادر الجهود الإيجابية للطلاب قد بدأت تظهر في بعض بلاد أمريكا اللاتينية، فمن المؤكد أن دورهم سيزداد ظهورا وأهمية في مناطق أخرى من العالم الثالث في المستقبل القريب.
وأخيرا فربما كان أبرز النواحي السلبية في اشتراكية العالم الثالث هو أنها - في أحيان قليلة - اشتراكية مفروضة من أعلى، وليست اشتراكية نابعة عن ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، وربما بدا أن الفارق بين النوعين ليست له أهمية كبيرة ما دامت النتيجة واحدة، ولكن الواقع أن تجربة الثورة الشعبية تتمتع بميزة كبرى هي أنها تؤدي إلى صهر القيادات - فضلا عن القواعد بطبيعة الحال - في تجربة الممارسة الاشتراكية الحقيقية، والمشكلة الكبرى في الاشتراكية التي تنبع من القمة - لا من القاعدة - هي أنها تعتمد على صلابة الحاكمين لا المحكومين، ولكن الانحراف في الطبقات الحاكمة أمر مألوف، حيث يبدو إغراء السلطة، والافتقار إلى التقاليد الثورية الأصيلة، عاملا مشجعا على تكوين «طبقة جديدة» ربما استخدمت الاشتراكية ذاتها أداة لدعم مركزها وصرف أنظار الجماهير عن انحرافاتها، ومن هنا كانت بلاد العالم الثالث أحوج ما تكون إلى إعادة بناء نظمها الاشتراكية بحيث ترتكز على القاعدة لا على القمة، وكلما سارعت بذلك ضمنت لاشتراكيتها البقاء والازدهار.
إن بلاد العالم الثالث أحوج ما تكون إلى مواجهة نفسها مواجهة صريحة، وخاصة إذا كانت تنادي بالاشتراكية مبدأ لحياتها، وفي هذه المواجهة ينبغي عليها أن تعترف دون مواربة أنها مختلفة، لأنها بالفعل كذلك، ولن يفيدها أن تتلاعب بالألفاظ فتسمي نفسها «نامية» في الوقت الذي يكون فيه نموها متوقفا بالمعنى الصحيح، وحين تعترف بهذا التخلف ستدرك أنه يمكن أن يكون كذلك رصيدا لها وحافزا في تجربتها الاشتراكية، ولكنه في الوقت ذاته يمكن أن يكون عائقا مخيفا في وجه هذه التجربة، وحين تتضح لها المشكلات التي يثيرها تخلفها هذا، والصعوبات التي تعرقل مسيرتها نحو الاشتراكية، فعندئذ ستدرك أن التغلب على هذه المشكلات والصعوبات لن يكون بالالتجاء إلى أنصاف الحلول، بل بمزيد من الإصرار على السير في الطريق الاشتراكي والتمسك به، وإذا كان من الشائع أن يقال إن الاشتراكية الوحيدة التي تصلح لبلاد العالم الثالث هي الاشتراكية «المعتدلة»، فإن حالة التخلف التي تعانيها هذه البلاد تدعونا إلى التفكير مليا قبل إصدار حكم كهذا؛ إذ إن «الاعتدال» إذا كان صفة مستحبة في أمور كثيرة، فإنه ليس بالشيء المرغوب فيه عندما يكون الأمر متعلقا بمسيرة المجتمع نحو التقدم ونحو اللحاق بركب الحضارة العالمية.
إن على بلاد العالم الثالث أن تحدد المجالات التي يكون فيها الاعتدال مستحبا، وتلك التي لا يكون فيها مفر من الصلابة، والإصرار والسعي الدائم إلى الهدف المرسوم، وفي اعتقادي أن كل ما توصف من أجله هذه البلاد بأنها «متخلفة» ينبغي أن يدخل في هذه الفئة الأخيرة.
العالم الثالث، والعقل الهارب1
ليس أدل على سرعة إيقاع التغير في عالمنا المعاصر من ذلك التطور السريع الذي يطرأ على التعبيرات التي يشيع استخدامها في اللغة اليومية، بل في اللغة العلمية ذاتها؛ ذلك لأن اللغة - حسب التعبير الذي شاع إلى حد يكاد يقرب من الابتذال - كائن حي متطور، وأساس تطورها هو أن تكون معبرة عن الواقع الدائم التجدد الذي تدخل اللغة في إطاره، ومن المؤكد أن معدل استخدام التعبيرات والمصطلحات الجديدة في اللغة قد ازداد سرعة إلى حد بعيد في العقود الأخيرة، تمشيا مع الأوضاع الدائمة التجدد التي تطرأ بلا انقطاع على حياة الناس، ومع ذلك يبدو أن العقل البشري، في تلهفه على وضع تسميات جديدة لحقائق العالم المتغيرة، لم يكن قادرا في كل الأحوال على أن يحدد مدلول هذه التسميات بدقة، بحيث كان جهده مركزا على تجديد حصيلته اللغوية أكثر مما هو مركز على إيجاد تحديد دقيق لمفردات هذه اللغة الجديدة وتعبيراتها، تاركا هذه المهمة - على ما يبدو - لمضي الزمن وشيوع الاستخدام وقيام الأذهان - تلقائيا - بعملية الانتقاء والاستبعاد التي تفضي في نهاية الأمر إلى ارتباط كل لفظ وكل تعبير بمجال محدد - بقدر معقول من الدقة - من مجالات المعنى.
ولو تأملنا تعبير «العالم الثالث» لوجدناه يرجع إلى عهد قريب ربما كان أوائل الخمسينيات من هذا القرن، فما أظن أن أحدا قد استخدم هذا التعبير خلال الحرب العالمية الثانية أو قبلها، ولقد كانت فترة التحرر السريع الواسع النطاق للبلاد المستعمرة أو شبه المستعمرة في الستينيات الأولى - بوجه خاص - هي التي خلقت واقعا جديدا اقتضى استخدام تعبير ينطبق على تلك الفئة الجديدة من البلاد التي أصبحت - لأول مرة - ذات كيان واع بذاته، ولها وجود يفرض نفسه على مسرح الأحداث العالمية.
على أن تسمية «العالم الثالث» - برغم انتشارها السريع - كانت وما زالت تفتقر إلى تحدد المعنى ووضوح المدلول، ويبدو أن التعبير قد استخدم في البداية كوسيلة مريحة للدلالة على مجموعة من البلاد والمجتمعات التي تتباين ظروفها تباينا شديدا، ثم أدى ذيوعه وتكراره إلى تثبيته على نحو لم يعد من الممكن معه إعادة النظر فيه، لا سيما وأن إعادة النظر هذه ستثير إشكالات معقدة تختفي كلها وراء هذا التعبير الفضفاض، ومع ذلك فإن البحث الجاد في أوضاع «العالم الثالث» - وخاصة في الميدان الثقافي - يحتم علينا أن نتوقف قليلا عند هذه الإشكالات ، التي يمكن أن يؤدي تعمقها إلى إلقاء مزيد من الضوء على أحوال المجتمعات التي يعرض هذا المقال لإحدى مشكلاتها المعقدة.
أول ما يلفت النظر في تسمية «العالم الثالث» هو لفظ «الثالث» هذا؛ فكل ثالث يأتي بعد أول وثان، فما هما الأول والثاني في هذه الحالة؟ لا شك أن المقصود هنا هو النظامان الاجتماعيان الرئيسيان في عالم اليوم، أعني الاشتراكية والرأسمالية، وهنا يتخذ اسم «العالم الثالث» معنى حافلا بالدلالة، فالمقصود منه ذلك العالم الذي يكون نظاما «ثالثا»، لا هو بالاشتراكية ولا هو بالرأسمالية، ولكن هل هذا المعنى مطابق للواقع؟ إن هناك - في مبدأ الأمر - إشكالا نظريا يدور حول إمكان اتخاذ هذا «الطريق الثالث»، فهل من الممكن - في عالم اليوم - الاهتداء إلى طريق غير الاشتراكية وغير الرأسمالية، أو طريق يمزج بين هذه وتلك على نحو يمكن معه تمييزه بوصفه طريقا مستقلا؟ إننا لا نود أن نجيب عن هذا السؤال بنعم أو لا، ولكنا أردنا فقط أن ننبه إلى الإشكال النظري الذي ينطوي عليه اسم «العالم الثالث»، وهو إشكال لا يمكن التفكير فيه بمعزل عن الواقع العملي الذي يثبت أن بلاد العالم الثالث بالذات لم تستطع حتى الآن أن تهتدي إلى هذا الطريق المستقل، وأنها مضطرة دائما إلى الاختيار بين أحد النظامين الرئيسيين، على أنه لما كانت كثير من الدول الناجحة في مناطق العالم التي توصف بهذا الوصف قد اختارت لنفسها الاشتراكية طريقا، ففي وسعنا أن نقول إن تسمية «العالم الثالث» يقصد بها في أذهان المفكرين الغربيين - بوجه خاص - إبعاد بلاد هذا «العالم» عن الطريق الاشتراكي، وتقوية الاعتقاد بأنها لا بد أن تبحث لنفسها عن نظام مخالف، ولا بد أن تشق لنفسها طريقا خاصا بها، بدلا من أن تستفيد من خبرة البلاد التي سبقتها في تجربة الانتقال من التخلف إلى التقدم.
على أن تعبير «العالم الثالث» لا يستخدم للإشارة إلى النظم الاجتماعية فحسب، بل إنه يستخدم أيضا بمعنى حضاري، وربما استخدم أحيانا بمعنى عنصري؛ فهو ينطبق أساسا على بلاد غير أوروبية، بدليل أن بلدا كاليونان لا تدرج ضمن العالم الثالث مع أنها - من حيث مستوى النمو - ليست أرفع من كثير من بلاد هذا العالم، ولكن الموقف يزداد تعقيدا إذا أدركنا أن هذه التسمية تطلق على بلاد أمريكا اللاتينية، بالرغم من أن حضارتها الحالية هي امتداد للحضارة الأوروبية بوجه عام أو اللاتينية على وجه التخصيص، فهل يعني ذلك أن النمو الاقتصادي والاجتماعي هو أساس هذه التسمية؟ هنا أيضا تثار إشكالات أخرى؛ إذ إن كثيرا من بلاد العالم الثالث لا تستحق - إذا قيست بالمعايير المتقدمة - اسم «العالم العاشر»، ولكن بعض البلاد التي تدرج أحيانا ضمن هذا العالم - كالصين عند البعض، والهند عند الجميع - قد بلغت، في نواح معينة على الأقل، مستوى رفيعا من النمو العلمي والثقافي.
على أن الأمر الجدير بالتأمل حقا هو استخدام لفظ عددي أو كمي لتمييز البلاد المنتمية إلى هذه الفئة؛ ذلك لأن هذه الفترة نفسها - أعني فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - قد شهدت تسميات «كيفية» متعاقبة، بدأت بالبلاد «المتخلفة»، وانتهت بالبلاد «النامية»، وكانت لهذه التسميات الكيفية - على الأقل - ميزة الإيجابية، على الرغم من أنها لم تكن تتصف في كل الأحوال بصفة الدقة والتحديد؛ فصحيح أن صفة «النامية» صفة مضللة إلى أبعد حد؛ لأنها تخلط ما بين الأمر الواجب والأمر الواقع، وتجعل «النمو» صفة لمجموعة من البلاد لا يطرأ على الكثير منها نمو فعلي، وإنما يعد النمو فيها مطلبا واجبا لم يتحقق بعد، ومع ذلك فإن هذه الصفة تحدد على الأقل المقياس الذي ينبغي أن ينظر به إلى هذه المجموعة من البلاد، وأعني به مقياس النمو أو التخلف، أما في حالة التسمية الكمية البحتة - تسمية العالم «الثالث» - فإن طابع الإبهام والغموض هو الذي يحيط بالعالم المسمى بهذا الاسم.
إن كل ما يفهم من وصف هذا العالم بأنه «ثالث» هو أنه مغاير للعالمين المألوفين في المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي فحسب، أما هوية هذا العالم فتختفي تماما وراء التسمية، إنها تسمية سلبية فحسب، تعبر عما لا يكونه هذا العالم بالقياس إلى العالمين «المعروفين » ولا تلتزم بأي تحديد إيجابي لطبيعته، إنها تجعله أشبه ما يكون بالطرف «الثالث» في الصيغة المعروفة للعقود، ذلك الطرف المجهول الذي يمكن أن يكون أي شيء، والذي لا يهم أحدا أن يعرف هويته.
وهكذا فإن من يستخدمون لفظ «العالم الثالث» يريحون أنفسهم من عناء البحث عن صفة أو صفات مشتركة بين هذه المجموعة الشديدة التباين من البلاد والمجتمعات، ومن جهة أخرى فإن من ينتمون إلى هذا العالم يجدون فخرا في تلك التسمية التي تجعل من بلادهم عالما قائما بذاته، مستقلا عن الأنظمة المألوفة، وتخلص أبناء هذه البلاد من الحرج الذي تسببه لهم صفات كالتخلف أو السعي إلى النمو.
ولقد ساعدت هذه التسمية على إخفاء المشكلات الحقيقية للعالم الثالث عن أعين أبنائه، وجعلتهم يركزون أذهانهم على صفة «الاختلاف» التي تتسم بها بلادهم، ويغفلون صفة التخلف أو يتغافلون عنها؛ فهم يعتزون بعدم اندراجهم ضمن النوعين الرئيسيين للأنظمة الاجتماعية المعاصرة، ولكنهم لا يتنبهون إلى أن هذين النظامين قد استطاعا - كل بطريقته الخاصة - أن يحققا لبلادهما قدرا هائلا من التقدم، وأن المشكلة الكبرى أمام بلاد العالم الثالث هي أن تعبر هوة التخلف، قبل أن تكون تأكيد استقلال نظمها الاجتماعية، بل إن الانتماء إلى الاشتراكية - على التحديد - قد أثبت في حالات كثيرة أنه هو الحل الأمثل لمشكلة التخلف بالنسبة إلى هذه المجتمعات، بحيث كانت القوى الداعية إلى استقلال النظم الاجتماعية فيها مشجعة - دون أن تدري - على استمرار تخلفها؛ لأن عقدة النقص والرغبة المفرطة في تأكيد استقلال الذات، هي التي تغلب فيها على الاتجاه إلى التقدم وملاحقة ركب التطور العالمي.
على أن الأثر الأشد إضرارا والأشد خفاء في الوقت ذاته لتسمية «العالم الثالث» هو ذلك الذي خلفته هذه التسمية في عقول المثقفين الذين لا ينتمون إلى هذا العالم؛ فقد أثار اسم العالم الثالث في نفوس هؤلاء المثقفين نوعا من الإحساس الرومانتيكي الذي يرجع إلى أصول خيالية أكثر مما يرتد إلى جذور واقعية، كانت نتيجته أن أشد المطالب تناقضا أصبحت تطلب من هذا العالم.
فباسم «الأصالة» أصبح كثير من مثقفي الدول المتقدمة يطلبون إلى هذا العالم أن يظل متحفا للقيم الأثرية، يأتي إليه العلماء ليجدوا فيه الماضي متجسدا في الحاضر، ولكي تكتمل خصائص هذا المتحف يستحسن أن يتوقف فيه سير التاريخ أو يمضي بدرجة من البطء تضمن استمرار وجود هوة حضارية شاسعة بينه وبين العالم الذي يتغير بسرعة لاهثة، ومن الطبيعي أن تجد هذه الدعوات صدى في نفوس أبناء العالم الثالث؛ لأنها أولا تقدم تبريرا للجمود السائد، وتجعل من التخلف فضيلة، ولأنها ثانيا توفر عليهم عناء السير في طريق التجديد بما ينطوي عليه من مشاق نفسية ومادية، وتشعرهم بأن أسلوب حياتهم «مرغوب فيه»، وبأن هناك من يبدي به إعجابا، حتى بين أشد المجتمعات تقدما، ناسين أن هذا الإعجاب ليس إلا صورة مهذبة مثقفة لإعجاب الإنسان بأقفاص القرود في حديقة الحيوان، حين يجد لذة في الحضور لمشاهدتهم بين حين وآخر، وإن لم يكن يتصور - بالطبع - مجرد فكرة العيش معهم داخل القفص!
ومن جهة أخرى فإن المثقفين الغربيين - ولا سيما التقدميين منهم - يلقون على بلاد العالم الثالث مسئولية تتناقض مع المطلب السابق تناقضا صارخا، إنهم يريدون منها أن تحقق لهم ما عجزت عن تحقيقه الفئات الثورية التقليدية في البلاد المتقدمة ذاتها، فالمفروض أن تقوم حركات التحرر في العالم الثالث، لا بمهمة تحرير بلاد هذا العالم من كافة أشكال السيطرة الأجنبية فحسب، بل بمهمة تحرير البلاد المتقدمة ذاتها من الاستغلال غير الإنساني في الداخل، وأوضح الأمثلة على ذلك نظرة المثقفين في البلاد الغربية الرأسمالية إلى فيتنام؛ فهم يتوقعون منها أن تتمكن - بحربها البطولية ضد أعتى القوى في تاريخ البشرية - من تحرير أمريكا ذاتها من السيطرة المطلقة لتحالف رأس المال والعسكرية المحترفة، في نفس الوقت الذي تحرر فيه نفسها من التدخل الأجنبي ومن القوى العميلة في بلادها، وعلى حين أن الطبقات الثورية التقليدية في البلاد الرأسمالية - وعلى رأسها الطبقة العاملة - تقف عاجزة أو غير راغبة في النضال، بعد أن أصبحت مندمجة في السلطة القائمة اندماجا يكاد يكون تاما، فإن الأمل كله بات معقودا على تلك الحرب في تنبيه الشعب الأمريكي إلى مساوئ النظام الذي يعيش في ظله، وفي إحداث الصدمة أو الهزة العنيفة التي ستؤدي بهذا الشعب إلى الإفاقة من حلم الحياة الاستهلاكية السعيدة التي كان ينعم بها، وإدراك ما تؤدي إليه هذه الحياة ذاتها من مغامرات وأخطار ونفقات فادحة تتناقض مع هدفها الأصلي.
هكذا أصبح مطلوبا من العالم الثالث أن يحرر العالم «الأول» ذاته - إذا نظرنا إلى الرأسمالية على أنها هي الأسبق زمنا - ولكي تكتمل المفارقة وتتخذ شكلا دراميا مثيرا، فإن المفروض أن يظل هذا العالم الثالث على تخلفه وهو يقوم بهذه الرسالة التاريخية الكبرى، وهكذا يقف الناس - ولا سيما في الدول التي بلغت من التقدم مستوى رفيعا - مشدوهين أمام هذه البطولة الخارقة، ويتغزل التقدميون بكفاح هؤلاء الفلاحين البسطاء الفقراء أمام أقوى أداة حرب عرفتها البشرية، وكلما كان التضاد بين القوتين صارخا، ازداد المجال اتساعا أمام الإعجاب الرومانتيكي ببطولة هذا الشعب، وفي الوقت الذي يموت فيه من هؤلاء الأبطال الألوف وتحرق قراهم ويخرب اقتصادهم ويعم العذاب والخراب بلادهم، يقف الناس في العالم أجمع يصفقون في إعجاب وفي دهشة من بطولتهم الخارقة، ولكنهم يستمتعون - في سلبية تامة - بأنباء انتصار الفقراء الضعفاء على الأغنياء الجبابرة، ويكتفون بالتأييد على المستوى الكلامي، ويجدون في المأساة التي تتكرر كل يوم متعة أشبه بمتعة الطفل الساذج حين يجد جمال «سندريلا» الفقيرة يفوز بالأمير منتصرا على ثراء قريباتها الشريرات.
وهكذا يبدو أن صورة العالم الثالث ينبغي - في نظر البلاد المتقدمة - أن تظل مرتبطة بالحياة المتخلفة البسيطة، حتى يستطيع العالم المتقدم أن يشعر بتقدمه بالقياس إلى غيره، وحتى يتسنى للمستنيرين في البلاد الصناعية الكبرى أن يجدوا في هذا العالم «الآخر» نوعا من الترياق الذي يطهر مجتمعاتهم من سمومها، أو وسيلة للتطهر تساعد هذه المجتمعات على رؤية نتائج استبدادها في صورة عينية مجسمة.
وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فإن الاعتقاد الكامن وراء هذا اللون من التفكير هو أن العالم الثالث ليس بحاجة إلى علم وفير أو عقول مفكرة كثيرة، وأن الرسالة «المقدسة» التي يحملها هذا العالم على أكتافه هي أشبه برسالات الأنبياء، يكفي فيها الإيمان العميق، لا العقل الدقيق، فإذا ما هاجرت العقول من هذا العالم الثالث بأعداد وفيرة، فإنها لا تفعل شيئا سوى أن تنتقل من بيئة لا يفيدها العقل كثيرا إلى بيئة أخرى تحتاج - لسوء حظها - إلى أعداد لا حصر لها من العقول، البشرية منها وغير البشرية. •••
تلك هي الزاوية التي تنظر منها البلاد المتقدمة إلى ظاهرة هجرة العقول، ومن هذه الزاوية تعد تلك الظاهرة «استنزافا» بحق، وتبذل بلاد العالم الثالث جهودا جبارة وصلت إلى حد المطالبة بوضع اتفاقيات دولية، من أجل الحد من امتصاص البلاد المتقدمة للمواهب والكفاءات التي لن يكون للبلاد المتخلفة أمل في التقدم بدونها.
على أن للمشكلة وجها آخر لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام، وخاصة من جانب بلاد العالم الثالث ذاتها، على الرغم من أنه يتعلق بالجانب الخاص بها من المسئولية عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن هجرة العقول تعد - على الدوام - مظهرا من مظاهر «استنزاف» الدول المتقدمة لموارد الدول المتخلفة، أي الموارد البشرية في هذه الحالة، ومن المؤكد أن لهذه النظرة ما يبررها، بل إن كل ما جاء في هذا المقال من قبل إنما كان تأييدا وتدعيما لها، ولكن هجرة العقول لا ترجع فقط إلى رغبة الدول المتقدمة في الانتفاع من الموارد البشرية للدول المتخلفة، حتى تظل المسافة بين التقدم والتخلف محفوظة على الدوام، بل إن قدرا كبيرا من مسئوليتها يرجع إلى أخطاء قاتلة ترتكبها دول العالم الثالث ذاتها، وإن كانت تميل إلى تجاهلها ملقية اللوم كله على مستنزفي العقول.
ولنقل بعبارة أخرى إن للمشكلة جانبين مترابطين: المهاجر في علاقته بالبلد الذي يغادره، والمهاجر في علاقته بالبلد الذي يرحل إليه، وإذا كان الجانب الثاني وحده هو الذي ينصب عليه الاهتمام في البلاد النامية، فإن من واجب هذه البلاد أن تواجه في شجاعة مسئوليتها عن الجانب الأول؛ إذ إن أي حل للمشكلة لن يكتمل إلا إذا عولجت جوانبها جميعا.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن العقول المهاجرة كثيرا ما ترحل عن بلادها بسبب تطلعاتها الاستهلاكية، وفي هذه الحالة يعبر هؤلاء المهاجرون عن وضع طبقة كاملة في العالم الثالث، يتسم تفكيرها بالبحث عن إشباع الرغبات الخاصة لأفرادها، دون اعتبار لظروف المجتمع ككل، وما دام هناك طلب، في مجتمعات أخرى أكثر ثراء على كفاءاتهم، فلم لا يهاجرون إلى حيث تتوافر وسائل عيش أفضل؟
هذه الفئة من المثقفين لا ترحل عن بلادها حينما تكون الأوضاع التقليدية سائدة فيها، ولكنها تبدأ في الرحيل عندما يحدث اختلال حقيقي في التوازن التقليدي، وهذا الاختلال يمكن أن يكون نتيجة لأحد عاملين: إما حدوث تحول اشتراكي حقيقي، وإما إعادة توزيع المكاسب الطبقية بصورة جذرية.
ولعل المثل الكلاسيكي للهجرة الواسعة النطاق - التي تتم نتيجة لحدوث تحول اشتراكي حقيقي - هو ذلك الذي تمثل في كوبا بعد ثورة كاسترو؛ فقد رحل عن البلاد - في السنوات الأولى من الثورة - عشرات الألوف من المثقفين الذين كانت البلاد في حاجة حقيقية إلى جهودهم في بناء المجتمع الجديد، ولكن هؤلاء المثقفين والعلماء كانوا من ذلك النمط الشائع الذي تتركز اهتماماته السياسية والاجتماعية على قمة المجتمع لا على قاعدته، فالتحول الثوري الذي يحرم الطبقات العليا بعض امتيازاتها - وإن كان يمنح الجماهير الغفيرة حقوقها الآدمية لأول مرة - لا يعد في نظرها تحولا مرغوبا فيه؛ لأن ما يهمها هو مصير الطبقات العليا لا الدنيا.
على أن من الأمور التي تلفت النظر أن عددا غير قليل من هؤلاء المهاجرين قد أخذوا يعودون إلى بلادهم بعد أن اتضحت لهم الصورة الحقيقية للثورة، صحيح أن الفئة التي كانت مصالحها مرتبطة بالنظام البائد قد ظلت على عدائها للنظام الجديد، ولكن المثقف الشريف سرعان ما يدرك أن رفع مستوى الجماهير ككل هدف يستحق التضحية، بل هو أجدى من أية مكاسب استهلاكية تسعى من أجلها الطبقات المتوسطة والعليا.
أما الحالة الأخرى التي يهاجر من أجلها العلماء والمثقفون من ذوي التطلعات المادية، فهي التي تحدث فيها إعادة توزيع لثروة المجتمع لصالح «طبقة جديدة» تصبح هي المستمتعة بثمار عمل الجماهير الكادحة، في هذه الحالة يكون التوازن الجديد لغير صالح الطبقة المتعلمة في معظم الأحيان؛ إذ إن التكوين الطبقي التقليدي كان يسمح للعلماء والمثقفين - الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة الوسطى - بالمشاركة في جزء على الأقل من الرخاء الذي تستمتع به الطبقة العليا، أما التكوين الجديد فيسفر عن ظهور طبقة أكبر عددا وأشد نهما وشراهة من الطبقة العليا التقليدية، تود أن تستأثر لنفسها بكل شيء، وأن تكون الوريثة الوحيدة لكل الطبقات المستمتعة القديمة.
في هذه الحالة الأخيرة يندر أن يعود العالم المهاجر إلى وطنه؛ لأن الأمر يصبح في هذه الحالة متعلقا بتنافس طبقي يكون العالم عادة في الجانب الأضعف منه، وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن نسبة غير قليلة من العلماء المهاجرين يعودون إلى بلادهم - بالرغم من أنها لا تشبع حاجاتهم الاستهلاكية - عندما يتيقظ وعيهم إلى طبيعة التغيير الاشتراكي الذي يعطي الأولوية لمصالح الجماهير العريضة، فإن هذه التجربة قد أثبتت أيضا أنه في المجتمعات التي لا تسفر فيها الثورات إلا عن إعادة توزيع للثروة لصالح طبقة جديدة لا ينتمي إليها العلماء أو المثقفون، دون حدوث تحول حقيقي في حياة جماهير الناس، فإن هجرة العلماء تصبح ظاهرة يكاد يكون من المستحيل تجنبها أو حصرها في حدود ضيقة. •••
على أن العلماء لا يهاجرون فقط لأسباب مادية، أعني من أجل إرضاء تطلعاتهم الاستهلاكية، بل إن هناك عوامل معنوية وعلمية تؤدي - في بلاد العالم الثالث بالذات - إلى هجرة عدد لا يستهان به من العقول.
فمن الحقائق المعروفة أن اتساع الهوة بين التقدم والتخلف العلمي يسير بمعدل متزايد باطراد، وأن نمو المعرفة يزداد بمتوالية هندسية، بحيث يؤدي وجود العلم إلى جلب المزيد من العلم بمعدل أسرع (كالمال الذي يخلق مزيدا من المال)، على حين أن نقص العلم والعلماء يؤدي - في كثير من بلاد العالم الثالث - إلى نوع من الجمود الذي يبدو تدهورا سريعا بالقياس إلى معدلات النمو المرتفعة في البلاد المتقدمة، هذا الاتساع في الهوة يبعث الخوف في العقول الواعية في العالم الثالث ويشعرها باليأس، ويزداد هذا اليأس قوة في نفوس العلماء بوجه خاص؛ إذ إن العالم يود أن يلمس ثمار جهوده أثناء حياته، وحين يجد أن طريق التقدم في بلاده ما زال طويلا إلى أبعد حد، فإنه يفضل الرحيل إلى مجتمع آخر يستطيع - في تصوره - أن يجد فيه صدى محسوسا للجهود التي يقوم بها العلماء.
على أن أقوى العوامل المعنوية التي تدفع علماء بلاد العالم الثالث إلى الهجرة، هو الشعور بالغربة داخل الوطن؛ ففي كثير من هذه البلاد تسود أساليب في الحكم وفي الإدارة يشعر معها العالم بأن الحاكمين يعادون العلم ولا يكترثون بجهود العلماء، بل إنهم يحتقرون العقل ذاته ولا يقيمون في تصرفاتهم وزنا للمنطق السليم، في هذه البلاد لا يجد العالم أمامه - حيثما ولى وجهه - إلا طرقا مسدودة؛ فالمسيطرون على البلاد يكرهون العلم، وربما اهتموا بالمحافظة على بقائهم أكثر مما يهتمون بالإنفاق على تقدم البحث العلمي وانتشار التعليم، والرؤساء المباشرون تشغلهم المناورات الشخصية وأساليب النفاق حتى لا يتبقى من وقتهم أو جهدهم قسط يسمح لهم بالتفكير في المشكلات العلمية الحقيقية، بل إنهم يحاربون المخلصين المتفانين في عملهم؛ لأن نوع القيم الأخلاقية التي تصدر عنها تصرفاتهم يختلف عن قيمهم الخاصة ويستحيل أن يلتقي معها في أي موضع.
في مثل هذه البلاد قد يكون المهاجر إنسانا وطنيا مخلصا، حاول أن يناضل في مجاله الخاص بقدر ما يستطيع، فلم يصل إلى شيء، وحاول أن يقنع الناس بجدوى عمله فلم يجد حوله إلا من تشغله مصالحه الشخصية عن المشكلات العامة للمجتمع، وحين يجد كل الآذان حوله صماء وكل الأبواب مغلقة، لا يجد مفرا من الرحيل وهو آسف حزين على ما آل إليه أمر مجتمعه.
هذا النموذج - الذي يتكرر كثيرا في بلاد العالم الثالث - يكشف بوضوح عن مدى مسئولية هذه البلاد ذاتها عن ظاهرة هجرة العقول، التي قد لا تكون في كل الأحوال «استنزافا»، بل قد تكون «طردا» و«نفيا» إجباريا، والدليل الحي على صحة هذا الرأي هو أنه في الحالات التي يصبح فيها نظام الحكم مشجعا للعلم مقدرا لجهود العلماء، يعود كثير من هؤلاء المهاجرين ويتفانون في خدمة أوطانهم على الرغم من أن الفقر لا يزال هو السمة العامة المميزة لها، وعلى الرغم من أن الأماني الاستهلاكية ما زالت بعيدة كل البعد عن أن تتحقق.
إن هدف الكثير من العلماء - ولا أقول كلهم؛ لأن الأنماط الطامعة أو المتطلعة إلى إشباع رغباتها المادية موجودة على الدوام - هو أن يشعروا بأن جهودهم تجد صدى في المجتمع الذي يعيشون فيه، وبأن الحكام يسعون مخلصين إلى التغلب على عوائق التخلف والتخلص من مشكلات الفقر والجهل، في هذه الحالة لن يعود انخفاض مستوى المعيشة في مجتمعاتهم أمرا منفرا، ولن يهرب العالم إلى بلد آخر يتمتع فيه بالمرتب الضخم والحياة الرغدة، ذلك لأنه أصبح يشعر بأن عليه رسالة يؤديها، وهذه الرسالة تعطيه رصيدا معنويا يعوض - في حالة الكثيرين - ما يشعر به العالم من حرمان في حياته المادية.
إن العلماء لا يهربون لأن مجتمعهم فقير فحسب، بل إنهم يهربون لأن هذا المجتمع فقير ولا يريد أن ينتشل نفسه من الفقر، جاهل ولا يبذل جهدا من أجل تخليص نفسه من الجهل، وحين يصبح الجو العام السائد في المجتمع هو جو الكفاح من أجل النهوض والتقدم، وحين يحس كل مخلص بأن صوته مسموع، وبأن جهوده تحدث صداها، وبأن المجتمع بأسره يسير نحو المستقبل بأمل باسم، عندئذ سيتضاءل إلى أبعد حد عدد الهاربين، وأغلب الظن أن نسبة كبيرة ممن رحلوا من قبل سيعودون وهم على وعي تام بصعوبة الظروف التي سيرجعون إليها، ولكن المهم أنهم أصبحوا مقتنعين بأن كل فرد في المجتمع، ابتداء من أعلى المسئولين حتى رجل الشارع العادي، يبذل أقصى جهده من أجل الإصلاح في حدود إمكانات المجتمع المتواضعة.
في أمثال هذه المجتمعات يعود العلماء المهاجرون لكي يشاركوا في تحقيق الأمل، ويبذلون جهودهم من أجل ابتكار أساليب بسيطة وأقل تكلفة، تتيح حل المشكلات المتوطنة في المجتمع، وتمضي المسيرة بخطى سريعة قد تؤدي - في زمن غير بعيد - إلى لحاق المجتمع بركب التطور وإسهامه في خلق عالم أفضل للإنسان. •••
إن جانبا كبيرا من مشكلة هجرة العقول يرتد إلى أخطاء العالم الثالث نفسه، صحيح أن هذا العالم يحمل أكثر مما يطيق، وصحيح أن المجتمعات المتقدمة تنظر إليه من خلال مرآة مشوهة تجعله يبدو في نظر الرجعيين من أبناء هذه المجتمعات أشبه بالبقرة الحلوب، وفي نظر التقدميين منهم أشبه بالقديس الفقير المخلص الذي سيحرر الأغنياء من أخطائهم وهو يحرر نفسه من سيطرتهم عليه ... هذا كله صحيح، ولكن ما لا يقل عنه صحة هو أن العالم الثالث نفسه مسئول عن قدر كبير من أخطائه، وهو مسئول أساسا عن تلك الأخطاء التي تؤدي إلى هروب أمله الوحيد في تعويض التخلف واللحاق بركب المدنية المتقدمة، وأعني به العقل والعلم، ولعل أول مظاهر شعوره بهذه المسئولية هو أن يدرك عن وعي أن العقول لا تهاجر لأنها تتلقى إغراءات من الخارج فحسب، بل إن للمشكلة أبعادا أخرى لا تقل عن هذه أهمية، يقف على رأسها شعور العالم بأن العقل والعلم لم يعد له وزن في بلاده، وعلاج هذا الجانب الأخير ينتمي إلى مسئولية بلاد العالم الثالث ذاتها.
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
إن الحديث عن شخصية الأمة - أيا كانت - يواجه من حيث المبدأ اعتراضات علمية منهجية لا يستطيع المرء أن يستخف بها إلا إذا كان ممن يستخفون بالقيم العلمية ذاتها، وأقل ما يقال في هذا الصدد هو أن من الخطورة بمكان - من وجهة نظر العلم - أن نشبه الأمة بالفرد من حيث وجود سمات ثابتة للشخصية؛ إذ إن مثل هذا التشبيه ينطوي على تعميم لا يقبله العلم إلا إذا أحيط بضمانات وتحوطات تؤدي - آخر الأمر - إلى تضييق نطاقه وتقييده بشروط لا يعود معها ذلك التعميم مجديا، بل إن الملاحظة الدقيقة - حتى لو لم تكن علمية بالمعنى الصحيح - تثبت في كثير من الأحيان بطلان تلك الأحكام العامة التي يشيع إصدارها على شخصيات الشعوب؛ فكل من زار بلدا غير وطنه الأصلي يذهب إليه وفي ذهنه مجموعة من الأحكام المسبقة السريعة التعميم، فإذا أقام في هذا البلد ردحا كافيا من الزمان، وكانت لديه فرصة معقولة لكي يكون لنفسه فكرة صائبة عن أحوال الناس فيه، فإنه يعود من إقامته هذه - في معظم الأحيان - بحكم مختلف عن ذلك الذي بدأ به زيارته، وحتى لو تمسك بحكمه الأصلي فإنه يقرنه بتحفظات شديدة تزيل عنه طابع التعميم الشامل الذي كان يتسم به في البداية، ومجمل القول أن موضوعا كهذا الذي نحن بصدده يثير منذ البداية - ومن حيث المبدأ - اعتراضات منهجية أساسية، لا يجد المرء معها مفرا من أن يعمل لها حسابا قبل أن يخوض في الموضوع ويتعمق في تفاصيله.
على أننا لسنا نتحدث عن شخصية أية أمة، بل إن حديثنا ينصب على أمتنا بالذات، وهو لا ينصب عليها في وقت يستحب فيه التأمل ويتسع فيه المجال للتفكير الهادئ، بل إن هذا الحديث يأتي في فترة ربما كانت من أحرج الفترات التي مرت بها هذه الأمة في تاريخها الطويل، وهنا يحق لأي معترض أن يشير إلى صعوبتين أخريين.
فإن كنا نتوخى في حديثنا هذا أن نكون موضوعيين، فإن الموضوعية عسيرة إلى أبعد الحدود في أوقات المحن والأزمات؛ إذ إن التوتر الانفعالي الذي يصاحب هذه الأزمات، واللهفة الشديدة على التخلص من المحنة والخروج من الأزمة، لا يدع للمرء فرصة لكي يتحدث عن شخصية أمته حديثا موضوعيا يتسم بنزاهة العلم وحياده.
أما إذا كانت الغاية من بحث موضوع كهذا غاية عملية، لا تكتفي بالدراسة النظرية للظواهر، بل تنتقل إلى إيضاح السبل اللازمة لمعالجة النقائص ومداواة العيوب، فلن يكون من العسير أن يعترض المرء بأن وقت المحنة ليس أنسب الأوقات للكشف عن المثالب، ولا هو بأفضل الفرص للبحث عن وسائل الخلاص منها.
وخلاصة القول أن حديثنا هذا عن الشخصية المصرية يواجه اعتراضات متعددة تتلخص - آخر الأمر - في اعتراضين أساسيين: أحدهما ذو طبيعة علمية منهجية، يشكك في إمكان الوصول إلى نتيجة لها قيمتها في موضوع كهذا، ولا يؤمن بإمكان تحقيق الموضوعية في هذا الميدان، والآخر يستمد انتقاده من طبيعة اللحظة التاريخية التي نمر بها، فيؤكد أن مثل هذا الحديث - حتى لو سمح به العلم وأجازه - إنما يأتي في غير أوانه.
ولست أرمي من مقالي هذا إلى الرد على هذين الاعتراضين؛ إذ إنهما يثيران مشكلات لا بد لمن يتصدى لها أن يكون ذا قدرات خارقة، تجمع بين التعمق في دراسة مناهج العلوم الإنسانية ومعرفة شروط الموضوعية العلمية فيها، وبين الاستبصار الاجتماعي والسياسي بما يجوز وما لا يجوز أن نثيره من المشكلات في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا، وأنا لا أدعي لنفسي أيا من هاتين الصفتين، ولا أزعم - بالأحرى - أنني قادر على الجمع بينهما، وكل ما أود أن أقدمه في هذا المقال مجموعة من الخواطر التي أثارها موضوع الشخصية المصرية في نفسي، وهي خواطر لا تزعم أنها رد حاسم على هذين الاعتراضين، وأقصى ما تدعيه هو أنها تلقي بعض الأضواء على وجهة نظر الباحثين في موضوع كهذا حينما تواجههم انتقادات حاسمة كتلك التي أشرت إليها الآن.
مناقشات في المنهج
ثمة تفرقة أرى لزاما علي أن أنبه القارئ إليها قبل الدخول في أية مناقشة للمنهج الواجب اتباعه عند بحث موضوع كالشخصية المصرية؛ لأنها كفيلة بأن تلقي الضوء على طبيعة الخلاف المنهجي بين المشتغلين في أمثال هذه الموضوعات، تلك هي التفرقة بين جانبين من جوانب البحث في الشخصية القومية؛ فمن الممكن أن تبحث الشخصية القومية من حيث هي تتمثل في الأفراد الذين يعيشون في وطن معين، بحيث يعد كل فرد منهم نموذجا لهذه الشخصية، وبحيث تنعكس على شخصيته الفردية تلك السمات العامة التي يقال إنها سمات الشخصية القومية للأمة التي ينتمي إليها، ومن الممكن أن تبحث الشخصية القومية من حيث هي «شخصية معنوية» تسمو - بمعنى ما - على الأفراد، أي من حيث هي واحدة من تلك الكيانات الجماعية التي لا ترد إلى مجموع عناصرها، بل يكون لها شبه استقلال ذاتي بالقياس إلى الأفراد الذين يؤلفونها.
في الحالة الأولى يفترض أن الأفراد المنتمين إلى أمة معينة يمثلون - بدرجات متفاوتة - نمطا عاما هو نمط «الشخصية القومية»، ويكون علينا لكي نصدر حكما على مدى وجود هذه الشخصية القومية وتأثيرها أن نقوم بدراسات منهجية منظمة على عدد كاف من الأفراد؛ لكي نتأكد من وجود تلك السمات العامة فيهم، وتبعا لنتيجة تلك الدراسات يتحدد ما إذا كان الكلام عن هذه «الشخصية القومية» مشروعا أو غير مشروع.
أما في الحالة الثانية فإن الاهتمام لا ينصب على الأفراد بقدر ما ينصب على ظواهر لها طابع العمومية، تظل متمثلة في المجتمع بقدر من الدوام يسمح لنا بتأكيد وجود ذلك الكيان المعنوي المسمى بالشخصية القومية.
مجمل القول إذن أنني أريد أن أفرق بين دراسة للطابع القومي للشخصية الفردية، ودراسة للطابع «الفردي» للشخصية القومية، وأعني بلفظ الطابع «الفردي» في الحالة الأخيرة، ذلك الطابع الذي تصبح الشخصية القومية الجماعية بفضله أشبه ما تكون بالفرد المتميز، بالقياس إلى «أفراد» آخرين هم «الشخصيات القومية» للأمم الأخرى.
وفي اعتقادي أن عددا غير قليل من مناهج البحث التي طبقت في مجال دراسة الشخصية القومية، كان ينصب على النوع الأول من الدراسة وحده، أعني على اختبار صدق الأحكام القائلة إن الأفراد في أمة معينة تجمع بينهم سمات مشتركة معينة يمكن أن يطلق عليها في مجموعها اسم «الشخصية القومية»، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتشكك الباحث المتشبع بالروح العلمية، والواعي بالشروط الضرورية للحكم العلمي السليم، في مفهوم الشخصية القومية أصلا إذا اتضح له أنه لم يجد بين الأفراد الذين درسهم والذين اختارهم بعناية قدرا كافيا من هذه السمات المشتركة، أو لم يقتنع بالنسبة الإحصائية لتردد تلك السمات في هؤلاء الأفراد، ولهذا الباحث كل الحق في أن يرفض دراسة الشخصية القومية - من هذه الزاوية - بأي منهج فيما عدا منهجه العلمي السليم.
ولكني أعتقد أن الزاوية الأخرى لدراسة الشخصية القومية تحتاج إلى مناهج علمية من نوع مخالف إلى حد بعيد، أو هي على الأصح تقتضي من الباحث نظرة أرحب إلى المنهج العلمي، وتخفيفا شديدا للشروط المنهجية التي يمكن أن يعترف بها في هذا المجال.
فلنتأمل أمثلة قليلة لتلك الظواهر الجماعية التي تدخل ضمن نطاق دراسة «الشخصية القومية» بالمعنى الثاني. إن استخلاص طابع معين مميز لهذه الشخصية من الأعمال الأدبية، ولا سيما الأدب الشعبي، أو من الأعمال الفنية وخاصة الفن الشعبي أيضا، أو من المأثورات والحكم المتداولة بين الناس، هو أمر لا يمكن إخضاعه لنفس النوع من المناهج التي تفيد في حالة دراسة الأفراد من أجل استخلاص السمات المشتركة بينهم؛ فعلى أي نحو - مثلا - يمكنك أن تخضع الحكم القائل إن «الموسيقى الشعبية في الريف المصري حزينة» للمنهج العلمي الدقيق؟ إن كل من استمع إلى ألحان الناي التي تنبعث تلقائيا من الفنان الريفي المصري لا يحتاج إلى جهد كبير لكي يجزم بأنها ألحان حزينة، بحيث يكون من القصور الشديد إخراج الحكم السابق من زمرة الحقائق العلمية لمجرد عدم وجود وسيلة لتطبيق المناهج العلمية الدقيقة المعروفة عليه، ومثل هذا يصدق على الموال الشعبي والشعر الشعبي ... إلخ.
فإذا ما تبين للباحث وجود سمة الحزن هذه - مثلا - في الموسيقى والغناء والشعر المعبر عن الروح الشعبية، وإذا ما اتضح له أنها سمة غالبة على الأمثال والمأثورات الشعبية بدورها، كان من حقه عندئذ أن يصدر حكما أعم، يقول فيه إن سمة الحزن من السمات المميزة للشخصية الشعبية، ومن المؤكد أن هذا الحكم العام بعيد كل البعد عن استيفاء شروط المنهجية العلمية بمعناها الدقيق؛ لأنه حصيلة ملاحظات فردية أو انطباعات كونتها مجموعة من الأشخاص، ولكن هل يكون من حقنا أن ننكر عليه صفة العلمية لهذا السبب؟ أليست الظواهر التي ينصب عليها حكم كهذا مستعصية بطبيعتها على تلك المناهج التي يمكن أن تحرز نجاحا كبيرا في حالة الدراسة الاستقصائية لمجموعات من الأفراد أو من السمات الفردية؟
مجمل القول أن هناك أحكاما تنتقل من الخاص إلى العام، وأخرى تبدأ من العام وقد تنتهي إلى الخاص، وإذا كانت الأحكام الأولى وحدها هي التي تستوفي الشروط الدقيقة لمنهج الاستقصاء العلمي، فليس معنى ذلك أن الأحكام الثانية ينبغي أن تكون خارجة عن نطاق العلم لمجرد كونها غير خاضعة بطبيعتها لأمثال هذه الشروط.
ولعل ما أرمي إليه يزداد وضوحا إذا ما تأملناه في ضوء الإطارين الرئيسيين اللذين يتم من خلالهما إصدار الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» على وجه التحديد.
أول هذين الإطارين هو الإطار الجغرافي، ولعلنا نعرف جميعا تلك المحاولات المتعددة التي بذلت للربط بين سمات معينة في الشخصية المصرية وبين الطبيعة الجغرافية لبلادنا، وهي محاولات كان من آخرها ومن أكثرها امتيازا محاولة الدكتور جمال حمدان في كتابه عن شخصية مصر.
والآن فبأي منهج من المناهج الاستقصائية يمكن التحقق من صدق الحكم القائل - مثلا - إن الاشتغال بالزراعة ، والاعتماد فيها على الري النهري، كان له تأثيره في تحديد سمات شخصيتنا المصرية؟ وهل إذا لم نجد منهجا كهذا، يكون ذلك سببا كافيا للاعتراض على القيمة العلمية لمثل هذا الحكم؟ في اعتقادي أن المنهج الوحيد الممكن في مثل هذه الحالة هو اختبار مدى الاتساق بين المقدمات والنتائج، ومقدار أحكام وتماسك القضايا القائلة بأن هذا العامل الجغرافي أو ذلك يمكن بالفعل أن يؤدي إلى هذه السمة أو تلك، وهذا منهج فلسفي ومنطقي قبل كل شيء.
ولكن الإطار الثاني لهذا النوع من الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» أهم في رأيي بكثير، ذلك هو الإطار التاريخي، الذي هو الدعامة الأساسية لكل حكم عام يشير إلى سمة معينة من سمات ذلك الكيان الجماعي المسمى بالشخصية المصرية، بل إنني لأعتقد أن كل الظواهر السابقة تكتسب داخل هذا الإطار التاريخي مزيدا من التأكيد والتأييد؛ فحين نقول مثلا إن الحزن سمة مميزة للأعمال الأدبية والفنية الشعبية، نزداد اقتناعا بحكمنا هذا إلى حد بعيد إذا تبين أن هذه السمة ظلت تميز هذه الأعمال طوال فترات التاريخ السابقة المعروفة لدينا، وحين نستخلص صفة «الاتكالية» من أمثالنا ومأثوراتنا الشعبية الشائعة حاليا، ثم نجد أنها كانت صفة مميزة لنظائرها في كثير من العهود السابقة، يكون ذلك دعما لصحة استنتاجنا السابق، بل إن الإطار الجغرافي بدوره يمكن أن تزداد أحكامنا المتعلقة به تأكيدا إذا وضعناها في إطار تاريخي؛ فحين يكون للسمة التي نحكم - لأسباب جغرافية - بوجودها في الشعب المصري استمرار خلال التاريخ، يكون في ذلك تأكيد واضح لصحة التعليل الجغرافي الذي نقول به، على حين أن هذه السمة لو كانت تظهر خلال التاريخ ظهورا غير منتظم، لكان من حقنا أن نشك في قيمة هذا التعليل الجغرافي أصلا.
وإذن فالبعد التاريخي حاسم في دراسات الشخصية المصرية، وذلك أمر تقضي به طبيعة الأشياء ذاتها؛ إذ إن بلدا عريق التاريخ كمصر يشكل مجالا خصبا للتفسير التاريخي للظواهر، ولكن بأي نوع من المناهج العلمية الدقيقة نستطيع أن نتحقق من صحة الحكم الذي نصدره على سمة معينة حين نجدها تتردد في كتابات المؤرخين ترددا واضحا، أو حين تشهد بها وثائق تاريخية تنتمي إلى عصور طويلة متباينة؟ أو بعبارة أخرى: هل تستطيع المناهج المستخدمة في علوم الأنثروبولوجيا الاجتماعية أو الحضارية، أو في علم النفس بفروعه واتجاهاته المختلفة، أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكد من صحة أو عدم صحة الحكم الذي يعتمد أساسا على شهادة السوابق التاريخية؟ وإذا لم تكن تستطيع أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكد من ذلك، فهل يعني ذلك أن مثل هذا الحكم ينبغي أن يستبعد بوصفه حكما لا يستوفي شروط المنهج العلمي، أم يعني أن من الواجب التوسع في شروط هذا المنهج بحيث تتسع للحكم المبني على قدر معقول من استقراء الشواهد التاريخية؟
تلك بعض الأسئلة التي استهدفت من طرحها في مناقشتي المنهجية هذه أن أوجه الأنظار إلى احتمال وجود جوانب أخرى للمنهج العلمي - مفهوما بمعناه الواسع - تجعل لمثل هذا البحث في الشخصية المصرية ما يبرره من وجهة نظر العلم.
شخصيتنا المصرية واللحظة الحاضرة
ولكن هب أننا استطعنا تبرير هذا البحث في الشخصية المصرية من وجهة نظر المنهج العلمي النظري، فهل يكون في وسعنا أن نبرره من وجهة النظر العملية؟ هل تعد اللحظة الحاضرة - التي تعاني فيها بلادنا كثيرا من مشاعر المرارة والإحباط - أنسب اللحظات للبحث في موضوع كهذا؟ ألسنا نتعرض - نتيجة لهذه الظروف - للوقوع في خطأ الانسياق وراء المشاعر المؤقتة وإصدار أحكام عامة متسرعة قد لا نكون على استعداد لقبولها على الإطلاق لو لم نكن نعيش هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا؟ ألن يؤدي هذا البحث - حين يتم في ظروف كهذه - إلى شيء من تثبيط الهمم في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى كل ما يرتفع بمعنوياتنا ويبث فينا روح الكفاح والنضال؟
لقد أشرت من قبل إلى أن الإطار التاريخي أهم الأطر التي تعالج من خلالها فكرة الشخصية المصرية، وتلك حقيقة لا جدال فيها؛ فكل من كتبوا عن مصر يؤكدون الاتصال التاريخي الفريد الذي يتسم به شعبنا، وعراقة أصل هذه الأمة، وأصالة الحضارة التي بناها المصري على أكتافه والعالم ما زال يحبو في مهده. إن تاريخ مصر العريق مصدر أعظم أمجادها، ولكن هذا التاريخ ذاته مصدر كثير من العيوب التي تهدد شخصيتنا القومية بأخطار لا مفر من أن نتنبه إليها ونعمل على تلافيها.
إن الأمر المؤكد أن لكل أمة الحق - كل الحق - في أن تتغنى بماضيها وتمجده، ولكن التشبث المريض بهذا الماضي ليس له إلا معنى واحد، هو العجز عن السيطرة على الحاضر أو عدم الرضا عنه، وفي اعتقادي أن الأمة التي تتحكم في حاضرها وتمسك بزمامه وتسيطر عليه وتدير دفته في الاتجاه الذي يحقق لها أمانيها، لا تحتاج إلى كل هذا القدر من التغني بالماضي واجترار أمجاد الأسلاف، ولو تأملنا مقدار الجهد الذهني الذي بذل، والطاقات النفسية والعصبية التي أنفقت في المعركة التقليدية بين أنصار الأصل الفرعوني وأنصار الأصل العربي الإسلامي؛ لبدا لنا المعنى الذي نرمي إلى إثباته واضحا وضح النهار؛ إذ إن هذه المعركة كان يمكن أن تحسم لو أن كلا من الفريقين المتنازعين خاطب الآخر بتلك العبارة البسيطة المعقولة الحكيمة، كفانا تناحرا على الماضي يا سادة، ولنتذكر قليلا حاضرنا الذي نعيش فيه!
والحق أن نفس عامل الثبات في الشخصية - الذي يعد مصدرا للفخر والاعتزاز بالماضي العريق - يمكن أن يعد سببا من أسباب التعاسة في الحاضر؛ ذلك لأن الظروف التي أدت - منذ آلاف السنين - إلى بناء حضارة عظيمة يمكن - إذا ظلت سائدة دون تغيير أساسي - أن تؤدي إلى تدهور شديد في الحاضر، وإذا كنا نعترف بأن شخصية الفلاح المصري وطبيعة حياته وطريقة معيشته ظلت على ما كانت عليه منذ أيام المصريين القدماء، فمن الواجب ألا نرى في ذلك ما يدعو إلى الإفراط في الفخر، بل ينبغي أن نجد فيه حافزا قويا إلى التغيير.
إن التفاخر بالأصل والحسب صفة مميزة لشعوب هذه المنطقة من العالم، وحسبنا دليلا على ذلك أن نرجع إلى باب «الفخر» في دواوين الشعر العربي التقليدي، وهو موضوع لا يكاد يكون له نظير بين أغراض الشعر في الآداب العالمية كلها، وفي حياتنا الشخصية كان الفخر بالحسب والنسب - ولا يزال إلى حد بعيد - مصدر كثير من الأحكام الباطلة على الناس، ومن التصرفات الخاطئة في المجتمع، ومع ذلك فإن مثل هذا التفاخر ما زال يمارس على مستوى الشخصية القومية بصورة يمكن أن توصف بأنها مريضة، ومرة أخرى فإني حريص على أن أؤكد أن من حق كل شعب - بل من واجبه - أن يحافظ على تراثه ويتغنى بأمجاده الماضية، ولكن هذا الرجوع إلى الماضي يتخذ في الحالات السوية شكل القوة الدافعة إلى مزيد من النهوض بالحاضر، بينما يتخذ في الحالات المريضة صورة البديل الخيالي عن الحاضر، أو العزاء الوهمي عما هو فيه من تخلف.
إن كل من بحثوا في الشخصية المصرية يؤكدون أن أهم سماتها هو ذلك الاستمرار الفريد بين الماضي السحيق والحاضر، ولكن النتائج التي تستخلص من هذا الاستمرار والاتصال في شخصيتنا تختلف كل الاختلاف بين أجيال الباحثين، ويمكن القول بصورة عامة إن الجيل الأقدم من الباحثين يستمد من هذا الاستمرار قوة روحية هائلة تعطيه أملا كبيرا في الحاضر - أو على الأصح عزاء مريحا عنه - على حين أن جيل الشباب يرى في هذا الاستمرار عاملا مثبطا للهمم، ومظهرا من مظاهر التخلف.
وفي اعتقادي أن كلا من هاتين النتيجتين لا تلزم بالضرورة عن مقدماتها، وأن حقيقة الاستمرار التاريخي لا ينبغي أن تكون مصدرا للأمل المبالغ فيه أو لليأس المفرط.
ذلك لأن المغرقين في الأمل يؤمنون - في واقع الأمر - بنوع من القوة السحرية الغامضة في هذا الشعب الذي استطاع أن يصمد طوال هذا التاريخ ويحتفظ بجوهره نقيا برغم كل المؤثرات الأجنبية والغزوات الدخيلة، وأن يقهر المعتدين بالصبر، ويرغمهم على الرحيل آخر الأمر خاسرين، وفي رأيي أن الإيمان بوجود علاقة سببية بين ماضي الشعب وحاضره هو إيمان صوفي لا يمت إلى التفكير العلمي بصلة، وأن الماضي مهما كانت عراقته لا يستطيع أن يؤثر في الحاضر إلا بقدر ما نبذل نحن في سبيل إنهاض هذا الحاضر من جهود، وكم من الأمم لم يشفع لها ماضيها العريق حين تراخت جهودها ووهنت عزائمها، فأصبح حاضرها تعيسا يدعو إلى الرثاء، بل إني لأومن بأن كل جيل في حياة الأمة يحمل على أكتافه وحده أمانة الكفاح كاملة، أما الاعتقاد بأن الأصل البعيد يرتبط بالحاضر على نحو ما، ويمكن أن يكون قوة مؤثرة فيه، فهو اعتقاد يفتقر إلى تأييد الشواهد التاريخية والمنطق السليم معا، ولا يعدو أن يكون شعورا انفعاليا في بعض النفوس، لا يطابقه في الواقع الموضوعي شيء.
ولست أود أن أعلق على الوجه الآخر من هذه الطريقة في التفكير، وهو الوجه القائل إننا حاربنا الغزاة وانتصرنا عليهم بالصبر، وحسبي أن أقول إن هناك مواقف في حياة الأمم لا تحتمل مثل هذا الصبر، وإن الحد الفاصل بين الصبر والمذلة إنما هو خيط رفيع، وإن الذليل - على أية حال - يستطيع أن يضمن لنفسه عمرا طويلا!
من أجل ذلك لم تكن هذه الفلسفة مقبولة لدى جيل الشباب، وكان استقرار الشخصية القومية وثباتها على المدى الطويل - في نظر هذا الجيل - مدعاة إلى اليأس لا إلى الأمل؛ ذلك لأن هذا الاستقرار إنما يعني استمرار كثير من عوامل التخلف، وقيم الطاعة والخنوع، والإيمان بالقدرية والغيبيات، وأحاسيس المرارة واليأس، والتفنن في الهروب من الواقع والعجز عن التصدي له.
ومع ذلك فإني لست من المؤمنين إيمانا تاما بطريقة تفكير هؤلاء اليائسين؛ ذلك لأن وحدة الشخصية القومية عبر التاريخ، واستمرار السمات السلبية فيها، إنما هو في واقع الأمر استمرار للظروف التي أدت إلى نشوء هذه السمات وتلك الظروف في نهاية التحليل، ذات طابع اجتماعي في الأغلب، أي إنها مما يدخل في نطاق تحكم الإنسان، وليست قدرا فرضته عليه قوة قاهرة، ومن المؤكد أن تغيير هذه الظروف كفيل بأن يؤدي في نهاية الأمر إلى تغيير النتائج المترتبة عليها، وبالتالي إلى القضاء على السمات السلبية في شخصيتنا القومية. وبعبارة أخرى فإن هذه الشخصية القومية - مهما كانت درجة ثباتها - ليست شيئا فطريا مقدرا لنا ويستحيل علينا تغييره، بل نتاج لعوامل معينة في حياتنا هي التي أدت إلى تشكيلها في هذه القوالب، وما ثبات هذه الشخصية على مدى تاريخنا الطويل إلا انعكاس لاستمرار هذه العوامل وعجزنا عن تغييرها طوال هذه القرون، ولكن هذه العوامل قابلة للتغيير من حيث المبدأ (ولا سيما في هذا العصر الذي لا يصمد أمام قوى التغيير فيه شيء)، ومن ثم فإن سمات شخصيتنا القومية يمكن أن تطرأ عليها تحولات جذرية لو استطعنا أن نبذل الجهد اللازم في سبيل تغيير العوامل المؤثرة فيها.
وأول شروط بذل هذا الجهد، وبالتالي أولى مراحل عملية التغيير، هو الشعور الواعي بمظاهر السلبية في شخصيتنا.
إن «النظرة إلى الوراء بسخط» (ومعذرة لكاتب المسرحية المعروفة) جزء لا يتجزأ من صفات جيل الشباب المتطلع إلى التغيير، وهي نظرة بناءة، تحاول إعادة التوازن بين الحاضر والماضي بعد أن ظل طويلا في اختلال ترجح فيه كفة الماضي على الحاضر، وأحسب أن أول ما تقتضيه مرحلة محاسبة النفس التي نمر بها هو المواجهة الصريحة لعيوبنا، ولا سيما المتأصلة منها في نفوسنا خلال فترات تاريخية طويلة بدلا من إسدال ستار من الصمت عليها بحجة التغني بأمجاد الأجداد.
فإن كان الغضب على الماضي الراكد، والسخط على أسلوب في الحياة جامد لا يتطور، بشيرا ببداية الوعي الذي يقودنا إلى مستقبل أفضل، فأهلا بالغضب ومرحبا بالسخط!
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
لم يكن يجول في خاطري أن أقوم يوما ما بالكتابة بشيء من الإسهاب في موضوع الأخلاق كما تطبق عمليا على حياتنا في مرحلتها الراهنة؛ إذ كنت أعتقد على الدوام أن الأخلاق - في جانبها العملي - ترتكز على أسس أسبق منها وأعمق، أي إنها ليست كيانا قائما بذاته، خاضعا لمنطقه الداخلي الخاص، مستقلا عما عداه وغير متأثر إلا بنفسه، وإنما هي السطح الظاهري الذي تتفاعل من تحته وتتعامل عشرات من العوامل الدفينة، وهي عوامل يصعب على العين العادية إدراكها، وتكون حصيلة تفاعلها في نهاية الأمر ذلك الشيء الذي نسميه بالأخلاق، ومن هنا كان من قبيل إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه أن يجهد المرء نفسه في الحديث عما يجري على السطح الظاهري، الذي لا يرى معظم الناس سواه، وهو يعلم أن من وراء هذا السطح عوامل خفية هي التي تحركه من وراء ستار، وأن هذه العوامل تبدو مقطوعة الصلة بمجال الأخلاق، بينما هي في حقيقة الأمر تمارس عليه تأثيرا حاسما، وإن لم يكن مع ذلك تأثيرا واضحا للعيان.
على أن الترحيب الذي لقيه مقالي السابق بعنوان «أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟» قد أقنعني بأن للكتابة في ميدان الأخلاق مجالا واسعا، وبأن هناك رغبة يمكن أن توصف بأنها عامة في معالجة هذا الموضوع لا في مجال ضيق كالأخلاق العلمية فحسب، بل على أوسع نطاق ممكن، وبأن الكلام فيه ليس منعدم الجدوى إلى الحد الذي قد يبدو عليه لأول وهلة.
وبطبيعة الحال فإن التصدي لهذا الموضوع يحتاج إلى تلافي محاذير يقع فيها الكثيرون، وترتد كلها إلى الخطأ الأساسي الذي أشرنا إليه من قبل، وأعني به النظر إلى الأخلاق على أنها تكون مجالا مستقلا عن كل ما عداه، وعلى أنها قادرة على تفسير نفسها بنفسها، فلا مفر للمرء - وهو يعمل على تشخيص العيوب - من أن يرد هذه العيوب إلى أسبابها الموضوعية الكامنة في تركيب المجتمع ذاته، ولا بد له - في مرحلة البحث عن العلاج - من أن يقدم أفكارا تصلح لمعالجة الداء من جذوره، لا لتغطية سطحه الخارجي فحسب.
إننا شعب اشتهر بميله - الذي قد يكون مفرطا - إلى نقد ذاته، وكثيرا ما يتردد في أحاديثنا - حينما نجد أنفسنا إزاء أمر يثير فينا السخط - لفظ «يا بلد!» أو «يا شعب !» وكثيرا ما يلحق هذا اللفظ بصفات تدل على أننا نتهم أنفسنا - كشعب - بالضعف الأخلاقي، وبما قد يكون أسوأ من ذلك، وبطبيعة الحال فإن المتكلم يستثني نفسه دائما من هذا الحكم (إذ كيف يكون قد أدرك هذا الضعف، واستطاع أن ينتقده، لو لم يكن هو ذاته فوق مستوى الضعف؟) ومع ذلك فإن أحدا لا يتنبه إلى المفارقة التي تتلخص في أننا جميعا نردد هذه العبارات، وبالتالي فلو كنا جميعا فوق مستوى الضعف الأخلاقي لما كان لعباراتنا هذه معنى، ولكن لندع جانبنا هذا التناقض الشكلي، ولنتأمل الظاهرة في جوهرها، فما الذي يدل عليه هذا النقد الذاتي المفرط، الذي قد يتجلى مباشرة في عبارات ساخطة، وقد يتخذ مظهرا غير مباشر في ذلك السيل الجارف من النكات التي لا يفلت أحد من سخريتها اللاذعة، أو من لذعتها الساخرة؟
إنه يدل - أولا وقبل كل شيء - على اعتقاد منتشر بين معظم العامة وكثير من المثقفين، بأن لكل شعب أخلاقا خاصة مميزة له، وبأن هذه الأخلاق صفة لاصقة به، أو جزء من تكوينه «الطبيعي» أو «الفطري»، ولما كنا لا نود الخوض في مناقشة طويلة نفند فيها الاعتقاد بوجود أي نوع من الارتباط بين ما يسمى بالتكوين الطبيعي لشعب ما وبين النمط الأخلاقي السائد فيه، فسوف نكتفي بالقول إن أخلاق أي شعب لا تتميز عن أخلاق شعب آخر إلا لأن الظروف الموضوعية المتراكمة عبر التاريخ، والتي مر بها هذا الشعب، تختلف عن ظروف الشعوب الأخرى، ومعنى ذلك أن من واجبنا - قبل أن نقسو على أنفسنا بلوم مفرط - أن ندرك مدى تأثير العوامل المعاكسة التي تعرضنا لها على مر التاريخ، ومدى عجزنا - كمجتمع - عن التحكم في هذه العوامل وتغيير اتجاهها على النحو الكفيل بتحقيق مصالحنا، عندئذ يمكن أن تبدو عيوبنا الأخلاقية في ضوء مختلف، وتتخذ أساليب إصلاح هذه العيوب طابعا مغايرا، مستمدا من الفهم السليم للعوامل الحقيقية المتحكمة في أخلاقنا.
على أن هذا النقد الذاتي القاسي يدل أيضا على حقيقة لا يمكن الشك فيها، وهي أن هناك إحساسا عاما بوجود أزمة أخلاقية، ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن عددا غير قليل من المشتغلين بشئون الفكر قد دأبوا على التحذير من هذه الأزمة الأخلاقية، ومع ذلك لا يشعر المرء في كتاباتهم بوجود تلك الرغبة المخلصة في البحث عن علاج حقيقي، بل إن أكثر الأصوات ارتفاعا في التنبيه إلى عيوبنا الأخلاقية، كثيرا ما تصدر عن أبعد الناس عن الأخلاقية بمعناها الصحيح، وتعليل هذه الظاهرة أمر ميسور؛ إذ إن هؤلاء يعزلون العامل الأخلاقي عن غيره من العوامل، ويصورون مشكلتنا الأخلاقية كما لو كانت مستقلة عن غيرها من المشكلات، وتتجه دعوتهم - نتيجة لذلك - إلى «إصلاح الأخلاق» أو «تقويمها»، وإلى «تهذيب النفوس»، وما إلى ذلك من الأهداف التي يستحيل تحقيقها عمليا، والتي يستحيل التأكد من صداها الحقيقي في النفوس حتى لو أمكن تحقيقها، وهكذا فإن أصحاب النزعة الأخلاقية الخالصة هؤلاء، يقومون في واقع الأمر بتمييع المشكلة عن طريق نقلها إلى مجال غير قابل للبحث الموضوعي ويستحيل أن تطبق فيه معايير متفق عليها، وأعني به مجال إصلاح النفوس وتهذيبها.
ولكن إذا كانت هذه النظرة - التي ترتكز على الاعتقاد بالاستقلال الذاتي للأخلاق - قد زيفت المشكلة بنقلها إلى مجال لا يخضع البحث فيه - بطبيعته - للمنهج العلمي، فإن هذا لا ينفي أن المشكلة ذاتها قائمة، وإن كانت تحتاج في تشخيصها وفي علاجها إلى وجهة نظر مختلفة تمام الاختلاف.
وربما كانت أوضح مظاهر هذه الأزمة الأخلاقية هي تلك الحالات التي تكتمل فيها كل المقومات الكفيلة بنجاح مشروع معين، من تخطيط سليم ومعدات كاملة ووسائل مادية لا ينقصها شيء، ثم تكون النتيجة أن يلقى المشروع إخفاقا ذريعا، في هذه الحالة، حين نتساءل في حيرة ودهشة: أين الخطأ إذن؟ لا نجد أمامنا مفرا من أن نجيب: إنه في الإنسان، أو بعبارة أدق: في الأخلاق. وما أكثر هذه الحالات في حياتنا، وما أقوى أصوات النائحين الذين يندبون حظنا العاثر في ميدان الأخلاق، ويلحون على المجتمع كيما يقوم اعوجاج المنحرفين بالوعظ والإرشاد، ولكن الأمر المؤكد أن هذه الطريقة في معالجة الأزمة لا تجدي فتيلا ؛ لأن صاحب المصلحة يستحيل أن يتنازل عنها من أجل موعظة، وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة؛ فالأزمة موجودة يشعر بها الجميع، ولكن أسلوب العلاج التقليدي لا يؤدي إلا إلى زيادة الأزمة تفاقما، فكيف يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق؟
أولى الخطوات في الطريق الصحيح هي - في رأيي - الإدراك الواعي لقصور نظرتنا إلى الأخلاق؛ فنحن - بوصفنا مجتمعا شرقيا ميالا إلى المحافظة - نميل إلى المبالغة في تأثير العامل الأخلاقي، ولكنا لا نكاد نفهم هذا العامل إلا من جانب واحد هو الجنس ، والحق أنك لو سألت ألوفا من عامة الناس - بل ومن المثقفين - عن مفهوم الشخص الأخلاقي والشخص اللاأخلاقي، لقدم إليك معظمهم أوصافا تدل على أن الأول في نظرهم هو العفيف جنسيا، والثاني هو المتحرر أو «المنحل» في مسائل الجنس.
هذا التوحيد بين الأخلاق وبين الجانب الجنسي من سلوك الناس له دلالاته الخطيرة؛ فهو أولا يدل على اهتمام مفرط بالجنس، ناشئ عن قسوة الحرمان وصرامة القيود التي يفرضها المجتمع الشرقي المحافظ على أفراده في هذا المجال، ومن المعروف أن الإنسان كثيرا ما يميل إلى تحريم أحب الأشياء إلى نفسه، أو على الأقل فرض قيود شديدة عليها، على أن هذه الصرامة في النظرة إلى الجنس تخفي وراءها نفاقا شديدا لا يملك المرء إلا أن يتشبع به منذ حداثته؛ إذ إن قدرا كبيرا من التحريمات التي نفرضها في مجال الجنس ترجع إلى الرغبة الخفية فيه، وكثير من المتزمتين لا يبدون هذه الصرامة إلا لأنهم محرومون، بحيث تكون قسوتهم وصرامتهم مجرد مظهر سلبي للرغبة العارمة في ارتكاب كل ما يحرمونه على الغير، ومن المؤكد أن شبابنا الذي ينشأ موزع النفس بين التحريم الشديد الذي يفرضه المجتمع، وبين الرغبة القوية التي تزيدها لديه الحواجز المفروضة على الاختلاط بكل أنواعه ودرجاته، لا بد أن ينتهي به الأمر إما إلى أن يساير ركب النفاق الاجتماعي فيدعي لنفسه ورعا لا يؤمن به في قرارة نفسه، وإما إلى الأساليب الهروبية كإدمان النكات الجنسية أو ما هو شر من ذلك.
أما الدلالة الأخرى لهذا الاهتمام المفرط بالجنس واتخاذه مقياسا أوحد لأخلاقية المرء، فهي افتقارنا إلى الوعي بالبعد الاجتماعي للأخلاق، وبما ينطوي عليه من إحساس بالمسئولية العامة، وتركيزنا الاهتمام على أبعادها الفردية فحسب؛ ذلك لأن الجنس بطبيعته فردي لا يؤثر إلا في فرد بعينه من حيث علاقته بفرد آخر أو بمجموعة ضيقة من الأفراد، ومن هنا كان هذا التركيز على الجنس مؤديا إلى تصور الأخلاق كما لو كانت مسألة تهم الفرد المنعزل وتتعلق به وحده، مع أن للأخلاق بعدا اجتماعيا هو دون شك أهم أبعادها جميعا، والنتيجة المباشرة لذلك هي أن التهاون في أداء المسئوليات العامة نحو المجتمع، والافتقار إلى الضمير المهني أو الوعي الاجتماعي، كلها أمور لا تعد في نظرنا مدعاة إلى اللوم كالانحراف عن العرف الشائع في مجال الجنس.
ولسنا نعني بذلك أن الجنس ينبغي ألا تكون له أهمية في التقييم الأخلاقي، وإنما الذي نعنيه أنه لا يعدو أن يكون واحدا من العناصر التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أخلاقية الناس، وهو عنصر ليس له تأثير ملحوظ على السلوك العام للفرد، أعني سلوك الفرد في الأمور التي تمس المصلحة العامة، ومن هنا كان تركيز الاهتمام على التصرفات المتعلقة بالجنس مؤديا إلى تجاهل أمور أكثر حيوية إلى حد بعيد بالنسبة إلى مصالح المجتمع ككل. •••
فلنحاول إذن أن نقدم لمحات سريعة لبعض مظاهر تلك الأزمة الأخلاقية التي يؤكد الجميع وجودها، ولنبحث في الوسائل الكفيلة بأن تضعنا على أول الطريق الصحيح المؤدي إلى علاجها.
أول ما ينبغي أن نتنبه إليه - ونحن نبحث عن مظاهر أزمتنا الأخلاقية - هو أن السلوك الأخلاقي المتعلق بالمسائل التي تمس المصالح العامة هو في صميمه قدوة تتخذ مسارا يتدرج من المسئوليات العليا إلى المستويات الدنيا، وبعبارة أخرى فإن الخطوة الأولى في أي إصلاح أخلاقي يراد له أن يعم مستويات المجتمع كلها، ينبغي أن تبدأ من أعلى وتتدرج حتى تصل إلى أدنى المستويات وأوسعها نطاقا، هذا المسار من أعلى إلى أسفل قد يبدو مخالفا لمسار الإصلاح الثوري الاجتماعي والاقتصادي مثلا؛ إذ إن هذا النوع الأخير من الإصلاح يسير من أسفل إلى أعلى، بمعنى أن الطبقات الدنيا - صاحبة المصلحة الحقيقية في تغيير الأوضاع - هي التي تبدأ الثورة، وهي التي تفرض مبادئها على الطبقات العليا، ولكن الوضع في السلوك الأخلاقي يختلف؛ إذ إننا هنا بصدد بناء معنوي لا يمكن أن يبدأ تشييده من المستويات الدنيا، لسبب بسيط هو أن هذه المستويات تستمد أمثلتها العليا من المستويات التي تعلوها، ولأنها لو فقدت ثقتها في أخلاقية القيادات فسوف تشعر بأن أخلاقيتها هي ذاتها غير مجدية، وبأن أي مجهود تبذله في هذا الصدد ضائع لا محالة، ما دامت الأيدي المتحكمة في عملها غير مؤتمنة.
في ضوء هذه الحقيقة الأولى نستطيع أن ندرك أن قدرا غير قليل من عيوبنا الأخلاقية راجع إلى انتقال عدوى القدرة السيئة بالتدريج من مستويات عليا في المجتمع إلى المستوى الأدنى منها، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نأتي بأمثلة لتصرفات لا تؤدي - إذا انتقلت عدواها من أعلى السلم الاجتماعي إلى أسفله - إلا إلى انهيار وانحلال أخلاقي؛ فبين الحين والحين تشيع أخبار استغلال نفوذ أو تصرف غير مشروع في الأموال العامة أو إثراء مفاجئ بغير حدود، وترتبط هذه التصرفات المعيبة بأشخاص يؤثر سلوكهم في نفسية الألوف من الناس، بحيث يضرب لهم أسوأ الأمثلة، ويكون لهم شر قدوة، وكثيرا ما يجد المجتمع نفسه حائرا إزاء انتشار هذه النقائص بين مستويات يفترض أنها أقل الجميع حاجة إلى هذه التصرفات، فيتساءل الناس: من أين نأتي بالعناصر الصالحة إذن؟ ماذا نفعل إذا كان اختيارنا قد تم على أفضل أساس ممكن، ثم انتهى الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة؟
ولكن، أحقا كان الاختيار على أفضل أساس ممكن؟ وهل قمنا بفحص كل الأسس التي يتم الاختيار بناء عليها لكي نتأكد من أننا أخذنا منها بالأفضل؟ وهل الأمر يدعو حقا إلى مثل هذا اليأس؟ إن أبسط قدر من الحرص على المصلحة العامة يقتضي منا أن نختبر الظروف التي يتم فيها تفويض المسئولية لأصحابها، وهل هي ظروف تشجع على السلوك القويم أم على الانحراف، وهنا نجد أنفسنا نواجه المشكلة الأصلية التي بدأنا بها هذا المقال مواجهة مباشرة؛ فسرعان ما نكتشف أن المسألة ليست مسألة إصلاح للأشخاص، بل للنظم وللشروط التي يتم في ظلها تكليف الأشخاص بمسئولياتهم، ولو كانت هذه النظم والشروط غير صالحة فسوف تؤدي حتما إلى إفساد كل من يتولى مسئولية واسعة النطاق، حتى لو كان في الأصل صالحا، والمهمة الكبرى التي تقع على عاتق الفكر الثوري هي أن يبحث عن النظم والشروط الموضوعية التي لا تترك مجالا للانحراف، بل عن تلك التي ترغم المنحرف ذاته عن أن يسلك - في تصرفاته العامة - سلوكا لا غبار عليه.
فلنفرض مثلا أن حالات من الثراء غير المشروع قد ظهرت بين عدد غير قليل ممن يتولون مسئوليات عامة، فماذا يمكن أن يكون العلاج المجدي في هذه الحالة؟ هل نوجه إليهم المواعظ والإرشادات ونسعى إلى إصلاح نفوسهم وتهذيبها؟ كل هذه حلول لا جدوى منها، وذلك على الأقل لأننا لن نصل أبدا إلى أغوار النفوس لكي نكون على ثقة من أنها قد انصلحت، ولكن العلاج الموضوعي لهذه الحالة يبدأ من دراسة أسباب الانحراف، عندئذ قد نجد - على سبيل المثال - أن الأموال العامة لا توجد عليها ضوابط كافية، وأن الارتفاع المفاجئ وغير المعقول في الإيراد الرسمي للشخص نتيجة لتوليه منصبا هاما يفقده توازنه ويثير فيه الرغبة في مزيد من الثراء، فإذا اتضح أن الأمر كذلك، كان الحل بسيطا، خفض ملموس في مرتبات هذه الفئة كلها، وجزاءات صارمة غاية الصرامة على أي تصرف غير مشروع في الأموال العامة، هنا تصبح الموضوعية الثورية - لا «الوعظ الفردي» - هي العلاج الحاسم، وبمثل هذا العلاج يجد الانتهازيون أنفسهم مضطرين إلى الانسحاب من تلقاء ذاتهم؛ لأن المسألة لم تعد تجلب غنما، ولا يبقى إلا من يريد أن يؤدي الخدمات العامة لصالح المجتمع ككل، لا لصالحه هو أو أقربائه أو المحيطين به.
ولنضرب مثلا آخر لن يشك أحد في أنه يكون جزءا من عيوبنا الأخلاقية الظاهرة، وأعني به النفاق والمجاملة المتطرفة ، وحسبنا أن نفتح صفحات جرائدنا لكي نلمس في أكبر مساحاتها أمثلة لا حصر لها لتلك الظاهرة التي ربما كنا ننفرد بها عن سائر بلاد العالم، الثورية منها وغير الثورية، وأعني بها الإعلانات المدفوعة من الأموال العامة أو الخاصة (والأولى هي الغالبة)، والتي لا ترمي إلى الترويج لسلعة جديدة أو تنبيه الناس إليها، بل تستهدف تملق مسئول أو الدعاية الشخصية لحساب أصحاب الأمر والنهي في الجهة صاحبة الإعلان، هذه الظاهرة الغريبة - التي تمر علينا يوميا دون أن نبدي بها اهتماما - لها في واقع الأمر أخطر الدلالات؛ فكيف يمكن أن يشيع في مجتمع يريد أن يسلك سلوكا ثوريا مثل هذا النفاق العلني الواسع النطاق، ولمصلحة من تؤجر تلك المساحات الشاسعة على صفحات الجرائد في سبيل كتابة كلمات لا يقرؤها أحد إلا من كتبوها، وحتى لو قرئت فلن يستخلص الناس منها إلا دروسا بارعة في التملق الرخيص؟ وهل مما يتفق مع الثورية أن تمتلئ صحفنا بعبارات النفاق الفارغة التي تعود في نهاية الأمر على خزانة الصحف ذاتها بمزيد من الإيرادات على حساب أموال الشعب من جهة، وأخلاقه ومعنوياته من جهة أخرى؟ وهل يحق لنا أن نتحمل هذه الأضرار الفتاكة في سبيل رفع المستوى المادي لجزء من صحافتنا إلى حد لا يتناسب مع التقشف العام الذي ترتضيه بلادنا طائعة مختارة في سبيل أهدافها العليا.
هذا - من غير شك - عيب أخلاقي لا يحتاج إلى مزيد من البيان، ولكن يظل أمامنا السؤال الكبير: وما الحل؟ إنك لا تستطيع أن تعطي الناس دروسا في أضرار النفاق، ما داموا يشعرون بأن هذا النفاق يعود عليهم آخر الأمر بمنفعة، ومن المؤكد أن في الأمر منفعة، وإلا لما انتشرت الظاهرة واستمرت إلى هذا الحد.
وعلى ذلك فالحل يكون - أولا وقبل كل شيء - بالقضاء على كل نفع يمكن أن يعود على مثال هؤلاء المنافقين، ومن الواضح أن حلا كهذا لا يمكن أن يفرضه إلا من توجه إليهم الكلمات المنافقة. ولأضرب لذلك مثلا: فلنفرض أن رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات قد عاد من الخارج، وامتلأت مساحات من الصحف بتهاني مرءوسيه على سلامة الوصول وتمام الشفاء ... إلخ، عندئذ يقتضي السلوك الثوري الحقيقي منه أن يوجه اللوم - برفق أولا ثم بالشدة إذا تكررت هذه التصرفات - إلى من يعاملونه بمثل هذا النفاق، في هذه الحالة - وفيها وحدها - سيختفي هذا السلوك المعيب لأنه أصبح يحقق عكس الهدف المقصود منه، وذلك دون أن نجد أنفسنا مضطرين إلى تغيير طبائع الناس أو إعطائهم مواعظ أخلاقية. ولكن من الغريب حقا أن شيئا من هذا لا يحدث، وأن هناك نوعا من الخداع المتبادل - المقبول من الطرفين - في حالة النفاق الاجتماعي العلني؛ فالمرءوس ينافق رئيسه عن وعي، والرئيس ينافق مرءوسه عن غير وعي إذ يقبل منه نفاقه وهو عالم أنه مجرد نفاق.
ولنتأمل عيبا آخر من عيوبنا التي نعيش فيها كل يوم، وأعني به الاستعانة بالوساطة، أو «بالواسطة»، هذا العيب المستفحل الذي نضج منه جميعا بالشكوى حين تؤدي ممارسته إلى اكتساب الآخرين منفعة على حسابنا، ونتسابق جميعا إلى الالتجاء إليه إذا كان يؤدي إلى اكتسابنا نحن أنفسنا نفعا على حساب الآخرين.
هذه الوساطة أصبحت تكون جزءا مألوفا من حياتنا إلى حد أننا لم نعد نجد فيها أي غضاضة، بل إنها قد تفشت إلى حد أن من يمتنع - بحكم مبادئه - عن ممارستها أو عن الاستجابة لندائها أصبح يعد في نظر الناس متزمتا، وربما اتهم «بقلة الذوق» و«انعدام المروءة»، ولو حاولنا أن نتتبع جذور هذا العيب لتعددت أمامنا المسالك وتشعبت إلى أبعد حد، ولكن يكفي أن أشير إلى عاملين رئيسيين أعتقد أنهما هما أقوى الأسباب المؤدية إلى حدوث هذه الظاهرة: أولهما قيام العلاقات التي تمس المصالح العامة على أساس من المنافع المتبادلة، وثانيهما امتداد أسلوب التعامل العائلي أو الريفي أو القبلي إلى المعاملات الرسمية التي ينبغي أن تتسم بالطابع اللاشخصي على الدوام، وكلا هذين العاملين لا يعالج بالدعوة الفردية أو بالنصائح الشخصية، بل إنه يحتاج إلى معالجة جذرية؛ فنحن في حاجة ملحة إلى التعود على الأسلوب الموضوعي في التعامل، في حاجة إلى أن نتعلم كيف نفصل بين الأهداف الشخصية وبين العمل الرسمي الذي يعلو على الأشخاص، في حاجة إلى أن نتذكر دائما أن الدولة لا يملكها أفراد، بل يملكها الجميع، وأن حقنا في التصرف في أمورها مقيد بمصلحة المجموع لا بمصلحتنا نحن، ولا يمكن أن تستقر هذه المبادئ في أذهاننا إلا إذا وضعت خطة مرسومة طويلة المدى تهدف إلى استئصال شأفة هذا الداء الذي كاد أن يصبح مستعصيا على كل علاج. وفي اعتقادي أن من المهام الرئيسية لأي تنظيم سياسي في الظروف الحرجة التي نمر بها - والتي تقتضي منا أكبر قدر من الموضوعية الثورية الحازمة - أن يعمل على تنظيم حملة على أوسع نطاق ممكن لكشف الوساطات وفضحها علنا، بحيث يأتي الوقت الذي يخجل فيه المرء من إرسال بطاقته إلى صديقه موصيا بتعيين «حامله» الذي «يهمني أمره» في الوظيفة الخالية، بل يخجل فيه من الجلوس إلى جانب قريبه في مكتبه لكي يقضي له - على الفور - أمرا يستغرق بقية الناس في قضائه أضعاف هذا الوقت، ويبذلون في سبيله أضعاف هذا الجهد، إنه علاج ما أسهله! وما أجمله لو استقرت العزائم عليه! •••
إن الأخلاق المتعلقة بالأمور التي تمس المصلحة العامة - كما قلت - قدوة تنتقل تدريجا من المستويات العليا إلى المستويات الأدنى منها في المجتمع، ومن المؤكد أن المستويات المتوسطة والدنيا تتحمل بدورها نصيبها من المسئولية، وتمارس بدورها شتى ألوان التصرفات التي تكشف عن عيوب أخلاقية جسيمة، وإذا كنا قد ركزنا اهتمامنا - في الجزء الأكبر من هذا المقال - على التصرفات التي تمارسها المستويات العليا؛ فذلك لأنها هي التي تملك مفاتيح الحل، وهي التي ينبغي أن يبدأ منها العلاج، ولكن ذلك لا يحول دون التنبيه إلى بعض مظاهر الأزمة الخلقية في المستويات الأدنى بدورها.
لعل أبرز هذه المظاهر - في المرحلة الحالية من تاريخنا - هو عدم الاكتراث، وهو مظهر سلبي، والإهمال وهو أخطر المظاهر؛ لأنه متعمد ومقصود؛ ففي قطاعات عريضة من الموظفين والعمال، أصبحنا نشكو من تضاؤل الإنتاج، وعدم الاهتمام برفع مستواه، ومن اللامبالاة والرغبة في إبعاد المسئولية عن الذات من أجل إلقائها على أكتاف الآخرين، أي باختصار من انعدام الإخلاص والجدية في العمل، وأصبح من المشاهد المألوفة في حياتنا اليومية أن تدخل إدارة حكومية فتجد نصف موظفيها غير موجودين على مكاتبهم، ونصفهم الآخر يقرأ الجريدة الصباحية أو يشرب القهوة مع زوار، بينما الأعمال معطلة والأوراق مكدسة ودورة العمل لا تكاد تتحرك، وأصبحنا نشكو في كل يوم من ارتفاع نسبة تغيب العمال وادعائهم المرض وانخفاض إنتاجهم وبالتالي انخفاض إنتاج المجتمع ككل.
فهل تنفع في هذا الصدد «توعية » و«دعوة» أخلاقية بحتة؟ هل نستطيع أن نبذل الجهد اللازم لتوصيل نصائحنا إلى هذه الملايين العديدة التي تتجلى فيها ظاهرة عدم الاكتراث أو الإهمال المتعمد؟ من الواضح أن علاجا كهذا مستحيل عمليا فضلا عن كونه غير مجد من حيث المبدأ، ولو شئنا أن نلتمس الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة التي تمثل خطرا داهما على حياة أية أمة؛ لاتضح لنا - دون عناء كبير - أن المواطن لا يكترث بمصالح المجتمع؛ لأنه يشعر بأن المجتمع لا يكترث بمصالحه؛ فهناك عنصر انتقامي مؤكد - وإن كان في معظم الأحيان لا شعوريا - كامن من وراء هذا التكاسل والتراخي وعدم الحرص على المصلحة العامة.
فكيف يمكن أن يعالج عيب كهذا؟ بنفس المنهج الموضوعي الذي كنا ندعو إلى اتباعه في كل الحالات السابقة، نقول إن من واجب المجتمع أن يمد يده إلى هذه الجموع الغفيرة من أبنائه كيما يمدوا هم بدورهم أيديهم إليه، هذه اليد التي تمتد من المجتمع يمكنها أن تقدم إلى الملايين من أبنائه علاجا معنويا وعلاجا ماديا للأزمة التي يعاني منها الجميع، أما العلاج المعنوي فهو أن يشعر الجميع - عن وعي - بأهداف عامة يمكنهم أن يشاركوا فيها مشاركة إيجابية، أعني أن يشاركوا في تحديد هذه الأهداف، ثم في تنفيذها، ثم في تقييمها بعد أن تنفذ؛ فالمواطن الذي يشعر بارتباطه بالمجتمع من أجل تحقيق هدف يقتنع هو ذاته به، لا يمكن أن يظل غير مكترث، أما إذا سار كل شيء في المجتمع دون أن يكون لهذا المواطن وعي بما يدور حوله، ودون أن يعرف قيمة الدور الذي يطلب منه أن يؤديه، ودون أن يسمع أحد صوته في اختيار الأهداف وفي طريقة بلوغها، فلا مفر عندئذ من أن يكون غير مكترث، بل من أن يتعمد الإهمال.
وأما العلاج المادي فهو أن يشعر المواطن بأن المجتمع حريص على ضمان احتياجاته الضرورية في حياته بقدر ما يستطيع، وبطبيعة الحال فإن هذا الحل يمكن أن يؤدي بنا إلى حلقة مفرغة؛ فالمواطنون يتكاسلون لأن المجتمع لا يعطيهم الحد الأدنى اللازم لمعيشتهم، والمجتمع لا يستطيع أن يقدم هذا الحد الأدنى إلا إذا كف المواطنون عن التكاسل وزاد الإنتاج، ولكن لا بد لهذه الحلقة المفرغة من أن تنكسر وإلا كان التدهور مصير المجتمع، ولكي نخطو أولى الخطوات المؤدية إلى انكسارها يتعين علينا أن نقدم دليلا لا مفر من أن يكون في البداية بسيطا غاية البساطة، على أننا نتذكر هؤلاء الناس، تكفي أقل زيادة مادية - في الحد الأدنى للأجور مثلا - لكي تقنع قطاعات عريضة من الناس بأن المجتمع لم ينسهم، وعندئذ سيتذكرون هم بدورهم المجتمع، ولو بمقدار بسيط في البداية، وتبدأ العجلة في الدوران، ولكن في هذه المرة إلى أعلى لا إلى أسفل. •••
ربما كنت في هذا الحديث قد ركزت اهتمامي على الجوانب السلبية، على نحو قد يتبادر معه إلى ذهن القارئ أنني لا أرى سوى الوجه القاتم من الصورة، ومع ذلك فلا بد أن أؤكد - بنفس المنهج الموضوعي الذي حاولت أن أتبعه طوال هذا المقال - أن العيوب التي تمس الجموع الغفيرة من الناس ليست عيوبا فطرية كامنة، بل هي - بالنسبة إلى ظروف معيشتهم - نتائج لا مفر منها لنمط من الحياة لا بد أن يفرز هذه العيوب. إن الأخلاق والذوق وحب الجمال ورهافة الحس ترف لا يملك الفقير المريض الجاهل أن يستمتع به، أو حتى أن يتطلع إليه، وليس لأحد أن يلوم شخصا كهذا إذا كانت حياته تسودها اللاأخلاقية والغلظة والجلافة وبلادة الحس.
ومع ذلك وبالرغم من قسوة الظروف التي تمر بها جموع الناس في بلادنا ، فإن لديهم رصيدا من الأخلاقية ما أحرانا أن نعمل على استغلاله بقدر ما وسعنا من جهد؛ فعلى أدنى المستويات بين أبناء شعبنا نجد من صفات المروءة والشهامة وحب الجار والمبادرة إلى نجدة الضعيف ونصرة المظلوم ما يمكن أن يكون نواة لنهوض أخلاقي رائع، لو وجد أمامه الظروف المواتية، ومهما قيل عن هذه الصفات من أنها أثر من آثار الحياة الريفية المتأصلة في نفوسنا، فإن هذا لا ينفي أنها من الوجهة الموضوعية موجودة بين أبناء شعبنا بقدر لا تتوافر به لدى أبناء شعوب أخرى كثيرة، وأنها يمكن أن تكون نقطة بداية ارتقاء أخلاقي ومعنوي لا حد له، ولكن لكي يتحقق هذا الارتقاء، لا مفر من أن يتوافر الشرطان اللذان حرصنا في هذا المقال على إبرازهما بوضوح كامل، وأعني بهما - من الناحية المادية - تهيئة الظروف الموضوعية التي لا تتحقق بدونها أية نهضة أخلاقية، والتي تتجاوز نطاق الوعظ والإرشاد المعنوي البحت، بل تتجاوز نطاق الأخلاق ذاتها وتتغلغل في صميم حياة المجتمع وعلاقاته المادية، ومن الناحية المعنوية امتداد تأثير القدوة الحسنة من أعلى المستويات إلى أدناها، وانتشار الأمثلة الرائعة للسلوك الأخلاقي الثوري من النماذج التي يود الجميع محاكاتها إلى القاعدة العريضة من جموع الناس.
بين التعليم وقيم المجتمع1
في اعتقادي أن أية مناقشة جادة لمشكلات التعليم، إذا ما سارت إلى مداها الطبيعي، وامتدت إلى أبعادها المنطقية، لا بد أن تفضي آخر الأمر إلى مناقشة أسلوب حياتنا في أعم صوره، ولا بد أن تنتقل من المنظور الضيق للمشكلات التعليمية على وجه التخصيص إلى المنظور الأوسع لمشكلاتنا الاجتماعية في المرحلة الراهنة من تاريخنا.
والقضية التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال هي أن كل مشكلة رئيسية في ميدان التعليم إنما ترتد في نهاية الأمر إلى مشكلة تنتمي إلى صميم حياة المجتمع، وأن التعليم بهذا المعنى ليس إلا الوجه الذهني للمجتمع بكل ما فيه من خير وشر، ومن تقدم أو تخلف، وأن تشخيصنا لحالة التعليم إنما هو في واقع الأمر تشخيص لحالة مجتمعنا منعكسة على مرآة هذا المرفق الحساس.
وليس من الصعب أن يقدم المرء أدلة وشواهد تثبت صحة هذه القضية، بل إن الصعوبة ربما كانت تكمن في اختيار أوضح الأمثلة من بين ذلك العدد الهائل من المشكلات التي تثبت كلها ارتباط أحوال التعليم بأوضاع المجتمع، وعلى أية حال فإن عددا قليلا من الأمثلة الدالة يكفي لكي يثبت أن انتباهنا الراهن إلى عيوب التعليم ينبغي - منطقيا - أن يفضي إلى وعي أوسع بالأصول الاجتماعية التي تولدت عنها هذه العيوب، ومن ثم فإن مناقشاتنا المتعلقة بالتعليم ينبغي أن تجمع - إلى جانب النواحي الفنية المتعلقة بالعملية التعليمية - مناقشات أوسع مدى عن وضع التعليم في الإطار الاجتماعي العام. وفي كلمة موجزة فإن السؤال: كيف نصلح التعليم؟ لن يجاب عنه إجابة وافية إلا في ضوء السؤال: ما الهدف الذي نرسمه لحياتنا؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نصبحه في المستقبل؟
إن بناء الهيكل التعليمي يرتكز على قاعدة عريضة هي التعليم الابتدائي، وينتهي إلى قمة ضيقة هي التعليم الجامعي، والمشكلة الكبرى عند القاعدة هي الفاقد التعليمي، الذي يتمثل في أمور من أهمها عدم إقبال الجماهير - ولا سيما في الريف - على الفرص التعليمية المتاحة لهم، أما عند القمة فإن المشكلة هي التزاحم الشديد والتنافس العنيف على الالتحاق بالجامعة، ومن المستحيل أن نفهم كلا من هاتين المشكلتين ما لم نردها إلى أصولها في القيم السائدة في المجتمع.
فظاهرة عدم إقبال الآباء في الريف على تعليم أبنائهم تعكس الرغبة في الانتفاع المباشر من الأبناء بوصفهم مصدرا للدخل أو للإنتاج في الأسرة، وهذه الرغبة ربما لم تكن إلا تعبيرا ساذجا عن ظاهرة مماثلة تصدق على المجتمع ككل، وأعني بها عدم الاعتراف الكافي بالتعليم بوصفه أفضل أنواع الاستثمار، أو لنقل بعبارة أدق إن الريفي الذي لا يؤمن بما يمكن أن تقوم به المدرسة في تكوين مستقبل أبنائه وأسرته هو صورة مصغرة للمجتمع الذي لا يعطي التعليم حقه الكافي من حيث هو استثمار للمستقبل، ويفضل عليه أنواعا أخرى من الاستثمار (وفي بعض الأحيان من الاستهلاك) المباشر.
أما ظاهرة التزاحم على التعليم الجامعي، فإنها توصف عادة بأنها انعكاس لقيم تحتقر العمل اليدوي أو المهن ذات الطابع العملي البحت، وتعبر عن تطلعات اجتماعية يرضيها ذلك الاستقرار الذي تحققه الوظائف الممنوحة للجامعيين، فضلا عن ارتفاع المستوى الأدبي الذي يضفيه اللقب الجامعي على صاحبه، ولكن ألم يكن المجتمع ذاته هو الذي شجع إلى حد بعيد على سيادة هذه القيم، حين أتاح للجامعي من فرص الارتقاء ما لم يتحه للعامل أو الفني، وحين عمل على تحويل المعاهد الفنية إلى كليات جامعية، مؤكدا بذلك ضمنا ارتفاع قيمة التعليم الجامعي بالقياس إلى كل ما عداه من أنواع التعليم؟ في هذه الحالة بدورها نجد أسلوب التفكير والتقييم السائد لدى الأفراد انعكاسا لأسلوب أوسع منه نطاقا، تعمل الدولة ذاتها - بطريق مباشر أو غير مباشر - على نشره في المجتمع. •••
فإذا انتقلنا من الهيكل التعليمي إلى العملية التعليمية، تمثلت لنا المشكلة بصورة صارخة في العلاقة بين الطريقة والمضمون، أو بين الأساليب التربوية والمادة التعليمية، ولعل من أوضح الأدلة على حدة هذه المشكلة، إن التربويين يؤكدون أن آفة التعليم عندنا هي عدم إبدائه اهتماما كافيا بالطرق التربوية السليمة، وعدم تطبيق الأجهزة التنفيذية لنتائج أبحاث التربويين، في حين أن كثيرا من المعنيين بشئون التعليم يؤكدون - على عكس ذلك - أن ما يعاني منه التعليم في بلادنا هو الاهتمام المفرط بالأساليب التربوية، أي بالطريقة على حساب المضمون.
والحق أنني أجد نفسي منحازا إلى هذا الجانب الأخير، لا لأنني أشك من حيث المبدأ في أهمية التربية، بل لأن الطابع الخاص الذي اتخذه الاهتمام بالتربية في بيئتنا المحلية جعلها في أحيان غير قليلة عائقا في وجه التقدم التعليمي بدلا من أن تكون معينا عليه؛ ذلك لأن العهود التي سيطر فيها على العملية التعليمية أصحاب النظريات التربوية (أيا كان حكمنا على هذه النظريات) كانت عهود تدهور فعلي في التعليم؛ فعلى حين أن التعليم ظل حتى الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يهتم أساسا بالمضمون، فإنه تحول بعد ذلك إلى اهتمام مفرط بالطريقة التعليمية دون اكتراث بالمادة التي تعلم، حتى أخذت مدارسنا تتحول بالتدريج إلى معارض مزوقة منمقة لأوجه «النشاط»، من صور ولوحات وأشكال ورسوم بيانية، أما الاهتمام بالعلم ذاته فقد تراجع إلى الصفوف الخلفية وربما اختفى تماما في بعض الأحيان، ومن الحقائق المعروفة أن بعض المسئولين عن توجيه التعليم كانوا يعلنون صراحة أن كل ما يريدون أن يروه في المدارس هو تلك المظاهر الخارجية للنشاط، أما مدى استيعاب التلاميذ للعلم وتحصيلهم للمعلومات وقدرتهم على الانتفاع من المعرفة فكان في نظرهم أمرا ثانوي الأهمية.
ومن الواضح أن هذا الاهتمام بنشاط الطلاب والمعلمين ليس في ذاته عيبا على الإطلاق؛ إذ إنه يكون مظهرا صحيا حين ينبثق تلقائيا، وحين يكون دليلا على ارتفاع مستوى التعلم ووصوله إلى مرحلة التعبير عن نفسه بصورة عينية، أما حين يكون في جميع مراحله تكلفا، وحين يرغم عليه التلميذ والمعلم إرغاما، وحين يصبح وسيلة لإرضاء الرؤساء وتلبية أوامرهم الملحة، فإنه يغدو عندئذ ظاهرة مريضة تلفت النظر وتستحق التأمل.
والأمر المؤكد أن هذا الخروج بوظيفة النشاط التربوي، من مجاله الأصلي الذي يكون فيه معينا للمادة التعليمية، إلى مجاله المصطنع الذي يصبح فيه بديلا عنها، لا يمكن أن يحدث إلا في ظل قيم اجتماعية من نوع معين؛ فالمسألة هنا ليست انحرافا أو خطأ ينتمي إلى مجال التعليم وحده، وإنما هي جزء من انحراف أوسع نطاقا بكثير، يتعلق بأسلوب حياة المجتمع بوجه عام؛ ذلك لأن الاهتمام بشكليات التعليم دون جوهره هو مظهر من مظاهر روح النفاق، وعدم الإحساس بالمسئولية، والاتجاه إلى «سد الخانات»، بدلا من الاهتمام الجاد بالمشكلات، ولا جدال في أن اهتمام المعلم بعرض لوحات أنيقة على الموجه أو المدير، واهتمام هذين الأخيرين برؤيتها، مع علم الجميع بأن التلاميذ لم يكونوا هم الذين أعدوها، أو بأنها ليست تعبيرا حقيقيا عن مستوى معرفتهم، هو شكل آخر من أشكال النفاق الذي ينتشر في مكاتب الرؤساء، ويعلن عن نفسه في صفحات مدفوعة بالجرائد، وهو النفاق الذي يعلم الطرفان معا أنه لا يعبر إلا عن شعور كاذب، وليست المدرسة التي تظهر في أبهى صورة يوم زيارة مدير المنطقة، وتظل بقية أيامها في أقبح مظهر، ليست سوى تعبير جزئي عن اتجاه عام يجعلنا نضفي على منشآتنا يوم حضور أولي الأمر مظهرا لا ينم على أي نحو عن حقيقة الأوضاع السائدة فيها، ومن هنا فإن الظروف التي أدت بالتعليم إلى الاهتمام بالطرق والأساليب الشكلية بوصفها بديلا عن الجوهر، تبدو من هذه الزاوية وجها من أوجه طابع عام في قيم المجتمع بأسره، لا مجرد تعبير عن اتجاه مدرسة بعينها من مدارس التربية. •••
ولنتأمل ظاهرة أخرى يعدها الكثيرون من أوضح مظاهر تدهور التعليم في بلادنا، وأعني بها ظاهرة الحفظ الحرفي للمعلومات العلمية، دون محاولة لهضمها أو اتخاذها وسيلة لحل المشكلات المعقدة التي يواجهها الإنسان في حياته، والتي لا يمكن أن تدخل بحذافيرها ضمن نطاق ما يدرس في الكتب، هذه الظاهرة لا يمكن أن تعلل تعليلا كافيا بما يحدث في مجال التعليم ذاته؛ فليس يكفي في رأيي أن يقال إن الاستعمار حين أراد أن يفسد التعليم حرص على أن يجعله تلقينا مباشرا لمعلومات تفيد التلميذ في أداء وظيفة محددة يراد له أن يقوم بها بعد خروجه إلى ميدان الحياة العملية، دون أن يكتسب أي نوع من النظرة الشاملة إلى الأمور، قد يكون هذا التعليل صحيحا على نحو جزئي، وبالنسبة إلى مرحلة معينة في نظامنا التعليمي، ولكنه لا يمكن أن يكون تعليلا كاملا لتلك الظاهرة الخطيرة التي تجعل تلاميذنا أشبه ما يكونون بآلات تسجيل تفرغ ما لديها وقت الامتحان، دون أن يتبقى لديهم شيء مما عرفوه لكي يستعينوا به في مواجهة المهام المعقدة التي تزدحم بها الحياة.
إن التعليل الحقيقي لانتشار ظاهرة الحفظ الحرفي دون قدرة على التصرف الحر، هو شيوع الخضوع المفرط للسلطة في مجالات حيوية من حياتنا، وينبغي أن يعلم من يحبون أن يلقوا بكل أخطاء التعليم على عاتق «الاستعمار» أن عيوبا أساسية كهذا الذي نتحدث عنه الآن كانت سمة مميزة لتعليمنا قبل أن نعرف أي لون من ألوان الاستعمار، بل قبل أن يصبح لدينا تعليم «علماني » على الإطلاق؛ فالطابع الغالب على أساليب التعليم في كثير من المعاهد التي تقدم تعليما دينيا ولغويا تقليديا كان منذ عهد بعيد - ولا يزال - هو الحفظ عن ظهر قلب، وحتى أصبحت صورة لابس العمامة الذي يجلس القرفصاء ممسكا بيده كتابا يحاول أن يستظهره وهو يهز رأسه جيئة وذهابا في إيقاع منتظم، من الصور النمطية المميزة لهذا النوع من التعليم.
ولا شك أن هذه الطريقة في تلقي العلم ترتبط ارتباطا وثيقا بالقداسة التي تحيط بالتعاليم الدينية، وبالسلطة المطلقة التي تتخذها هذه التعاليم في نفوس أفراد المجتمع بوجه عام، ومن هنا فإن جذور هذه الظاهرة التي يعترف الجميع بأنها من أشد آفات التعليم في بلادنا ضررا، ترجع في واقع الأمر إلى قيم اجتماعية عامة تشيع فيها فكرة السلطة التي لا تناقش، بحيث لا يكون من المستغرب على من اعتاد النظر إلى السلطة على أنها معصومة، أن يتلقى كل تعليم يوجه إليه على أنه لا يقبل المناقشة.
ومن ناحية أخرى فإن انقضاء ألوف السنين التي كانت خلالها السلطة السياسية تمارس حكما غاشما لا يقبل معارضة، ولا يسمح بقيام أي نوع من القيم الديمقراطية، قد أسهم بدوره في تعميق مفاهيم اجتماعية يصبح في ظلها التعليم المبني على المناقشة والنقد أمرا مستحيلا؛ فالتقيد الحرفي الذليل بما في الكتاب المدرسي هو مظهر من مظاهر العجز عن ممارسة الديمقراطية، والتعود على تلقي الأوامر وتنفيذها دون مناقشة، والخوف من الحرية التي تضع الإنسان وجها لوجه أمام مسئوليته، ولكي ندرك الصورة على حقيقتها، علينا أن نقارنها بما حدث في فرنسا إبان ثورة الطلبة في مايو 1968م؛ فقد كان من أهم مظاهر هذه الثورة، التمرد على الطريقة التقليدية في التعليم، تلك الطريقة التي يقف فيها الأستاذ كأنه إله شامخ وسط جمع من الطلاب الصامتين الخاشعين، والتي يسير فيها تيار العملية التعليمية من قطب موجب إلى قطب سالب، دون أي تبادل حقيقي بين الطرفين، وكان من أول المطالب التي نادى بها الطلاب، القضاء على الكهنوت العلمي الموروث من العصور الوسطى، والذي يجعل من الأساتذة أوصياء على عقول الطلاب وأرواحهم، وكأن هؤلاء الأخيرين أجهزة تستقبل كل ما يأتيها دون أن ترسل من عندها شيئا. وهكذا كانت الثورة تستهدف أن تحقق في ميدان التعليم نفس النوع من الحرية والديمقراطية الذي يسعى الإنسان المعاصر إلى تحقيقه في ميدان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن تهدم معقلا أخيرا من معاقل السلطة التي تكبل عقل الإنسان، وأعني به سلطة العلم الذي يتدفق من جانب واحد دون تبادل أو مشاركة، مثل هذه الثورة لا يمكن تصورها في مجتمع تغلغلت فيه القيم المبنية على فكرة السلطة، وأصبح فيه التعليم المرتكز على التفكير الحر والحوار المتبادل أمرا يفزع منه الشباب ويتجنبونه في سبيل تعليم يرتكز على ترديد آراء معروفة ومحفوظة ومأمونة.
والحق أنه إذا كانت لطريقة التعليم المرتكز على سلطة لا تناقش أضرارها حتى في العصور التي كانت فيها هي الطريقة الوحيدة المعروفة، فقد أصبحت لها في عصرنا الحاضر عواقب وخيمة تهدد مستقبل الأمم قبل الأفراد؛ ففي عصرنا هذا أصبحت المعلومات التي تؤلف مضمون العلم تتغير بسرعة هائلة، حتى إن المفكرين في البلاد الناضجة بدءوا يشكون في قيمة تكوين إنسان «متعلم»، أيا كان مستوى تعليمه؛ ذلك لأنه عندما يجيء الوقت الذي يستطيع فيه هذا الإنسان أن يستخدم ما تعلمه، تكون المعرفة قد تغيرت وتجددت، وتصبح المواقف التي يتعين عليه مواجهتها مختلفة إلى حد بعيد عن تلك التي تدرب في دراسته عليها، ومن هنا اتجه التفكير إلى ضرورة الاستعاضة عن تكوين الإنسان المتعلم بتكوين إنسان «قابل للتعلم»، أعني إنسانا لديه المرونة الكافية لمواجهة ظروف سريعة التغير، ولاستيعاب المعارف الدائمة التجدد والتوسع، وهذا يعني - بعبارة أخرى - أن الجمود والمحافظة - في مثل هذا العالم الذي يجري تيار التغير فيه بسرعة لاهثة - هو جريمة في حق الفرد والأمة، فما بالك بالتخلف والرجوع إلى الوراء؟ إن الحس التاريخي وحده يقنعنا بأننا إذا شئنا أن نسير مع تيار التجديد المتلاحق، ينبغي علينا أن ندخل على حياتنا بأسرها تجديدا شاملا لا يسمح للتعليم المبني على السلطة الجامدة بأن يسيطر على عقول المعلمين والمتعلمين على حد سواء. •••
وأخيرا فإن أساليب الاستظهار الحرفي للمعلومات في تعليمنا الراهن ترتبط ارتباطا وثيقا بآفة أخرى نشكو منها جميعا، ولا نكاد نعرف لها تفسيرا في ضوء الفهم المنعزل للعملية التعليمية، هي ظاهرة الاهتمام المفرط بالامتحانات، والغش الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من التكوين الأخلاقي لشبابنا الدارس.
والحق أن الامتحانات في بلادنا تمثل طقسا من الطقوس العجيبة التي تجمع - على نحو يبعث على الدهشة - بين جو الرهبة الشديدة والهزل المفرط، أما الرهبة فتتمثل في جو الرعب الذي يحيط بكل امتحان، وفي توتر الأعصاب وانهيارها الذي أصبح من اللوازم المألوفة للامتحان، وأما الهزل فيتجلى في عدم الجدية التي تؤخذ بها عملية الامتحان بوصفها مقياسا لقدرات الطلاب؛ إذ يشتد - من جهة - التهاون بين المصححين، وخاصة إذا كان الأمر متعلقا بأعداد كبيرة من الأوراق، وتنتشر من جهة أخرى فنون الغش بين الطلاب في جميع مراحل التعليم، ويبدو لي أن ظاهرة الغش - التي أصبحت ظاهرة مستفحلة لا يكاد يحجم عن ممارستها أي طالب تتاح له الفرصة - أشبه ما تكون بظاهرة «النكتة» في حياتنا السياسية والاجتماعية؛ ففي جو الامتحان الرهيب - بطقوسه وشعائره المخيفة - يشيع الغش الذي يهزأ بكل المقاييس والمعايير الرسمية، مثلما يطلق شعبنا النكتة في أشد المواقف هولا وإيلاما، لكي يخفف عن نفسه حدة التوتر، أو لكي يهرب من المواجهة الجادة المسئولة للموقف الذي لا يرضى عنه.
والنظرة الجزئية إلى الأمور هي التي تجعلنا نواجه ظاهرة الغش بمزيد من الرقابة الصارمة، حتى لتغدو قاعات الامتحان أشبه بمعسكرات الاعتقال، ولكن هذه التدابير كلها لا تزيد الظاهرة إلا استفحالا، ونتيجتها العلمية الوحيدة هي تفنن الطلاب في البحث عن أساليب للغش أذكى وأشد خفاء، وحين تكون الظاهرة متأصلة على هذا النحو، يتعين علينا أن نبحث عن أسبابها في قيم المجتمع، لا في الوسط التعليمي وحده، وفي هذه الحالة لن نجد صعوبة كبيرة في الربط بين ظاهرة الغش وبين صفات ظلت حياتنا العامة تتسم بها منذ مئات السنين، أهمها ذلك التهاون الأخلاقي الذي يتهرب فيه الناس من مواجهة مسئولياتهم، ويلتمسون لقضاء أمورهم أشد الأساليب التواء وانحرافا، إن الغش في الامتحان، وانتشار الوساطة والإهمال والرشوة بوصفها عيوبا متوطنة في حياتنا الاجتماعية، ما هي إلا أشكال متعددة لظاهرة واحدة، ومن المستحيل أن يتسنى علاج هذه الظاهرة - أو حتى فهمها - في الميدان التعليمي وحده، ما دامت قد تركت تستشري في بقية الميادين. •••
في هذا المقال حاولت أن أضرب بعض الأمثلة التي تكشف عن التداخل الوثيق بين مشكلات نعانيها في ميدان التعليم، ومشكلات نعانيها في حياتنا الاجتماعية عامة ، وأن أوضح مدى قوة التأثير المتبادل بين ما يحدث في مجال التعليم وبين القيم الاجتماعية التي تسود حياتنا منذ عصور موغلة في القدم، وإذا استطاعت هذه الإشارة أن تقنع الأذهان بأن الحلول الجزئية لمشكلات التعليم - لو فرضنا أنها قد تحققت - لن تؤتي ثمارها كاملة ما دامت غير مقترنة بحلول أشمل لمشكلات أوسع مدى بكثير، تمس صميم حياة المجتمع ذاته، فإن الهدف الذي أرمي إليه من كتابة هذا المقال سيكون قد تحقق.
الباب الثالث
الفلسفة والمجتمع
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
ينفرد التاريخ الفلسفي بصفات تميزه على نحو قاطع عن تاريخ أي علم آخر؛ ففي حالة أي علم ينبغي النظر إلى دراسة التطورات السابقة لهذا العلم على أنها مرحلة ثانوية الأهمية، وربما مرحلة لا قيمة لها بالنسبة إلى دراسة هذا العلم ذاته، مثال ذلك أن دارس الكيمياء لا يحتاج إلى دراسة تاريخها، وبالفعل لا يعرف معظم المتخصصين في هذا العلم إلا القليل عن تاريخه، ولا يمنع ذلك من وجود مجموعة قليلة تهتم بالأبحاث التاريخية المتعلقة بهذا العلم لذاتها، وهؤلاء يمكن أن يعدوا مؤرخين أكثر مما يعدوا كيميائيين، أما بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من علماء الكيمياء وباحثيها، فليست لتاريخ هذا العلم أهمية إلا في أقرب تطوراته وآخرها فحسب، وبقدر ما يكون الإلمام بهذه التطورات الأخيرة أمرا لا بد منه للقيام بأبحاث علمية جديدة تبدأ من حيث انتهت هذه التطورات، وتكمل ما تركته ناقصا، وتسد الثغرات التي تتكشف للعالم في أعمال السابقين عليه والمعاصرين له.
وعلى ذلك فإن دراسة تاريخ العلوم ليست لها أهمية تذكر بالنسبة إلى هذه العلوم ذاتها، ومن الممكن أن يسير العلم في طريقه على نحو سليم ومثمر دون أن يتعرض للبحث في تاريخه، فإذا ما بدا لأحد أن يبحث في تاريخ العلم، كان ذلك البحث أقرب إلى التاريخ منه إلى العلم ذاته، واتخذ شكل دراسة منفصلة عن أبحاث ذلك العلم، وفي جميع الأحوال تكشف هذه الدراسة التاريخية عن حقيقة واضحة، هي أن البدايات الأولى والمراحل المبكرة في تاريخ أي علم ، ليست لها إلا أهمية ضئيلة كل الضآلة بالقياس إلى تطوراته الأخيرة، بحيث يكون من الممكن الاكتفاء بالصورة التي يتخذها العلم في آخر مراحله، وتجاهل صوره السابقة أو إنكارها.
وعلى العكس من ذلك يتسم التطور الفلسفي بسمات مخالفة - وربما مضادة لسمات التطور العلمي - مما يؤدي إلى اتخاذ تاريخ الفلسفة طابعا مختلفا كل الاختلاف عن تاريخ العلم؛ فتاريخ الفلسفة جزء لا يتجزأ من الفلسفة ذاتها، حتى ليمكن القول إنه لا قيام للفلسفة بغير تاريخها؛ ذلك لأن الأفكار الفلسفية لا تعرض في كثير من الأحيان إلا من خلال عرض تطورها، وهذا العرض ذاته يؤلف فلسفة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، وإذن فهناك ارتباط لا ينفصم بين الفلسفة وتاريخها، والدافع الذي يدعونا إلى البحث في تاريخ الفلسفة هو دافع فلسفي أكثر منه دافع تاريخي. وليس هدف الباحث في تاريخ الفلسفة هو مجرد إكمال معلوماته العلمية، أو التوسع في جانب إضافي ثانوي الأهمية من جوانب بحثه، بل إن هذا الهدف يتصل أوثق الاتصال بصميم التفكير الفلسفي، منظورا إليه في تطوراته الماضية.
وفضلا عن ذلك، فالأمر في الفلسفة لا يقتصر مطلقا على بحث تطوراتها الأخيرة أو الأحدث عهدا، وليس في الفلسفة أي مجال لتفضيل الجديد على القديم لمجرد كونه أقرب زمنيا، بل إن المفاضلة الوحيدة المقبولة فيها إنما ترتكز على أساس القوة الكامنة في المذهب الفلسفي ذاته، سواء أكان هذا المذهب قريبا أم بعيدا، وسواء أكان ينتمي إلى التاريخ القديم أم الوسيط أم الحديث، وربما رأى بعض دارسي الفلسفة أن تطوراتها القديمة أعمق وأخصب من تطوراتها المتأخرة، أو هي على الأقل ذات قوة حية متجددة، مهما مرت عليها الأزمان، ومهما ابتعدت عنها في الماضي السحيق، وتلك صفة يستحيل أن يتصف بها التطور القديم لأي علم من العلوم، وقد تجد لها نظيرا في نظرة البعض إلى تطور الفنون؛ إذ يمجدون فنون العصر الكلاسيكي - مثلا - كما لو كانت هي الفترة التي يستحيل أن يقترب منها مستوى الفن في أي تطور لاحق.
فالتاريخ الفلسفي كله يكون حركة دائمة التجدد، وكثيرا ما نرى مراحل منه تتجدد وتعود إلى الحياة في عصور يبدو أنها منعدمة الصلة تماما بالعصر الذي ظهرت فيه أول مرة؛ إذ نجد مذاهب تنتمي إلى صميم العصور الوسطى (كالتوماوية مثلا) تتجدد في صميم القرن العشرين، على الرغم من الفارق الهائل في السياق الحضاري بين العصرين، ومن طول الفترة الزمنية التي انقضت بين ظهور المذهب الأصلي وبين إحيائه.
ومن جهة أخرى فإن التاريخ الفلسفي يعود فيؤثر في التفلسف ذاته تأثيرا عميقا؛ ذلك لأن الفيلسوف لا يستطيع - في معظم الأحيان - أن يتجاهل المذاهب الفلسفية القائمة بالفعل، بل يجد لزاما عليه أن يسوي حسابه مع التطورات الماضية للفكرة التي يتناولها بالبحث، ويحدد موقفه وموقعه منها، فإما أن يتأثر بمذهب من المذاهب السابقة، وإما أن ينقده ويقف منه موقفا سلبيا متشككا، وإما أن يأتي برأي جديد بعد هذا النقد، وهكذا تتحدد معالم التفلسف من خلال عملية الجذب والتنافر التي يشعر بها المفكر إزاء المذاهب السابقة، ويتميز تطور الفلسفة - قبل كل شيء - بذلك الطابع الجدلي الذي يكون تاريخ الفلسفة فيه أشبه بمحاورة هائلة بين مذاهب مختلفة تثور المناقشات بينها في مختلف المشكلات، وترتفع هذه المناقشات إلى مستويات أعلى كلما تراكمت الخبرات وازداد البحث عمقا.
والحق أن وجود هذا النقاش والجدل والخلاف هو ذاته من السمات التي تميز التاريخ الفلسفي من كل أنواع التاريخ الأخرى؛ ذلك لأن التاريخ - في معناه العام - يتجنب المناقشات والخلافات قدر إمكانه؛ فهو ببذل قصارى الجهد من أجل عرض الوقائع الماضية عرضا موضوعيا هادئا، لا مكان فيه للنزاع أو لمحاسبة الماضي، وحين يعرض المؤرخ لحادث سياسي - مثلا - لا يصدر حكما باستحسان ما حدث أو استهجانه إلا في أحوال نادرة، وإنما يحاول عادة أن يعيد تركيب صورة الماضي على أدق نحو ممكن، وينظر إليه من حيث هو بعيد ومنفصل عنه، ذلك هو طابع التاريخ بمعناه العام، أما التاريخ الفلسفي فهو في أساسه جدلي خلافي، وقد يؤدي ذلك في أحيان غير قليلة إلى فقدان صفة الموضوعية فيه تحقيقا لأغراض الخلاف والجدل، ويمتد هذا الجدل إلى أقدم النظريات والمذاهب الفلسفية، أي إنه لا يقتصر على المذاهب القريبة العهد كما هي الحال في الجدل العلمي، وفي كل الأحوال يحرص مؤرخ الفلسفة على الحكم على ما يعرضه من المذاهب، ومقارنة بعضها ببعض، ولا يكتفي أبدا بالعرض الموضوعي، وإلا اتسم عمله بالنقص والتقصير.
ويمكن القول إن الانحياز في حالة عرض التاريخ الفلسفي أمر مرغوب فيه في كثير من الأحيان، بينما هو من أشد عيوب البحث في حالة التاريخ الصرف؛ فشخصية مؤرخ الفلسفة وطريقة تفكيره تقوم بدور هام في طريقة عرضه للمذاهب الأخرى، وهو لا يحاول أن يخفي ذلك - على عكس المؤرخ العادي الذي قد تظهر شخصيته أو ميوله الخاصة أيضا في بحثه، ولكنه يحرص على إخفائها كل الحرص، وعلى تقديم بحثه في صور لا شخصية قدر الإمكان - وإنما يعترف مؤرخ الفلسفة بأن نظرته إلى المذاهب الأخرى تتلون باتجاهاته الخاصة في التفكير، وقد يجد في هذا الاعتراف ما يدعو إلى الزهو والمباهاة، بل إن مجموعة من الكتب الهامة في تاريخ الفلسفة كانت مصطبغة بالطابع الفكري الخاص للمؤرخ على نحو صريح، واعترف مؤلفوها دون مواربة بأنهم إنما يتأملون الفلسفة في منظورهم الخاص كما هي الحال في كتاب هيجل الضخم «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، وكتابات هيدجر المتعددة عن مختلف مراحل تاريخ الفلسفة، منذ الفجر الأول للفلسفة اليونانية حتى العصر القريب. •••
وهكذا ظهر لنا تاريخ الفلسفة - من وجهة النظر السابقة - مرتبطا على نحو لا يقبل الانفصام بالفلسفة ذاتها، وتأكدت لنا الأهمية الكبرى لهذا التاريخ بالنسبة إلى كل تفلسف.
ومع ذلك فمن الممكن القول - من وجهة نظر أخرى - إن العنصر التاريخي لا أهمية له في التفلسف على الإطلاق، وعلى قدر اهتمام كثير من الباحثين بتاريخ الفلسفة بوصفه أقوى تعبير عن الفكر الفلسفي ذاته، ظهر من الباحثين من أنكروا قيمة التاريخ في مجال الفلسفة، وقدموا حججا قوية تؤيد رأيهم هذا، وهي حجج لو صحت لأدت بنا إلى طريق مضاد تماما لذلك الذي سلكناه من قبل.
فمن الظواهر الملحوظة في التطور الفلسفي، أن يظهر من آن لآخر مفكر يبدأ بداية تبدو جديدة كل الجدة، ويتجاهل التاريخ السابق وكأنه لم يكن، ووجهة نظر هؤلاء أن الفلسفة إنتاج فكري مستقل، أو خلق حر، لا ينبغي له أن يتقيد بالسوابق الماضية أو يلتزم بإكمال التطور السابق، ويتخذ ظهور المذاهب الفلسفية عند أصحاب هذا الرأي طابعا أقرب إلى الانبثاق المفاجئ منه إلى التطور المتصل المنتظم، وهم يرون أن الفلسفة لا تعرف ذلك التدرج البطيء المعقول، الذي يترتب فيه السابق على اللاحق بانتظام، على النحو الذي نجده في العلوم الأخرى.
ولقد لاحظ الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» هذه الصفة في التطور الفلسفي، وأشار بوضوح إلى عدم انتظام هذا التطور، وذلك في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص» فقال - مشيرا إلى الميتافيزيقا وإن كان كلامه ينطبق على الفلسفة بوجه عام: «على الرغم من أن الميتافيزيقا أقدم من العلوم الأخرى جميعا، وستظل باقية حتى لو غرقت العلوم الأخرى كلها في لجة من الهمجية التي لا تدع شيئا إلا وقضت عليه، فإن الحظ لم يسعدها حتى الآن بسلوك طريق العلم المؤكد؛ ذلك لأن العقل يضطر فيها دائما إلى التوقف، ويتعين علينا دائما أن نقطع الشوط من جديد؛ إذ إن مسلكنا الأول لا يقودنا إلى الاتجاه الذي نود السير فيه. كذلك فإن باحثي الميتافيزيقا قد بلغ بهم الافتقار إلى بلوغ أي نوع من الإجماع في دعاويهم حدا جعل الميتافيزيقا أحق بأن تعد ساحة قتال، تلائم بوجه خاص أولئك الذين يريدون التدرب في معارك وهمية، وهي ساحة لم يفلح أي متسابق فيها حتى اليوم في كسب شبر واحد من الأرض، أو على الأقل لم يفلح في كسبه على النحو الذي يضمن له امتلاكه بصفة دائمة.»
هنا يشير «كانت» إلى صفة هامة في البحث الفلسفي، تفرق بينه وبين البحث العلمي تفرقة قاطعة، ومن ثم فهي تؤدي إلى إدراك الاختلاف بين طريقة التطور التاريخي في كلا المجالين؛ فالفلسفة لا تعرف حقائق تامة نهائية يستطيع باحثو الفلسفة أن يقولوا إنها اكتسبت وأصبحت جزءا لا يتجزأ من مضمون المبحث الذي يشتغلون به، أما العلم فيبنى خطوة بعد خطوة على حقائق يمهد القديم فيها الطريق للجديد، ومن هنا فلا يمكن أن يكون فيه مجال للخلاف والنزاع والجدل إلا حول المعارف الجديدة أو القريبة العهد، أي إن طابع التكامل والاستقرار الذي تتسم به الحقائق العلمية يؤدي إلى استبعاد الجدل من تاريخها الماضي، ويركزه في التطورات الأخيرة وحدها؛ لأن هذه هي التي لم تستقر بعد، أو لم تتم إضافتها إلى ذخيرة هذا العلم وحصيلته المكتسبة، وهنا يظهر الفارق واضحا بين نظرة الفلسفة والعلم إلى تاريخهما الماضي؛ ذلك لأن عدم وجود حقائق مستقرة في الفلسفة يجعل للقديم نفس المكانة التي نعزوها إلى الجديد، ويضع مراحل التطور كلها على قدم المساواة من حيث أهميتها في الجدل الفلسفي، ولسنا نعني هنا بالمساواة أن تكون لها كل قيمة واحدة بالنسبة إلى تفكيرنا المنطقي، بل نعني أن انتماء أي مذهب فلسفي إلى الماضي أو إلى الحاضر ليس «في ذاته» عاملا من عوامل استبعاده أو التمسك به في ميدان الفلسفة، وهذا لا يمنع - بطبيعة الحال - من تفاوت مراتب المذاهب تبعا لمدى اتساقها الداخلي، وغير ذلك من معايير التفضيل في ميدان الفلسفة.
إن العلم يتطور عن طريق التوسع في مجموعة من الحقائق اللاشخصية التي تتسم بطابع مستقر، دون أن يكون لفردية العالم تأثير فيما يصل إليه من الحقائق؛ فحين نتأمل أي علم في تطوراته الماضية ونقارنها بصورته الراهنة، نجد أن هذه التطورات تسير دائما في طريقها بمنطق داخلي خاص بها، ومن الممكن أن نتتبعها دون أية إشارة إلى شخصية مكتشفيها أو خصائصهم الفردية؛ ذلك لأن هذا التطور العلمي إنما هو محاولة لتحقيق المزيد من الصواب فحسب، وليس معنى ذلك أن العلم لم يكن فيه أخطاء، أو أن كل عالم يسير آليا في الطريق الصحيح، بل إن ما يحدث في تاريخ العلم هو أن الأخطاء تستبعد آليا، وتزاح من الطريق الرئيسي الذي يسلكه العلم، فلا يتبقى فيه إلا الحقائق، وصحيح أن الحقيقة الجديدة تنسخ ما سبقها في كثير من الأحيان، غير أن العلم يحتفظ خلال تقدمه بالحقائق التي تتضمن في ذاتها قدرة على توليد حقائق أصح منها، مثال ذلك أنه حين اكتشفت نظرية كبرنيكوس في الفلك، استبعدت آليا نظرية بطليموس القديمة التي كانت تجعل الأرض مركزا للكون، كما استبعدت بطبيعة الحال نظريات خرافية أخرى متعددة كانت تعلل حركات الكواكب والنجوم بقوى خفية شبيهة بقوى الإنسان، ومع ذلك فإن نظرية بطليموس هي التي تمثل مرحلة من مراحل تاريخ العلم؛ لأنها تنطوي على إمكانات تسمح بظهور حقيقة أخرى أدق منها، أما النظريات الخرافية فهي لا تمثل حتى مجرد مراحل قديمة في هذا التاريخ؛ لأنها لا تؤدي إلى شيء، والمهم في هذا كله أن تاريخ العلم إنما هو تاريخ حقائق متدرجة أو متراكمة تؤدي كل منها إلى حقيقة أدق منها وأشمل.
أما لو تتبعنا التاريخ الفلسفي، لوجدناه تاريخ محاولات لا تاريخ حقائق؛ ذلك لأن عدم وجود معارف مكتسبة مستقرة في المجال الفلسفي يجعل تاريخها منطويا على عناصر الخطأ والصواب معا، بل يكاد يقضي على أي تمييز قاطع بين ما هو خطأ وما هو صواب؛ فحين نتتبع التاريخ الفلسفي لأي عصر من العصور، لا نستطيع أن نهتدي إلى طريق رئيسي واحد يسير فيه الفكر مستقرا واثقا من نفسه من البداية إلى النهاية، وتستبعد منه على الدوام أخطاء تطرح جانبا لكي تختفي في غياهب النسيان؛ فالتاريخ الفلسفي يضم في داخله كل المحاولات، ما أصاب منها وما أخطأ، بل إنه يضمها كلها دون أن يجد معيارا لتمييز ما هو مخطئ فيها وما هو مصيب، أو على الأصح دون أن يحاول الاهتداء إلى مثل هذا المعيار. ومجمل القول أن تقدم العلم يسير في خط رأسي يرتفع دواما إلى أعلى، على حين أن مسار الفلسفة يسير في خط أفقي يقف فيه كل مذهب إلى جوار الآخر.
وفي ضوء هذه التفرقة بين طريقتي تطور الفلسفة والعلم، نستطيع أن نحكم على نقد «كانت» السابق لطريقة تطور الفلسفة؛ فهو لم يكن يقبل إلا طريقة واحدة، وهو قد عاب على الفلسفة عجزها عن سلوك طريق العلم هذا، واستهدف بتفكيره ومذهبه النقدي أن يخلصها من هذا العجز، ويحقق لها تطورا مماثلا لتطور العلم، ولم يدر بخلده أن الفلسفة تستطيع أن تظل حية ومزدهرة، مع احتفاظها بطريقتها الخاصة في التطور، تلك الطريقة التي تظل فيها النظريات والمذاهب السابقة معترفا بها ومحتفظة بأهميتها، على الرغم من كونها تتناقض فيما بينها، ولا تتكامل أو تتواءم على أي نحو، أي إنه - بالاختصار - أصر على أن تتحول الفلسفة - في طريقة تطورها - إلى علم، برغم علمه أن الموضوعات التي تعالجها لا تنتمي إلى مجال العلم بمعناه الدقيق، أما إذا حاولت الفلسفة أن تحتفظ بأسلوبها الخاص في التطور، فإن هذا يؤدي في رأيه إلى طريق مسدود لا مخرج لها منه، وغني عن البيان أن كل التاريخ اللاحق للفلسفة إنما كان تفنيدا مفصلا لرأي «كانت» هذا؛ إذ إن الفلسفة ظلت مزدهرة، وفي الوقت ذاته ظلت مذاهبها واتجاهاتها تتعدد وتتشعب في خط أفقي مغاير تماما لخط التقدم العلمي. •••
وعلى أساس وجهتي النظر السابقتين نستطيع أن نقول بوجود نوع من «النقيضة» في نظرة المشتغلين بالفلسفة إلى طريقة تطورها التاريخي؛ فقد رأينا أولا أن الفلسفة لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها، وأن التاريخ الفلسفي حي على الدوام، يكون جزءا لا يتجزأ من موضوع الفلسفة، وينبغي أن يحسب له حساب في كل محاولة جديدة للتفلسف، ورأينا ثانيا أن من الممكن - من وجهة نظر أخرى - القول بأن تاريخ الفلسفة لا أهمية له على الإطلاق من حيث هو تاريخ؛ فهو ليس تاريخا منظما كتاريخ العلوم، بل إنه ليس تاريخا على الإطلاق، وإنما هو محاولات لا يكاد أن يكون للعنصر الزمني فيها أدنى تأثير، ومن الممكن في أية حالة أن يختار المرء للمناقشة أية مرحلة سابقة في هذا التاريخ دون تمييز، كما أنه يستطيع - كما حدث بالفعل في بعض الحالات - أن يتجاهل المراحل السابقة ويبدأ من جديد، وبهذا المعنى لا يكون للفلسفة تاريخ، أي إنها لا تتطور زمنيا وفقا لمنطق محدد.
فكيف إذن يمكن حل هذا الإشكال ، الذي يكون فيه للتاريخ أهمية أساسية في الفلسفة، ولا تكون له - في الوقت ذاته - أهمية على الإطلاق؟
نستطيع أن نقول أولا إن هذه النقيضة إنما هي نقيضة تتمثل في كل تاريخ بوجه عام، لا في التاريخ الفلسفي وحده؛ فالتاريخ لا تصبح له أهمية في العلم الذي يسير تطوره بانتظام وفي مسار منطقي محدد، على حين أن أهميته تزداد في العلم الذي لا يخضع مساره لمثل هذا الانتظام، ولنعد ثانية إلى مقارنة التطور في علم الكيمياء بتطور الفلسفة؛ ففي التطور المنتظم للكيمياء لا نحتاج إلى التاريخ؛ لأن القديم في هذا العلم موجود ضمنا في الجديد، بحيث تغنينا معرفة الجديد عن القديم، فحسبنا في هذه الحالة أن نعرف آخر تطورات العلم لنستدل منها - بطريقة منطقية إلى حد بعيد - على تطوراته السابقة، وفي هذه الحالة لا يكون لتاريخ هذا العلم قيمة في ذاته، بل يستدل عليه بسهولة من خلال الحالة الراهنة لذلك العلم، أما في حالة الفلسفة - التي لا يخضع تطورها لمثل هذا الانتظام - فإن لكل مرحلة في التاريخ قيمتها الأساسية، ولا مفر من معرفة هذه المراحل من أجل معرفة الفلسفة.
على أن التاريخ الذي يخضع لمسار منطقي هو وحده التاريخ بمعناه الصحيح، أي هو التاريخ الذي يكون تعاقب الزمان فيه عنصرا أساسيا، ويكون للماضي فيه موقعه المحدد إزاء الحاضر، دون أن يكون في وسع أحد إحلال أحدهما محل الآخر، أما التاريخ الذي لا يخضع لمسار منطقي فليس تاريخا بالمعنى الصحيح ، وإنما هو سلسلة غير منتظمة من المراحل فحسب.
وهكذا تظهر النقيضة التي أشرنا إليها من قبل بوضوح كامل؛ فالتاريخ لا تكون له أهمية رئيسية عندما يكون لموضوعه تاريخ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي حين يكون تطور هذا الموضوع منطقيا تفضي كل مرحلة فيه إلى الأخرى على نحو ضروري، وفي مقابل ذلك تصبح للتاريخ أهمية كبرى عندما لا يكون لموضوعه تاريخ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي حين يفتقر تطور هذا الموضوع إلى منطق دقيق يسري من بدايته إلى نهايته.
ومما يثبت ذلك أن علم التاريخ نفسه من حيث هو علم مستقل، ينصب في كثير من الأحيان على حوادث يصعب إلى حد بعيد كشف التسلسل المنطقي بينها، بل يكون لكل منها قيمته في ذاته، من حيث هو ظاهرة لها موقعها الفريد في الزمان والمكان، أي إنه يتعلق عندئذ بحوادث يضعف فيها العامل «التاريخي» - بمعنى التسلسل المنطقي من القديم إلى الجديد - إلى حد بعيد، ولو كان مسار التاريخ منطقيا إلى حد كامل، أعني لو كان السابق يؤدي إلى اللاحق بدقة تامة، أو بتعبير آخر: لو كان مساره «تاريخيا» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لما كانت لدراسة التاريخ مثل هذه الأهمية، ولتضاءل مجال هذا العلم وضاق نطاقه إلى حد بعيد؛ لأننا عندئذ نستطيع أن نقرأ الماضي دون عناء على صفحة الحاضر. •••
هذه النقيضة تفترض مقدما - كما هو واضح - إمكان وجود تاريخ يتألف من حوادث فردية لا رابط بينها، وتطبق هذا الفهم على تطور الفلسفة فتراه انتقالا بين مذاهب منفصلة يستقل كل منها عن الآخرين، غير أن البحث التاريخي ذاته يميل رويدا رويدا إلى إنكار مثل هذا الموضوع الفردي البحت للتاريخ، ويتجه على نحو متزايد إلى الكشف عن عناصر الانتظام في التطور التاريخي؛ ففي مجال التاريخ السياسي والاجتماعي، أخذ يختفي بالتدريج ذلك الرأي الذي يفترض أن الحوادث فردية لا تتكرر، وأن كل مرحلة قائمة بذاتها لا تؤدي إلى الأخرى، وأخذ يحل محله رأي آخر يؤكد وجود منطق خاص للانتقال من مرحلة إلى المرحلة التالية.
وكما يطبق هذا الرأي على مجال السياسة والمجتمع، فإنه يطبق أيضا على ميدان الفكر الفلسفي بوصفه تعبيرا عن الحالة العقلية للإنسانية في مراحل التاريخ المتعاقبة، على أنه من المعترف به أن الاهتداء إلى منطق التطور - في كل هذه المجالات الإنسانية - أمر بالغ الصعوبة؛ لأن هذه المجالات شديدة التعقد بالقياس إلى الظواهر الطبيعية، فضلا عن أن الكشف عن نمط منتظم للتطور يقتضي الجمع بين فترات زمنية كبيرة واختبارها كلها من منظور واحد، ولا يتعلق بحوادث قريبة من متناول أيدينا، كما هي الحال في الحوادث الطبيعية .
وإذن ففي تاريخ الفلسفة نوع خاص من التعاقب المنتظم، يحتاج الكشف عنه إلى جهد كبير، ولا يمكن أن يصل في نهاية الأمر إلى نفس القدر من الدقة الذي نجده في تاريخ العلوم، ووجود مثل هذا التعاقب المنتظم الذي يكشف عن نفسه - في الوقت ذاته - بصعوبة شديدة، وهو الذي يخلصنا من تلك النقيضة التي أشرنا إليها من قبل؛ فللفلسفة تاريخ، ولكنه ليس تاريخا واضحا ضروري المسار كذلك الذي نجده في العلم، وهو في الوقت ذاته ليس تاريخا متخبطا يمكن أن نتأمله من أية نقطة فيه، أو يمكن أن نتصوره راجعا القهقرى، أو نمحو منه كل أثر للتطور الزمني، إنه تاريخ علينا نحن أن نكتشف عنصر الانتظام فيه، وحين نصل إلى هذا الكشف بعد مجهود شاق، لا نستطيع أن نقول إن التطور الماضي كان منطقيا تماما، كما هي الحال في تطور العلوم الدقيقة، إنه تاريخ يدعونا إلى دراسته، وإلى كشف عنصر النظام فيه، أو بناء هذا العنصر وخلقه من جديد، وبفضل هذه الصفة تعلو دراسة تاريخ الفلسفة على نقيضة التاريخ التي كان علينا فيها أن نختار بين تاريخ حقيقي - أي منطقي دقيق في مساره - لا ضرورة لدراسته في تفاصيله؛ لأنه يكشف عن نفسه من خلال مرحلته الحاضرة، وتاريخ لا يستحق هذا الاسم - لتخبطه وعدم انتظامه - هو وحده الذي لا نجد مفرا من دراسته بكل ما فيه من تفاصيل؛ لأن حاضره لا ينبئ عن ماضيه.
أما طبيعة هذا النظام الذي يستطيع الذهن أن يضفيه على تطور التاريخ الفلسفي من خلال دراسته لتفاصيله، والذي يحررنا بالتالي من الوقوع في براثن النقيضة السابقة، فأحسب أنها موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرا بمقال قائم بذاته.
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
يسود رأي واسع الانتشار، يذهب إلى أن صفة الانفصال هي المميزة لحركة الفكر الفلسفي، وأن المذهب الفلسفي انبثاق فجائي ظهر في ذهن عبقري بفضل قدراته العقلية الخاصة، وكان من الممكن أن يظهر - دون أي تغيير كبير - لو أن هذا الذهن قد قدر له أن يحيا قبل الفترة التي عاشها فعلا أو بعدها بزمان طويل.
تلك النظرة الفردية إلى الفلسفة جزء من منظور فردي أوسع وأعم بكثير؛ فهي في واقع الأمر مظهر من مظاهر نظرة إلى الحياة تجعل الظاهرة الفردية - في تميزها واختلافها وطابعها الفريد - أساسا لتفسير كل شيء، وفي مثل هذه النظرة إلى الحياة يكون التاريخ بأسره - لا تاريخ الفلسفة وحدها - مجموعة من الحوادث المتلاحقة التي يقوم بها «أفراد» ممتازون، ويسود الانفصال المطلق كل ظواهر الحياة الإنسانية، ويكون الزمان الذي تجري خلاله وقائع التاريخ زمانا آليا بحتا، أي سلسلة متعاقبة من اللحظات، وليس على الإطلاق خطا متصلا يمهد أوله لآخره، ولا يفهم اللاحق فيه إلا على أساس السابق.
وجدير بنا أن نشير إلى صفة مميزة للتاريخ الفلسفي، تجعل إدراك عناصر الانتظام والاتصال فيه مهمة شاقة إلى أبعد حد؛ فمن المعترف به أن العلوم الإنسانية بأسرها تعاني من هذه الصعوبة، نظرا إلى تعقد موضوعها وخفائه وصعوبة التزام الموضوعية الكاملة فيه، ولكن هذه المشكلة تزداد تعقيدا في حالة الفلسفة؛ لأن العرض التاريخي لها هو - إلى حد بعيد - «إعادة خلق»؛ فالمشكلات القديمة لا تزال حية لم تندثر، ولا توجد في الفلسفة منذ ظهورها أيام اليونان حتى اليوم مشكلة يمكن أن توصف بأنها ذات أهمية «تاريخية» فحسب، بل إن أبعد المشكلات عن طريقة تفكيرنا الراهنة لا تخلو من عناصر تثير تفكيرنا وتدفعه إلى أخذها مأخذ الجد، ومن هنا لم يكن مؤرخ الفلسفة مجرد راوية يسرد أحداثا لم تعد لها صلة به، بل هو - بمعنى معين - أقرب إلى الشاعر الذي يتمثل مشاهداته ومعلوماته ويعيد خلقها من جديد، وحين تكون إعادة الخلق هذه ضرورة لازمة، لا يعود هناك مفر من أن تتعدد نظراتنا إلى تاريخ الفلسفة وتصوراتنا له، وبعبارة أخرى: فحتى لو لم يكن تاريخ الفلسفة سلسلة من الانبثاقات الفكرية والمنفصلة في أذهان صانعيه، فإنه يغدو على هذا النحو في أذهان رواته وكتابه وشارحيه، وحتى لو كانت طريقة صنع تاريخ الفلسفة متميزة بالاتصال والانتظام، فإن طريقة عرض هذا التاريخ لا يمكن أن تخلو من عنصر الانفصال والعشوائية.
ولنضف إلى العوامل السابقة عاملا آخر ربما كان أهم أسباب انتشار النظرة الفردية العشوائية إلى تاريخ الفلسفة؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أنهم يحطون من قدر الفلسفة والفلاسفة إذا تصوروا تاريخها على أنه خط متصل يتسم بأي نوع من النظام. إن الفلاسفة هم عباقرة العقل الإنساني، والعبقري لا بد أن يكون متفردا، لا يخضع لقانون حتمي يتحكم في الأحداث ولا يدعها تتحكم فيه، وأي نوع من «المنطق» المنتظم في مسار التاريخ الفلسفي معناه أننا أخضعنا هذه الظاهرة العبقرية لقاعدة خارجة عنها، وأننا بالتالي قد انتقصنا من قدرها، وربما كان أصحاب هذا الرأي على استعداد لأن ينكروا أهمية دور العبقري الفرد في التاريخ العام، أما تاريخ الفلسفة فإنهم لا يتصورونه إلا تاريخ عقول فذة جبارة يصنع كل منها لتفكيره منطقه الخاص، ولكنه يتحدى كل منطق خارجي يفرض على تفكيره مسارا معينا ويحصره في إطار لا يفهم إلا من خلاله.
على أن مثل هذا الفهم ينطوي على قدر غير قليل من السذاجة؛ إذ يفترض أن عبقرية الفيلسوف لا تتجلى على حقيقتها إلا حين يكون تفكيره ظاهرة فريدة منعزلة عما يسبقها وما يليها، وحسبنا أن نجري مقارنة بسيطة مع ميدان آخر غير الفلسفة لندرك مدى خطأ هذا التصور؛ فمن المسلم به أن بيتهوفن كان أعظم عباقرة الفن الموسيقي، وأنه في هذا المجال يعد أصدق ممثل للظاهرة الفردية التي يستحيل أن تتكرر، ومع ذلك فمن المسلم به - بنفس المقدار - أن بيتهوفن يمثل في تاريخ الموسيقى مرحلة محددة لا تفهم إلا في ضوء ما سبقها وما تلاها، ولا يمكن أن ينقص من عبقريته على الإطلاق إدراكنا لموقعه التاريخي، وفهمنا لفنه على أنه مرحلة في تاريخ متصل يتسم مجراه بنوع من الانتظام.
ولا بد أن تؤدي النظرة الموضوعية - التي تعلو على الرومانتيكية الساذجة عند أصحاب نظرية «العبقرية الفردية» - إلى الاعتراف بنوع مماثل من الانتظام والاتصال في تاريخ الفلسفة، وإن كان من المستحيل أن نتصور مثل هذا الانتظام على أنه يسير في خط واحد مستقيم متصاعد تدريجيا كما هو الحال في تطور العلم.
فما هو إذن مصدر هذا الانتظام الذي نعترف بأنه شديد التعقيد إلى حد قد يختفي معه في كثير من الأحيان عن الأعين تماما؟ إن مصدره هو الانتظام في تدرج حياة الإنسان نفسها، واستحالة فصل التاريخ الفلسفي عن التاريخ الإنساني العام، وهكذا يتعين علينا في هذه المرحلة أن نصحح ما يقال عن وجود تقابل شديد قاطع بين طريقة تطور الفلسفة وطريقة تطور العلوم الدقيقة؛ فهناك بالفعل اختلاف كبير بين الطريقتين، ولكن هذا الاختلاف لا يصل إلى حد الانفصال أو التضاد التام، ولو اعترفنا بهذا الانفصال لكان في ذلك تفتيت لوحدة العقل البشري، الذي يستحيل أن يسير تبعا لمنهج دقيق في بعض ميادينه، ويسير دون أي منهج على الإطلاق في بعضها الآخر، فلا بد من الاعتراف بوحدة في الظواهر البشرية، ولا بد من تأكيد التأثير المتبادل بين هذه الظواهر، ولو كان العلم هو وحده الذي يسير بانتظام، والفلسفة لا تتبع أي نظام؛ لكان معنى ذلك أننا لا نعترف بوجود أي تأثير للعلم في الفلسفة أو للفلسفة في العلم، وهذا خطأ يمكن اكتشافه بسهولة إذا تتبع المرء تاريخ العلاقة بين هذين الميدانين، وعلى ذلك فأصل الإشكال هو الاعتقاد بإمكان قيام نوع من الفلسفة يظهر تلقائيا من العقل البشري دون أي تأثر بظروف عصره، وبإمكان انفصال الفلسفة عن سائر ميادين نشاط هذا العقل، وهو اعتقاد باطل كل البطلان؛ لأن الذهن البشري وحدة لا تنفصم، وعلى أية حال فإن كشف التطور الفلسفي - إذا كان أمرا شاقا داخل نطاق الفلسفة ذاتها - يغدو أيسر كثيرا إذا تأملناه من خلال التطور العام للتاريخ البشري في مختلف مظاهره الحضارية والثقافية، وعندئذ يختفي التضاد الشديد بين طريقة تطور الفلسفة وطريقة تطور العلوم، ويكون من الواجب اتباع منهج مشابه في الحالتين، مع اعترافنا بأن كشف مسار هذا التطور في حالة الفلسفة أصعب كثيرا منه في الحالات الأخرى.
الآراء المختلفة في طبيعة التطور الفلسفي
نستطيع - في ضوء التحليل السابق - أن نستخلص رأيين أساسيين في طبيعة التطور الفلسفي، يمكن تلخيصهما بوجه عام بأنهما رأي يقول بأن هذا التطور يفتقر إلى كل نظام، ورأي آخر يقول إنه تطور منتظم، وسوف نعرض أمثلة لكل من هذين الرأيين، وتعد هذه الأمثلة بالفعل تطبيقا عمليا للمناقشة العامة السابقة.
نظريات الانفصال
الرأي القائل بعدم انتظام التاريخ الفلسفي يمكن أن يكون راجعا إلى أسباب مختلفة، من أهمها وأوضحها بطبيعة الحال عدم وجود معلومات كافية عن التطورات الفلسفية السابقة، وهكذا كانت الحال عند بداية الفترة الحديثة في كتابة التاريخ الفلسفي في عصر النهضة الأوروبية؛ فلم تكن هناك من المواد أو من الدراسات النقدية ما يسمح بتكوين نظرة جامعة إلى التاريخ السابق، أو بإدراك الخطوط الكبيرة التي يسير فيها التطور الفلسفي؛ ولذلك كانت دراسة الفلسفة في ذلك الحين هي دراسة لشيع أو طوائف منفصلة، وكانت طريقة عرض الفلسفات السابقة هي طريقة السرد أو الرواية، ومن الواضح أن هناك تشابها بين هذه الطريقة وبين الطريقة القديمة في كتابة التاريخ بمعناه العام؛ إذ كان المؤرخون القدماء - كما هو معروف - يسردون الوقائع في تتابعها الزمني دون أية محاولة لاستخلاص تيارات عامة فيها، ودون كشف للعلل المتحكمة في مسار هذه التيارات، أما الطريقة الحديثة في بحث التاريخ، فتحتاج إلى مقدار من التعمق، وكذلك إلى قدر من المعلومات والوقائع، لا يتوافران لدى المؤرخين القدماء.
ومن الواضح أن هذه النظرة التجزيئية إلى تاريخ الفلسفة تؤدي إلى الحط من مكانة الفلسفات السابقة؛ إذ إنه كلما تعددت المذاهب وتناقضت ردودها وإجاباتها، كان ذلك مؤديا إلى المزيد من الشك في قيمتها، ما دامت كل منها تعد منفصلة تماما عن الأخريات، وهكذا كان الكثير من مؤرخي الفلسفة في هذه الفترة - بل من الفلاسفة أنفسهم - ينتهون إلى اتخاذ موقف الشك في قيمة الفلسفة بوجه عام (مونتني، بيكن).
على أن هذا القول بعدم انتظام مسار التاريخ الفلسفي لم يكن راجعا فقط إلى العجز عن تكوين نظرة عامة بسبب قلة المواد المعطاة أو نقص المعلومات المتوافرة، وإنما يمكن أن يكون له سبب مضاد ، فإذا توافرت المواد أكثر مما ينبغي، وإذا ازداد التخصص بحيث يركز الباحث جهوده كلها على فترات محدودة قصيرة الأمد، أو على مشكلات خاصة ضيقة النطاق، فعندئذ ينصرف بطبيعة الحال عن إصدار الأحكام العامة الشاملة على فترات تاريخية كبيرة، ويرى في هذه الأحكام خروجا عن روح البحث العلمي الدقيق بالمعنى الذي يفهمه لهذه الكلمة، ولهذا الاتجاه أهمية كبيرة في الفترة الحالية من تاريخ الأبحاث الفلسفية؛ حيث يزداد التخصص بين الباحثين ويعد في كثير من الأحيان شرطا أساسيا للبحث السليم، وكلما أراد المرء التعمق في أبحاثه؛ وجد نفسه مضطرا إلى تضييق نطاق هذه الأبحاث، بينما ينظر إلى الأبحاث الواسعة النطاق على أنها سطحية، وحتى لو أتيح له التعمق في عدة مذاهب تنتمي إلى فترات مختلفة، فإن هذا التعمق ذاته كفيل بأن يكشف له عن اختلافات أساسية بينها يستحيل ردها إلى عنصر مشترك، ويجعله يخشى إصدار الأحكام العامة التي قد يكون فيها تزييف للتاريخ وضياع للدقة التي اعتادها في بحثه.
وهناك أخيرا سبب ثالث لامتناع الباحثين عن القول بوجود انتظام في التاريخ الفلسفي، ذلك السبب هو النزعة الثورية؛ ففي الفترات التي تشتد فيها الثورة على القديم، يقلل المفكرون من شأن الماضي ويؤكدون أن من الواجب تركه جانبا، وتكون أبغض الأفكار إلى أذهانهم هي الفكرة القائلة بوجود ارتباط سببي بين الماضي والحاضر؛ لأنهم يريدون أن تظهر أفكارهم في صورة خلق جديد تماما يثور على الماضي ولا يكمله، وهذه هي الصفة التي كانت تتميز بها نظرة الفلاسفة في أوائل العصر الحديث - مثل ديكارت وبيكن - إلى التاريخ الماضي للفلسفة.
ومثل هذا يقال أيضا من كل اتجاه فردي حديث، يدعو إلى الثورة على القوالب الجامدة في الفلسفة، والتخلي عن الروح التعميمية المفرطة؛ ففي مثل هذه الاتجاهات، تكون الفلسفة الحقيقية وثيقة الصلة بالشخصية الفردية، وتعد مظهرا من مظاهر النشاط الباطني للنفس، بحيث إن أية محاولة لكشف اتصال واستمرار في تاريخها تكون محاولة متعلقة بالسطح الظاهري للفلسفة، لا بكيانها الباطني الأصيل، ومن أوضح الأمثلة لهذه النظرة إلى طبيعة التطور الفلسفي، رأي فيلسوف وجودي مثل ياسبرز؛ فعنده أن كل فلسفة لها أصالتها المطلقة، ولها طابعها الفردي التام، وهي لا تتكرر ولا يطرأ عليها زيادة أو نقصان، ولا يمكن أن تعدل أو تقوم بمضي الزمان، وإنما تظل لها على الدوام قدرتها على الإيحاء؛ فكل فلسفة كاملة في نطاقها الخاص؛ لأنها نتاج أصيل لوجود حر تلقائي، وفي هذه الحالة لا يكون للفلسفة من قيمة إلا من حيث هي تعبير ذاتي، له في حدوده الخاصة قيمته المطلقة التي لا تستمد من أية علاقة له بغيره من التعبيرات، أي إن كل فلسفة تبعا لهذا الرأي مقفلة على نفسها، ولا تقبل أن تكون أي مركب مع غيرها من الفلسفات.
نظريات الاتصال
هناك مجموعة أخرى من النظريات تذهب إلى عكس النظريات السابقة تماما، فتؤكد أن في تاريخ الفلسفة نوعا من الانتظام الذي قد يكون من الصعب إدراكه لأول وهلة، ولكنه موجود على أية حال، وكل ما علينا هو أن نبذل الجهد الكافي لكي نهتدي إليه.
وكان من الطبيعي أن يتحمس لفكرة التطور الفلسفي المنتظم والمتصل دعاة التقدم من الفلاسفة عند نهاية القرن الثامن عشر؛ فهم يرون أن الفلسفة - شأنها شأن كل نشاط عقلي أو مادي آخر للإنسان - قد سارت في طريق التقدم التدريجي، ابتداء من الفلسفة اليونانية التي بلغت قمتها عند سقراط وأفلاطون وأرسطو، حتى العصر الحديث الذي بلغ أعلى نقطة في تطوره عند ديكارت، مارة بالعصور الوسطى التي كانت تمثل نكسة للفلسفة .
وظهرت في القرن التاسع عشر عوامل متعددة تؤدي إلى تقوية هذا الاتجاه، أهمها دون شك النزعة التاريخية التي كانت تميل إلى تفسير كل الظواهر من خلال تاريخها، لا على أن لها طابعا مطلقا يفهم بذاته، وهكذا ظهرت في ذلك القرن محاولات متعددة لإظهار الانتظام في مجرى التاريخ الفلسفي، من أهمها محاولتا كونت وهيجل.
ففي فلسفة أوجست كونت اتجاه إلى ربط الفلسفة بالمجرى العام للتاريخ الإنساني، وهو يؤكد استحالة فصل المراحل العقلية الحالية عن المراحل الماضية، بل إنها كلها ترتبط سويا في خط واحد ، تكون كلها فيه خطوات نحو تحقيق التقدم البشري العام، وهكذا تنكر هذه الفلسفة حدوث تحولات أساسية في الفكر البشري من اتجاه إلى اتجاه مضاد، وإنما تسير المذاهب الفكرية كلها في طريق متصل، تؤدي فيه كل مرحلة إلى المرحلة التالية بالضرورة، ولا يمكن أن يرجع إلى الوراء، وبلغ الأمر بكونت حد تأكيد أن فلسفة العصور الوسطى أعمق وأكمل من الفلسفة اليونانية القديمة، وهو رأي يخالف دون شك ما اتفق عليه معظم مؤرخي الفلسفة.
على أن أشهر هذه المحاولات لإثبات وجود انتظام في مجرى التاريخ الفلسفي هي دون شك محاولة هيجل؛ فهيجل لا يرى في كثرة المذاهب الفلسفية مظهرا من مظاهر ضعف الفلسفة، أو دليلا على تهافت هذه المذاهب، وإنما لا يوجد في نظره تعارض بين هذه الكثرة في المذاهب وبين وحدة الروح البشرية؛ فتاريخ الفلسفة يكشف في رأيه عن فلسفة واحدة، تمثل المذاهب المختلفة مراحل متباينة لنموها، وهكذا تكون كل فلسفة متأخرة - في رأيه - نتيجة لجميع الفلسفات التي سبقتها، وتتضمن في ذاتها كل ما تنطوي عليه تلك الفلسفات من مبادئ، وعلى حين أن القول بفلسفات كثيرة منفصلة يؤدي حتما إلى إنكار قيمة هذه الفلسفات أو الشك فيها، فإن القول بفلسفة واحدة لها مراحل متباينة في نموها، يؤدي إلى الاعتقاد بضرورة كل مرحلة من هذه المراحل، وبحتمية هذا التاريخ السابق الذي يستحيل فهم إحدى حلقاته دون الأخريات، وبذلك تصبح للمذاهب كلها ضرورتها وقيمتها في التطور الفلسفي العام، ويعبر هيجل عن رأيه هذا من خلال مصطلحاته الخاصة، فيقول إن تاريخ الفلسفة إنما هو نمو روح حية واحدة، تدرك ذاتها بالتدريج، وهو يكشف خلال الزمان عما تكشفه الفلسفة ذاتها بطريقة أزلية خالصة، أي إن من وراء التطور الزمني للتاريخ الفلسفي توجد روح تكشف عن نفسها بالتدريج، وتوجه مراحل هذا التاريخ بانتظام، وهكذا يتعين على المرء أن يكون فيلسوفا لكي يستطيع البحث في التاريخ الفلسفي؛ إذ إن كشف الروح الكامنة من وراء هذا التاريخ لا يتسنى إلا للفيلسوف، وكما أن هناك عقلا واحدا لا عقول كثيرة، فكذلك لا توجد إلا فلسفة واحدة لا فلسفات كثيرة، وهذه الفلسفة الواحدة لا تتكشف إلا للفيلسوف نفسه في مراحلها المتعاقبة وفي غايتها الواحدة.
ونستطيع أن نعلق على فكرة هيجل هذه بقولنا إنه إذا كان يقصد بذلك أن من واجب الباحث في التاريخ الفلسفي أن يكون لديه حس فلسفي سليم، فإن رأيه هذا يكون معترفا به من الجميع، أما إذا كان يقصد بذلك أنه لا بد للمرء من أن يكون لنفسه فلسفة كاملة قبل أن يستطيع البحث في تاريخ الفلسفة، فإن هذا بالطبع أمر لا تؤيده التجربة ذاتها؛ لأن المرء يستطيع فهم تاريخ الفلسفة بالحس الفلسفي وحده، وليس تكوين فلسفة كاملة بالشرط الضروري لهذا الفهم.
ومن الواضح أن هيجل قد أكد الاستقلال الذاتي للفلسفة، وانفصالها عن سائر مظاهر النشاط الروحي أو العقلي، بحيث إن تطورها يكتسب معنى ودلالة مستمدة من منطقها الداخلي ذاته، ولكن محاولته تخفق لهذا السبب ذاته؛ إذ إنها تفترض مقدما إيمان المرء بفلسفة هيجل نفسها، وتفسيره للتاريخ الفلسفي كله على أساس أنه يتجه إلى تحقيقها، أما بالنسبة إلى أي مفكر آخر لا يؤمن بالفلسفة الهيجلية فلا بد أن يكون انتظام التطور الفلسفي راجعا إلى سبب آخر.
لذلك كان من الواجب - كما أشرنا من قبل - أن يحرص المرء دائما على الربط بين الفلسفة وبين مجموع المظاهر الأخرى للنشاط العقلي، وعندئذ لن يعود من الصعب كشف الانتظام في تطورها؛ فالفلسفة كانت دائما تستهدف إيجاد نظرة عامة إلى مجموع المعارف العلمية للإنسان، بل كانت أحيانا تزعم أنها علم شامل للكون بأسره، وهناك ارتباط وثيق بين الفلسفة وبين مظاهر الحياة الروحية، من علم وفن وسياسة واجتماع، وفي الفلسفة تتلخص القيم الروحية لأي عصر من العصور، صحيح أن الفلسفة ترتبط أحيانا بوجه معين من الحياة الروحية أكثر مما ترتبط بوجه آخر، فتهتم أحيانا بالعلم أو بالسياسة أو بالأخلاق، وتتأثر بجانب من الحياة الروحية أكثر مما تتأثر بجانب آخر، ولكنها على الدوام متصلة بالمجموع العام للحياة الروحية في عصر معين.
وأخيرا فإن للماركسية رأيا معروفا في الربط بين الفلسفة وبين المرحلة التي يمر بها المجتمع في علاقاته الإنتاجية، ومن الطبيعي أن تؤكد الماركسية اتصال التاريخ الفلسفي الذي يعد في رأيها انعكاسا لعلاقات الإنتاج على صفحة الوعي الإنساني، والذي يعود بدوره فيؤثر في هذه العلاقات تأثيرا تبادليا؛ فالمسار الجدلي الذي يمر به تطور العلاقات العينية بين طبقات المجتمع، هو نفسه المسار الذي تعبر به الفلسفة - نظريا - عن هذه العلاقات، ومع ذلك فإن الرأي الماركسي وإن كان يؤكد من الناحية النظرية أن لكل فلسفة موقعا معينا داخل التطور العام للعلاقات البشرية، فإنه يقتضي معرفة كاملة بكل جوانب هذه العلاقات من أجل إصدار الحكم الصحيح على كل فلسفة بعينها، وتحديد موقعها بدقة داخل المسار الديالكتيكي للتاريخ البشري، ومثل هذه المعرفة الكاملة تكاد تكون مستحيلة في معظم الأحيان، ومن هنا كان التضارب في تفسير المذهب الفلسفي الواحد ظاهرة لا يمكن أن توصف بأنها غير مألوفة بين الشراح الماركسيين؛ فكثيرا ما يحدث أن يؤدي استخدام نفس المنهج - بالنسبة إلى نفس المذهب الفلسفي - إلى تفسيرين متناقضين عند اثنين يصف أحدهما هذا المذهب بأنه تقدمي، والآخر يصفه بأنه رجعي، أو خليط من هذا وذاك، وربما لم يكن ذلك راجعا إلى قصور في منهج التفسير نفسه، بقدر ما يرجع إلى أن هذا المنهج يفترض - قبل الشروع في تطبيقه - معرفة وافية بكل جوانب الإطار الاقتصادي والاجتماعي الذي يظهر المذهب في داخله، وهي معرفة كثيرا ما يكون الوصول إليها أمرا عسيرا، فيكتفي الشارح بجزء غير واف منها، ويقدم بذلك للمذهب الفلسفي تفسيرا لا يدعمه أساس كاف من المعلومات.
وعلى أية حال، فإن الرأي الماركسي القائل بوجود نوع من الاتصال في التاريخ الفلسفي، يقدم إلينا الجانب الآخر من العملة الذي كان يفتقر إليه الرأي الهيجلي، وأعني به الربط بين الفلسفة وبين سائر أوجه الحياة العينية للإنسانية، فكما أن هيجل أكد ضرورة الربط بين الفلسفة وبين جوانب الحياة الروحية في كل العصور، فإن الماركسيين ينبهون - من زاويتهم الخاصة - إلى أن الفلسفة لا تفهم إلا داخل الإطار الشامل لحياة الإنسان المادية العينية.
وسواء أكان القارئ ممن يفضلون هذا الرأي أو ذاك، فالأمر المؤكد هو أن الاتجاه الحديث يميل على وجه العموم إلى رفض النظرة القائلة إن الفلسفة تتطور بقواها الذاتية الخاصة؛ فهي لا يمكن أن تكون ظاهرة منعزلة، وإنما هي تعكس وتلخص المجرى العام لحياة الناس وتفكيرهم في أي عصر من العصور، وبذلك ينبغي أن تسري عليها القوانين العامة التي تتحكم في تطور هذه الحياة، وإن تكن علاقتها بالمظاهر الأخرى للحضارة تبلغ من التعقيد حدا لا يكون من السهل معه - في كثير من الأحيان - إدراك ارتباطها بهذه المظاهر على نحو مباشر، برغم علمنا بأن هذا الارتباط موجود على الدوام.
اليمين واليسار في الفلسفة1
في كثير من اللغات يعبر التقابل بين اليمين واليسار عن معان تكشف بوضوح عن موقع هذين اللفظين من القيم الشعبية السائدة؛ ففي الإنجليزية والفرنسية يعبر لفظ «اليمين»
droite-right
عن معنى الصواب والاستقامة، كما تشتق من اللفظ نفسه صفات تدل على البراعة والمهارة
adroit ، على حين أن لفظ «اليسار»
gauche
يدل في الفرنسية أيضا على التشويه والانحراف وسوء التصرف، وفي اللاتينية يعبر لفظ «اليمين»
dexter
عن حسن الطالع، على حين أن «اليسار»
sinister
يدل على التشاؤم وسوء الحظ (واللفظ الأخير له في الإنجليزية والفرنسية نفس المعنى، على حين أن الأول يدل فيهما على البراعة والإتقان). أما لغتنا العربية فهي حافلة بالأمثلة التي تؤكد ارتباط «اليمين» بالاستقامة والصلاح والنجاح، و«اليسار» بالانحراف والخسران، وإذن فالتراث الشعبي - كما يتمثل في اللغة - يربط بوضوح بين لفظ «اليمين» وبين قيم مرغوب فيها، على حين أن «اليسار» يعبر عن قيم شاذة منحرفة لا يقرها المجتمع.
ويبدو أن الأمور ظلت تسير على هذا النحو إلى أن وقع - في أواخر القرن الثامن عشر - حادث تاريخي مشهور كان له أثره في ظهور المعنى الحديث لليمين واليسار؛ ففي آخر اجتماع ل «مجلس الطوائف
Etats généraux » الفرنسي قبل الثورة الفرنسية مباشرة أصر نواب «الطائفة الثالثة»
tiers-état
على أن يجتمع ممثلو الشعب كلهم ويقترعوا سويا، بدلا من أن تقترع كل طائفة على حدة، وانتقل نواب هذه الطائفة إلى يسار رئيس المجلس، تعبيرا عن معارضتهم للملك.
ومنذ ذلك الحين أصبح لليسار معنى جديد، معنى معارضة الأوضاع القديمة السائدة، والسعي إلى تغيير ظروف الحياة في سبيل تحقيق مزيد من التقدم للمجتمع.
ولقد أردت بهذا التمهيد اللغوي والتاريخي أن أوضح كيف تغير معنى اليسار في ضمير الإنسان من التعبير عن الانحراف المرذول إلى التعبير عن الرغبة الثورية في تغيير الأوضاع، وكيف أن اليمين الذي كان «مستقيما وصحيحا»، وقد أصبح في ذهن الإنسان الحديث يعني الجمود والتخلف والاتجاه إلى المحافظة على أوضاع عتيقة، ولهذا التحول - دون شك - دلالة فكرية واضحة؛ فالمحافظة على القديم ظلت تعد «صوابا واستقامة» حتى جاءت فترة حاسمة في تاريخ الإنسان، مارست فيها إرادة التغيير نفسها في شكل ثورة كبرى أطاحت بعروش وطبقات اجتماعية ونظم كاملة في القيم، ومنذ ذلك الحين أصبح «اليسار» مبشرا بالتقدم ومتطلعا إليه، أما اليمين فهو دائما محافظ على ما هو قائم من الأوضاع. •••
وفي وسعنا أن نستخلص من التمهيد السابق نتيجة هامة، هي أن المعنى الحديث للتقابل بين اليمين واليسار قد استمد أصلا من مجال السياسة، وارتبط منذ البداية بفكرة الصراع بين الطبقات، ويمكن القول إن هذا الأصل قد طبع هذا التقابل بطابعه الخاص حتى اليوم، وإن هناك نغمة سياسية - مباشرة أو غير مباشرة - من وراء كل مقارنة بين اليمين واليسار في أي مجال من المجالات.
ومعنى ذلك أن موضوع اليمين واليسار في الفلسفة يمس نقطة الاتصال بين الفلسفة والسياسة؛ فالفلسفة اليمينية هي التي تؤدي آخر الأمر إلى دعم القوى المحافظة في المجتمع، على حين أن الفلسفة اليسارية تتحدث بلسان القوى الثورية فيه.
وعلى الرغم من أن تعبير «الفلسفة اليمينية أو اليسارية» لم يستخدم على نطاق واسع إلا في الآونة الأخيرة، فإن الفلسفة قد عرفت منذ عهد بعيد مواقف يمكن أن ينطبق عليها هذا التعبير، مع شيء من التجاوز بطبيعة الحال؛ ذلك لأن تاريخ الفلسفة كان يشهد من آن لآخر تيارات مضادة يمكن أن يوصف موقفها من الاتجاهات السائدة بأنه موقف يساري؛ فمنذ أقدم العهود كانت فلسفة هرقليطس - في دعوتها إلى التغير الدائم - تتخذ موقفا يمكن أن يسمى يساريا بالقياس إلى فلسفات تؤكد فكرة الثبات كفلسفة بارمنيدس ومدرسته، كذلك كانت المذاهب المادية القديمة عند ديمقريطس - ومن بعده أبيقور ولوكريتيوس - تقف في تاريخ الفلسفة إلى يسار ذلك التيار الروحي الذي سيطر على جزء كبير من تاريخ الفلسفة اليونانية، ابتداء من فيثاغورس إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبالمثل نجد في بداية العصر الحديث اتجاهات فلسفية يمكن أن توصف بأنها «يسارية» إذا ما قورنت بالأوضاع الفكرية «اليمينية» السائدة بين المفكرين اللاهوتيين في ذلك الحين، وإلا فكيف نصف المعارضة التي وجهها إلى التفكير التقليدي الموروث فلاسفة مثل بيكن في حملته الشديدة على سلطة أرسطو والفلسفة المدرسية بأسرها، أو مثل ديكارت في تأكيده أن «العقل السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس» أو اسبينوزا في تمجيده للعقل على حساب الوحي والإيمان؟ تلك كلها كانت - بالنسبة إلى الجو الفكري السائد في القرن السابع عشر - اتجاهات «يسارية» دون شك، حتى قبل أن يعرف التقابل الحديث بين التفكير اليميني والتفكير اليساري.
على أن قضية اليمين واليسار في الفلسفة لم تطرح بكل أبعادها إلا منذ القرن التاسع عشر، وربما أمكن القول إن معالمها لم تتضح كل الوضوح إلا في القرن العشرين، ولم تكن تطورات الفلسفة ذاتها - من حيث هي مبحث فكري قائم بذاته - هي التي أدت إلى ظهور هذه القضية، بل إن تطورات الأحداث السياسية والاجتماعية هي التي جرفت معها الفلسفة وفرضت عليها أن تواجه مشكلة اليمين واليسار بكل حدتها.
فما هي إذن عناصر هذه القضية؟ وما موقف طرفيها من كل هذه العناصر؟ لا شك أن الإجابة المفصلة عن هذا السؤال تقتضي عرضا شاملا لتيارات الفكر المعاصر؛ إذ إن هذه التيارات كلها قد تأثرت - بطريق مباشر أو غير مباشر - بالتقابل بين اليمين واليسار، ولكن هذا المقال لن يتسع بطبيعة الحال إلا لعرض موجز لأهم العناصر التي يظهر من خلالها التقابل بين اليمين واليسار في الفكر الفلسفي بأكبر قدر من الوضوح، ولا بد لنا أن ننبه - منذ البداية - إلى أنه ليس من الضروري أن تتوافر هذه العناصر كلها في فلسفة معينة لكي توصف بأنها يمينية مثلا، بل يكفي أن يتوافر منها البعض لكي ينطبق عليها هذا الوصف. (1)
أول هذه العناصر يمثل نتيجة مباشرة تترتب على ارتباط الفلسفة اليسارية بفكرة الثورة وتغيير الأوضاع.
فلكي يتغير أي وضع - سواء أكان سياسيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا - فلا بد أن تكون جميع عناصر هذا الوضع مفهومة ومعقولة، ولا بد أن تكون قابلة للبحث والتحليل، وبعبارة أخرى فإن الثورة والتغيير تغدو مستحيلة لو ظل هناك أي عنصر غامض أو غير قابل بطبيعته للفهم، ومن هنا كانت الفلسفات ذات الاتجاه اليساري تميل إلى تأكيد فكرة المعقولية، وتحرص على تأكيد سيطرة الذهن على الطبيعة، وتنظر إلى العالم بكل مجالاته على أنه يخضع - أو يمكن نظريا أن يخضع - لقوانين منتظمة يستطيع العقل البشري أن يكشفها.
هذا الحرص على المعقولية هو الذي أدى بالفلسفة اليسارية إلى أن تتخذ في كثير من الأحيان موقفا ماديا؛ ذلك لأن الدفاع عن المادية كان طوال تاريخ الفلسفة مرتبطا بالرغبة في تأكيد قدرة العقل على فهم العالم، وعدم وجود أي مجال يعلو بطبيعته على سلطة الذهن البشري.
ولسنا نود أن نبحث الآن في مدى صواب هذه الفكرة أو خطئها، ولكن ما يعنينا هنا هو أن تاريخ الفلسفة كان يشهد - من آن لآخر - مذاهب يؤكد أصحابها أن العقل لا يكون مطلق السلطة في العالم إلا في ظل فهم مادي للظواهر، وأن النظرة المثالية إلى الأمور كفيلة بأن تحجب مجالات كثيرة عن سيطرة العقل، وتحد من قدرته على فهم العالم.
وهنا تظهر لنا صفة هامة من صفات التقابل بين المثالية والمادية، وهو التقابل الذي يعبر في كثير من الأحيان عن موقف اليمين واليسار في الفلسفة؛ فهذا التقابل لا يرجع إلى أسباب فلسفية خالصة بقدر ما يرجع إلى أسباب عملية، وإذا كان اليساريون في الفلسفة يحملون على المثالية، فليس ذلك راجعا إلى أنها لا تقنعهم بوصفها مذهبا فلسفيا، بقدر ما هو راجع إلى أنها في نظرهم طريقة في تفسير العالم تترك جوانب كثيرة منه بمنأى عن قدرة الإنسان في تغيير الأحداث والتحكم في مجراها؛ فحين يكون العالم «فكرة»، وحين يكون الجانب المادي من حياة الإنسان ضئيل الأهمية بالقياس إلى جوانبها الروحية، يكون معنى ذلك - في نظر أنصار الفكر اليساري - أن الفلسفة ستهمل شأن العوامل العينية الملموسة في حياة المجتمع، ولا سيما الاقتصادية منها، وحين يسود الاعتقاد بأن تجربة العقل البشري قاصرة محدودة، وبأن هناك قوى حدسية أو صوفية أقدر من العقل على إدراك «ماهية العالم»، يكون معنى ذلك - من الوجهة العملية - تقييد إرادة التغيير في الإنسان، والحد من قدرته على التحكم في مجرى الحوادث، وبعبارة أخرى فليس اليساريون - في نقدهم للاتجاهات المثالية والصوفية والحدسية - بأقل حرصا على الجوانب «الروحية» في حياة الإنسان من اليمينيين، وكل ما في الأمر أنهم يحرصون على أن تكون لهم فلسفة تقدم للعالم أوضح الصور وأكثرها معقولية، وبالتالي تتيح أكبر مجال لفاعلية الإنسان وقدرته على التغيير. (2)
ومن أهم الصفات المميزة للفلسفات التي يمكن أن يطلق عليها اسم «اليمينية»، أنها تبحث في مشكلات لا تتقيد بزمان معين أو مكان معين؛ فموضوعات بحثها «أزلية»، ومعيار الصدق عندها هو الثبات والعلو على عوامل التغير.
ومن جهة أخرى فإن الفلسفة اليسارية تؤكد فكرة التغير والحركة، وتحرص على ربط كل ظاهرة بسياق زماني أو مكاني محدد، ولا شك أن التضاد بين هذين الاتجاهين الفلسفيين - في هذا الصدد - واضح كل الوضوح؛ إذ إن هناك تيارا فلسفيا كاملا ما زال متأثرا - ولو بطريق غير مباشر - بالتراث الأفلاطوني الذي ينظر إلى الحركة على أنها نقص، ويعد التغير مظهرا من مظاهر البطلان، وفي مقابل ذلك نجد أن هناك فلسفات كاملة - في الجانب اليساري - تركز جهودها في بحث قوانين حركة التاريخ وتطوره، أي إن غايتها هي دراسة قوانين نفس الظاهرة التي تعدها الفلسفة التقليدية تعبيرا عن النقص أو البطلان.
ومن المؤكد أن لفكرة الأزلية إغراء خاصا للفيلسوف، الذي يعتقد أن من أعظم مظاهر الحكمة أن يبحث العقل مشكلات لها صفة الدوام والبقاء لا مشكلات متغيرة، ويظن أن ما يستحق التفكير فيه بحق هو الأمور التي تفرض نفسها على كل عقل بشري أيا كان مكانه أو زمانه؛ ففكرة أزلية المشكلات الفلسفية وثباتها هي إذن فكرة ترضي إلى أبعد حد كبرياء الفيلسوف وتقنعه بخطورة رسالته في الحياة، ومع ذلك فإن تلك الفئة الأخرى من المفكرين الذين يدرجون ضمن أصحاب الفلسفات اليسارية، ينظرون إلى هذا الأمر من زاوية أخرى؛ ففكرة الأزلية لم تقحم في مجال الفلسفة - في رأيهم - لأغراض نظرية بحتة، وإنما كان الغرض من إقحامها عمليا في نهاية الأمر؛ إذ إن تأكيد الأزلية يعني تثبيت القيم الموجودة بالادعاء بأنها جزء من النظام الثابت للكون، وبذلك تكون مهمة الفلسفة اليمينية - دون أن تشعر - هي أن تبرر المظالم الموجودة وتقطع على الناس طريق التفكير في تغييرها. (3)
على أنه إذا كانت المشكلات الفلسفية أزلية ثابتة بطبيعتها، فإن حلولها - في نظر الفلسفات اليمينية - كثيرة متعددة؛ فالمشكلة واحدة على مر العصور، ولكن كل مذهب وكل فيلسوف يأتي لهذه المشكلة الواحدة بحل مختلف، ومن هنا كان تعدد المذاهب وكثرتها أمرا طبيعيا في الفلسفة التقليدية، بل لقد أصبح هذا التعدد أمرا مسلما به، يقبل دون مناقشة، كما لو كان جزءا من ماهية الفلسفة ذاتها؛ فالفلسفة - تبعا لهذه النظرة التقليدية - مبحث يظل يعالج نفس المشكلات - أو مشكلات متقاربة - إلى ما لا نهاية، وهي بطبيعتها مبحث لا يتوقف عند حد، ولا يصل إلى حلول، وإنما هو سعي متواصل وراء غاية لا تبلغ، وربما كان في نظر البعض سعيا بلا غاية، ومن هنا كانت الفلسفة التقليدية - أعني الفلسفة التي توصف بأنها «يمينية» - تتبدى على صورة زاخرة ثرية إلى أبعد حدود الثراء؛ ففيها مئات المذاهب والتيارات الرئيسية والفرعية، وهي لا تكف أبدا عن التنوع والتشعب، بحيث تبدو دائمة التجدد، وتظهر لها على الدوام صورة مغايرة لصورها المألوفة.
وفي مقابل ذلك، يرى أنصار الاتجاهات اليسارية في الفكر الفلسفي أن هذه الكثرة في المذاهب والتيارات الفلسفية، وإن كانت ترضي الذهن لأول وهلة، فإنها تبدو للعقل الفاحص علامة ضعف لا قوة؛ ذلك لأن الفلسفات التقليدية لا تتعدد إلا لأن قوامها فكر خالص يتعامل مع نفسه فقط، وحين يقتصر الفكر على التعامل مع نفسه، ولا يرتبط بواقع يضبطه، أو بحقيقة عينية تكبح جماحه، فعندئذ تصبح كثرة المذاهب وتعدد وجهات النظر أمرا طبيعيا، إن الفكر المنطلق بلا قيود لا بد أن تتشعب مسالكه؛ إذ لا يوجد شيء يقف في وجهه، ويمنعه من أن يسلك أي طريق يشاء، ولكن لنفرض أننا قيدنا هذا الفكر إلى الأرض، وأرغمناه على مواجهة مشكلات ملموسة، وعلى أن يجد لهذه المشكلات حلا قابلا لأن يختبر في الواقع العملي، فهل سيظل هذا الفكر محتفظا بتعدد اتجاهاته؟ من الطبيعي أن التصاق الفكر بالواقع وتقيده به لا بد أن يؤدي إلى القضاء على هذا التعدد؛ إذ يختبر الفكر ذاته من خلال الواقع، ويظل يستبعد أخطاءه واحدا بعد الآخر حتى يستقر على اتجاه واحد لا يحيد عنه إلا في أضيق الحدود.
والواقع أن مسألة كثرة المذاهب وتعددها كانت منذ البداية «لعبة» مسلما بها في الفلسفة، وكان على المشتغلين في هذا الميدان - منذ أقدم عهوده - أن يسلموا مقدما بقواعد هذه اللعبة ويقبلوها على ما هي عليه، وأن يمارسوها بدورهم عن طريق إضافة الجديد من المذاهب، أو تنويع وتفريع القديم منها، ولكن ماذا لو اعترض المرء على قواعد اللعبة ذاتها، وأكد أن الفلسفة ينبغي ألا تتعدد مذاهبها، وأنها يجب أن تستقر آخر الأمر على اتجاه واحد، أو على منهج واحد على الأقل؟ تلك وجهة نظر موجودة بصورة ضمنية في الفلسفة اليسارية؛ فتعدد المذاهب - في نظر أصحاب هذه الفلسفة - ترف لا معنى له، وهو إذا دل على شيء فإنما يدل على أن الفلسفة التقليدية ستظل تبني قصورا في الهواء إلى ما لا نهاية، وأن الفكر - إذ يبتعد عن الواقع وعن المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في العالم المحيط به - لن يجد ما يحد من انطلاقه في أي اتجاه يحلو له أن يسير فيه، أما إذا قيد الفكر نفسه بمشكلات حقيقية ملموسة، فسوف يختفي هذا التعدد تلقائيا، ولن تعود هناك سوى فلسفة واحدة، هي تلك التي تصلح منهجا لاستطلاع آفاق عالمنا الحقيقي. (4)
ولكن ما هي النتيجة التي تترتب على تعدد المذاهب في الفلسفة اليمينية التقليدية؟
لقد استطاعت هذه الفلسفة أن تبني لنفسها تراثا ضخما يرجع إلى أكثر من ألفي عام، وظل هذا التراث يتراكم ويزداد تشعبا وتنوعا على الدوام، وكل جديد يظهر في هذه الفلسفة في عالم اليوم، يضاف إلى ذخيرة هائلة من المشكلات والحلول والآراء، ظل الفكر الفلسفي محتفظا بها على مر القرون، وخلال هذا التاريخ الطويل كان الفكر الفلسفي التقليدي يزداد دقة وعمقا بالتدريج، حتى أصبح له أسلوبه الشديد التعقيد، ومصطلحه العظيم الدقة، وتميز بقدرة فائقة على التجريد والتحليل العميق؛ فليس في وسع أحد أن ينكر أن الفلسفة التقليدية قد أفلحت في تكوين جهاز فريد من نوعه من المصلحات والتعبيرات التي تزداد عمقا على الدوام، وما زالت حتى اليوم تزيد هذا الجهاز المحكم دقة وإحكاما.
على أن الفلسفة اليسارية لا تتمتع بميزة كهذه على الإطلاق؛ فهي فلسفة لا تراث لها، «مقطوعة من شجرة» على حد التعبير الشائع، ومن هنا كانت تفتقر إلى القدرة على تقديم المصطلحات الدقيقة وتنويع الحجج العميقة واستخدم أسلوب مرهف حساس لأقل فرق في وزن معاني الألفاظ.
وعلى حين أن الفلسفة اليمينية التقليدية قادرة على النمو والتشعب - في اتجاه العمق - إلى ما لا نهاية، فإن الفلسفة اليسارية محكوم عليها بألا تتحرك في هذا الاتجاه إلا في أضيق الحدود، وأن نظرة واحدة يلقيها المرء إلى كتاب مثل «الوجود والزمان» لهيدجر أو «نقد العقل الديالكتيكي» لسارتر (والكتاب الأخير يميني الشكل وإن كان يساري المضمون، أي إن طريقة مؤلفه في كتابته تنتمي إلى صميم التراث التقليدي اليميني، ولم يكتسبها سارتر إلا بفضل جذور هذا التراث في أسلوبه)، لكفيلة بإيضاح مقدار التعقد الهائل الذي اكتسبه الجهاز اللفظي للفلسفة التقليدية بعد كل ما مر به من التطورات، وهو تعقد لا نجد له أي نظير في الكتابات اليسارية ، بما تتسم به من بساطة شديدة تصل إلى حد السطحية أحيانا.
ومع ذلك فالمسألة في نظر اليساريين ليست مسألة عمق وسطحية، أو تعقد وبساطة فحسب، بل إن هناك عوامل أخرى ينبغي أن يحسب حسابها في المقارنة بين هذين الاتجاهين؛ فالعمق الفكري الذي تتبدى عليه الفلسفات اليمينية، والقدرة المعجزة على استخدام الألفاظ والتصورات والحجج، وعلى التوغل المذهل في التجريد؛ كل ذلك إنما يرجع إلى أن هذه الفلسفة تكون لنفسها عالما قائما بذاته، ظلت تعيش فيه آلاف السنين، فعرفت كل دروبه ومسالكه الخفية، ولكنها لم تعرف مع كل ذلك كيف تخرج من سجن التجريد الذي حبست نفسها فيه؛ فموقف الفيلسوف التقليدي - في هذا الصدد - إنما هو امتداد لموقف «الساحر»، الذي يظن أن كلماته وتعاويذه ستغير الأشياء، مع أن هذه الكلمات والتعاويذ محصورة في عالمها الخاص، ولن يتسنى لها أن تخرج عنه مهما أطال الساحر ترديدها وتكرارها، أما الفلسفة اليسارية فهي في رأي أصحابها تقف من الألفاظ موقف «العالم» الذي لا يستخدم الكلمات إلا لأنها تتصل بالوقائع وتستمد منها وتلخصها، وبالتالي تقدر على التأثير فيها، وقد تكون حصيلته من الألفاظ والتعبيرات - نتيجة لذلك - أضيق نطاقا بكثير، ولكن ذلك إنما يرجع إلى استبعاده للمشكلات الوهمية وللتعبيرات التي ترمي فقط إلى إظهار قدرة العقل على التجريد، واقتصاره في استخدامه للغة على ما يتصل منها بالواقع ويسهم في عملية تغييره. (5)
ولعل أهم الصفات التي تفرق بين مفهوم الفلسفة اليميني التقليدي ومفهومها اليساري الثوري، هو أنها في الحالة الأولى مبحث ذو كيان مستقل، على حين أنها في الحالة الثانية مبحث مندمج في مجالات أكثر واقعية وعينية من المجال الفلسفي التقليدي، وتلك صفة تؤدي إليها المقارنات السابقة كلها، سواء منها ما تعلق بمسألة الأزلية أو التغير، وبمسألة كثرة المذاهب أو وحدتها، وبمسألة تعقد الأسلوب الفلسفي أو بساطته؛ فالفلاسفة التقليديون ينظرون إلى الفلسفة كما لو كانت بناء قائما بذاته، مستقلا عن غيره، وهي في رأيهم مبحث نظري بحت، لا يحتاج إلى الارتباط بأي مجال عملي، بل إن المسائل العملية - كأبحاث الأخلاق والسياسة - إذا كان لها مجال في مذاهبهم الفلسفية فإنما يكون ذلك بوصفها نتائج ضرورية للمقدمات النظرية التي تنطوي عليها تلك المذاهب، وبعبارة أخرى فمدار البحث في الفلسفة التقليدية هو المسائل النظرية، التي تكون بناء متكاملا مكتفيا بذاته، يستطيع إذا شاء أن يستقل عن كل ما عداه.
أما الفلسفة اليسارية فلا تعترف إلا بالمسائل التي تربط الفكر بالمشكلات الفعلية للمجتمع والناس؛ فالمسائل الميتافيزيقية المجردة - كالبحث في الوجود الخالص أو المقولات الشاملة - ليس لها مكان في مثل هذه الفلسفة، وإنما يدور البحث فيها حول مسائل كقوانين التطور التاريخي أو الطبيعي، وقد يزداد تغلغلا في المجال العيني فيتناول مسائل تدخل في مجال علم الاقتصاد السياسي أو علم الاجتماع، ولا شك أن هذا يؤدي إلى تضييق واضح لمجال الفلسفة؛ إذ تقتصر في هذه الحالة على المسائل التي تمس الجوانب العملية مساسا مباشرا، وتستبعد منها كثيرا من المشكلات التي كانت - ولا تزال - تكون جزءا لا يتجزأ من «بضاعة» الفيلسوف التقليدي.
ومع ذلك، ففي مقابل تضييق نطاق الفلسفة على هذا النحو، نجد أنها تشارك - عند أصحاب الاتجاهات اليسارية - في صنع التاريخ وفي تغيير أحوال المجتمع، أي إنها تنتقل من حالة التفكير النظري البحت إلى حالة التطبيق العملي الفعلي، وتضع لنفسها أهدافا تسعى إلى تحقيقها بالفعل، ولا تكتفي بتأملها من بعيد فحسب.
والواقع أن الثورة على الطابع النظري الجاف للتفكير الفلسفي التقليدي لم تقتصر على الأوساط اليسارية المعروفة فحسب، بل لقد شاركت فيها مصادر بعضها - من الوجهة السياسية - يميني النزعة إلى أبعد حد، وبعضها يقف بمعزل عن اليمين واليسار؛ لأن فلسفته لا تزعم أنها تتخذ هذا الموقف السياسي أو ذاك، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد تلك الحملة القاسية التي وجهها الفيلسوف الألماني «نيتشه» إلى الفيلسوف التجريدي الخالص بوصفه نمطا مشوها من البشر، وكذلك المحاولات العديدة التي تبذلها مذاهب كالبرجماتية والوضعية القديمة والحديثة، لاستبعاد المشكلات الميتافيزيقية الخالصة من مجال الفلسفة، وهكذا تمتد الثورة على الطابع النظري المفرط للفلسفة حتى تشمل أوساطا خارجة عن «اليسار» بمعناه المألوف، تتفق معه في الجانب السلبي من نظرته إلى الفلسفة، أعني في الحملة على إغراق الفلسفة التقليدية في التجريد.
بل إن البعض ليذهب في الثورة على هذه الأوضاع إلى حد القول بأن في الفلسفة التقليدية شيئا ينتمي إلى باب الظواهر المريضة أو المعتلة؛ فهذه الفلسفة تدرس المعرفة - مثلا - على أنها «مشكلة»، لا على أنها «أمر واقع»، وبذلك تضيع جهودها في دراسة المشكلة ومحاولة الإتيان بحل لها، بدلا من أن تكرس هذه الجهود لتنمية المعرفة وتوسيعها بعد أن تسلم مقدما بوجودها، وهي تدرس الأخلاق على أنها مشكلة نظرية بدورها، فيحاول كل مذهب أن يأتي بقاعدة عقلية للسلوك، ولكن دون أن تفلح مذاهب الأخلاق النظرية كلها - منذ نشأتها إلى اليوم - في تغيير السلوك الفعلي للناس أو التأثير فيه على أي نحو، على حين أن أكثر الناس تأثيرا في سلوك البشر هم أبعدهم عن الادعاء بأنهم أصحاب مذاهب «أخلاقية» فلسفية، وأقلهم كلاما عن قواعد السلوك، وهي تدرس المناهج العلمية بعد أن تكون هذه المناهج قد وضعت، وربما بعد أن يتجاوزها العلم ذاته ويتخطاها، وبذلك لا تؤدي دراستها لها إلى تقدم العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وما هذه إلا أمثلة قليلة تدل على أن الفلسفة - في طابعها النظري التقليدي - يمكن أن تدرس بوصفها استخداما «مرضيا» للعقل البشري، يتخذ فيه التجريد غاية في ذاتها، دون محاولة لتبيان مدى صلاحية هذه التجريدات للانطباق على الواقع والحياة.
ولو شئنا أن نعبر عن هذه الصفة بلغة هيجلية، لقلنا إن التفكير الفلسفي يمثل نوعا من «الاغتراب»، وإن الفيلسوف النظري إنسان مغترب؛ لأنه يمارس نشاطا ناقصا مشوها مقتلعا من جذوره، وإن حياة التأمل الفلسفي - تلك الحياة التي رأى فيها أرسطو أكمل غاية يستطيع أن يحققها الإنسان - إنما هي حياة غير طبيعية، مقتطعة من سياقها.
فالفيلسوف النظري يتخذ موقفا غير مكتمل العناصر، ويحيا بأفكاره وفي أفكاره ولأفكاره، ناسيا أن حوله عالما كاملا يدعوه إلى تطبيق هذه الأفكار عليه، وإلى تجاوز حالة «الاغتراب» التي يعيش فيها بأن يكون إنسانا متكاملا لا إنسانا «نظريا» فحسب، ولن يكون هذا التجاوز إلا بإعادة الفلسفة إلى سياقها الطبيعي الذي تكون فيه أداة لحل المشكلات الفعلية للإنسان والمجتمع.
مصير الفلسفة بين اليمين واليسار
والآن - وبعد أن رسمنا تلك الصورة المجملة للعناصر الرئيسية في التقابل بين الطريقة اليمينية والطريقة اليسارية في التفكير الفلسفي - فما زالت أمامنا مسألة على أعظم جانب من الأهمية، هي أن نحاول استخلاص ما يترتب على هذا التقابل من نتائج بالنسبة إلى مصير الفلسفة في المستقبل.
والأمر الذي يبدو بكل وضوح هو أن الفلسفة تقف اليوم في مفترق للطرق، يتعين عليها فيه أن تقوم بعملية اختيار حاسمة، فإذا شاءت أن تحتفظ بكيانها المستقل، فعليها أن تتمسك بوجهة النظر اليمينية التقليدية.
ذلك أن الكثيرين يعتقدون أن قضية الفلسفة مرتبطة باليمين ارتباطا وثيقا، وأن مصيرها متوقف عليه؛ ففي اليمين - كما رأينا من قبل - نجد المذاهب المتشعبة المتعددة، ونجد ازدهارا حقيقيا للفكر الفلسفي، وتنوعا غنيا لكل جوانبه، وفي المذاهب اليمينية تبلغ اللغة الفلسفية أقصى درجات الدقة، وتصل إلى أعماق تعجز قطعا عن بلوغها في أي مذهب يساري، وعند الفلاسفة اليمينيين وحدهم يكون للفلسفة كيانها المستقل، بحيث يبدو بحق أن استمرار الفلسفة - بوصفها مبحثا قائما بذاته - متوقف على استمرار الطريقة اليمينية التقليدية في التفلسف.
ومع ذلك، فالفلسفة اليمينية لا تحقق شيئا، ولا ترتبط بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها الجموع الكبيرة من البشر في حياتها الفعلية، ولا تسهم بأي دور في تحقيق رغبة الإنسان الدائمة في تغيير المجتمع المحيط به، والثورة على أي وضع ظالم يجد نفسه فيه.
ومن المؤكد أن المذاهب اليسارية هي وحدها التي تتصدى لتحقيق هذه الغاية، وتأخذ على عاتقها مهمة استخدام الفلسفة أداة تساعد الإنسان على فهم السياق التاريخي والاجتماعي الذي يعيش فيه، وبالتالي على تغيير أوضاع حياته وتحقيق المزيد من التقدم فيها.
ولكن هذه الفلسفة اليسارية - من جهة أخرى - تبدو منتهية إلى طريق مسدود، فلنفرض أننا وصلنا بالفعل إلى منهج مستقر تستعين به الفلسفة على فهم مشكلات الإنسان فهما حقيقيا، وتقضي به على تعدد وجهات النظر الذي ظل ملازما لها منذ البداية، فما الذي يمكن أن يحدث في مجال الفلسفة بعد ذلك؟ سيتوقف سير الفلسفة، ولن يكون أمامها بعد ذلك شيء تفعله سوى أن نطبق منهجها على مجالات أخرى غير مجالها الأصلي، فيؤدي بها ذلك إلى أن تذوب وتنصهر في هذه المجالات، وأقصى ما يمكنها أن تفعله - لكي تحتفظ بشيء من دماء الحياة - هو أن تدرس تاريخها السابق، وتتحول إلى «تاريخ لتطور الفكر البشري»، ولكن مثل هذه الدراسة التاريخية لن تكون بطبيعة الحال «فلسفة» قائمة بذاتها.
هذا إذن هو المصير الذي يبدو أنه ينتظر الفلسفة في عصرنا هذا؛ فهي إذا شاءت أن تظل مزدهرة منتعشة بين المذاهب اليمينية، كان عليها أن تدفع لذلك ثمنا غاليا، هو أن تظل على هامش الحياة الفعلية للناس، أي تظل نشاطا تجريديا صرفا، يعجز عن الفعل ولا يقبل التحقيق أو التطبيق، وهي إذا اختارت أن تعمل شيئا، أي أن تحقق ذاتها وتخوض مشكلات الإنسان الفعلية، وتسهم بدور حقيقي في حياة الناس - كما يريد أصحاب الاتجاه اليساري - فإنها ستقضي على كيانها المستقل، وستندمج وتذوب في عشرات من الدراسات الأخرى، ولا تعود مبحثا قائما بذاته، وبعبارة أخرى فإن على الفلسفة أن تختار بين أحد أمرين: إما أن تحتفظ بكيانها الخاص، وتظل عاجزة عن التأثير في الواقع أو القيام بدور في تغييره، وإما أن تحقق ذاتها في الواقع، وتقضي على ذاتها بالاندماج في الكل الأشمل الذي يمثل هذا الواقع.
فهل كتب على الفلسفة إذن ألا تظل حية إلا بوصفها مشروعا فكريا لا يتحقق، على حين أنها لو انتقلت إلى مجال الفعل لما ظلت قائمة بوصفها «فلسفة»؟ وهل يتعين عليها أن تعيش بوصفها «حالة اغتراب»، بينما لو تكاملت مع بقية عناصر الإنسان والمجتمع، وقضت على هذا الاغتراب لقضت في الوقت نفسه على ذاتها؟ أليس لها مفر من الاختيار بين حياة عقيمة وبين موت مثمر؟
هكذا - بالفعل - يبدو وضع الفلسفة الآن بين اليمين واليسار، والصورة كما نرى قاتمة، ولكنها في اعتقادي هي الأقرب إلى الحقيقة، ولكم وددت لو استطعت أن أختم هذا المقال بكلمة تفاؤل، فأقول إن الفلسفة سوف تتمكن يوما ما من الجمع بين فاعلية اليسار وإيجابياته وبين عمق اليمين وتنوعه، ولكني لا أملك إلا أن أقول إن هذا الجمع لو كان سيتحقق في وقت ما، فإن بوادره لم تظهر بعد حتى اللحظة الراهنة من تاريخ العالم على الأقل.
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
إذا كانت «الشخصية» هي مجموع الصفات التي يعرف بها الفرد ويتميز بها عن غيره من الأفراد، فإن «الفلسفة» هي مجموع الخصائص التي تتميز بها الأمة وتحدد معالمها الخاصة وسط الأمم الأخرى، وبهذا المعنى يمكننا أن نصف الفلسفة بأنها «شخصية الأمة» وركن أساسي من أركان قوميتها.
ففي كل فلسفة إذن عنصر قومي لا يمكن إنكاره، ولكن فيها أيضا عنصرا عالميا، يخاطب الإنسان بما هو إنسان، لا من حيث هو فرد في هذه الأمة أو تلك، ومن هنا كان من الطبيعي أن يثور الجدال حول العلاقة بين هذين العنصرين، وأن تشتد الخلافات بين أنصار القومية وأنصار العالمية في مجال الفلسفة، مثلما اشتدت في مجالات أخرى متعددة، ولسنا نود في هذا المقال أن نضيف وقودا جديدا إلى هذه الخلافات المستعرة، وإنما نود أن نسهم في إلقاء بعض الضوء على هذه المشكلة، عن طريق تحديد بعض المفاهيم الرئيسية المستخدمة فيها، وتحليل المعاني الحقيقية لمختلف الآراء التي تساق في هذا الشأن، وإيضاح معالم بعض التجارب التي سبقتنا في هذا الاتجاه من أجل الاسترشاد بها في توجيه تجربتنا الخاصة.
وفي رأيي أن أفضل بداية لبحث موضوع كهذا هي البداية التاريخية.
فمن الممكن أن تتحدد معالم المشكلة بمزيد من الوضوح إذا استعرضنا الطريقة التي نشأت بها بعض الفلسفات القومية، والعلاقات التي كانت تجمع بينها وبين الفلسفات القومية الأخرى التي اتصلت بها على نحو ما، وسوف نتناول من النماذج الرئيسية ما يعيننا على استخلاص أهم النتائج التي نود الوصول إليها في هذا المقال، دون أن نحاول - بطبيعة الحال - تقديم عرض شامل لمختلف الفلسفات القومية. (1)
لا شك أن أول نموذج يفرض نفسه على ذهن الباحث في موضوع كهذا هو الفلسفة اليونانية؛ فعلى أرض اليونان ظهرت - منذ خمسة وعشرين قرنا - فلسفة ناضجة غنية لها معالمها القومية الواضحة، وهذا الطابع القومي للفلسفة اليونانية هو ما أجمع عليه مؤرخو هذه الفلسفة، سواء منهم من يؤمن بالحتمية ومن لا يؤمن بها، ومن يجعل هذه الحتمية تاريخية أو جغرافية أو اقتصادية؛ فالكل - على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية - يتفقون على شيء واحد، هو أن الفلسفة اليونانية نتاج يوناني صميم، وأنها تعبير عن «عبقرية» الأمة اليونانية القديمة، وما كان لها أن تظهر إلا في هذه الأمة على وجه التحديد.
ومع ذلك، فهل كان الطابع القومي الواضح الذي تتصف به هذه الفلسفة حائلا بينها وبين التأثر بشتى التيارات الفكرية التي كانت سائدة في عصرها وفي العصور السابقة عليه؟ إن الرأي الذي أصبح الاتفاق يكاد يكون منعقدا عليه بين الباحثين في هذا الموضوع، هو أن الفلسفة اليونانية قد استمدت عناصر أساسية من حضارات الشرق القديم، وأنها أدمجت في داخلها كل ما انتقل إليها عن طريق الاتصال الحضاري من علم هذه الحضارات وتجاربها وأفكارها، بل وعقائدها في بعض الأحيان.
ومن جهة أخرى، فقد اندمجت الفلسفة اليونانية في التراث الغربي التالي اندماجا وثيقا، وأصبحت تكون أصلا مؤكدا لتلك الحضارة التي تعرف اليوم باسم الحضارة الغربية؛ فمنذ أوائل العصر الحديث، بدأت حركة الإحياء الضخمة لتعاليم الفلسفة اليونانية، ولكن أين حدث هذا الإحياء؟ لقد حدث في بيئات وفي ظروف اجتماعية تختلف كل الاختلاف عن بيئة اليونانيين القدماء وظروفهم الاجتماعية، فأين دولة المدينة
اليونانية القديمة من الدولة الأوروبية الحديثة المعقدة؟ وأين الحياة اليونانية البسيطة من الحياة الحديثة المعقدة؟ ومع ذلك ما زال الكتاب الغربيون المحدثون يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين مرشدا لهم في حل كثير من مشكلاتهم، وما زالوا يؤمنون إيمانا عميقا بانتمائهم فكريا إلى هؤلاء القدماء، أو بأن حضارتهم الحديثة قد استمدت مجموعة من أهم عناصرها من طريقة تفكير هذه المجموعة الصغيرة من الدويلات التي عاشت منذ خمسة وعشرين قرنا. (2)
ولنتناول نموذجا آخر مألوفا لدينا ، هو الفلسفة العربية، هذه الفلسفة التي صاغت لنفسها مصطلحاتها الخاصة، وحددت لنفسها مشكلات كان بعضها (كمشكلة العلاقة بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة) أصيلا فيها كل الأصالة، قد اصطبغت بصبغة محلية وقومية لا شك فيها، ومع ذلك فإن القوة الدافعة الأولى لظهور هذه الفلسفة كان تأثر المفكرين العرب بمؤلفات اليونانيين القدماء عندما نقلت إلى لغتهم، ومن جهة أخرى فإن هذه الفلسفة عندما نضجت وقدمت إلى العالم مؤلفات أصيلة وشروحا عميقة على أعمال كبار الفلاسفة اليونانيين قد انتقلت إلى الفكر الغربي وكانت دعامة أساسية من دعائم تلك النهضة العقلية والعلمية التي تميزت بها أوروبا منذ أوائل العصر الحديث، وفي الحالتين لم يكن الطابع القومي للفلسفة العربية حائلا بين العرب وبين الأخذ بتوسع من غير العرب، ولم يحاول أحد - في تلك العصور الغابرة - أن يضع تعارضا بين القومية وبين التأثر بأفكار الأمم الأخرى، أو أن يحمل على هذا التأثر بحجة أنه إقحام لعناصر «دخيلة» لا صلة لها بالظروف الخاصة للبيئة التي تحل فيها. (3)
وأخيرا فقد نشأت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فلسفة ألمانية واضحة المعالم، كان أعظم أقطابها «كانت» وشلنج وفشته وشوبنهور وهيجل، وكانت لهذه الفلسفة خصائصها المميزة لها عن سائر الفلسفات المعروفة في ذلك الحين؛ فهي فلسفة مثالية تفسر العالم كله من خلال مقولات ذهنية أو فكرية، وهي بذلك تكون تيارا متميزا لم يعرف بمثل هذا الوضوح إلا بين مفكري الأمة الألمانية وحدها، وفضلا عن ذلك فقد دعا كثير من أنصار هذه الفلسفة إلى القومية الألمانية صراحة، واشتهر من بينهم في هذا الصدد فشته وهيجل بوجه خاص، ومع ذلك فهل يمكن أن تفهم هذه الفلسفة - ذات النزعة القومية الواضحة - بمعزل عن التيار الفكري الذي بدأه ديكارت، وأضفى عليه اسبينوزا صبغة كونية شاملة، وحوله هيوم في اتجاه الشك بوجود واقع صلب يطابق المفاهيم الفكرية؟ ومن جهة أخرى فإن تأثير هذه الفلسفة الألمانية لم يقتصر على مفكرين ممن ينتمون إلى نفس قوميتها، بل امتد إلى اتجاهات فكرية ظهرت في بلدان لا تربطها بالقومية الألمانية صلة وثيقة، كما في الوجودية الفرنسية المعاصرة التي ترجع جذورها الأولى إلى تلك الفلسفة الألمانية، وكما في الماركسية - وهي فلسفة لا قومية - ترتبط في أصلها بمثالية هيجل أوثق الارتباط.
فما هو إذن الدرس الذي يعلمنا إياه التاريخ كما عرضناه في الأمثلة الثلاثة السابقة، التي ينتمي أحدها إلى التاريخ القديم، والثاني إلى الوسيط، والثالث إلى الحديث؟ إن النتيجة الواضحة التي تؤدي إليها دراسة هذه الأمثلة، هي زيف التعارض الحاد الذي يقول به الكثيرون بين القومية والعالمية؛ فأشد الفلسفات تأثيرا - على النطاق العالمي - وأطول الفلسفات بقاء خلال الزمان، هي فلسفات نشأت في ظروف قومية معينة، واصطبغت بصبغة محلية خاصة، ولكن الإنسان عرف كيف يجد فيها أفكارا تتجاوز نطاق الأصل الذي نشأت منه، وتعلو على حدود الوطن الذي ظهرت فيه، ومن المؤكد أن الفكرة التي نقول بها - وأعني بها عدم التنافر بين القومية والعالمية - تزداد دعائمها رسوخا بمضي الزمان؛ إذ إن التجارب الإنسانية تزداد على الدوام تقاربا بفعل عوامل تكنولوجية وحضارية لا نجد ما يدعونا هنا إلى الإشارة إليها؛ لأنها معروفة ومألوفة للجميع؛ فالفواصل والحواجز الفكرية بين الأمم تتساقط بالتدريج، والاتجاه العقلي أو الفني أو الأدبي الواحد يفرض نفسه على بيئات متباينة كل التباين، وينتشر في أرجاء الأرض دون أن يجرؤ أحد على أن يوصد في وجهه أبواب بلده أو يحول دون ذيوعه في بيئته، وبعبارة أخرى فالظروف الخارجية لحياة العالم المعاصر تؤدي إلى إسقاط الحواجز بين القومية والعالمية - حتى النووية - إلى التوحد سياسيا وفكريا، سواء شاء أم لم يشأ؛ إذ إن هذا هو البديل الوحيد عن الفناء التام، وسواء أصح هذا التنبؤ أم لم يصح، فلا جدال في أن العالم سيشهد - خلال الأجيال القليلة القادمة - تعديلات أساسية على مفهوم القومية، ربما لم تخطر من قبل على بال البشر طوال تاريخهم المعروف.
ولننظر إلى المسألة من زاوية أخرى، فنقول إن البشرية - بعد أن دخلت عصر الصواريخ، وأوشكت على دخول عصر الانتقال إلى الكواكب الأخرى - ستجد نفسها مضطرة - بحكم الظروف الحتمية - إلى الإقلال من أهمية الحواجز القومية بالتدريج، ولن نتحدث هنا عن النفقات والجهود والأبحاث التي يقتضيها انتقال الإنسان من كوكبه الأرضي إلى الكواكب الأخرى، والتي تبلغ من الضخامة حدا يتجاوز نطاق قدرة أية دولة بعينها، ويقتضي تضافرا بين البشر أجمعين، وإنما نود أن نشير إلى موقف لا أشك في أن الإنسان سيواجهه في وقت ليس بالبعيد؛ فعندما يطل الإنسان على أرضنا هذه من كوكب كالمريخ أو حتى من القمر، فهل يشك أحد في أن مثل هذا الإنسان، ومعه كل العالم الذي سيقف مبهورا أمام الكشف الجديد، سينظر إلى الأرض نظرة تعلو على تخطيطات الحدود السياسية أو الفوارق الضئيلة في الصفات العنصرية؟ ألن تصبح وحدة تفكيره عندئذ هي الكوكب الواحد، بعد أن كانت في أقدم العصور هي القبيلة والعشيرة، ثم أصبحت المدينة، ثم تحولت إلى الدولة في عصرنا الحالي؟ تلك كلها احتمالات حقيقية ينبغي أن نفكر فيها جديا؛ لكي ندرك طبيعة العصر الذي نحن مقبلون عليه.
وإذن فهناك - كما قلت - ظروف خارجية حتمية تؤدي بالإنسان - سواء شاء أم لم يشأ - إلى تجاوز التعارض بين القومية والعالمية، ولا بد أن تستجيب كل مجالات النشاط الإنساني - من فن وأدب وعلم وفكر - لهذه الظروف الحتمية، ولكنني أحسب أن الفلسفة ستكون أسرع هذه المجالات كلها استجابة لهذه الظروف؛ ذلك لأن الفلسفة تميل بطبيعتها إلى العمومية والشمول، واتجاهها الأصيل إنساني قبل أن يكون قوميا. إن الفلسفة مبحث عقلي، والعقل هو أساس التوحيد بين البشر، وهو ينزع تلقائيا إلى تجاوز الفوارق الضيقة، ولا يعرف له حدودا إلا «عالم الإنسان» بما هو كذلك. وليس معنى ذلك أن العنصر القومي مفقود تماما في الفلسفة، وإنما معناه أن هذا العنصر إنما هو الإطار الذي يضفي هيكلا خارجيا على مضمون لا يمكن بطبيعته إلا أن يكون إنسانيا؛ فاعتماد الفلسفة على العقل هو إذن العامل الرئيسي الذي يجعل الصفة الإنسانية العالمية تغلب فيها على الصفة القومية، وإن يكن لهذه الأخيرة دون شك وجودها الأصيل.
فإذا كانت الفلسفة - كما قلنا - تتألف من مضمون إنساني عام، قوامه العقل الذي هو عنصر التوحيد في حياة البشر، ومن شكل أو إطار قومي، يمكن أن تتباين أحواله من شعب إلى آخر، فلا بد لكل فهم سليم للفلسفة من أن يتضمن هذين العنصرين معا، ومع إدراك الاتجاه الواضح إلى العالمية ولا سيما في العصر الحديث. ومعنى ذلك أن كل فهم للفلسفة يقتصر على العنصر القومي وحده، أو يؤكد العنصر العالمي وينفي العنصر القومي نفيا تاما، لا بد أن يقع في أخطاء أساسية، فلننتقل إذن إلى بيان أخطاء كل من هذين الاتجاهين المتطرفين.
أخطاء النزعة القومية المتطرفة
من السهل أن يؤدي التطرف في تأكيد أهمية العنصر القومي في الفلسفة إلى نظريات غريبة عن الروح الفلسفية الحقة، ومن أكثر هذه النظريات خطأ، تلك النظرية التي تستمد خصائص فلسفة أمة معينة من بيئتها الجغرافية، فتتحدث عن تأثير الجبال الوعرة في تفكير اليونانيين أو تأثير الصحراء الشاسعة في تفكير العرب، مثل هذه النظريات لا تستحق منا اهتماما كبيرا، لا لأنها تجهل الحقيقة، بل لأنها تتناول عنصرا ضئيلا من عناصرها وتعممه وتجعل منه أساسا كاملا للتفسير.
وهناك نظريات أخرى تربط بين فلسفة الأمة وبين خصائصها العنصرية، ولقد اشتهرت من تلك النظريات في الآونة الأخيرة، النظرية النازية التي كانت تؤكد وجود صفات عرقية تميز كل شعب، وتذهب إلى أن هذه الصفات هي التي تفسر عبقرية هذا الشعب أو افتقاره إلى العبقرية، وهكذا ذهب النازيون إلى أن الفلسفة الألمانية مرتبطة بالخصائص العنصرية للجنس الجرماني الآري، وأكدوا من جهة أخرى أن هناك شعوبا عاجزة - بحكم تركيبها الطبيعي - عن التفلسف، أو عن الوصول إلى أية نتيجة لها قيمتها إذا ما تفلسفت، وهي بوجه خاص الشعوب السامية، هذه المزاعم بدورها تفتقر إلى أي دليل، وتقوم على أساس لا يمت إلى العلم الصحيح أو الفكر السليم بسبب، ومع ذلك فقد اقتنع بها الملايين في وقت من الأوقات، وكان اقتناعهم بهذا الخطأ الواضح دليلا على مقدار الخلط الذي يمكن أن تجلبه النزعة القومية المتطرفة على الأذهان.
على أننا لو تأملنا حياتنا الثقافية الراهنة بإمعان؛ لوجدنا أننا - لحسن الحظ - لسنا واقعين في هذا النوع من الأخطاء، وربما كانت أخطاء أصحاب النزعة القومية المتطرفة بيننا أقل خطورة بكثير، ومع ذلك فمن الواجب أن نناقشها مناقشة صريحة حتى تظهر لنا العلاقات بين القومية والعالمية في الفلسفة في ضوئها الصحيح.
في بلادنا العربية وفي مرحلتنا التاريخية الراهنة، يعتقد الكثيرون أن الفكر لكي يكون قوميا بالمعنى الصحيح، ينبغي أن يكون «مختلفا»، فهم يتعمدون تأكيد العناصر المتنافرة مع الفلسفات الأخرى، ظانين أن هذه العناصر هي التي تتمثل فيها روح الأمة وتقاليدها الحقة، فإذا اعترضتنا مشكلة من المشكلات، واقترح البعض لها حلا مستمدا من تجارب أمم أخرى سبق أن مرت بنفس المشكلة، وجدت من يسارع إلى رفض هذا الحل آليا، والإتيان بحل آخر مخالف له، قد لا يكون أحد جربه من قبل، ولكنه يفضل على الأول بحجة أنه هو الذي يتمشى مع قوميتنا، وفي اعتقادي أنه لا يكفي لكي يكون المبدأ متمشيا مع قوميتنا أن «يقرر» البعض أنه كذلك، وإنما لا بد من «إثبات» أن هذا المبدأ دون غيره هو الذي يعبر عن قوميتنا تعبيرا صحيحا.
كذلك لا يتعين أن تكون الفكرة قومية لمجرد أنها «تخالف» أو «تغاير» أفكارا صدرت عن مجتمعات أخرى، والخطر الأكبر في هذا النوع من التفكير هو أنه يؤدي إلى نوع من الانعزالية، وإلى ضياع كثير من فرص الاستفادة بالتجارب المفيدة التي يشترك معنا فيها غيرنا من الأمم ، بحجة أن في الاسترشاد بهذه التجارب قضاء على قوميتنا، وكثيرا ما يترتب على التطرف في هذا الموقف الاتجاه إلى المخالفة والعناد لذاتهما، ومعنى ذلك أن يقف المرء من الأمور موقفا سلبيا؛ إذ إن العنيد يظن أنه يؤكد ذاته، على حين أنه في واقع الأمر شخص سلبي يكتفي بالقيام برد فعل عكسي على تصرفات الآخرين، فيكون بذلك مقيدا بهم أكثر مما يظن، وبالاختصار فليس معنى اتجاهنا إلى تأكيد قوميتنا هو أن نتعمد مخالفة آراء الغير في كل صغيرة وكبيرة ونظن أننا بذلك ندعم شخصيتنا القومية، بل إن هذا الدعم لا يكون إلا باتخاذ الموقف الناضج الذي نقف فيه من أفكار الآخرين موقف الواثق من نفسه، ولا نتعمد تأكيد ما يتنافر معها من أجل إقناع أنفسنا باستقلالنا الفكري.
وهناك اعتقاد آخر يتمسك به الكثيرون في هذا المجال، وهو - في رأيي - لا يقل خطأ عن الاعتقاد السابق، وإن يكن أشد منه خفاء، هذا هو الاعتقاد بأن كل ما هو قديم ينتمي بالضرورة إلى صميم الروح القومية؛ ذلك لأن القديم لا يتعين بالضرورة أن يكون قوميا، بل إنه قد يكون دخيلا، شأنه شأن أي اتجاه حديث مستورد، ومع ذلك فإن أصواتا كثيرة تعلو مؤكدة أن الاهتداء إلى قوميتنا الأصيلة لا يكون - أو لا يبدأ - إلا بإحياء التراث الغابر، الذي يعتقدون أنه كله ألصق بقوميتنا من كل ما هو جديد. مثل هذه الطريقة في التفكير تنطوي ضمنا على اعتقاد شائع إلى حد بعيد، ولكنه كثيرا ما يكون بعيدا عن الصواب، هو الاعتقاد بأن القومية فكرة «سكونية» ثابتة ترتبط بالماضي أكثر مما ترتبط بالحاضر، ولو أمعن أصحاب هذا الرأي فكرهم في مقدمتهم الأساسية هذه؛ لوجدوا أنها تقبل اعتراضات حاسمة؛ فقد ثبت في عصرنا الحاضر أن القومية فكرة «ديناميكية» تقوم أساسا على التجدد والحياة، وأنها إذا اكتفت بأن تشد الأمة إلى ماضيها الغابر، ولم تساعده على التطلع إلى مستقبل أفضل، كانت قوة معوقة هدامة، ومن هنا فإن العناصر التي ترتكز عليها فكرة القومية، والتي تتجمع حولها أماني الأمة الواحدة، ينبغي ألا تكون عناصر متجمدة متحجرة، وإنما الواجب أن ترتبط مشاعرنا القومية بحاضرنا ومستقبلنا مثلما ترتبط بماضينا، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول إن نظرتنا إلى التراث ينبغي ألا تكون قيدا يمنعنا من الحركة، وإن موقفنا من التراث ينبغي أن يتقرر تبعا لمقتضيات حياتنا الراهنة؛ فالقديم لا ينبغي أن يتحول إلى صنم مقدس لمجرد كونه قديما، بل إن تبجيلنا واحترامنا له يجب أن يتوقف على مدى قدرته على الإنتاج في حياتنا الحاضرة والإسهام في دفعها إلى الأمام، وليس معنى ذلك أن نتنكر لتراثنا، أو أن نتعمد تأويله تأويلا ملتويا لكي يبدو متمشيا مع اتجاهاتنا الراهنة، بل إن معناه الوحيد هو الخضوع لسنة الحياة التي تجعل من تاريخ الإنسان الغابر دعامة يرتكز عليها في حاضره ويسترشد بها في مستقبله.
أخطاء النزعة العالمية المتطرفة
قلنا من قبل إن الفلسفة - بحكم كونها مبحثا عقليا - لديها نزوع طبيعي إلى العالمية، وإن صفة العالمية تعد - بالتالي - أقرب إلى التعبير عن طبيعة الفلسفة، ومع ذلك فكما يخطئ من يتطرف في تأكيد النزعة القومية في الفلسفة، فكذلك يخطئ من يذهب في تأكيده لطابعها العالمي إلى حد التجاهل التام لكل الفروق التي تترتب على تباين الظروف المحلية والقومية التي تنشأ فيها كل فلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة - كما قلنا - تتناول مضمونا إنسانيا عالميا، موضوعا في إطار قومي محدد، وهذا الإطار المحدد يحتم تأثر المضمون ذي الطابع الشامل بالظروف الاجتماعية المتغيرة للمجتمع القومي الذي تنبع منه الفلسفة، وبالتالي ينبغي في كل فهم سليم للفلسفة أن نعمل حسابا لتأثير تغير هذه الظروف في المضمون الفلسفي الذي يعبر عن نفسه من خلالها.
ومع ذلك فكثيرا ما نرى اتجاهات في فهم الفلسفة تتجاهل هذا العنصر تجاهلا تاما، وقد تكون نقطة بداية أصحاب هذه الاتجاهات هي إدراك الحقيقة التي سبق أن نبهنا إليها من قبل، وهي نزوع الفلسفة بطبيعتها إلى الصبغة الإنسانية الشاملة، غير أنهم يتطرفون في هذا الاتجاه إلى حد إغفال كل تأثير للسياق القومي أو الاجتماعي المحدد في الفلسفة التي تظهر فيه؛ فهم يتصورون الفكر الفلسفي نباتا شاذا تستطيع أن تزرعه في أية تربة، وتستطيع أن تتوقع منه دائما نفس الثمار.
ففي الغرب مثلا ظهرت فلسفات واتجاهات فكرية قد تكون المشكلات التي أثارتها ذات صبغة إنسانية عامة، ولكن الإطار الذي ظهرت فيه هو دون شك إطار محلي تحكمت فيه ظروف خاصة مرت بها المجتمعات الأوروبية على التخصيص، ولم تمر بها المجتمعات الشرقية التي ظلت بمنأى عن هذه المؤثرات، ولأضرب لذلك مثلين: فالاتجاهات اللامعقولة في الفكر والفن والأدب الغربي - ابتداء من السيريالية إلى الرواية الجديدة - هي اتجاهات لم يكن من الممكن أن تظهر إلا في شعوب مرت بتجربة العقل ردحا طويلا من الزمان، حتى سئمت التفكير العقلي وسعت إلى تجاوز حدود المعرفة العلمية وإلى استطلاع آفاق جديدة في عالم مغاير لعالم المنطق، أي إن اللامعقولية - سواء في الفن وفي الفكر والأدب - ظهرت في الغرب نتيجة للتشبع بالمعقولية والرغبة في البحث عن اتجاهات أخرى تجدد نشاط الروح التي سئمت المنطق المنظم، غير أن نقل هذه الاتجاهات نقلا حرفيا في مجتمع شرقي - لم يمر بنفس التجربة - ينطوي على محاكاة آلية تعبر عن فقدان الشخصية والعجز عن الاستقلال الفكري؛ فنحن في الشرق ما زلنا نسعى إلى إقرار حكم العقل، وما زلنا نحتاج إلى كفاح طويل لكي نعود شعوبنا احترام التفكير المنطقي وتطبيقه في شتى أنواع معاملاتهم، فكيف إذن نقفز هذه القفزة المفاجئة، عبر ثلاثة أو أربعة قرون من المعقولية التي مر بها الغرب أولا وأثرى بها حياته في كافة المجالات، لكي نصل دفعة واحدة إلى اللامعقولية؟ وكيف نستطيع - في ظروفنا هذه - أن نجد متعة في اللامعقول ونراه معبرا عن روح العصر، مع أن هذه الروح تتخذ في بيئتنا المحلية طابعا مختلفا كل الاختلاف عنه في البيئات الغربية التي انتشرت فيها الدعوة إلى اللامعقول؟
ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا آخر: ففي الغرب انتشرت تيارات فردية وتشاؤمية قاتمة، وظهر صدى هذه التيارات واضحا في كثير من الفلسفات والاتجاهات الفكرية، بل إن البعض يعزو انتشار الوجودية - أو على الأصح عودة إحيائها بعد أن ظهرت بوادرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر وظلت منسية قرابة ثلاثة أرباع القرن - إلى ظروف خاصة مر بها المجتمع الغربي وفرضت عليه التشاؤم والفردية؛ فمنذ الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب الثانية - بوجه خاص - كان واضحا أن الإنسان الغربي يسير في طريق لا نهاية له إلا الدمار الشامل، وكانت أبواب الأمل في حياة هادئة تخلو من القتل والتدمير والشعور الدائم بالخطر تكاد تكون كلها موصدة في وجهه، وكان طبيعيا أن يميل هذا الإنسان إلى فلسفة تؤكد خلو الحياة من كل معنى، وتضع بين الفرد والآخر حواجز لا تعبر إلا بوسائل مصطنعة غير مؤكدة، ولكن أيحق لنا في الشرق أن نتصور هذه الفلسفة معبرة عن أخص ما يميزنا؟ إن الإنسان في الشرق لم يصب بمثل هذا التشاؤم الذي تملك الإنسان الغربي؛ لسبب بسيط هو أنه لم يخض مثله حروبا طاحنة، ولم يشعر بأن مستقبله مهدد بالفناء، وما زال في حياة الشرق من التماسك العائلي ومن الشعور بأهمية القيم المشتركة ما يحول دون الإحساس بالتفكك، الذي يشجع على انتشار الروح الفردية، فنحن إذن لسنا ملزمين بأن نرى في هذا التيار ما يعبر عن وضع الإنسان في عالمنا الخاص.
تلك إذن أمثلة أردت أن أسوقها لكي أدلل بها على أن الإفراط في النزعة العالمية، والاعتقاد بأن المشكلات الفلسفية لا تعرف أية حواجز قومية أو محلية، هو بدوره خطأ ينبغي أن نحذر الوقوع فيه.
فباسم العالمية يعتقد البعض بأن وضع الإنسان المعاصر - في عمومه - يحتم عليه أن يخوض تجربة اللامعقول، وباسم العالمية يعتقد البعض الآخر أن موقف الإنسان في عصرنا هذا يفرض عليه الاتجاه إلى التشاؤم والانعزال والفردية المتطرفة، مع أن هذه كلها مواقف مرهونة بمجتمع يمر تطوره بمرحلة معينة، ولا يحق للمجتمعات الأخرى أن تحاكيها ما دامت تمر في تطورها بمرحلة مختلفة كل الاختلاف.
كيف تتحقق فلسفتنا القومية؟
وأخيرا فما زال هناك سؤال رئيسي لم يجد القارئ إجابة عنه بعد، وإن كان لا بد قد ألح عليه منذ بداية هذا المقال؛ فقد أوضحنا الحدود الواجبة للنزعتين القومية والعالمية في الفلسفة، وبينا الأخطاء التي يمكن أن يؤدي إليها التطرف في كل من هاتين النزعتين، ولكنا لم نتناول بعد موضوعا قد يكون هو بيت القصيد في بحث كهذا، وأعني به: كيف نستطيع أن نخلق فلسفتنا القومية ونضفي عليها صبغة عالمية؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكننا أن نخلق فلسفة مستمدة من بيئتنا وظروفنا الخاصة، ونضمن في الوقت ذاته احترام العالم وتقديره لنا؟
إذا كان المقصود من «الفلسفة» في هذه الحالة هو «طريق الحياة» أو «الاتجاه العام للمجتمع» فأحسب أن هذا موضوع يتجاوز نطاق مقال كهذا.
أما إذا كان المقصود هو الفلسفة بمعناها الضيق - أي بمعنى المذهب الفلسفي المتخصص - فإن الإجابة المقنعة عن هذا السؤال تقتضي - مرة أخرى - استقراء بعض أمثلة التاريخ؛ ففي إنجلترا ظهرت منذ القرن السابع عشر - وربما قبل ذلك - فلسفة محددة المعالم تستطيع أن تدرك معالمها وخصائصها المميزة بوضوح كامل حتى يومنا هذا، فهي فلسفة تجريبية لا تفرق كثيرا في مشكلات ما بعد الطبيعة، وتتخذ من التحقيق الفعلي معيارا لصحة كل حكم يصدره العقل، وفي فرنسا ظهرت في الوقت نفسه تقريبا فلسفة أخرى لا بد من الاعتراف بأن لها طابعا قوميا مميزا؛ إذ إنها تعتمد على الوضوح الفكري وعلى ما أسماه باسكال بروح اللطف أو الدقة، أي على الإحساس المرهف بالفوارق الدقيقة للمعاني والأفكار، وفي ألمانيا ظهرت منذ القرن الثامن عشر فلسفة ذات نزعة مثالية متصلة، يحس فيها المرء بأن طريقة استجابة الفلاسفة المختلفين للمشكلات كانت متشابهة أو متكاملة، ومع ذلك فكيف اتخذت هذه الفلسفات طابعها القومي هذا؟ هل قام هؤلاء الفلاسفة بتحليل للخصائص القومية لبلادهم، ثم شيدوا فلسفة تتلاءم مع هذه الخصائص؟ لا شك أن شيئا من هذا لم يحدث، فما الذي حدث إذن حتى ظهرت هذه الفلسفات؟
من المؤكد أن الفلسفة القومية لا تتعمد أن تكون قومية، ولا يسعى الفيلسوف إلى الكشف أولا عن الخصائص القومية لبلاده لكي يبني مذهبا فلسفيا منطبقا عليها، وإنما يمارس الفيلسوف تفكيره، وتأتي أجيال تالية من الشراح تكشف خصائص مشتركة بينه وبين غيره من بني وطنه، فتكون تلك الخصائص هي الروح القومية في الفلسفة، ومعنى ذلك أن المرحلة الأولى هي التفلسف - أعني ممارسة الفكر على أوسع نطاق ممكن - وهي مرحلة لا نستطيع أن نقول إننا قد سرنا فيها بعد بما فيه الكفاية؛ فقبل أن تكون هناك «فلسفة قومية» ينبغي أن تكون هناك «فلسفة» أولا، ولا معنى لأن نؤكد ونلح - ونحن ما زلنا في أولى المراحل - على ضرورة صبغ فلسفتنا بالطابع القومي؛ لأننا لو عرفنا كيف نمارس الفكر الفلسفي ممارسة سليمة عميقة، فلا بد أن يصطبغ هذا الفكر من تلقاء ذاته بالصبغة القومية.
وإذن فلنحرص أولا على التفلسف ذاته؛ لنؤلف ونكتب ونشرح، ثم نتعمق ونسير في اتجاهات فكرية خاصة، وسوف تتضح حتما سماتنا القومية في أفكارنا، وسيكشفها غيرنا باستقراء مختلف أعمالنا، كما كشفت سمات الفلسفات القومية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبل، أما أن تعلو الأصوات هاتفة بإلحاح: لنضع فلسفة قومية! فما أظن أن هذا أفضل السبل إلى بلوغ الهدف الذي نريد.
الفلسفة والتخصص العلمي1
لا يجادل أحد - ممن توافر له أبسط قدر من العلم بطبيعة الدراسة الفلسفية - في أن لهذه الدراسة موقعا فريدا بين بقية الدراسات، سواء منها الإنسانية والعلمية الخالصة؛ فعلى حين أن الفلسفة - كما هو معروف - أقدم من العلوم جميعا، فإنها هي المبحث الوحيد الذي ما زال حتى اليوم يتساءل عن ماهيته، وما زال موضوع تعريفها وتحديد مجالها يشغل قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين فيها حتى اليوم، بعد ألفي وخمسمائة عام على الأقل من التاريخ المتصل.
هذا الموقف الغريب الذي تنفرد به الفلسفة، والذي يجمع بين القدم السحيق من ناحية، والافتقار إلى التحدد في طبيعتها الكامنة ذاتها من ناحية أخرى، يوحي إلينا بضرورة النظر إلى الفلسفة بمعايير ومقاييس تختلف عن تلك التي ننظر بها إلى سائر العلوم وبقية موضوعات النشاط الذهني البشري، ويقنعنا بأن من السذاجة أن نطبق عليها آليا تلك المبادئ التي سبق أن طبقت بنجاح في ميادين العلوم المختلفة، وفي الفروع الأخرى للدراسات الإنسانية.
ومن أهم هذه المبادئ، مبدأ أدى تطبيقه في كل فروع البحث العلمي إلى إحرازها تقدما كبيرا، هو مبدأ التخصص الذي أخذت أهميته تتزايد كلما اتسع نطاق المعرفة التي تحصلها البشرية وتتراكم لديها جيلا بعد جيل، ولقد كان من الطبيعي أن يطبق هذا المبدأ على ميدان الفلسفة، منذ أصبحنا نجد في جامعات العالم طلابا يتخصصون في الكيمياء، وآخرين في التاريخ، وغيرهم في «الفلسفة»، فهل يحق لنا أن ننظر إلى التخصص في هذه الفروع جميعا نظرة واحدة؟ وهل يكون مما يفيد تقدم المعرفة البشرية أن يتخصص الطالب في الفلسفة مثلما يتخصص في الكيمياء أو التاريخ؟ بل هل يكون لكلمة «التخصص» ذاتها معنى واحد في هذه الحالات جميعا؟
من الحقائق المعروفة أن الاشتغال بالفلسفة ظل وقتا طويلا لا يمثل «تخصصا» بالمعنى المعروف؛ ففي الوقت الذي كانت الفلسفة فيه تضم في ذاتها كل العلوم الأخرى أو عددا كبيرا منها، لم يكن المشتغل بالفلسفة متخصصا بأي معنى من المعاني، وإنما كان ساعيا وراء المعرفة على النحو الذي كانت فيه المعرفة ميسرة للناس في ذلك الحين؛ فهو - قبل كل شيء - شخص يريد أن يعلم وأن يعرف، ومن هنا كان اهتمامه بذلك المبحث الذي كانت تندرج فيه أهم حقائق العلم والمعرفة حينئذ، غير أن الموقف الراهن مختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهناك عشرات بل مئات من العلوم وفروعها وأجزائها، ولم تعد الفلسفة تمثل إلا واحدا من ميادين أخرى متعددة، تتزايد تشعبا وتفرعا على الدوام، فماذا يكون مركز الباحث في الفلسفة والمتخصص فيها في مثل هذا الموقف؟
فلنتأمل المسألة في صورتها العينية، ولنتتبع دراسة هذا المتخصص في الفلسفة حتى نستطيع إصدار حكم صحيح على قيمة تخصصه، إنه في كل الأحوال تقريبا شاب نال في التعليم الثانوي - وما قبله من مراحل التعليم - نصيبا ضئيلا لا يعدو أن يكون مدخلا تمهيديا إلى بعض فروع العلم؛ فحصيلته العلمية الحقيقية ضئيلة إلى أبعد حد، وهو ينتظر إكمال هذه الحصيلة بدراسة فرع من فروع المعرفة البشرية بحيث يمارس من دراسته هذه تجربة العلم والمعرفة كما تتبدى في هذا الفرع، وأستطيع أن أقول إن كل متخصص - أيا كان ميدانه - يحقق هذا الهدف، أما في حالة المتخصص في الفلسفة فالمسألة موضوع شك.
فمن هذه الحصيلة الضئيلة التي تجمعت لدى الطالب قبل سنوات تعليمه الجامعي، ينتقل فجأة إلى البحث في أخطر مشاكل العالم وأعم مسائل الكون، ويجد نفسه - دون أية مقدمات - يناقش مشكلات السلوك الإنساني في أعم صورها، ومشكلات غاية العالم وهدف الإنسان من الحياة، ومعايير الأخلاق، كل ذلك - وغيره كثير - مما يدخل ضمن نطاق «التخصص» في الفلسفة.
وهنا يظهر لنا بوضوح الفارق بين معنى التخصص في الفلسفة وبين معناه في سائر الميادين؛ ففي الفلسفة يناقش المتخصص موضوعات تفترض علما سابقا غزيرا، ولا أقول إنها تفترض علما في فرع معين أو في ميدان خاص، وإنما هي تفترض نضوجا عقليا عاما وتمرسا عميقا بتجربة العلم والحياة، وبدون هذا النضوج والتمرس، يغدو كل حكم من الأحكام العامة التي يصدرها هؤلاء «المتخصصون» سطحيا فجا، ولا يكتسب له موقعا صحيحا في ذهن صاحبه، وإنما يردده هذا دون فهم أو تعمق أو إدراك لمغزاه الحقيقي.
ذلك لأن الفلسفة ما زالت - كما قال الأقدمون - حبا للحكمة، والحكمة لا تأتي في فراغ، ولا تبنى في الهواء، وإنما ينبغي أن ترتكز على دعائم متينة، ولا يتعين أن تكون هذه الدعائم «علما» بالمعنى الخاص لهذه الكلمة - أعني علما وضعيا دقيقا - وإنما يكفي أن تكون تجربة عميقة في ميدان من ميادين النشاط الذهني للإنسان؛ ففي وسع المرء أن يناقش أعم مشكلات الكون، وتكون مناقشته هذه مجدية لنفسه وللآخرين، إذا كان - على سبيل المثال - عالما متخصصا أو مشتغلا بشأن من شئون الفن أو الأدب أو باحثا في التاريخ، ولكن كيف ننتظر منه أن يتناول - على نحو له جدواه - هذه المسائل الفلسفية الخطيرة وهو لم يزل مفتقرا إلى الخبرة في كل ميادين العلم والأدب والحياة؟
إن الفلسفة أو الحكمة ليست في رأيي جزءا من «تعليم» المرء، وإنما هي جزء من «ثقافته »، والفرق هائل بين التعليم والثقافة؛ فالتعليم عتاد أساسي لا غنى عنه للمرء كيما يواجه مسئولياته بوصفه فردا يريد أن يكون نافعا في المجتمع، أما الثقافة فهي تكامل أطراف المعلومات التي جمعها المرء في تعليمه، وتكوينها كلا متناسقا يرتبط من جهة بشخصية صاحبه ومن جهة أخرى بالمجتمع والعصر الذي يعيش فيه، أي إن الثقافة - مع كونها تتويجا للتعليم - ليست جزءا أساسيا منه، والخطأ الذي نرتكبه حين ننظر إلى الفلسفة على أنها تخصص يتفرغ له المرء في وقت مبكر، هو أننا نعدها مرحلة من مراحل تعليم الفرد، مع أنها في الواقع ليست على الإطلاق جزءا من هذا التعليم بالمعنى الذي تكون به الكيمياء أو اللغات كذلك، وإنما هي تتويج للتعليم أو ثمرة له، وهكذا أستطيع أن أقول - دون أدنى حرج - إن المرء لا يكمل تعليمه بدراسة الفلسفة؛ لأن هذه الدراسة ليست امتدادا لأية مرحلة سابقة من المراحل التي مر بها تعليمه، وإنما هي تثقيف - أي تنظيم لمعرفة أو خبرة - ينبغي أن يكون المرء قد اكتسبها من قبل.
فأين إذن ينبغي أن يكون موقع الدراسة الفلسفية من بقية الدراسات؟ في رأيي أن الموقع الصحيح لهذه الدراسة إنما يكون بعد اكتمال المراحل المختلفة للتعليم؛ فأكمل صورة للدراسة الفلسفية هي تلك التي تأتي بعد اكتساب تجربة المعرفة في أي ميدان من ميادين العلوم الإنسانية أو الطبيعية، أي إن الدراسة الصحيحة للفلسفة ينبغي ألا تبدأ إلا بوصفها «دراسة عليا» بالمعنى الذي نستخدمه اليوم للدلالة على كل دراسة تعقب المرحلة الجامعية المألوفة.
وهكذا يبدو لي أن أجل خدمة تسدى إلى الدراسة الفلسفية في عصرنا الحالي، هي أن تتحول من أقسام جامعية تمهد للتخرج إلى دراسات عليا تعقب التخرج، ويقبل عليها أصحاب الميول الفلسفية من الخريجين بمحض إرادتهم، بحيث تؤدي في نفوسهم وظيفة التثقيف لا التعليم، وبحيث تكون تتويجا لتعليمهم لا جزءا أساسيا منه، وعندئذ فقط تكون الفلسفة قد أدت مهمتها الحقيقية، وهي أن تزود النفوس بالحكمة، لا بمقدار مكمل من العلم كما تفعل ميادين التخصص الأخرى.
وإني لأعلم حق العلم أن الاعتراضات على هذا الرأي كثيرة، فمنها مثلا ما يقول إن بلادا أقدم منا عهدا بالثقافة الفلسفية تتبع نفس المنهج الذي ننتقده في هذا المقال (وهل سنكون نحن أعمق شعورا بالمشكلة من الألمان والفرنسيين؟) مثل هذا الاعتراض لا يتعرض في الواقع لجوهر المشكلة، وإنما لشكلها الخارجي فحسب، وإذا كانت الفلسفة ما زالت تدرس في العالم كله بوصفها مرحلة من مراحل الإعداد التعليمي للشباب، فإن هذا لا يمنع على الإطلاق من إجراء مناقشة فعلية للرأي القائل بأن موقع الفلسفة في العالم الذي نعيش فيه ينبغي ألا يكون ضمن مواد التخصص الأساسية وإنما بعدها.
كذلك قد يوجه إلى هذا الرأي اعتراض ذو صبغة شخصية، فيقال إن كاتب المقال قد خضع بدوره لنفس هذا النوع الذي ينتقده من التعليم الفلسفي، وأنا أعترف بهذا الانتقاد اعترافا كاملا، وأرجو أن ينظر إلى هذا المقال على أنه يمثل - من هذه الناحية - نوعا من النقد الذاتي، والحق أن تجربتي الشخصية في تدريس الفلسفة بالجامعة طالما أثارت في خواطر من ذلك النوع الذي أحاول في هذا المقال أن أسجل طرفا منه؛ ففي هذه التجربة كنت أواجه على الدوام شبابا نتلقاهم وهم في معظم الأحوال دون العشرين، ويكملون «تعليمهم» الفلسفي وقد تجاوز معظمهم العشرين بعام أو اثنين، هؤلاء الشبان السذج - الذين لم يكتسبوا قبل التحاقهم بالجامعة إلا قشورا من العلم - كان يطلب إليهم دائما أن يناقشوا أصل الكون والإنسان ومصيرهما، وغاية الحياة وقيمها ومعايير السلوك فيها؛ كان يطلب إليهم أن يكونوا «حكماء» وهم لم يكتسبوا بعد من خبرة الحياة أو تجربة العلم شيئا، ولم يتزودوا بأي قدر من العتاد الضروري الذي لا يصبح المرء حكيما بدونه، وكثيرا ما ساءلت نفسي: أي نمط من المتعلمين يمثله هؤلاء «الحكماء» الصغار؟ وأي سلاح هذا الذي نزود به هؤلاء الشبان لنساعدهم على مواجهة الحياة؟ وما جدوى الحكمة التي نلقنهم إياها إن كانت مبنية على فراغ؟ وهل يستطيع مواجهة مطالب الحياة في القرن العشرين شخص تخصص - من هذه السن المبكرة - في الفلسفة وكأنها ستملأ ذهنه بمضمون علمي - مثلما تملؤه الرياضيات أو اللغات أو العلوم الطبية مثلا - مع أننا كلنا نعلم أن هذه ليست وظيفتها على الإطلاق؟ ولقد كنت دائما - خلال تجربتي هذه - أشعر بالهلع كلما استمعت إلى الأحكام التعميمية الشاملة التي يصدرها هؤلاء الشبان بشجاعة فائقة وقلب جسور، فهل ينتظر من الأحكام الفلسفية التي تصدر داخل مثل هذه الأذهان أن تكون صحيحة؟ وحتى لو كانت صحيحة بمعنى أنها متفقة مع المعلومات الشائعة في ميدان الفلسفة، فهل هي تؤدي في أذهانهم وفي كيانهم الشخصي نفس الوظيفة التي يفترض من الأحكام الفلسفية أن تؤديها في أذهان الحكماء؟ وكيف يتسنى للمرء أن يصدر أعم وأشمل الأحكام على الحياة وهو لم يكتسب من خبرتها شيئا، أو أن يدرس «المناهج العلمية» أو «فلسفات العلوم» وهو لا يملك شيئا من المادة العلمية التي تفترضها هذه الدراسات مقدما؟
إن البحث الفلسفي يقتضي أمرين أساسيين هما: النضوج العلمي والنضوج النفسي، أما النضوج العلمي فقد أصبح ضرورة من ضرورات العصر الذي نعيش فيه، ولو تجاهلناه وبنينا تفلسفنا على فراغ لكنا نغمض أعيننا عن أهم حقيقة من حقائق هذا العصر، وأما النضوج النفسي فهو حقيقة أخرى هامة أدركها أفلاطون ذاته منذ خمسة وعشرين قرنا، حين دعا إلى تعلم الفلسفة بعد سن الثلاثين، ولست أدري كيف يجوز لنا نحن أن نتجاهلها رغم وضوحها وضرورتها، أو كيف استطعنا أن نبرر لأنفسنا إعطاء الحكمة لمن هم دون ريب غير متأهبين لتلقيها؟
على أن للمسألة - في رأيي - وجها أعم من هذا الوجه التعليمي ذاته، وأعني به مركز الفيلسوف المتخصص ذاته في العصر الذي نعيش فيه؛ فطبيعة هذا العصر تحتم علينا أن نتساءل: أما زال في عالمنا هذا مكان للفيلسوف الخالص، أم إن هذا العالم لا يتسع إلا لفلاسفة رياضيين أو فلاسفة اجتماعيين أو فلاسفة فنانين فحسب؟ وبعبارة أخرى فبعد أن كان موضوع البحث في القسم السابق هو نمط الشاب الذي لم يلم إلا بقشور من المعرفة، ويطلب إليه فجأة أن يكون فيلسوفا، والذي يخرج إلى الحياة وليس في جعبته إلا مجموعة من الأحكام العامة التي ترتكز على فراغ، أصبح موضوع بحثنا في هذا القسم نمطا أعم، هو ذلك المفكر الذي لا تتوافر له معرفة علمية متخصصة، ولا يلم في هذا الميدان بأكثر مما يلم به الشخص العادي، ومع ذلك يجرؤ على مناقشة أخطر المسائل وأشدها احتياجا إلى المعرفة والأفق الواسع.
هذه المسائل الأخيرة الشائكة لا يمكن البت فيها برأي حاسم في الوقت الحالي، وقد تكون واحدة من تلك المسائل التي لا يحسمها إلا المستقبل، ومع ذلك فإن معظم المحاولات التي تبذل من أجل إيجاد مكان للفلسفة في عصر العلم الذي نعيش فيه إنما يؤدي مباشرة - أو سيؤدي في نهاية الأمر - إلى إنكار نمط الفيلسوف المتخصص، فلنتأمل أهم هذه المحاولات لندرس مشكلتنا هذه من خلالها.
يرى الكثيرون أن أفضل وسيلة لضمان مكان للفلسفة في عالم اليوم هي تأكيد الوظيفة التعميمية للفلسفة، ومعنى ذلك أن مهمة الفلسفة قد تحولت من منافسة العلوم إلى تعميم النتائج التي تصل إليها تلك العلوم ومحاولة الوصول إلى نظرة شاملة إلى الكون تتميز عن النظرة العلمية باتساع نطاقها، ولكنها ترتكز تماما على ما يأتي به العلم من معرفة، ولا تأتي من جانبها الخاص بجديد إلا في تنظيم هذه المعرفة وتطبيقها على المشاكل الإنسانية والكونية القصوى، فإذا كانت هذه هي الوظيفة الوحيدة الممكنة للفلسفة في عالم اليوم - على ما يقول أصحاب هذا الرأي - فلا بد أن يسبق الفلسفة إلمام واسع بالعلم؛ إذ إن التعميم الذي يمارس في فراغ سيكون تشويها لصورة العالم لا تنظيما له.
ومن جهة أخرى، فهناك من يقصرون مهمة الفلسفة على تحليل تصورات العلم واللغة المستخدمة فيه، وهؤلاء يفترضون ضمنا أن على المرء أن يكون متعمقا في العلم قبل أن يتفلسف؛ إذ إن تحليل لغة العلم يقتضي دراية واسعة باتجاهات العلم وتطوراته القديمة والحديثة، وفهما لدلالة كل مصطلح فيه بالنسبة إلى تطوره العام.
وهناك أخيرا رأي ثالث يجعل من الفلسفة دراسة لمشكلات نهائية لا يتناولها العلم، كالحرية ومعناها ومصير الإنسان وموقفه، وقد يبدو لأول وهلة أن أصحاب هذا الرأي هم الذين يجعلون من الفلسفة مبحثا متخصصا، ما دامت هذه الموضوعات تقف «إلى جوار» العلم ولا تندمج فيه، ويظل لها كيانها الخاص، المرتبط بماهية الإنسان ذاته، مهما طرأ على العلم من تغير أو تطور، ولكن إمعان النظر في هذا الموضوع يثبت لنا على نحو قاطع أن ربط الفلسفة بالموقف الإنساني هو الذي يقضي تماما على طابعها المتخصص؛ فحين تغدو الفلسفة مرتبطة بي من حيث إنني «إنسان» فحسب، فعندئذ أكون قد ضللت نفسي والآخرين إذا ما ادعيت أنني المتخصص فيها دون سواي؛ ذلك لأن الفلسفة لا تعود في هذه الحالة احتكارا لأحد، وإنما يكون لكل شخص منها نصيب في ميدانه الخاص، والفارق بين الفيلسوف وغير الفيلسوف لن يعود عندئذ فارقا بين شخص دارس للفلسفة وآخر غير دارس لها، وإنما يغدو فارقا بين شخص اكتمل لديه الوعي بذاته وبموقفه من حيث هو إنسان، وشخص آخر يعيش حياة سطحية لا تنعكس على ذاتها ولا تتأمل مشكلاتها بوعي ذاتي عميق، ومثل هذا الفارق الأخير لا يرتبط ضرورة بدراسة الفلسفة، ولا يخضع للتخصص فيها، وإنما هو فارق بين أنماط إنسانية وذهنية بأعم معاني هذه الكلمة، وبعبارة أخرى فقد يكون المرء دارسا متعمقا للفلسفة، وقد يصل إلى أرفع درجات التفوق في هذا الميدان، دون أن يكون له نصيب في عملية «التفلسف»، تبعا للمعيار الذي يضعه أصحاب هذا الرأي؛ لأن صلته بالفلسفة إنما هي صلة دراسات وكتابات وقراءات، وليست صلة حياة وتجربة عميقة يعيشها بكيانه الكامل، وعلى العكس من ذلك، قد ينطبق هذا المعيار على أشخاص لم يعرفوا الفلسفة معرفة علمية على الإطلاق، إذا كان منهاجهم في الحياة يجعلهم يشعرون في كل لحظة بموقفهم من العالم ومن الآخرين ومن أنفسهم شعورا كاملا، وهكذا فإن الفلسفة حين تغدو مرتبطة بإنسانية الإنسان ذاتها، تبتعد عن التخصص إلى حد تغدو معه عبارة «الفيلسوف المتخصص» مناقضة لذاتها، وعندئذ يكون على كل شخص أن يسلك في الحياة سبيله المعتاد، وتصبح الفلسفة - في الوقت ذاته - نشاطا موازيا للنشاط الذي يقوم به في حياته المعتادة، نشاطا يزداد أو يقل شعورا بذاته تبعا لما يمر به الإنسان نفسه من تجارب ومواقف، وتبعا لنوع الحياة التي اختارها لنفسه.
والخلاصة أنه سواء أنظر إلى الفلسفة على أنها تأتي عند نقطة نهاية العلم - كما يقول أصحاب الرأي التعميمي - أم على أنها تأتي عند نقطة بدايته - كما يقول أصحاب الرأي الوضعي التحليلي - أم على أنها تسير في خط مواز له وتحتل مجالا غير مجاله - كما يقول أولئك الذين يربطونها «بوجود» الإنسان - فإن وجود نمط «الفيلسوف المتخصص » أو «الفيلسوف بلا علم» يزداد صعوبة، إن لم يصبح مستحيلا في كل هذه الأحوال. وهكذا يبدو أن الفلسفة مضطرة على الدوام إلى الاندماج بمحتوى علمي أو فني أو أدبي في ذهن الإنسان، وأنها في عالمنا هذا تزداد بالتدريج عجزا عن أن تملأ وحدها الفراغ الثقافي في أي ذهن يريد أن يساير هذا العالم ويؤدي فيه وظيفته الصحيحة، وقد يرى البعض في ذلك انتقاصا من قدرها، ولكني لا أعتقد أن شيئا من مكانة الفلسفة ينتقص إذا ما تحولت وظيفتها من التعليم إلى التثقيف، ومن إمداد الذهن بمضمون معرفي إلى تنظيم المضمون الذي يستمده الذهن من مصادر العلم الأخرى، ومن مهنة متخصصة إلى نشاط خلاق تمارسه كل الأذهان إلى جانب أية مهنة أخرى يتخصص في إجادتها كل ذهن منها على حدة.
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
كان الشعب اليوناني فنانا بطبيعته؛ إذ إنه - بالإضافة إلى ما خلفه للعالم من روائع الآثار الفنية في ميادين النحت والتصوير والعمارة والشعر والمسرح - قد نظر إلى الحياة، في جميع مظاهرها، نظرة يمكن أن يقال إنها فنية في أساسها؛ فالدين اليوناني لم يكن فكرة أو عقيدة فحسب، بل كان في الوقت ذاته طقوسا وشعائر تسهم في أدائها أنواع عديدة من الفنون، ولم يكن من الممكن فصل أي من هذين الوجهين عن الآخر أو إيجاد أي نوع من التمييز بينهما، والآلهة اليونانيون لم يكونوا قوى خفية تتحكم في مسار العالم دون أن نعلم عنها شيئا، وإنما كانوا شخصيات فنية في دراما هائلة، هي دراما الخلق والصيرورة الكونية ومصير العالم، كذلك لم تكن الأخلاق اليونانية أخلاقا مجردة، بل كانت فكرة الجمال وفكرة الانسجام تلعب فيها دورا أساسيا، أما التربية فلم تكن أبدا تحصيلا أو تكديسا للعلم، بقدر ما كانت تحقيق التوازن الكامل بين الجسم والروح، وتنظيم ملكات الإنسان على نحو يسوده أكمل قدر من التوافق.
غير أن الشعب اليوناني لم يتميز بالفن فحسب، بل تميز أيضا بالفلسفة، أي إنه لم يكن يكتفي بالخلق والإبداع، بل كان يبذل جهدا كبيرا في تحليل هذا الخلق والإبداع والتفكير فيه بوعي دقيق، ومن هنا فكما ترك لنا اليونانيون مجموعة من أروع الآثار الفنية، فكذلك تركوا أولى النظريات التي احتفظ بها تاريخ البشر في مجال الفن؛ ولذا كان معظم الباحثين في علم الجمال يبدءون دراستهم بالنظريات الجمالية اليونانية، بوصفها أول محاولة للتفكير الواعي في الأسس الجمالية للخلق الفني، ولعل النظريات الجمالية الكبرى - التي سنوردها في هذا المقال لأشهر الفلاسفة اليونانيين - كفيلة بأن توضح مدى عمق التفكير الجمالي اليوناني على المستوى النظري، مثلما توضح آثارهم الفنية مدى عمق تجربتهم الجمالية على المستوى العملي.
النظرية الأخلاقية عند أفلاطون
من الممكن القول إن آراء أفلاطون في الفن تكون أول نظرية جمالية عامة محددة المعالم ظهرت في تاريخ الفلسفة، صحيح أن الإنتاج الفني قديم قدم البشرية ذاتها، ولكن التفكير الواعي في معنى الفن وقيمته، وتحديد العناصر التي تجعل العمل الفني جميلا، كل هذه أمور كان لا بد من أن يمر وقت طويل قبل أن تصاغ في صورة نظرية واضحة المعالم.
ولكي نتبين طبيعة الجو الذي صاغ فيه أفلاطون نظرياته الجمالية، ينبغي أن نبدأ بكلمة عن العلاقة بين فن كالشعر وبين الفلسفة في العصر الذي تقدم فيه أفلاطون بآرائه، وبذلك يتسنى لنا أن نضع آراء أفلاطون في سياقها التاريخي الصحيح؛ فقد نشأ التفكير في علم الجمال - عند اليونانيين - في جو من التنافس والصراع بين الشعر والفلسفة، واضطر الفلاسفة - إخلاصا منهم للحقيقة - إلى الحملة على الشعراء الذين كانوا ينافسونهم في ادعاء الحكمة والمعرفة، ولم يكن أفلاطون في الواقع أول فيلسوف يوناني يحمل على الشعراء ويندد بادعاءاتهم، بل سبقه إلى ذلك فلاسفة آخرون اتفقوا جميعا على أن الشعراء يقدمون إلى الناس صورة مزيفة عن العالم وعن الإنسان الآلهة، والواقع أن فنا كالشعر لم يكن يؤدي في حياة اليونانيين دورا سطحيا على الإطلاق، ولم يكن تأثيره فيهم يقتصر على ما يبعثه في نفوسهم من المتعة الجمالية، وإنما كان له في حياتهم دور أساسي؛ فملاحم هوميروس كانت بالنسبة إلى العصر اليوناني أشبه بالإنجيل بالنسبة إلى العصر المسيحي فيما بعد، وكانت الأساطير التي هي المادة الخام لهذه الملاحم تقوم بمهمة تعليم الذهن الشعبي وتشكيله في آن واحد، ولم يكن اليوناني العادي ينظر إلى هذه الملاحم على أنها مجرد قصص مثير يروى بطريقة إيقاعية، ويكون عالما خياليا مصطنعا، وإنما كان يعدها حجة في الشئون المتعلقة بالحرب والسياسة والعلاقات الاجتماعية والدين والحياة الأخرى، ومن المعروف أنه لم تكن لدى اليونانيين القدماء كتب دينية مقدسة أو هيئة دينية تضع الدين في صيغ ثابتة يتقيد بها الناس، ومن هنا كانوا يرجعون إلى الشعراء ليسترشدوا بهم في الشئون المتعلقة بالسلوك في الحياة. ولما كانت الفلسفة قد ظهرت بين اليونانيين لتطالب لنفسها بنفس هذه الوظيفة - أعني وظيفة تقديم تفسير للعالم وتوجيه الإنسان أخلاقيا في سلوكه - فقد كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين الفلاسفة وبين الشعراء، ونظرا إلى أن الشعر يرتبط ارتباطا وثيقا بالموسيقى، ولا سيما عند اليونانيين الذين كانت أشعارهم تلقى بطريقة غنائية إيقاعية، كما يرتبط أيضا بفنون أخرى كالفن المسرحي، فقد كان من الطبيعي أيضا أن يؤدي هذا الصدام إلى صراع له طابع أشمل بين الفلسفة وبين الفن بوجه عام.
هذا التمهيد - كما قلنا - ضروري لكي ندرك طبيعة الجو الفكري الذي ظهرت فيه نظرية أفلاطون الجمالية؛ فعلى أي نحو إذن كان أفلاطون يفهم الفن في معناه العام؟ يعني أفلاطون بالفن أولا ما اكتسبه الإنسان من مهارات أساسية تؤدي إلى الوفاء بحاجاته الأولية التي لا تستطيع الطبيعة تلبيتها؛ فالفن هو ما يضيفه الإنسان بذهنه إلى الطبيعة، ويمارس فيه مهاراته التي يكتسبها بعد خبرة طويلة، على أن الفن سرعان ما ينتقل عنده إلى معنى آخر أعمق، يصبح فيه عملية واعية يمارسها الإنسان وفي ذهنه غاية يحددها مقدما، فهو يقتضي معرفة دقيقة، ويسير تبعا لغاية معينة، وبعبارة أخرى فلكل فن خير يؤمل منه، وهدف يسعى إلى تحقيقه، وهكذا يرتبط البحث في الفن بالمعاني الأخلاقية منذ بداية الأمر.
ولقد كان من الطبيعي أن تتركز أول نظرية في علم الجمال على فكرة التقليد أو المحاكاة، فحتى يومنا هذا نجد كثيرا من العقول الساذجة تنظر إلى الفن على أنه محاولة لمحاكاة الطبيعة، وتلك هي النظرة السائدة عن طبيعة الفن عند أفلاطون؛ فالفنان - في رأيه - قادر على محاكاة كل شيء، وكما يقول هذا الفيلسوف في إحدى فقرات محاورة «الجمهورية»: «إن الفنان يستطيع أن يصنع النباتات والحيوانات، ويصنع ذاته وكل الأشياء الأخرى، من أرض وسماء، وما يعلو في السماء ويكمن في باطن الأرض، بل يستطيع أن يصنع الآلهة أيضا؛ ألست ترى أن هناك وسيلة تستطيع أن تفعل بها أنت نفسك ذلك؟ ... إن كل ما عليك أن تظل تدير مرآة حولك، وسرعان ما تجد نفسك قد صنعت الشمس والأرض وذاتك في المرآة وحدها.» وهكذا يشبه أفلاطون عمل الرسام بهذه العملية التي يدير فيها الإنسان مرآة من حوله ليصنع منها مظاهر وخيالات للأشياء، فإذا رسم الفنان كرسيا، فلهذا الكرسي مرتبة ثالثة من حيث الوجود؛ فهناك أولا فكرة الكرسي كما توجد في الذهن الإلهي، وهناك ثانيا الكرسي الفعلي الذي يصنعه النجار، وثالثا مظهر الكرسي أو صورته كما يرسمها الفنان، وعلى ذلك يكون العمل الفني في المرتبة الثالثة من مراتب الوجود؛ لأنه لا يتناول الأفكار الثابتة للأشياء، أو المثل كما يسميها أفلاطون، ولا يتناول الأشياء الجزئية التي نراها في العالم الواقعي، وإنما يتناول مظاهر لهذه الأشياء الجزئية فحسب، وهكذا يرتبط رأي أفلاطون في الفن بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المثل، التي ترتب فيها الموجودات ترتيبا تنازليا، يبدأ بتلك الأفكار الثابتة المسماة بالمثل، وينتقل إلى الأفراد الجزئية الهائلة العدد، والتي تشارك كل مجموعة منها في مثال واحد، وينتهي إلى ظلال الأشياء أو مظاهرها كما يصورها الشعراء والفنانون. فالفن إذن محاكاة، وهو ليس محاكاة للموجودات في أعلى مراتبها - أعني للمثل - وإنما هو محاكاة للأشياء الجزئية الفردية الزائلة، ومن هنا كان يحتل أدنى مرتبة من مراتب الوجود، وإذا كان من الشائع اليوم وصف الفنان بأنه خالق، فإن أفلاطون لم يكن ليقبل وصفا كهذا على الإطلاق؛ ذلك لأن الفنان في نظره مقلد فحسب، وهو يأتي في المرتبة الثالثة بعد الخالق الحقيقي، وهو الخير الكوني أو مثال المثل، وبعد الصانع الذي يصنع أشياء جزئية ملموسة يحاكي بها المثل ويقلد عالم الأفكار الثابتة.
وعلى أساس فكرة المحاكاة هذه تتخذ نظرية أفلاطون في الفن طابعا أخلاقيا واضحا؛ ذلك لأن الفن يتصف بنفس صفات الأشياء التي يحاكيها، فينبغي إذن أن يخضع لنفس القيود التي يخضع لها الناس هذه الأشياء في حياتهم الفعلية، فإذا كنا في هذه الحياة مثلا نحرم السرقة ونعدها جريمة في حق المجتمع، فمن واجبنا أيضا أن نحرم الشعر الذي يتحدث عن السرقة ويجعلها تبدو أمرا محببا إلى نفوس الناس. وربما قيل إن تأثير التقليد أضعف من تأثير الأصل، ولكن الواقع أن المحاكاة الفنية أشد إثارة للنفوس؛ لأن الفنان مبالغ بطبيعته، ولأن الفن أقرب صلة إلى الانفعال، وإذن فمن الواجب إخضاع الفن لقيود تشريعية صارمة بحيث نطبق على الأفعال التي يدعو إليها الفنان نفس الأحكام التي نطبقها على نظائرها التي تحدث في الحياة الواقعية.
كذلك نصل إلى هذه النتيجة ذاتها إذا تأملنا الأثر الداخلي الذي يتركه الفن في النفوس؛ فالفن يبعث فينا نوعا من اللذة، ويرتبط بانفعالاتنا أوثق الارتباط، وله فينا تأثير أشبه بالسحر الخلاب، وهذا التأثير وحده كاف للحملة عليه في نظر أفلاطون؛ إذ إن التأثر بهذا السحر هو ذاته ابتعاد عن الحقيقة، وانخداع بوهم باطل، والفن - بما يبعثه في الإنسان من لذة - يتقاذف النفس البشرية وكأنها ألعوبة في يده، فتراه يعلو بها أحيانا إلى قمة السرور، وينزل بها أحيانا أخرى إلى حضيض الحزن والألم، ويظل الإنسان نهبا لهذه الانفعالات، يمتلئ بها ويفرغ منها كأنه وعاء خاو. فالفن إذن يبعث في النفس البشرية حالة من عدم الاستقرار نتوهم خطأ أنها متعة، وفي هذا يجد أفلاطون سببا آخر للحملة عليه؛ ففي هذه اللذة التي يبعثها فينا خطورة؛ لأنها تؤثر حتما في واجباتنا الاجتماعية. ويرى أفلاطون أن هذه الصفة واضحة في الموسيقى بقدر ما هي واضحة في الشعر، ومن الطبيعي أن الموسيقى في نظر أفلاطون تعجز عن محاكاة الموضوعات الخارجية محاكاة مباشرة، وإنما هي تحاكي - أو على الأصح تصور - أحوالا للنفس البشرية، ومن هنا يصبح المعيار الذي يحكم به أفلاطون على الموسيقى هو نوع الحالة النفسية أو الخلق الذي تثيره الموسيقى في نفس الإنسان. •••
ويؤكد أفلاطون أن الأحوال التي تثيرها الفنون المختلفة - وخاصة الموسيقى - في الإنسان، تتغلغل في نفسه تدريجيا حتى تصبح طبيعة ثابتة، أي إن النمو النفسي للمرء يتحدد من خلال الانفعالات التي يمر بها، والتي تلعب فيها الفنون دورا كبيرا، ومن هنا كان من الواجب الحرص على إخضاع النشء للمؤثرات الفنية الصالحة وحدها، واستبعاد كل فن يبعث في نفسه عزيمة خائرة أو يولد فيه صفات الجبن والغش والخداع. وهكذا يبدو أن أفلاطون - رغم كل ما يبديه من عداء لأنواع معينة من الفن - يعترف ضمنا بما للفن من تأثير هائل في النفوس، وبدوره الكبير في التربية، وبقيمته الأساسية بوصفه سلاحا أخلاقيا من الطراز الأول.
ومن الواضح أن هذه الآراء قد تكررت مرارا خلال تاريخ التفكير الجمالي، ومن أشهر الأمثلة الحديثة لها، النظرية التي عرضها الكاتب الروسي الشهير تولستوي في كتابه «ما الفن؟» فهو يرى أن الفن نوع من التبادل المقصود للمشاعر، وأنه رغم كونه محايدا أخلاقيا، فإنه لا يستحق أن يقبل إلا إذا أثار فينا مشاعر تتمشى مع غاية الحياة وخيرها كما يحددها المجتمع في عصر معين. وعلى أية حال فلسنا بحاجة إلى الخوض في تفاصيل نظرية تولستوي، التي تنتهي إلى نتائج مشابهة لتلك التي انتهى إليها أفلاطون، رغم ارتكازها على دوافع وقيامها على أسس مختلفة كل الاختلاف عن دوافع نظرية أفلاطون وأسسها؛ فالنظرية الأخلاقية في الفن متشابهة في طابعها العام، ولها أينما ظهرت عيوب ومزايا واحدة.
فما هي إذن أهم عيوب هذه النظرية؟ أوضح هذه العيوب أنها تخلط بين البحث عن المنفعة العملية والفائدة الأخلاقية وبين المتعة الفنية أو الجمالية ذاتها؛ فمن الصعب أن يعترف المرء بأن الفن لا ينبغي تقديره إلا لما فيه من دعوة أخلاقية؛ لأن الفن يغدو عندئذ نوعا من المواعظ، بل تصبح المواعظ ذاتها أعظم قيمة منه، فضلا عن أنها سبيل أيسر للوصول إلى الهدف المطلوب، ولو تأملنا الأسس التي نحكم بها على الأعمال الفنية، لما وجدنا الأساس الأخلاقي واحدا منها؛ فقد يحدث أن يفضل الناس عملا فنيا يؤدي إلى نوع من التهاون الأخلاقي، والأكثر من ذلك شيوعا ألا ينظر الناس إلى المضمون الأخلاقي للعمل الفني على الإطلاق، وهم في ذلك على حق؛ إذ إننا في تجربتنا الجمالية لا ننظر إلى الفنان على أنه معلم يلقننا درسا في الأخلاق، ولا نعجب بلوحاته أو بموسيقاه بناء على ما تبعثه فينا من معاني الفضيلة وحسن السير والسلوك، ولنتساءل بعد ذلك: أية أخلاق هذه التي يريدنا أصحاب هذه النظرية أن نطالب بها في كل عمل فني نستمتع به، أهي أخلاق طبقة معينة، أم عصر كامل، أم أخلاق الحكام؟ إن أفلاطون يؤكد أن الفيلسوف - بوصفه الشخص الذي يعرف الخير والشر أكثر مما يعرفهما غيره من الناس، وبوصفه أجدر الناس بتولي مقاليد الحكم في الدولة المثالية - هو القادر على أن يحدد لنا الفن المقبول والفن غير المقبول، وعلى عكس ذلك يدعو تولستوي إلى أن يكون كل فن مفهوما ومقبولا لدى أبسط فلاح، وإن كنا لا نستطيع أن نفترض أن «أبسط فلاح» هذا سيكون بالضرورة شخصا أخلاقيا تتمشى أحكامه مع الخير ومع الفضيلة، والمهم في الأمر أن أحدهما يضع المعيار في أعلى درجات السلم الاجتماعي والفكري، أي عند الحاكم الفيلسوف، والآخر يضعه في أدنى درجاته، أي عند الفلاح البسيط، وهذا وحده شاهد على أن القول بوجوب اتباع الفن للأخلاق ليس كافيا وحده؛ إذ إننا سنظل نتساءل دائما عن نوع الأخلاق التي ينبغي أن يتبعها الفن، وسندخل في خلافات جديدة حول تفضيل نظم القيم المختلفة للناس. وعلى أية حال فمن الواضح أن مغزى العمل الفني أعمق وأوسع من مثل هذه الخلافات الضيقة؛ فالعمل الفني العظيم يضعنا وجها لوجه أمام ماهية الإنسان ذاتها، أعني الإنسان من حيث هو موجود له موقف معين من الكون ومن عالم الناس، وهو أعم وأشمل من أن يرتبط بهذا النظام الأخلاقي أو ذاك، والمتعة الجمالية ذاتها شيء يختلف كل الاختلاف عن الاعتبارات العملية المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الناجح، والأمر المؤكد أن كبار الفنانين لم يخلقوا أعمالهم وفي أذهانهم غايات أو نوايا أخلاقية، ولم يبدعوا وهم يرمون إلى تحسين أخلاق الناس أو إعطائهم دروسا في الفضيلة، ولو أصبحت الغاية الوحيدة للفن هي غرس الأخلاق الحميدة في النفوس، لانحط مستوى الفن انحطاطا شديدا، بينما لن تفيد الأخلاق ذاتها شيئا من كل ما يقدمه الفنانون من مواعظ.
ومثل هذا يقال عن ارتباط الفن باللذة عند أفلاطون؛ فالمنطق السليم لا ينكر أن الفن يجلب نوعا من اللذة، وإلا لما كنا نجد العمل الفني جميلا؛ إذ إن العمل الذي نتذوقه دون لذة حاضرة أو مأمولة لا يمكن أن يكون في نظرنا جميلا على الإطلاق، ولكن هذا الارتباط باللذة لا يعني أن الفن مجرد وسيلة لالتماس اللذة بأي ثمن، ولو كان الأمر كذلك لكان أفلاطون محقا في هجومه على الفن؛ إذ إن من المعترف به أن بعض اللذات تنطوي على الشر إما في ذاتها أو بما تجلبه من النتائج، ولكن الواقع أن الخلق الفني وتذوق الجمال هما مظهران لنشاط مرغوب فيه لذاته، ولو كان الفن مجرد وسيلة لاكتساب اللذة أو مداعبة الحواس؛ لكان من واجبنا أن نستبدل به وسائل أخرى تعطينا من اللذات قدرا أعظم، ولكان من الصعب على المرء - على حد تعبير أحد الكتاب - أن يفاضل بين علبة السجاير وبين شكسبير، فإذا قيل - ردا على ذلك إن على المرء أن يفضل ذلك النوع الخاص من اللذة المسمى بالفن، لكان في هذا اعتراف بالمطلوب؛ لأنه يعني أن ما يجذبنا إلى الفن ليس اللذة في ذاتها، وإنما أمور أخرى نسلم بوجودها في العمل الفني، وبعدم وجودها في بقية الموضوعات المحسوسة الأخرى.
أما فكرة المحاكاة - التي تبنى عليها هذه النظرية الأخلاقية في الفن - فإن فيها عيوبا واضحة، أبرزها أن هناك أنواعا من الفن لا تحاكي شيئا على الإطلاق، وكذلك أنواعا من الجمال لا تنطوي على تصوير أو تقليد لشيء، ومن أمثلة هذه الأنواع: جمال الطبيعة وجمال الفن الزخرفي والفن المعماري وفن الرقص، ولا يمكن أن تستقيم نظرية أفلاطون إلا إذا استطاع أن يدخل ضمنها هذه الفنون جميعا، ومما له دلالته أن أفلاطون لم يتحدث في الكتاب العاشر من محاورة «الجمهورية» - الذي هاجم فيه الفن على أساس فكرة المحاكاة - إلا عن فن الشعر والتصوير، وأغفل الفنون الأخرى التي هي بطبيعتها غير محاكية. والواقع أننا - حتى في الحالات التي يكون فيها الفن محاكيا - نرى الأصل في كثير من الأحيان فلا نعجب به إعجابنا بالتقليد الذي هو العمل الفني، فلا بد إذن أن يكون بينهما شيء من الفارق هو الذي يعلل هذا الإعجاب، أما التقليد الحرفي فقد يكون أمرا مسليا، ولكنه لا يثير فينا متعة جمالية، والدليل على ذلك أن القردة أقدر عليه من معظم الناس.
وفي آراء أفلاطون الجمالية - بعد هذا - عيب أساسي، هو ارتباطها بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المثل، بحيث إن المرء يستطيع أن يرفض كل هذه الآراء الجمالية إذا لم يوافقه على نظرية المثل، وإذا لم يكن يؤمن بأن للأفكار أسبقية في الوجود على الأشياء الجزئية الواقعية، أو بأن الأولى هي الثابتة، بينما يقل الثبات وتنعدم الوحدة والنظام كلما ابتعد المرء عنها هبوطا في سلم الموجودات. والواقع أن هذه النظرية عندما تطبق على الفن تؤدي إلى نتائج ممتنعة غاية الامتناع؛ إذ هي تفترض ضمنا القول إن الصانع - كالنجار الذي يصنع الكرسي في المثل الذي ضربناه من قبل - أفضل من الفنان؛ لأن الأول على الأقل يحاكي المثل الفكرية مباشرة، بينما الثاني لا يحاكي إلا ما أنتجه الأول بالمحاكاة، وعلى حين أن الصانع يتصل مباشرة بالمثل، وينتج شيئا واقعيا ملموسا، فإن الفنان لا ينتج إلا ظلالا وأوهاما في أدنى مراتب الوجود، ولعل هذه النتيجة وحدها كافية لإثبات مدى استحالة تطبيق مثل هذه النظريات الميتافيزيقية في مجال الفن.
ولنتساءل في هذا الصدد: لماذا أصر أفلاطون على القول بأن الفنان يقلد الأشياء الجزئية، ولم يقل إنه إذا كان مقلدا، فإنه يقلد المثل الفكرية العامة؟ هل الفنان بالفعل - في خلقه لعمله الفني - يصور الأشياء الفردية الجزئية الخاصة، ولا يضع في اعتباره الفكرة أو المثال أبدا؟ إننا نعترف بأن موضوعات الفن جزئية، بمعنى أن الكاتب مثلا يرسم في روايته شخصية فردية محددة، لها اسم معين وطبيعة واحدة وظروف خاصة في الحياة، ولكن الفنان كثيرا ما يتناول - من خلال هذه الشخصية الجزئية - نمطا عاما يمثل الفكرة بأسرها، لا تحققها الجزئي في هذا الفرد أو ذاك، ولنقل من ناحية أخرى إن المثال الأفلاطوني ذاته شيء يصعب تصوره بالفكر المحض، وربما كانت أفضل وسيلة لتقريبه إلى الأذهان هي تأمله من خلال العمل الفني؛ فحين يعرض الفنان شخصية إنسانية جزئية خاصة، قد يعرض لنا من ورائها أنموذجا كاملا للإنسان ذاته، صحيح أنه لا يزعم أنه يصور الإنسانية كلها، من حيث هي فكرة واحدة ثابتة لا تتغير، كما أراد أفلاطون من المثل أن تكون، ولكنه على أية حال يخرج في عمله الفني عن حيز الفردية الضيقة، بحيث يمثل في «روميو وجولييت» مثلا المحبين في كل زمان ومكان، ويمثل في «الإخوة كارامازوف» أزمة الإنسان الحديث بأسرها، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه كل من العملين - بطبيعة الحال - من عناصر خاصة لا تفهم إلا في سياق محدود. وبعبارة أخرى فإذا كان في وسع الإنسان أن يتصور نماذج لعالم مثالي يعلو على الجزئيات الفردية التي يتعامل معها الناس في حياتهم اليومية ، فأقرب شيء إلى هذه النماذج هو تلك الموضوعات التي يخلقها الفنان، وهذا يؤدي بنا إلى قلب أوضاع نظرية أفلاطون، بحيث يحتل العمل الفني المرتبة الأولى بدلا من الثالثة، أو على الأقل يصبح هو أقرب الأشياء التي يمكننا تصورها إلى هذه المرتبة وإلى طبيعة المثال أو الفكرة الكامنة من وراء الجزئيات.
فإذا انتقلنا إلى الجانب الإيجابي من آراء أفلاطون ومن نظريته الأخلاقية بوجه عام، كان علينا أن ننبه أولا إلى أن قدرا كبيرا من سوء الفهم - بالنسبة إلى هذه النظريات القديمة - يرجع إلى الاختلاف في فهم معاني المصطلحات بين اللغات القديمة واللغات الحديثة؛ فالكلمة اليونانية المعبرة عن الشاعر تعني أيضا الصانع أو الفاعل، وكان يشيع استخدامها بين اليونانيين للدلالة على كل فنان يخلق شيئا أو يصنعه بعد أن لم يكن موجودا. وهكذا فإن الكلمة حتى عندما تستخدم بمعناها الضيق - وهو معنى الشاعر - تحمل دائما ارتباطات أوسع من هذا المعنى، وهذا يصدق أيضا على الكلمة المعبرة عن الموسيقى؛ فهي أحيانا تشمل كل الفنون والآداب، أي كل ما يرتبط بربات الفن والأدب، وهذا هو المعنى الذي يقصده أفلاطون حين يتحدث عن العنصرين الأساسيين اللذين ينبغي أن تتضمنهما التربية، وهما: الموسيقى - أي التربية الروحية - والرياضة البدنية - أي التربية الجسمية، بل إن هذا الاختلاف يظهر بوضوح في كلمة الفن ذاتها؛ فالفن عند اليونانيين يشمل - بالإضافة إلى معناه المألوف لدينا اليوم - الفنون الصغرى والحرف اليدوية والصنائع العملية، أي إن التقابل الحديث بين الفن الجميل والصنعة لم يكن قد عرف بعد، ويرى بعض الباحثين أن هذا التوسع في معنى الفن هو أمر تتميز به النظرة اليونانية في مجموعها عن النظرة الحديثة التي ضيقت مجال الفن أكثر مما ينبغي، حين أخرجت من ميدانه أنواعا من النشاط تنتمي بالتأكيد إلى مجال التنظيم المعقول للموضوعات الحسية التي يتعامل معها الإنسان.
ورغم كل العيوب التي أشرنا إليها من قبل في صدد فكرة المحاكاة، فمن المؤكد أن لهذه الفكرة أساسا ثابتا في التجربة الفنية ذاتها، هو أن الفن - في معظم اتجاهاته - يصور شيئا ما، وقد لا يعترف أنصار الفن التجريدي المعاصر بذلك، ولكن كثيرا من الرسامين والنحاتين قد اعترفوا بأنهم يصورون في أعمالهم موضوعات معينة بل يحاكونها أحيانا، كما أننا نقول عن الروائي أو الكاتب المسرحي أو الشاعر إنه يصور شخصيات أو مشاعر معينة بدقة، بل إن أكبر مدح نوجهه إلى الأديب القصاص هو أن نصف حوادثه بأنها طبيعية، وشخصياته بأنها صادقة، ولغته بأنها مماثلة لتلك التي يستخدمها الناس بالفعل. وإذا كان أفلاطون قد عبر في نظريته عن طبيعة عصره الذي درس فيه المثالون تفاصيل الجسم البشري بدقة ليحاكوها في أعمالهم على نحو علمي دقيق، فإن آراؤه تغدو أقرب إلى فهمنا إذا تذكرنا تلك الدراسات الطويلة التي قام بها رسامون محدثون للظواهر الطبيعية حتى يحاكوها في لوحات أصبحت لها منذ ذلك الحين شهرة عالمية.
وأخيرا فإن الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى النظريات الأخلاقية في الفن كثيرة، ولكن سيظل من الصحيح رغم كل ذلك أن التجربة الجمالية تجعلنا أناسا أفضل، وأنها تهذب مشاعرنا وتجعلها أقل عنفا وأكثر إنسانية، وتبلغنا بالتالي رسالة لا شك في أن لها طبيعة أخلاقية، وإذا كان من الخطأ أن يطلب إلى الفنان أن يقدم إلينا دروسا مباشرة في الأخلاق، فمن المؤكد أن هذه الدروس موجودة حتى لو لم يتعمدها الفنان، وهي تتمثل في قلب التجربة الجمالية ذاتها، في ذلك السر الغامض الذي يتميز به العمل الفني العظيم، حين يضفي على مشاعرنا رقة لا ندرك مصدرها، ويجعلنا - على نحو لا نفهمه بوضوح - نبعد عن مشاغلنا ومصالحنا الجزئية ونزداد اقترابا من إنسانية الإنسان.
النظرية الواقعية عند أرسطو
أما أرسطو فكان أول من خصص مؤلفا كاملا عن موضوع في صميم علم الجمال، هو كتاب الشعر، ورغم أن موضوع البحث في هذا الكتاب - كما هو واضح من عنوانه - هو الأدب بل الأدب المنظوم، فإن الكتاب أول مؤلف نظري خصص كله لمناقشة المسائل الجمالية، فضلا عن أنه تضمن إشارات موجزة إلى مختلف الفنون، وإلى طبيعة التجربة الجمالية بوجه عام. ولم يكن كتاب الشعر هو الوحيد الذي عالج فيه أرسطو الموضوعات الفنية، وإنما تضمنت كتبه الأخرى - ولا سيما كتاب السياسة - أبحاثا هامة في هذا الموضوع.
ولقد كان الأسلوب الذي تناول به أرسطو موضوع الفلسفة الجمالية مختلفا كل الاختلاف عن طريقة أفلاطون في معالجة هذا الموضوع؛ فأرسطو ينقلنا إلى جو علمي جديد، خلا من تلك النزعة الشعرية الواضحة التي تميزت بها طريقة أفلاطون في الكتابة، ولم يكن أرسطو يشعر على الإطلاق بذلك التوتر الذي أحس به أفلاطون بين مزاجه الشعري الخاص وبين رفضه الفلسفي للشعر. ومن هنا كان أرسطو أقدر على التحليل العلمي الهادئ من أفلاطون، وأقدر منه أيضا على المضي في أبحاثه بحيث تتفرع الموضوعات عنده إلى ميادين أدق وأعمق.
والأهم من ذلك أن أرسطو كان يتميز بموقف فلسفي عام أقرب إلى الواقعية كثيرا من أفلاطون، وكان لهذا الموقف تأثير هام في صبغ نظريته الجمالية بالصبغة الواقعية؛ فهو لا يحمل على الواقع وعلى عالم الجزئيات كما فعل أفلاطون، ولا يهاجم العالم المادي من الوجهة الأخلاقية مثله، وإنما يتصف العالم في نظره بالدينامية والحرية، وبالغرضية التي تتغلغل في أدق تفاصيله، وبعبارة أخرى فللطبيعة ذاتها - في كل أفعالها - غاية يمكن أن توصف بأنها جمالية بمعنى ما، ولها في كل شيء حكمة وخطة مرسومة، وسوف نرى بعد قليل إلى أي حد تؤثر نظرة أرسطو الواقعية هذه إلى الطبيعة في فلسفته الجمالية بوجه عام. •••
ولكي نوضح العناصر الرئيسية في نظرية أرسطو في الفن، سنقتبس أجزاء من تعريف للشعر ورد في مستهل كتابه، ويمكن أن ينطبق على مجال الفن بأسره؛ ففي التعريف يقول أرسطو: «إن أصل الشعر راجع إلى سببين، كل منهما يرتد إلى ميول طبيعية: الأول هو المحاكاة، وهي متأصلة في البشر منذ طفولتهم وما يلي ذلك من فترات العمر ... كما أن التمتع بالمحاكاة متأصل في الناس جميعا، وهذا أمر يشهد به الواقع ذاته؛ إذ إننا نستمتع برؤية أدق صور الأشياء التي نكره أن ننظر إليها في حقيقتها، كصور أبشع الحيوانات أو الجثث، والسبب الثاني هو أن الناس جميعا - لا أهل العلم فقط - يستمتعون برؤية الأشياء من جديد؛ إذ إن هذه تتيح لهم فرصة التعرف والاستدلال على كل شيء على حدة، فيقولون إنه ذاك؛ ذلك لأن الرائي لو لم يكن قد رأى الشيء من قبل أبدا، لما كان الشبيه هو الذي يسبب اللذة، ولكن الذي يسببها هو الأداء أو اللون أو أي عامل آخر.»
في هذا التعريف المشهور يحدد أرسطو عناصر معينة للفن، أولها عنصر المحاكاة؛ ففي الفن يعمل الإنسان على محاكاة الطبيعة، ويكون منتجا مثلها، وكل ما في الأمر أن المبدأ المنتج في حالة الطبيعة يكون موجودا في الطبيعة ذاتها، أما في حالة الفن فإنه يكون في نفس الفنان، وعلى ذلك فالفن راجع إلى ذلك الميل الطبيعي لدى الإنسان إلى محاكاة الأشياء، وهذا هو الأصل الأول للفن كما يحدده أرسطو بطريقته المميزة التي كان يحرص فيها على رد كل شيء إلى منشئه، وهي الطريقة المسماة بالمنهج المشئي أو منهج الرجوع إلى الأصول.
ومع ذلك فإن أرسطو لا يحمل على الفن نظرا إلى كونه يحاكي الطبيعة أو عالم الواقع؛ لأن الواقع - كما قلنا - ليس عنده ظلالا معتمة، وإنما هو حقيقة حية تنطوي في ذاتها على أسمى غاياتها، وفضلا عن ذلك فإن الفن يضيف إلى هذا الواقع جديدا على الدوام؛ ففي البدايات الساذجة وحدها يكون الفن مقيدا بالطبيعة، أما حين يشب عن الطوق، فإنه يضم العناصر التي توجد متفرقة في الطبيعة بحيث يكون منها كلا واحدا، وكما يقول أرسطو: «فالجميل يختلف عن غير الجميل - مثلما تختلف الأعمال الفنية عن الأشياء الواقعية - في أنه يجمع بين العناصر المتفرقة كالألوان في الرسم، والأصوات المنفردة في السلم الموسيقي، والكلمات في الشعر، والحوادث في الرواية.» ولكي يكون العمل الفني سليما، فلا بد أن يحدث فيه هذا الجمع بين العناصر تبعا لنسب محددة، وبالإضافة إلى جمع الفن بين العناصر التي توجد متفرقة في الطبيعة، فإنه يأتينا بما هو عام، على حين أن الطبيعة لا تنطوي إلا على جزئيات، ولكن ليس المقصود من العمومية في هذه الحالة هو أن الفن يتناول ظواهر يشترك فيها كثرة من الناس أو الأفراد؛ إذ إن هذا النوع من التعميم من شأن العقل لا الخيال، وكلما كان الخيال المبدع حيا، كانت الشخصيات التي يرسمها أكثر عينية وفردية، وإنما المقصود بقولنا إن الفن يصور حوادث عامة، هو أن الفنان عندما يصور شخصية - مثلا - يصور ما يفعله أي فرد آخر في مثل ظروفنا وموقفنا، أي إنه يصور عنصر الضرورة في الحوادث والأفعال، بحيث يبدو ارتباطها فيما بينها، وصدورها عن الشخصية التي تقوم بها، ارتباطا يقنع العقل ويرضي نزوعنا إلى البحث عن الأسباب. وعلى ذلك فالفن عام بمعنى أنه يصور الكلي في مقابل العرضي، لا بمعنى أنه يصور ما ينطبق على كثرة من الأفراد، وبعبارة أخرى ففي الفن نوع خاص من الحقيقة، يتمثل في أنه لا يصور نزوات فردية يستحيل تعليلها، وإنما ينقل إلينا حقائق يقتنع بها الجميع، وتحتل كل واحدة منها مكانها وسط السلسلة العامة لما يعرضه من الحوادث، فإذا كنا نجد الفن معبرا، فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى أنه يعبر عن إمكانية من إمكانياتنا، وبذلك ندرك التقارب بين أذهاننا وذهن الفنان، سواء في الشعور وفي التعبير، وهو تقارب يمتد - مثاليا - إلى البشرية جمعاء. •••
وربما كان أهم ما يستخلص من التعريف السابق - فيما يتعلق برأي أرسطو في فكرة المحاكاة - هو قول أرسطو إن المرء قد يستمتع برؤية صورة شيء يكره أن ينظر إليه في حقيقته؛ فأرسطو هنا يسير في أول الطريق الذي يؤدي إلى الاعتراف بأن للفن حقيقة مستقلة بذاتها، وعلى حين أن أفلاطون قد أكد - بشيء من السذاجة - أن تأثير التصوير في نفوسنا مماثل لتأثير الواقع، فإن أرسطو يجعل للتصوير تأثيرا مستقلا عن الواقع الذي يمثله، أعني أن في العمل الفني عنصرا جماليا مستقلا عن الواقع الذي يمثله مضمون الموضوع الذي يصوره هذا العمل، ويرى بعض الكتاب في هذا الرأي تلميحا إلى فكرة الرمزية، أي إن هذه هي الخطوة الأولى في الطريق الذي يؤدي إلى القول بأن الفن يرمز إلى الواقع بدلا من أن يحاكيه، وعلى أية حال فأقل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو أن أرسطو قد أدرك - لأول مرة بالنسبة إلى الفلاسفة السابقين عليه - أن تصوير الواقع فنيا يؤدي إلى تغييره، ويصبغه بصبغة مثالية.
وتتفاوت الفنون من حيث قدرتها على تصوير الواقع ومحاكاته؛ فللموسيقى قدرة مباشرة على تصوير الأحوال النفسية والطباع، «فالإيقاع والنغم يقومان بمحاكاة مشاعر الغضب والرقة، وكذلك صفات الشجاعة والاعتدال، والصفات المقابلة لهذه وغيرها من صفات الخلق، وهذا أمر تثبته التجربة؛ إذ إننا نشعر بتأثيرها في نفوسنا عند سماعنا لها »، أما في التصوير فليست المحاكاة مباشرة، صحيح أننا قد نشعر في التصوير بمزيد من المتعة، تولدها فينا قدرتنا على استنتاج موضوع التصوير والتعرف عليه، ولكن هذا السرور ملتو غير مباشر. على أن المحاكاة تكتمل وتبلغ هدفها في المأساة أي التراجيديا؛ فالموسيقى والتصوير - على ما لهما من أهمية - لا يقدمان إلينا فكرة تبلغ من الثراء والاتساع ما تبلغه العقدة الموحدة المحبوكة في التراجيديا. وهكذا يقيس أرسطو شرف الفن المحاكى - مثلما يقيس شرف المعرفة - بمقدار ما فيه من شمول ومعقولية وضرورة محتومة، تناظر ما في العلم الأصيل والمعرفة الحقة من هذه الصفات.
والفكرة الرئيسية الثانية في نظرية أرسطو في الفن هي فكرته المشهورة في «التطهر
catharsis »، ويعرض أرسطو هذه الفكرة في تعريفه للتراجيديا الذي يقول فيه: إنها «تصور فعلا نبيلا كاملا في ذاته ... بلغة لها سحرها الخاص ... وتؤدي - بإثارتها لانفعالي الشفقة والخوف - إلى تطهير النفس من هذين الانفعالين.» وهذا التعريف يحدد صفة أساسية للتراجيديا، هي أنها تصور فعلا كاملا في ذاته؛ فلا بد أن تكون للتراجيديا وحدة عضوية متكاملة، وأن تكون لها بداية ووسط ونهاية، وينبغي أن ترتب الحوادث فيها بحيث إنه إذا تغير موضع أي جزء منها أو حذف؛ اختل نظام الكل، وهكذا تكون العلاقة بين الحوادث أشبه بالعلاقات الرياضية بما فيها من نظام وتماثل وتحدد.
ولكن أهم ما في هذا التعريف هو إشارته إلى فكرة التطهر؛ فعلى حين أن أفلاطون قد رأى في الشعر والأدب عامة وسيلة لإثارة الانفعالات بأي ثمن، فإن أرسطو يرى - على العكس من ذلك - أن المأساة وسيلة لتخفيف الانفعالات أو إطلاقها وتحرير الإنسان منها، وبعبارة أخرى فاللذة التي تترتب على الفن لا تحمل ذلك الطابع المذموم الذي تحمله عند أفلاطون، وإنما هي تتويج للحياة ودليل على الشعور بامتلائها، وفي استطاعة اللذة الفنية أن تخلص النفس من المتاعب والهموم والانفعالات، مثلما يؤدي الشرب إلى خلاص الجسم من العطش؛ ذلك لأن الانفعالات لو تركت لتتراكم في النفس، فإنها تغدو فيها أشبه بالسموم التي ينبغي التخلص منها، وهناك أشخاص يسهل تعرضهم لانفعالات الخوف والإشفاق المتزايد، وهؤلاء يصابون بأضرار كثيرة لو أطلقوا العنان لهذه الانفعالات، ومن هنا كان في الفن - وفي فن المأساة بوجه خاص - شفاء لنفوسهم وتطهير لها من انفعالاتها المتطرفة؛ ذلك لأنهم يمرون - عند مشاهدتهم للمأساة - بتجربة مماثلة لما يحدث في الحياة الواقعية، وهكذا تنطلق الطاقة الحبيسة في نفوسهم، ولكن في ظروف مصطنعة لا تكون لها نفس الأضرار التي يمكن أن تصيب النفس لو أطلقت هذه الطاقة في الظروف الطبيعية، وعن طريق هذه التجربة المحاكية تتخفف النفس من انفعالاتها الأصلية. ومن هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين فكرة المحاكاة وفكرة التطهر، أي بين العنصرين الرئيسيين في نظرية أرسطو في الفن؛ ذلك لأن التطهر لا يتم إلا بمحاكاة ظروف مماثلة لتلك التي تثار فيها الانفعالات في الحياة الواقعية. وهكذا يبدو أن أرسطو من أنصار المثل القائل: وداوني بالتي كانت هي الداء. وكل ما في الأمر أن الدواء هنا يتم في ظروف فنية مصطنعة، تعالج الداء الذي هو الإفراط الفعلي في الانفعال، ولنوضح بطريقة أخرى ما يقصده أرسطو من فكرة التطهر، تلك الفكرة المشهورة التي طالما اختلف حولها الشراح والمفسرون، فهو يرى أن شفاء الجسم والنفس من العلل يتم عن طريق بلوغ حالة من التوازن تتسنى فيها معادلة التطرف بحالة مضادة له، تؤدي إلى التخفيف منه، وتعيد التوازن إلى سابق عهده، وهكذا ففي مقابل الشفقة المرضية المفرطة التي يتعرض لها الناس في حياتهم المعتادة، يعود التوازن السليم بفضل تلك الشفقة المتزنة العاقلة التي تثيرها المأساة؛ ذلك لأن الإفراط في الشفقة قد يؤدي بنا إلى الإشفاق على من لا يستحق، أما المأساة المسرحية السليمة فإنها تعلمنا كيف نضع الشفقة في موضعها الصحيح، ومن هنا كان أرسطو يرى أن المأساة الجيدة ينبغي أن ترسم لنا صورة شخص تظلمه الأقدار وهو لا يستحق الظلم، وإن كان قد ارتكب خطأ بسيطا هو الذي أدى إلى نزول الكارثة عليه، وهنا تكون شفقتنا عليه في موضوعها، ولا تكون شفقة مفرطة نشعر بها تجاه من يستحق ومن لا يستحق ، ومثل هذا يقال أيضا عن تأثير المأساة في انفعال الخوف والحماسة المفرطة، وهكذا فإن مشاهدة مأساة مسرحية كهذه، تعيد إلى المشاهد التوازن في انفعالاته، وترد إليها ما فيها من تناسب وتناسق.
وهنا نلمس فارقا آخر بين نظريتي أفلاطون وأرسطو؛ فعلى حين أن أرسطو يرى أن إشفاقنا على الضحية في المأساة يفرغ طاقتنا الانفعالية، ويخلصنا بالتالي من المشاعر المتطرفة، فإن أفلاطون يرى - على العكس من ذلك - أن تكرار الاستماع إلى القصص الشعري ومشاهدة العروض المسرحية يزيد من حساسية النفس للانفعالات، ولا يؤدي مطلقا إلى التخلص منها، وقد أدى هذا الاختلاف بين الفيلسوفين إلى تباين آخر في تقدير كل منهما لقيمة الفنان؛ فأفلاطون كان يضع الشاعر بعد الصناع وأصحاب الحرف، أما أرسطو فيضعه في أعلى السلم مع الفلاسفة والحكماء؛ ذلك لأن أرسطو كان يرى في قدرة الشاعر ومؤلف المأساة على تصوير تجارب الحياة، وعلى تمثل هذه التجارب في نفسه بكل ما فيها من تفاصيل ومشاعر عميقة، دليلا على وجود موهبة لدى الشاعر لا تقل عن موهبة الفيلسوف، أما أفلاطون فقد كان يرى في هذه الصفة ذاتها - أعني في قدرة الأديب على تقمص الشخصيات والمواقف المختلفة والتقلب معها - دليلا على تقلب النفس ذاتها وافتقارها إلى التماسك والثبات، ولو قارن المرء بين الموقفين؛ لظهر له على التو أن موقف أرسطو هو الأسلم والأقرب إلى الفهم السليم لطبيعة التجربة الفنية. وهكذا فإن إدراك أرسطو لقدرة الفن على السمو بالانفعالات الإنسانية - بالإضافة إلى اعترافه بأن للفن حقيقة قائمة بذاتها، بغض النظر عن طبيعة الموضوع الذي يصوره - يمثل تقدما كبيرا في التفكير الجمالي، بل هو يدل على ظهور بوادر النظريات الجمالية منذ ذلك العهد البعيد، عهد الفلسفة اليونانية القديمة.
النظرية الصوفية عند أفلوطين
أما نظرية أفلوطين فتمثل آخر مرحلة للتفكير الجمالي عند اليونانيين، ومن الممكن أن تعد قمة وتتويجا لهذا التفكير، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي في ذاتها على عنصر يقضي على الطابع المميز للفكر اليوناني، ويمهد الطريق لنمط التفكير الذي ساد العصور الوسطى؛ ذلك لأن أفلوطين قد جمع أهم الأفكار التي تضمنتها النظرية الجمالية عند أفلاطون وأرسطو، وكون منها مركبا أعلى، ولكنه في الوقت ذاته قد صبغ هذا المركب بصبغة صوفية كانت في واقع الأمر تمهيدا لظهور النظرة اللاهوتية إلى الحياة وإلى الفن في العصور الوسطى، وبالتالي لاختفاء المفهوم اليوناني في هذين المجالين.
ومنذ أول «تساعية» من تساعيات أفلوطين، نراه يتساءل عن ماهية الجمال، فيقول إن هناك جمالا يرى أو يسمع أو يحس، وهناك جمال الروح الذي نجده في سلوك معين أو في طبيعة معينة، ولكن هل يوجد عنصر مشترك بين نوعي الجمال هذين؟ لو اهتدينا إلى هذا العنصر المشترك؛ لعرفنا ماهية الجمال في ذاته.
ويرفض أفلوطين نظرية الانسجام أو التماثل التي قال بها أرسطو؛ فالفن لا يرجع إلى رغبة غريزية في الانسجام - كما قال أرسطو - إذ لو كان الأمر كذلك لما اتصف بالجمال إلا ما هو مركب معقد، حتى يمكن أن يكون هناك انسجام بين عناصره المختلفة، غير أن التجربة تثبت لنا أن الجمال كثيرا ما يكون مرتبطا بالبساطة، ومتنافيا مع التعقيد، وفضلا عن ذلك ففي عالم الأفكار جمال، غير أن هذا العالم بسيط وليس مركبا، فكيف يمكن وجود الجمال في مثل هذا العالم؟
بهذا السؤال الأخير ينتقل أفلوطين إلى صميم بحثه الخاص في طبيعة الجمال، ويربط بين هذا البحث وبين نظرياته الميتافيزيقية ربطا واضحا؛ ذلك لأن أفلوطين - في فلسفته النظرية - كان يرى أن الأشياء جميعا تشارك في الله أو في العالم المثالي، وهو حين يطبق هذا الرأي في ميدان علم الجمال يقول إن أي شيء لا يكون جميلا إلا بقدر مشاركته في هذه الطبيعة الإلهية، ومبعث اللذة التي نحس بها عند إدراك عمل فني عظيم، هو أن النفس الإنسانية - التي هي بطبيعتها قريبة من الطبيعة الإلهية - تطرب وتبتهج كلما رأت شيئا يقرب بدوره من هذه الطبيعة.
فالجمال إذن إنما هو حضور الماهية الإلهية الأزلية في عالم الأشياء الزمانية، ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نصل إلى الله عن طريق حبنا للجمال، مثلما نصل إليه عن طريق سعينا إلى الخير والحق؛ ففي الله تلتقي القيم جميعا، ومن مشاركة الأشياء الزمانية في الماهية الإلهية الأزلية تستمد كل القيم.
ولكي يحدد أفلوطين العلاقة بين الأشياء الجميلة وبين عالم الأفكار الإلهية الذي هو مصدر جمالها، يؤكد أننا نصف بالجمال كل شيء نرى فيه ذلك الطابع الذي أضفيناه نحن عليه، بفضل اتحادنا بالمبدأ الإلهي؛ فحين يصنع المهندس بيتا جميلا، فهو إنما يطبع المادة الخارجية - أي الحجارة - بفكرة في داخله، أو يقربها من المثل الأعلى الباطن فيه، ولهذا السبب وحده كان يراه جميلا كلما نظر إليه.
وإذا كان جمال الأشياء المادية يرجع إلى انعكاس الفكرة الإلهية عليها، فإن هذه الصفة أوضح ظهورا في جمال الأشياء اللامادية؛ فللأفعال والخلال والفضائل جمالها وللنفوس جمالها، وإلا فبماذا نصف ذلك الطرب الذي نحس به كلما سمت نفوسنا، وذلك السعي إلى العلو بأرواحنا، وتجاوز حدود جسمنا؟ إن هذه كلها مظاهر للجمال، لا ترجع إلا إلى شعورنا بحضور الله في هذه الأفعال والخلال.
وعلى أساس هذا الفهم لطبيعة الجمال يعرف أفلوطين الفن بأنه التعبير عن مشاعر الفنان الذي يدرك مظاهر المبدأ الإلهي في شيء مادي موجود في الزمان والمكان، وهو إدراك يتوافر للفنان بفضل مشاركته بدوره في هذا المبدأ الإلهي؛ فالفنان إذن ينقل فكرته إلى المادة، ويعبر من خلال وسط مادي عن إدراكه لحضور المبدأ الإلهي في العالم الزماني والمكاني، ولنتأمل ذلك الحجر الذي يتحول على يد الفنان إلى تمثال ، ويكتسب بفضل هذا التحول جمالا، إن الجمال لا يكون في هذه الحالة كامنا في المادة، وإنما في الصورة التي يضفيها عليها الفنان، أي إنه مستمد من روحه، وبعبارة أخرى فالفنان ينطق الحجر انفعالاته ومشاعره، وهي انفعالات ومشاعر لم تنشأ في نفس الفنان إلا من تأمله لصورة المبدأ الإلهي مطبوعة على عالم المكان والزمان.
ولا شك أننا نستطيع أن نلمح هنا تلك الفكرة المشتركة بين أهم النظريات الجمالية عند فلاسفة اليونان، وأعني بها فكرة المحاكاة، غير أن المحاكاة ليست في هذه الحالة محاكاة لأشياء مادية، وإنما هي محاكاة للمثل الأفكار الإلهية، أي إنها محاكاة للروح اللامادية من خلال وسيط مادي أو شبه مادي، ولا جدال في أن آراء أفلوطين هذه في الفن تمثل تقدما كبيرا بالنسبة إلى آراء أستاذه الروحي أفلاطون؛ فقد رأينا هذا الأخير يقصر مهمة العمل الفني على محاكاة الأشياء المادية الجزئية، بينما يسمو أفلوطين بهذه المهمة إلى محاكاة المثل أو العنصر الإلهي في العالم، ومن هنا كان التفاوت النسبي في قيمة الفن عند كل من الفيلسوفين؛ فالأول يجعل منه نشاطا يحتل مرتبة أدنى من مرتبة الأشياء التي يحاكيها، على حين أن الثاني يجعل منه نشاطا روحيا رفيعا، يعلو على ما يحاكيه من الموضوعات.
وهكذا فإن فلسفة أفلوطين الجمالية - في إعلائها من شأن العمل الفني على هذا النحو - تمثل القمة العليا للتفكير الجمالي عند اليونانيين، ولكنها في الوقت ذاته تتضمن - كما قلنا - تلك العناصر التي قضت - بالتدريج - على الطريقة اليونانية في التفكير؛ ذلك لأن أفلوطين يرد كل شيء إلى المبدأ الإلهي، ويجعل من الفن تأملا لصورة الألوهية كما تنطبع على عالم الزمان والمكان، ولولا هذا الاتصال الدائم بالمبدأ الإلهي لما كان في وسعنا أن نرى الجمال في شيء، وهكذا كانت فلسفة أفلوطين في ميدان الجمال - كما كانت في سائر الميادين - تمثل الجسر الذي انتقلت عليه الحضارة من طريقة التفكير اليونانية إلى طريقة التفكير اللاهوتية في العصور الوسطى، وتمثل نقطة النهاية بالنسبة إلى منهج اليونانيين العقلي في حل مشكلات الفن والفكر والحياة.
نظريات حديثة في فلسفة الفن1
تناولنا في مقالنا السابق أهم النظريات الجمالية عند اليونانيين، أما هذا المقال فيعالج بعضا من أهم النظريات الحديثة التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهل يعني ذلك أن التفكير الجمالي قد توقف تماما فيما بين هذين العصرين؟ من المحال بالطبع أن تكون الفترة الفاصلة بين هذين العصرين فترة جدب تام في الفكر الجمالي، وإنما الأصح أن نقول إن التفكير الجمالي لم يزدهر - بعد بوادره القوية في العصر اليوناني - إلا في القرن الثامن عشر، بفضل حركة الإحياء الضخمة التي بدأها مفكرون مثل «باومجارتن» و«لسنج»، على أننا لم نجد ما يدعونا إلى التعرض لحركة الإحياء هذه - في بداياتها الأولى - نظرا إلى أن فلسفة «كانت» الجمالية، التي يبدأ بها مقالنا هذا قد جمعت في ذاتها أهم ما فيها، وتجاوزتها في نواح متعددة.
ولو بحثنا عن تعليل لهذه الهوة السحيقة التي تفصل بين فترتي التفكير هاتين - أعني العصر اليوناني والقرن التاسع عشر - لبدا ذلك عسيرا في مبدأ الأمر؛ ذلك لأن الحركة الفلسفية في عمومها، قد استؤنفت في العصر الحديث بقوة منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، فلم لم تقترن هذه النهضة الفلسفية الحديثة بنهضة متفرعة عنها في ميدان التفكير الجمالي؟ إن التفكير النظري في الفن مرتبط - دون شك - بالفن نفسه، وقد كانت أعظم حركة فنية - بعد العصر اليوناني - هي حركة الفن الكبرى في عصر النهضة ثم في القرن السابع عشر، ومع ذلك يبدو أن التفكير الجمالي يحتاج إلى فترة نضج طويلة، ولا يمكنه أن يعقب الحركات الفنية الكبرى أو يتلوها مباشرة، وبعبارة أخرى لا بد من مضي وقت غير قليل، تتأثر فيه أجيال متعددة بالأعمال الفنية الكبرى وتتذوقها وتهضمها، حتى يتسنى بعد ذلك ظهور فلسفة فنية تكون انعكاسا لهذه الأعمال، ومن هنا كان تأخر ظهور الفلسفات الفنية التي سنتناولها في هذا المقال، والتي تعد أهم معالم طريق التفكير الجمالي بعد العصر اليوناني.
النظرية العقلية عند «كانت»
هناك رأي شائع يقول إن الذوق أمر نسبي ، لا يصح أن يختلف عليه الناس؛ لأن ما يستهوي ذوقي قد لا يستهوي أذواق الآخرين، وليس لواحد أن يفرض على الغير آراءه الذوقية، أو حتى أن يعتقد بأنها مماثلة لآراء الآخرين، ومن المعروف أن كلمة «الذوق» تعني في الأصل تجربة مذاق الطعام أو الشراب، ثم امتدت الكلمة بحيث أصبحت تطلق على التقدير الفني، وأصبحنا نتحدث عن تذوق الموسيقى مثلما نتحدث عن تذوق لون معين من ألوان الطعام، ومع ذلك فقد ظل الرأي الشائع للناس يحتفظ لكلمة الذوق بنفس المعنى النسبي، بحيث يعد تقديري للوحة الفنية أمرا ذوقيا نسبيا ، شأنه شأن تقديري لمذاق مشروب أو صنف من أصناف الطعام.
ولكن هل صحيح أن للذوق - في مجال الفن - نفس النسبية والفردية التي يتصف بها في سائر المجالات؟ أم إن للحكم الذوقي الجمالي طبيعة مغايرة، أعني طبيعة ثابتة بمعنى من المعاني؟ من هذه المسألة اتخذ المفكر الألماني إيمانويل كانت - فيلسوف القرن الثامن عشر الأكبر - نقطة بداية أبحاثه الجمالية؛ فالحكم الذوقي ينبغي بالفعل أن يكون شيئا مغايرا للذوق بمعانيه الحسية الأخرى، بل إن فيه بالضرورة عنصرا ثابتا مشتركا بين الأفراد، ولو لم يكن الأمر كذلك لما حرص الفنان على أن يكتب أو يرسم للآخرين، ولما انتظر منهم استجابة فيها تقدير وتذوق لإنتاجه الفني، ولو كان الذوق شيئا فرديا تماما؛ لاكتفى الفنان بممارسة فنه لنفسه فقط، ما دام أن أحدا لن يفهمه ولن يتفق معه في الحكم على عمله، أما أن الفنان يتوقع مشاركة الآخرين له في رأيه، فهذا معناه أن في التجربة الجمالية شيئا يزيد على مجرد الذوق الفردي، وبالمثل فلو كانت الفردية هي الطابع المميز للفن لما كان للنقد الفني معنى، ولكانت كل مقاييس هذا النقد ومعاييره باطلة.
فالتجربة الجمالية إذن ليست فردية، ولا تتعلق بما يروقني «أنا» وحدي، ولكن هل هي تتعلق بما يروق جماعة معينة من الناس؟ وهل يكفي لتجاوز الفردية أن نتتبع أذواق الناس الفعلية لنستخلص منها الحكم الصحيح على كل فن؟ ربما رأى البعض أن في هذا كفاية، غير أن «كانت» يؤكد أن الحكم الجمالي يتصف بنوع من الضرورة التي تجعله أكثر من مجرد تلخيص لأذواق الناس الفعلية؛ فنحن حين نحكم على عمل أو شيء بأنه جميل، لا نعني فقط أن مجموع الناس يرونه جميلا، وإنما نعني أن كل من يتأمل هذا الموضوع في نفس الظروف التي نتأمله فيها لا بد أن يراه جميلا، وإذن فالرأي التجريبي - الذي يرتكز على وقائع علم النفس، والذي يكتفي بتسجيل الطريقة التي يحكم بها الناس بالفعل على الأعمال الفنية - ليس كافيا؛ لأنه يغفل عنصر الوجوب والضرورة والشمول في الحكم الجمالي، ويكتفي بإيضاح أصل هذا الحكم في الحياة النفسية للناس فحسب، أما «كانت» فيريد أن يبني الحكم الذوقي على أساس أمتن، هو أساس عقلي ثابت، يتجاوز نطاق الاتفاق المشاهد بين الناس على أحكام معينة إزاء موضوعات جمالية خاصة، وينتقل من مجال الواقع إلى مجال الضرورة والوجوب.
ومن الطبيعي أن يصطدم رأي «كانت» هذا بالرأي الشائع القائل إن الحكم الجمالي فردي وذاتي، أي إن التجربة الجمالية هي تجربتي «أنا»، وليس لها معنى إلا بالنسبة إلى المجرب ذاته فحسب، وهنا نجد أن «كانت» يعترف بعنصر الذاتية في التجربة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال «شعور» قبل كل شيء، ونحن في حالة الإحساس بالجمال لا ندرك صفة من الصفات الموجودة في الشيء ذاته، وإنما ندرك قبل كل شيء شعورا ذاتيا بعثه فينا حضور هذا الموضوع أمامنا. ومبعث الإحساس بالجمال هو ذلك الانسجام الذي تشعر به قوانا وملكاتنا الإدراكية عندما نمارسها في حضور موضوعات معينة، ومع ذلك فإن للحكم الجمالي - رغم صفة الذاتية هذه - نوعا من الموضوعية؛ فليس الإحساس بالجمال مشابها لإحساساتنا في حالة الحلم أو التخيل الصرف، وإنما يتمثل كل حكم جمالي نصدره في صورة حكم صحيح يسري على أي شخص آخر يواجه نفس الموضوع في نفس الظروف، صحيح أن هذا الحكم يبدأ بالفرد دائما، ويتعلق بموضوع محدد، ولكن هذا الموضوع ذاته يفرض على ذهني إحساسا غير شخصي، وبالتالي فإنه يفرض مثل هذا الإحساس على أي شخص آخر في موقفي، ومن هنا كان المرء حين يصدر حكما جماليا، يطالب الآخرين ضمنيا بأن يصدروا على الشيء نفسه حكما مماثلا، فإذا سئل عن السبب الذي يحتم على الآخرين الاتفاق معه في حكمه هذا، عجز عن تحديد هذا السبب بدقة، وربما كانت رغبة «كانت» في تقديم تعليل لهذا الاتفاق الموضوعي بين المشاعر الجمالية الذاتية، هي التي دفعته إلى أن يرى في جمال الصورة
Forme
المظهر الأساسي للجمال في كل موضوع؛ ذلك لأن جمال الصورة أو التصميم أو الشكل هو أمر يدركه الناس بطريقة واحدة، على حين أن إدراكاتهم للصفات الأخرى - كاللون أو الصوت - تختلف إلى حد ما حسب ذاتية الأفراد، ومن هنا كان حرص «كانت» على تجريد هذه الصفات الأخرى واستبقاء تناسق الصورة بوصفه العنصر الرئيسي في كل ما هو جميل.
وربما كانت أهم صفة تميزت بها طريقة «كانت» في بحث موضوع الجمال، هي أنه جعل منه وسيلة للتوسط أو التوفيق بين متناقضات أو متقابلات مختلفة تمر بها التجربة البشرية؛ فمن السهل أن نستخلص من العرض السابق أن الحكم الجمالي يحتل موقعا وسطا بين الإدراك الحسي الخالص من جهة، وبين التفكير المجرد من جهة أخرى، فصفة الشمول فيه تميزه عن مجرد الإدراك الحسي، ولكن كونه في أساسه شعورا يجعله مميزا عن الحكم العلمي؛ إذ إن هذا الأخير لا يعتمد على الشعور، وإنما يرتبط بصفات ثابتة في الموضوعات ذاتها، مجردة عن مشاعرنا الذاتية نحوها.
على أن هذه القدرة التي يستطيع بها الفن أن يوفق بين الإحساس وبين التفكير المجرد، ليست في الواقع إلا مظهرا لقدرة أعم على التوفيق بين مجالين أشمل من هذين بكثير، هما مجالا الطبيعة والحرية، وقد فرق «كانت» بين هذين المجالين تفرقة قاطعة في كتابيه: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي؛ فعالم الطبيعة هو العالم الذي يخضع للضرورة والحتمية وللتسلسل الدقيق بين الأسباب والنتائج، وهو العالم الذي تتناوله العلوم الطبيعية بشتى فروعها، أما عالم الحرية فهو العالم الأخلاقي للإنسان؛ ذلك لأن الإنسان - من حيث هو كائن أخلاقي - لا بد أن يكون حرا في سلوكه، وأن يتخلص من التسلسل الدقيق للعلية الطبيعية، ويكون مشرعا لنفسه، وإلا لما كان لأداء الواجب وللمسئولية عنده معنى. وقد لاحظ «كانت» نفسه ما بين هذين العالمين من تعارض قاطع، وترك للفن مهمة إزالة هذا التعارض؛ فالحكم الجمالي هو نقطة التقاء عالم الطبيعة بعالم الحرية؛ لأن الموضوعات التي تثير هذا الحكم مستمدة من عالم الطبيعة أو مرتبطة به ارتباطا أساسيا، ولكننا نضفي على هذه الموضوعات - بما لدينا من فاعلية حرة - صورة وشكلا ملائما، وننسب إليها في حكمنا الجمالي غرضية وغائية ترضي أذواقنا، وبهذا يجمع الحكم الجمالي بين عالمي الطبيعة والحرية، مثلما رأيناه يجمع من قبل بين المحسوس والمعقول.
وفي وسعنا أن نستخلص من العرض السابق صفة أخرى يوفق فيها الجمال بين مجالين: مجال اللذة الحسية ومجال الخير الأخلاقي؛ فاللذة الجمالية ليست منبعثة من غرض محدد أو موضوع معين نجد رضاءنا في الحصول عليه؛ ذلك لأن هذا النوع المحدود من اللذة مرتبط برغبات وحاجات خاصة، وهو لا يعدو أن يكون جزءا من سلسلة العلل والمعلولات الطبيعية؛ فلذة الأكل نتيجة مباشرة للشعور بالجوع، وهي ترتبط به ارتباطا ضروريا، ومن هنا لم تكن لذة حرة، وإنما كانت لذة مقيدة بغرض معين أو مصلحة معينة، وهي تكتسب بالحصول على موضوعها وامتلاكه. أما اللذة الحرة - المنزهة عن مثل هذه الأغراض، كما هي الحال في اللذة الجمالية - فيكفي فيها أن يتأمل المرء موضوعها عن بعد دون أن يسعى إلى امتلاكه، صحيح أن كثيرا من محبي الفنون يشعرون بالرغبة في تملك الصور الجميلة التي يشاهدونها في أي معرض يزورونه مثلا، غير أن هذا الشعور - في ذاته - ليس لذة جمالية، وإنما هو شيء آخر أضيف إليها، أما اللذة الجمالية بمعناها الصحيح فهي تلك التي يحسون بها لحظة الاستمتاع بالصورة دون أن تشوب هذا الإحساس أية رغبة في التملك، وإلى هذا الحد نرى اللذة الجمالية تتشابه مع الاتجاه إلى الخير الأخلاقي، ولكنها تعود فتتميز عنه بطابعها الذاتي الذي يجعلها - كما قلنا - مجرد شعور موجود في النفس الإنسانية فحسب، وفضلا عن ذلك فإنها - رغم كونها بلا غرض معين - ترتبط بفكرة الغرضية بوجه عام، فتتميز بذلك عن الأخلاق التي هي - في نظر «كانت» - «أمر مطلق».
وهذه الصفة الأخيرة - أعني تلك التي يطلق عليها «كانت» اسم «الغرضية بلا غرض» - من الصفات المحيرة للحكم الجمالي عند «كانت»؛ فاللذة الجمالية - كما قلنا - لا تستهدف إرضاء ميل معين، ولا ترتبط برغبة خاصة للجسم أو للنفس، ولا تسعى إلى تحقيق أية مصلحة، ولا تنبعث عن ضغط أي دافع شخصي، ولكنها رغم ذلك ليست تجربة خلت من كل شعور أو انفعال، وإنما يظهر هذا الشعور والانفعال نتيجة لها، دون أن يكون هو سبب وجودها، فهي منزهة بمعنى أنها لا تنبعث عن اهتمام خاص بموضوعها، ولكنها غرضية لأنها تخلق هذا الاهتمام بالموضوع الجمالي بعد تأمله، ومن الممكن تفسير هذه الصفة - أعني الغرضية بلا غرض - بطريقة أخرى؛ فصحيح أن الإحساس بالجمال لا يرتبط بغرض معين، ولكنه يبعث إحساسا عاما بالتناسق والانسجام، وهذا الإحساس هو بدوره نوع من الغرضية، ولكنه ليس غرضية جزئية، أي لا يرتبط بغاية محددة؛ فشعورنا بالتناسق عند رؤية زهرة مثلا، يجعلنا نعتقد بأن صورتها نسقت تبعا لغاية، وإن لم يكن في وسعنا أن نحدد ما هي هذه الغاية، أو نعين الغرض الخاص الذي يمكن استخدامها لأجله، وإذا كنا نسلم بأن التجربة الجمالية نوع من اللذة، وبأن من طبيعة اللذة أن ترتبط بفكرة الغاية أو الغرض، فينبغي أن نذكر أن قوام اللذة الجمالية في التفاعل المنسجم بين ملكات الإدراك لدى الإنسان على نحو ينبغي أن يشترك فيه الجميع، ولا ينفرد فيه شخص بعينه، وهكذا فإن الجمال - من جهة - لا غرض له؛ لأن إعجابنا بعمارة مبنى أثري لا يرتبط برغبتنا في سكناه، أي في اتخاذه أداة لإشباع رغبات ذاتية خاصة، ولكن يبدو من جهة أخرى أنه يخدم غرضا عاما ملائما لنا؛ إذ إن صورته تغرينا بإطالة تأمله، أي إنه يلائم حاجات ملكة النظر لدينا على نحو غامض يصعب علينا فهمه.
ولكن هل يعني ذلك أن الجمال يقتصر على الموضوعات التي لا يكون لنا في استخدامها غرض محدد؟ لا شك أن هذا ليس هو المعنى الذي قصد إليه «كانت»؛ فكلامه عن التنزه كان منصبا على الذات التي تقدر الجمال، والتي ينبغي أن تحكم على الجمال حكما يستقل عن المنفعة الممكنة للموضوع، وليس معنى ذلك أن الموضوع النافع لا يتصف بالجمال لكونه نافعا، وإنما المهم في الأمر أن يكون تقديرنا له راجعا إلى عنصر الجمال فيه قبل عنصر المنفعة، وعلى هذا الأساس نجد أن «كانت» يفرق بين نوعين من الجمال: الجمال الحر أو الخالص كجمال الأزهار والزخارف والنقوش والقواقع، وهو جمال الصورة أو التصميم، والجمال المعتمد أو المتوقف على شيء آخر - كجمال المباني - الذي يمتزج فيه الإحساس بجمال الصورة بإدراك الفائدة العملية للموضوع، ويدرج «كانت» الجمال البشري ضمن الفئة الثانية؛ فجمال المرأة مثلا لا يرجع إلى إدراك التناسق في خطوطها فحسب، وإنما يضيف «كانت» إلى ذلك عنصرا آخر، هو إدراك ملاءمة النموذج الموجود أمامنا لوظيفة المرأة ولما تريده الطبيعة من المرأة أن تكون؛ ففي المجال البشري إذن يتحقق المثل الأعلى للكائن البشري كما ينبغي أن يكون، ومن الواضح أن فكرة المثل الأعلى هذه تجعل هذا النوع من الجمال ممتزجا بعنصر أخلاقي، مع أن «كانت» قد حرص دائما على أن يفصل بين الجمال وبين الخير الأخلاقي، وعلى أن يجعل التجربة الجمالية مستقلة تماما عن اعتبارات الخير والشر.
وفي نظرية «كانت» الجمالية عنصر آخر ينبغي الإشارة إليه نظرا إلى ما كان له من أهمية في الفلسفات الجمالية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هو الازدواج بين فكرة الجمال وفكرة الجلال. ولكي نتصور المقصود من الجلال، علينا أن نحلل شعورنا إزاء بناء كالهرم الأكبر مثلا (ومن الجدير بالذكر أن «كانت» نفسه قد تحدث عن الأهرامات في شرحه لما يقصده من فكرة الجلال)؛ فحين نتأمل بناء شامخا كهذا قد نشعر بادئ الأمر بنوع من الانقباض إزاء ضخامته وضآلتنا نحن بالقياس إليه، وعجزنا عن الإحاطة بجميع أطرافه في نظرة واحدة، ولكن سرعان ما يستعيد ذهننا قواه، ويزداد تماسكا عما كان عليه من قبل، ويؤدي تأملنا له إلى نوع من التعبئة الروحية للنفس، نزداد فيها إعجابا بالقيمة الباطنة للذات الإنسانية التي تتميز بجدارة أخلاقية تعلو بها على كل ما في الطبيعة من موجودات، وتفيض النفس شعورا بكرامة الإنسان الذي يستطيع أن يجد معاني ترضيه وتبعث فيه الإعجاب، حتى في موضوع خليق بأن يشعره بضآلة وقلة شأنه، ولو نظرنا إلى الهرم الأكبر نظرة جمالية مجردة، لما وجدنا في هذه الكتلة الضخمة من الحجارة أي جمال ذاتي، بل إنها لتبدو لنا أقرب كثيرا إلى القبح، ولكنها مع ذلك تثير فينا أحاسيس تنتمي قطعا إلى المجال الجمالي أو الفني على الأصح، ومثل هذا يقال عن البحر المترامي الأطراف، الذي يؤدي تأمله إلى نفس التعبئة الروحية للنفس، مع أن الموضوع ذاته لا يعدو أن يكون كتلة ضخمة لا نهاية لها من الماء، وسواء أكان مصدر الإعجاب هو الحجم الهائل للموضوع - أعني تضاؤلنا بالقياس إليه من حيث المقدار - كما هي الحال في بناء كالهرم، أم كان شعورنا بأن للموضوع قوة طاغية لا تقاس بمقاييس القوة لدى البشر، مثل قوة المياه المندفعة من شلال جبار، فإننا في الحالين نكون إزاء موضوع يتصف بالجلال، هو في كل الأحوال غير جميل في ذاته، ولكنه يثير فينا أحاسيس روحية تنتمي إلى صميم التجربة الجمالية، وكما ينبغي أن يكون إدراكنا للجمال منزها عن الغرض والرغبة، فكذلك ينبغي أن يكون إدراكنا للجلال غير مقترن بأي نوع من الرهبة أو الخوف الذي تثيره القوة الطاغية أو الحجم الهائل للموضوع الجليل.
والفارق الأساسي بين الجميل والجليل - عند «كانت» - هو أن الأول يتوقف على تناسق الصورة وتلاؤم الخطوط، أما الثاني فقد يكون متعلقا بصورة هي في ذاتها مشوهة تفتقر إلى كل تناسق، ومن هنا كان تأثير الجمال مهدئا لأعصابنا ومريحا لنفوسنا، على حين أن في الجلال نوعا من الإثارة التي تنبه الخيال وتحفزه على النشاط المستمر، وهذا يؤدي إلى فارق آخر هام بينهما، هو أن إحساسنا بالجلال ينبع كله عن ذاتنا؛ فليس هناك أي نوع من الارتباط المباشر بين طبيعة الموضوع الذي أثاره، وبين الأحاسيس التي تولدت في نفوسنا تجاه هذا الموضوع؛ فالجلال كله ذاتي، وهو ينشأ في صدد موضوع ليست له أية قدرة تعبيرية، على عكس الحال في الجمال، حيث توجد علاقة مباشرة بين تناسق صورة الموضوع وبين استجابتنا الجمالية لها.
وتكتمل معالجة «كانت» لموضوع الفلسفة الجمالية بحديثه عن القوة الخلاقة في الفن، أي العبقرية، وأهم ما يميز العبقرية عنده هو استحالة وصف طريقتها في الخلق الفني بطريقة عقلية مفهومة؛ فالخلق عندها يحدث بطريقة طبيعية، لا تكلف فيها ولا جهد، ومن هنا عرف «كانت» العبقرية بأنها «الطبيعة وهي تعمل بوصفها عقلا في الإنسان»، أي إنها هي ظهور الإنتاج الروحي في الإنسان بنفس السهولة والتلقائية اللتين تتم بهما عمليات الطبيعة. وعلى ذلك فأهم ما يميز العبقرية هو القدرة الفائقة على الإنتاج، وهو الطاقة الروحية الفياضة التي تجعل الخلق والإنتاج أمرا ميسورا، ويرى «كانت» أن العبقرية هي ملكة توليد «أفكار جمالية»، وهنا تستخدم كلمة «الأفكار» بمعنى غير المعنى العقلي؛ فهي صور تتجاوز نطاق الفكر المجرد - كأساطير أفلاطون مثلا - وهكذا تقتصر فكرة العبقرية - في نظر «كانت» - على مجال الخلق الفني وحده، أما العلم فلا يحتاج في رأيه إلى العبقرية؛ لأن أي شخص يستطيع - إذا بذل الجهد الكافي - أن يكون عالما كبيرا؛ فالفن يحتاج إلى تلك الشعلة الغامضة التي لا نستطيع أن نضع لسيرها القواعد، أما العلم فله قواعد يستطيع المرء إذا سلكها أن يهتدي بسهولة إلى طريقه فيه، وقد لا يتفق الكثيرون مع «كانت» في هذه التفرقة القاطعة بين العلم والفن، وقد نرى أن العالم كثيرا ما يقترب من الفنان حين يقفز بفروضه إلى عالم المجهول، فيحتاج عندئذ إلى نفس شعلة العبقرية الغامضة التي تضيء روح الفنان، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن «كانت» إنما كان يرمي بحكمه هذا إلى إعلاء شان الفن، ووضعه في القمة العليا من مظاهر النشاط الروحي للإنسان.
فإذا أردنا أن نصدر على نظرية «كانت» الجمالية حكما أخيرا؛ لوجب أن نقول إنه كان أول فيلسوف جعل للفن مجالا متميزا لا يختلط فيه بسائر المجالات؛ فقد رفض كل النظريات الجمالية القديمة التي تخلط بين مجال الفن ومجال الواقع، وتعيب على الفن كونه ذا قيمة ميتافيزيقية أدنى من الواقع، وكونه ظلا باهتا يعجز عن أداء وظيفته الأصلية، وهي محاكاة الطبيعة وموجوداتها، أما «كانت» فإنه يرفض كل هذه النظريات ويؤكد استقلال الفن عن الطبيعة، بل يجعل الإنتاج الفني رمزا قائما بذاته، له قيمته الذاتية التي تعلو أحيانا على قيمة الموضوعات الطبيعية ، بما تضفيه عليها من صور متناسقة وأفكار مبتكرة. كذلك استطاع «كانت» أن يحقق للفن استقلاله عن الغايات الأخلاقية، وأن يقضي على الخلط بين مجال الاستمتاع الجمالي ومجال السلوك العملي، فأكد بذلك الطابع المميز للمتعة الفنية الخالصة، وتمكن بتحليله العقلي من أن يكشف عن الظاهرة الجمالية فيما تتصف به من خصائص فريدة مميزة عن خصائص الظواهر العلمية والعملية معا.
النظرية الرومانتيكية في الفن: شوبنهور ونيتشه
ذكرنا في حديثنا عن نظرية «كانت» العقلية في الفن أن هذا الفيلسوف كان أول من جعل للفن مكانة مستقلة، وأكد أن الظاهرة الفنية قائمة بذاتها، تقف إلى جوار مختلف الظواهر التي تتناولها الفلسفة. ولقد كان شوبنهور تلميذا «كانت» في اتجاهه الفلسفي العام، أما في فلسفته الجمالية فقد كان أشد اهتماما بالفن من أستاذه نفسه، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن تجارب شوبنهور الجمالية كانت أعمق من تجارب «كانت»، كما أنه كان أوسع منه ثقافة في هذا المجال، وإنا لنجد في كتابات شوبنهور - لأول مرة - أحاديث مطولة عن العمارة والشعر والتصوير والموسيقى، تدخل في صميم مؤلفه الرئيسي، وتقف جنبا إلى جنب مع كل الموضوعات الفلسفية الأخرى التي يعالجها في هذا الكتاب.
وتقوم نظرية شوبنهور الجمالية على القول بأن الفن نوع من المعرفة، غير أنه ليس معرفة بموضوعات فردية محسوسة، كما هي الحال في الإدراك الحسي للإنسان، وهو في الوقت نفسه ليس معرفة تصورية مجردة، كما هي الحال في العلم ، وإنما يحتل الفن موقعا وسطا بين هذين. ولكي يعبر شوبنهور عن طبيعة المعرفة التي تكون قوام الفن، استخدم فكرة «المثل»، وهي الفكرة الأفلاطونية القديمة، ولكن بمعنى مخالف للمعنى الأفلاطوني، فالمثال عند شوبنهور ليس فرديا، وهو في الوقت ذاته ليس تصورا مجردا، وإنما هو يعبر عما هو أساسي في العالم، مع كونه في الوقت ذاته قابلا لأن يدرك، ولأن يتحدد على نحو واضح المعالم، ولكن كيف تصل الذات الإنسانية إلى إدراك هذه المثل التي تكون أساس الفن؟ يؤكد شوبنهور أنه لا بد من حدوث تغيرات أساسية في الذات لكي تتهيأ لإدراك هذه الماهيات الكامنة في قلب الأشياء أعني المثل؛ ففي حياتنا اليومية - حين تتحكم فينا الإرادة برغباتها وأطماعها التي لا تقف عند حد - نعجز عن الوصول إلى حالة التأمل الخالص، وتشغلنا مصالح الحياة ومتاعبها بأمور جزئية فردية، ومن هنا كان لا بد من التخلص من كل مطالب الإرادة، بحيث يكون نشاطنا الروحي خارجا تماما عن مجال الإرادة ومصالحها الذاتية، ونصل إلى حالة التنزه التي تغدو فيها الذات أداة للتأمل الخالص الذي تتغلغل به في قلب الأشياء وماهيتها الباطنة.
وهكذا يقوم الفن في فلسفة شوبنهور بدور المخلص للإنسان من استعباد الإرادة واستبدادها؛ ذلك لأن الإرادة عنده قوة طاغية لا تتحكم في الإنسان فحسب، بل تتحكم أيضا في مجرى الحوادث المادية للكون بأسره؛ فكل ما في الكون من حوادث إنما هو الوجه الخارجي لإرادة باطنة تعد هذه الحوادث مجرد مظاهر خارجية لها، ولقد كان هذا الرأي تعبيرا فلسفيا صادقا عن تشاؤم شوبنهور ونظرته القاتمة إلى الحياة؛ ذلك لأن الإرادة بطبيعتها قوة عمياء تفتقر إلى التعقل والنظام، وهي نزوع أهوج لا يستطيع أن يكبح جماحه شيء، وما دامت القوة الباطنة في العالم لها مثل هذه الصفات، فلا بد أن يكون مسار العالم متخبطا، وأن يكون الإنسان بدوره - من حيث هو جزء من هذا العالم - خاضعا لقوة الإرادة العمياء تتحكم فيه كما تشاء، ومن هنا كان الفن يلعب في فلسفة شوبنهور دورا أساسيا؛ فهو وسيلة من وسائل الخلاص من جبروت الإرادة وتحكمها في الإنسان، صحيح أنه ليس هو الوسيلة النهائية، وإنما هو يمثل - في نظر شوبنهور - مرحلة خلاص مؤقتة، تليها وتعلو عليها مرحلة نهائية هي مرحلة الإنكار التام للفردية وللكثرة، وإماتة إرادة الحياة، وبالتالي القضاء على المصدر الأساسي للشر، ومع ذلك فقد رأى شوبنهور في الفن وسيلة من أقوى الوسائل التي تتيح للإنسان التغلب على ما في العالم من خداع وشر؛ فبفضل الفن يتمكن الإنسان من نسيان فرديته وفردية الأشياء، فلا يعود ينظر إلى الأشياء بوصفها موضوعات لرغبته، وإنما يتأملها بصورة موضوعية خالصة تخلو تماما من كل نزوع أو طموح للإرادة، وهنا يبدو أن شوبنهور قد جمع بين رأي أرسطو في الفن ورأي «كانت» في مركب واحد لا تكلف فيه ولا تصنع؛ فالفن عنده يؤدي إلى الخلاص مثلما يؤدي عند أرسطو إلى «التطهر»، وهو يرتبط أساسا بحالة من التنزه والبعد عن الأطماع والأغراض الشخصية، تماما كما قال «كانت».
وعلى أية حال، فإن شوبنهور ينظر إلى الفنون على أنها مظاهر لتلك القوة الكامنة في الكون - أعني الإرادة - وتعبيرات عنها بوسائل متباينة وبمراتب متدرجة، وهكذا يقاس كمال الفن عند شوبنهور بمقدار علو مرحلة الإرادة التي يعبر عنها؛ فالفنون تتدرج في سلم صاعد يبدأ بالعمارة التي تتعلق بقوة من قوى الإرادة الكونية هي الجاذبية، وتسعى إلى حل مشكلة مقاومة المادة الصلبة لهذه القوة، وتلي ذلك قوة أخرى في الطبيعة، هي قوة النمو، كما تتمثل في النبات وتظهر في فن فلاحة البساتين، وتصوير المناظر الطبيعية، وقد بدا الجمع بين هذين الفنين معا غريبا في نظر الكثير من شراح شوبنهور، لا سيما وتصوير المناظر الطبيعية لا يقتصر مطلقا على العالم النباتي. وعلى أية حال فيبدو أن ذلك كان ضروريا لتكملة التناسق الفكري لمذهب شوبنهور، ويلي هذا الفن: النحت والرسم، الذي يصور الجسم الحيواني والإنساني، أي إنه يعلو مرتبة على تصوير قوة النمو في النبات، ثم يأتي بعد ذلك الشعر بكل أنواعه وفروعه، وهو يسمو على الفنون السابقة؛ لأنه يختص بالإنسان وحده، ويصور أحوال إرادته ومشاعره بمزيد من الدقة.
أما الموسيقى فإن شوبنهور يجعل منها قمة الفنون جميعا، ويحرص على التمييز بدقة بينها وبين سائر أنواع الفن؛ فالموسيقى في رأيه عالم قائم بذاته، وهي لا تتناول موضوعات مثل معينة، أو مظاهر خاصة للإرادة، وإنما هي تعبير مباشر عن الإرادة بأكمل معانيها، وهكذا يقول شوبنهور: «إنه ليبدو لمن ترك سيمفونية تتغلغل في نفسه تماما، أنه رأى كل الأحداث الممكنة للحياة وللعالم وهي تمر في داخله، ومع ذلك فإنه لو أمعن التفكير في الأمر، لما أمكنه أن يؤكد وجود أي تشابه بين هذه القطعة الموسيقية وبين الأشياء التي تمر بذهنه؛ ذلك لأن الموسيقى تختلف عن كل الفنون الأخرى في أنها تصوير مباشر للإرادة ذاتها ... وعلى ذلك ففي إمكاننا أن نسمي العالم موسيقى متجسدة، مثلما يمكننا أن نسميه إرادة متجسدة.» وهكذا تقف الموسيقى عند شوبنهور إلى جوار العالم - إن جاز هذا التعبير - ولا تكون جزءا منه؛ لأنها عالم قائم بذاته، ولأنها تكشف عن ماهية الإرادة الكونية بطريقتها الخاصة، مثلما يكشف عنها عالم الظواهر من خلال ما فيه من موضوعات، وفضلا عن ذلك فإن الموسيقى تتميز عن كل الفنون الأخرى بأنها تمثل عالم الزمان الخالص بلا مكان، ومن الطبيعي أن ترتبط الفنون الأخرى المكانية بالعالم الخارجي على نحو ما، أما الموسيقى فلا تعبر عن شيء مما في هذا العالم، وإنما هي تعبر عن أعمق ما في القوة الباطنة المحركة لكل ما في العالم. وأخيرا فالفنون الأخرى - في رأي شوبنهور - تستعين بوسائط مادية كالحجارة وغيرها من المواد في النحت والعمارة مثلا، أما الموسيقى فلا تستعين بمثل هذه الوسائط، ولهذه الأسباب كلها استطاع شوبنهور أن يقول إن في وسع الموسيقى أن توجد حتى لو لم يكن للعالم وجود على الإطلاق، وهي عبارة تمجد الموسيقى كما لم تمجدها عبارة أخرى لأي فيلسوف آخر، ولكن صيغتها الغريبة لا تفهم إلا إذا ربطت بآراء شوبنهور الفلسفية والفنية في مجموعها.
ولعلنا قد لاحظنا في العرض السابق نوعا من التناقض الظاهري في استخدام كلمة «الإرادة» عند شوبنهور؛ فالمفروض - من جهة - أن الفن مظهر للإرادة، إما بطريقة مباشرة - كما هي الحال في الموسيقى - وإما بطريقة غير مباشرة، كما هي الحال في الفنون الأخرى، ولكن وظيفة الفن - من جهة أخرى - هي تحرير الفرد من رغبات الإرادة وأطماعها التي لا تقف عند حد، ولا شك أن مرجع هذا الاختلاف إلى المعنى المزدوج الذي استخدمت فيه كلمة الإرادة؛ فالمقصود منها في الحالة الأولى هو الإرادة الكونية، أو الإرادة من حيث هي قوة ميتافيزيقية تكمن من وراء كل ظواهر الكون، أما في المعنى الثاني، فالمقصود هو الإرادة في الإنسان بما لها من أطماع ورغبات لا نهاية لها، وهذا المعنى الثاني هو الذي كان في ذهن شوبنهور حين تحدث عن الفن من حيث هو وسيلة لخلاص الإنسان وتطهيره، أما المعنى الأول فهو الذي قصده حين وصف الفنون بأنها مظاهر متدرجة للإرادة.
ولكن هل صحيح أن الفن عامة - والموسيقى خاصة - نشاط نفسي تخمد فيه الإرادة الفردية؟ إنه ليبدو - لمن يتأمل هذه المسألة بمزيد من الدقة - أن الفن يقوي - أحيانا - شعور المرء بشخصه وبإرادته، وليس صحيحا أن الفن في كل الأحوال ينسينا فرديتنا بحيث نصبح في حالة تأمل لا صلة له بالإرادة الفردية، والأهم من ذلك أن موضوع الفن نفسه لا يفقد دائما فرديته في حالة التأمل أو الخلق الفني؛ فالفنان لا ينظر في موضوعه إلى «المثال الأفلاطوني»، بل إنه في معظم الأحيان يتجه إلى تأمل هذا الموضوع من حيث هو فردي محدد، ونستطيع أن نقول إن صفة الفردية المحددة هي التي تميز موضوع الفن عن موضوع العلم، الذي لا يتناول من الأشياء إلا أوجهها العامة المشتركة بين كل الأفراد، وإذن فمن المشكوك فيه أن يكون شوبنهور قد أصاب حين وصف موضوع الفن بأنه موضوع تنتزع فرديته ... وإنما العكس هو الذي يبدو صحيحا؛ لأن عين الفنان الفاحصة هي التي تضفي الفردية على موضوعات لا نلاحظها في حياتنا المعتادة، أو نكتفي بالنظر إليها على أنها مجرد أمثلة لنمط واحد متكرر، وربما كانت أهم صفات الفنان هي قدرته هذه على أن يكتشف ما هو منفرد - لا يتكرر - في كل شيء يتخذه موضوعا لفنه. •••
ولنلاحظ - بعد هذا - أن شوبنهور يحدد العلاقة بين الفن والحياة بطريقة قد لا ترضي الكثيرين، فهل صحيح أن الفن وسيلة لتحرير الإنسان من إرادة الحياة؟ الواقع أن كثيرا من المفكرين والفنانين يأبون - بناء على تجاربهم الخاصة - أن يربطوا بين الفن وبين التخلص من الرغبات والمشاعر الحية، وهذه في الواقع هي نقطة بداية تفكير «نيتشه» في المشكلة الفنية؛ فالفن عنده ليس على الإطلاق وسيلة لإماتة إرادة الحياة، بل إنه هو في الواقع النشاط الذي يؤكد الحياة ويعليها ويقف منها موقفا إيجابيا، والنشاط الخلاق في الفن هو من أبرز مظاهر تأكيد إرادة الحياة في الإنسان، والأفكار الفنية لا ترتبط بعالم فوق المحسوس، وإنما هي من صميم هذا العالم، وهي لا تفهم إلا إذا ربطت بهذه الحياة وبهذه الأرض.
ولكي يعبر نيتشه عن آرائه هذه تعبيرا أوضح، وضع في كتابه المبكر «ميلاد المأساة من روح الموسيقى» تقابلا أساسيا بين نوعين من الفن، أطلق على كل منهما اسم إله من آلهة اليونان، هما الفن الأبولوني والفن الديونيزي، أما الأول فهو الفن الذي يظهر الموضوع فيه محدد المعالم، ويتميز بالتناسق والوضوح والشفافية، وتكون الحالة النفسية السائدة فيه - سواء عند الفنان الخالق وعند المشاهد المتذوق لهذا الفن - هي حالة التأمل والتعبير الهادئ، أما الثاني فيتسم موضوعه بشيء من الغموض، وقد يفتقر إلى التناسق ووضوح النسب، ولكن الحالة المصاحبة له تكون حالة من النشوة والسكرة، والشعور بزوال كل الحواجز، وبأن المرء قد اتحد - بطريقة شبه صوفية - مع الماهية الباطنة للعالم، وعلى حين أننا في النوع الأول نقف من الحياة موقف المتأمل المشاهد، فإنا من النوع الثاني نندمج في الحياة اندماجا كليا، ونصبح وإياها شيئا واحدا، ومن أمثلة النوع الأول - الأبولوني الهادئ من الفن - التصوير والنحت، أما الموسيقى فهي خير ما يعبر عن الفن الديونيزي؛ إذ لا يعود موقفنا فيها هو موقف التأمل، وإنما يصبح موقف الاندماج التام في الأنغام، وفيما تكشفه لنا من ماهية باطنة للعالم.
ولا شك في أن هذا التقسيم متأثر بتفرقة شوبنهور بين الموسيقى وبين الفنون الأخرى، على النحو الذي عرضناه من قبل، ومع ذلك فينبغي ألا ننسى أن نيتشه كان أكثر اتساقا مع نفسه من شوبنهور، وذلك حين أنكر تماما أن يكون الفن أداة للهروب من العالم أو للتحرر من أعبائه، وربط - على أقوى نحو - بين الفن وبين تأكيد إرادة الحياة، ولقد كان هذا الاختلاف ضروريا بين فيلسوفين يتخذ أحدهما موقفا مثاليا، وينكر عالم المحسوس بوصفه عالما للظواهر الخداعة التي ينبغي الفرار منها والزهد فيها، ويؤكد الآخر أن هذا العالم هو الوحيد الذي نعرفه، ويمجد المحسوسات ويرى في الفن وسيلة لتأكيدها لا لتحقيرها، ومظهرا من مظاهر إعلاء الحياة لا الهروب منها.
وعلى أية حال فإن نيتشه - رغم عمق تجاربه الفنية، ولا سيما الموسيقية منها - لم يلتزم هذا الموقف من الفن إلى النهاية؛ ففي وسعنا أن نلمح في صراعه الأخير مع فاجنر علامات صراع آخر بينه وبين الفن ذاته، لا كما يتمثل في فاجنر فحسب، أي إن من الممكن القول إن شخصية فاجنر - التي جمعت في ذاتها أوسع وأعمق ما وصلت إليه الفنون في عصرها - هي تلخيص لأقصى ما يستطيع الفن أن يقوم به من أجل العلو بالإنسان، ومن هنا فإن نقد نيتشه المرير لفاجنر - في الفترة الأخيرة من حياته - إنما هو تعبير عن الصراع بين روح البحث عن الحقيقة - التي كانت طاغية لديه - وبين الفن الذي يعد مظهرا من مظاهر الخداع والهروب من مواجهة الواقع. وهكذا يتضح لنا أن نيتشه قد عاد آخر الأمر - بمعنى ما - إلى موقف شوبنهور من الفن، من حيث هو أداة للهروب من الحياة، ولكنه - على عكس شوبنهور - لم يمتدح هذه الصفة في الفن، وإنما حمل عليه وعلى أعظم ممثليه حملة شعواء، رغم عمق شعوره الباطن نحوهما، وذلك إخلاصا منه لروح الحقيقة، وتمسكا منه بهذه الحياة، التي حرص على قبولها وتأكيدها بكل عناصرها، وبكل ما فيها من عناصر مقبولة أو منفرة.
النظرية التعبيرية عند كروتشه
في وسعنا جميعا أن نميز بين طريقتين من طرق معرفتنا للأشياء: طريقة المعرفة المباشرة، التي تكون أشبه بومضة سريعة ندرك فيها الموضوع كاملا، دون حاجة إلى جهد أو تفكير في علاقات الموضوع بغيره، وطريقة المعرفة التدريجية التي نربط فيها الموضوعات بعضها ببعض لنحكم على كل منها من خلال علاقاته بالآخرين، أما المعرفة الأولى فتسمى عند الفلاسفة بالمعرفة الحدسية، والثانية تسمى بالمعرفة العقلية أو المنطقية، والفن عند كروتشه ينتمي إلى النوع الأول؛ فكل حدس مباشر - ينفذ إلى الموضوع الفردي ويتغلغل فيه - ينطوي في ذاته على بادرة القدرة الفنية، وليس الفارق بين الفنان وغير الفنان فارقا في النوع، وإنما الفنان شخص لديه قدرة أعظم - من الوجهة الكمية - على التعبير عن أنواع معينة من الموضوعات التي يدركها بهذا الحدس، ويؤكد كروتشه أننا لا نستطيع أن ندرك طبيعة الشعور الباطن الذي ينتابنا إلا عندما يكون في وسعنا التعبير عنه، كما لا يمكن أن يكون لدينا حدس بمنظر طبيعي إلا إذا كانت تفاصيل هذا المنظر واضحة في أذهاننا، بحيث نستطيع أن نعبر عنه بوضوح لمن يطلب إلينا ذلك، وبالاختصار: فمعرفتنا تظل غامضة مبهمة حتى نعبر عنها؛ فالفن إذن في أساسه تعبير.
والفارق الوحيد - في نظر كروتشه - بين الفنان أو العبقري وبين الإنسان العادي، هو أن للأول قدرة أعظم على التعبير عما يدركه بالحدس، ولكن هذه القدرة موجودة في الوقت ذاته لدى الجميع، وإنما بدرجات أقل، صحيح أننا نقول عن الفنان إنه يكشف لنا أنفسنا، ولكن كيف يتسنى له ذلك لو لم تكن طبيعة خياله وطبيعة خيالنا واحدة، ولو لم يكن الفارق بين الطبيعتين إلا فارقا في الدرجة فحسب؟ من الواضح أن القصيدة الشعرية - مثلا - لا تؤثر في إلا إذا كانت لدي أحاسيس مماثلة لتلك التي كانت لدى مؤلفها، بحيث أهتدي في هذه القصيدة إلى شيء أحس به في نفسي فعلا، وبهذا المعنى أقول إنها عرفتني نفسي أو كشفتها لي، ولو لم تكن قد مرت بنا في حياتنا لحظات مختلفة شعرنا فيها بإحساسات مشابهة لإحساسات هاملت أو ماكبث، لما أحسسنا بإعجاب حقيقي نحو هاتين الشخصيتين، ولكان الشعر الذي يتحدث عنهما مجرد كلمات لا تعني بالنسبة إلينا شيئا.
ولكن علينا أن نحذر فهم فكرة التعبير هذه بأنها تعني أن العمل الأساسي للفنان هو أن ينقل مشاعره للآخرين؛ فهذا المعنى أبعد الأمور عن تفكير كروتشه، وكل ما يود أن يقوله هو أن الفنان يعبر عن أحاسيس باطنة، ويطلق هذه الأحاسيس من عقالها في عملها الفني، ويتحرر منها بمعنى ما في مجهوده التعبيري، وعند هذه المرحلة تنتهي مهمة الفنان، أما من يتذوقون هذا العمل الفني فإنهم لما كانوا يمرون أيضا بأحاسيس مماثلة، ففي وسعهم أن يقدروا هذا العمل ويستمتعوا به جماليا، دون أن يكون الفنان الخالق قد استهدف بعمله متعتهم؛ ذلك لأن عمل الفنان يتوقف ويكتمل - كما قلنا - عند مرحلة التعبير عن انطباعاته الخاصة؛ ففي اللحظة التي يكون فيها الفنان - في داخله - صورة حية لشكل أو لتمثال أو يهتدي إلى لحن موسيقى، يكون التعبير قد تم واكتمل، وهو ليس في حاجة إلى أكثر من ذلك، وحتى الصورة الخارجية التي يتخذها التعبير لا تعد ضرورية على الإطلاق، أعني أن عزف اللحن الذي اهتدى إليه الفنان، أو إمساك ريشة الرسم أو القلم لتدوين التعبير الداخلي بصورة خارجية يدركها الآخرون، كل هذا يعد إضافة إلى العمل الفني الأصلي، وهي إضافة تنتمي إلى المجال العملي، ولا شأن لها بالمجال الجمالي في ذاته، ومن هنا كان كروتشه يرفض التفرقة بين التعبير الداخلي والتعبير الخارجي؛ إذ إن كل عمل فني هو تعبير «داخلي» على الدوام، وما نسميه بالعمل الخارجي ليس هو العمل الفني ذاته.
وبعبارة أخرى فالفن نشاط روحي صرف، وترجمته أو نقله إلى مجال الأشياء الخارجية هو عمل ثانوي يضاف إلى الجهد الروحي الحقيقي، الذي هو التعبير الفني الأصيل، ولو حالت الظروف - على أي نحو - بين الفنان وبين نقل فنه إلى الآخرين أو التعبير عنه بصورة يدركها الجميع، فإن هذا لا ينقص من تجربته الجمالية شيئا، ما دامت هذه التجربة قد عبرت عن نفسها - في داخله - تعبيرا باطنا كافيا، ونقلت مشاعره وانطباعاته الغامضة إلى صورة محددة يستطيع هو ذاته أن يتبين معالمها في داخله بوضوح.
ورغم ذلك التأكيد للطابع الباطن للتعبير الفني، فإن كروتشه يؤكد وجود حقيقة فنية يمكن أن تنقل إلى الآخرين، وكل ما في الأمر أن الفنان لا يعبر عن نفسه من أجل الآخرين، وإنما تؤدي وحدة المشاعر بين البشر إلى أن نفهم نحن عمل الفنان ونقدره، وهكذا نجد أن الألوان والأصوات التي عبر بها الفنان عن إحساسه الباطن تستطيع أن تنقل إلينا هذا الإحساس، فيتكون لدينا حدس مماثل لذلك الذي أحس به الفنان، صحيح أننا لا نستطيع أن نحيا تجربة الفنان من جديد، أو نمر بها مرة أخرى؛ لأن ما حدث مرة لن يتكرر فيما بعد، ومع ذلك فإن أول ما يميز الفنان العظيم هو قدرته على أن يعبر عن حقيقة تحتفظ بقيمتها عبر الزمان والمكان، وتستطيع أن تثير فينا خيالات مماثلة لتلك التي مرت في ذهنه، ومن هنا كان من المستحيل ألا نعجب بهذا العمل؛ لأن نفس الضرورة التي جعلت الفنان يعبر عنه، تجعلنا نحن أيضا نقدره، وهكذا يوجد بين الفنان وبين جمهور المتذوقين نوع من الاتصال لم يتعمده الفنان ولم يكن يعنيه في شيء، ولكنه موجود نتيجة لوحدة المشاعر، ولأن النفوس يتصل بعضها ببعض من خلال العمل الفني مثلما يتصل بعضها ببعض في عملية المعرفة والتفاهم العقلي.
وإذن فهناك حقيقة فنية، ولكنها مختلفة عن الحقيقة العلمية والأخلاقية، ومن هنا كان كروتشه من أكبر أنصار فكرة الفن للفن، بمعنى أن التعبير الفني مستقل عن جميع الاعتبارات العلمية، وإذا كانت هذه الاعتبارات ترتبط - من الوجهة الواقعية - بالأعمال الفنية؛ فليس هذا الارتباط منطقيا ولا ضروريا، وإنما هو شيء عارض فحسب، وعلى ذلك فالحكم على العمل الفني ينبغي - في نظر كروتشه - أن يتم من وجهة نظر فنية صرف. وأكبر الأخطاء في النقد الفني أن نخلط بين المعايير المنتمية إلى مجالات مختلفة، فنحكم على العمل الفني من خلال أخلاقيته، أو نحكم على عمل عقلي من حيث تناسقه وانسجامه، ومهما بدا لنا أن العمل الفني يحمل معاني أخلاقية أو دينية أو عقلية، فمن الواجب أن نتذكر أن الفنان الخالق ذاته - من حيث هو فنان - لم يكن يقصد إلى شيء من ذلك، ولا يعبأ بهذه النتائج، ولم يكن يريد أن يؤكد لنا شيئا، وإنما كان يريد التعبير عن نفسه فقط، وعن مشاعره إزاء موضوعات معينة، بغض النظر عن كل اعتبار عملي أو نظري ينتمي إلى مجال الأخلاق أو العلم، ورغم أن مفكرين كثيرين قد رحبوا - وقت ظهور هذه الآراء - بتلك النظرية الخالصة في الفن على أساس أنها تخلص الفن من الارتباط بالأهداف الأخلاقية أو الاجتماعية التي لا تنتمي إلى صميم الفن ذاته، فقد كان رد الفعل عليها قويا، وتوالت بعد ذلك انتقادات شديدة لفكرة الفن للفن، نظرا إلى ما تفترضه من انفصال للروح البشرية إلى مجالات كل منها مقفل على ذاته، لا يتصل بالمجالات الباقية، وهو أمر تأباه وحدة الشخصية الإنسانية وتداخل مظاهر نشاطها.
على أن في نظرية كروتشه التعبيرية نقاط ضعف أخرى لا تقل عن هذه أهمية؛ فهو في فكرة التعبير الخالص يتجاهل مادة الفن ويعدها مجرد أداة ثانوية، ولا يهتم بالمنظر الخارجي للعمل الفني إلا من حيث هو وسيلة لإعطاء التعبير شكلا يدركه الآخرون، على حين أن التعبير الحقيقي هو الأصل الباطن في نفس الفنان فحسب، وربما كان في وسعنا أن نرى في ذلك مظهرا من مظاهر القصور في ملاحظة ما يحدث بالفعل في حالة الخلق الفني؛ إذ إننا نعلم جميعا مدى تأثير مادة الفن في تشكيل الصورة النهائية للعمل الفني بل في عملية الخلق ذاتها أحيانا؛ فكثيرا ما تكون المشاعر التي تنتاب اثنين من الفنانين متشابهة، ولكن أحدهما أقدر على تشكيل عالم الألوان والثاني أقدر على تشكيل الحجارة، فتكون النتيجة في الحالة الأولى صورة وفي الحالة الثانية تمثالا، وهكذا نرى أن الشكل أو الوسط المادي للتعبير هو الذي يتيح تصنيف الفنون، ولولا هذه المادة لما وجدت فنون مختلفة، بل لكان هناك فن واحد فحسب، وفضلا عن ذلك فإن طبيعة الشعور الذي يريد أن يعبر عنه الفنان تتغير إلى حد بعيد عندما تصطدم قوته التعبيرية بالعالم المادي ويحاول أن يستخلص من المادة تلك المعاني التي تجيش بها نفسه، وللمادة ذاتها دور أساسي في تحديد الطبيعة النهائية للعمل الفني؛ لأن إرادة الفنان لا تمارس في فراغ، وإنما في مادة تقاومه لها قوانينها الخاصة التي لا يستطيع أن يخضعها لرغباته في كل الأحوال.
أما فكرة الحقيقة الفنية التي تنقل إلينا بفضل اتحاد مشاعرنا مع مشاعر الفنان، أو قدرتنا على إعادة إحياء ما مر به الفنان من التجارب في أنفسنا، فمن الممكن أن توجه إليها انتقادات متعددة؛ ذلك لأنه ليس من الضروري على الإطلاق أن نستعيد - ونحن إزاء عمل فني كبير - تجارب مماثلة أو مشابهة لتلك التي مر بها الفنان نفسه، بل إن هذا أمر مستحيل من الوجهة العملية؛ فقد لا يرتبط العمل الفني على أي نحو ضروري بالحالة الشعورية التي أنتجه الفنان في أثنائها، ولدينا شواهد عديدة على ذلك في تاريخ الفن؛ فأروع مؤلفات موتسارت الموسيقية هي تلك التي كتبها بتكليف، بحيث كان مقيدا بموعد يتعين عليه إتمامها فيه، أو كان في ضائقة مالية ويريد الانتهاء منها في أسرع وقت حتى يجني منها بعض المال، ومن جهة أخرى فمن الملاحظ في موسيقاه أن أشد سيمفونياته مرحا هي تلك التي كتبها في أوقات حزنه، وفي ظروف قاسية إلى أبعد حد، وهنا نجد أن الحالة التي خلق في ظلها العمل الفني - من حزن أو عسر مالي أو ديون أو تعجل في الإنتاج - تختلف كل الاختلاف عن الشكل النهائي الذي اتخذه هذا العمل، ومن المحال أن يعيد المرء هذه التجربة في نفسه وهو يستمع إلى موسيقاه، لسبب بسيط هو أنه لا توجد أية علاقة بين هذه الموسيقى وبين المشاعر التي كانت تمر به وقت تأليفها، ويبدو أن قدرة الفنان الكبير إنما تكون في تمكنه من خلق إنتاج لا يتقيد بظروفه الذاتية الجزئية ، ولا تربطه بمشاعره المتغيرة أية علاقة سببية، وإنما هو فيض من الطاقة يمكن أن ينطلق في أشد الظروف قسوة، وفي ظل أحوال قد تبدو أحيانا غير متلائمة مع الإنتاج الفني على الإطلاق.
ومن جهة أخرى، فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية تلقي العمل الفني وتقديره عند من يتأمله أو يستمع إليه؛ لوجدنا أن العمل الفني الواحد قد يثير في مختلف الناس أحاسيس متباينة كل التباين، وليس من الممكن أن نشعر عند تقديرنا لعمل فني بنفس أحاسيس منتجه، بل إن هذا ليس أمرا مرغوبا فيه، وربما لم يكن يحدث إلا في حالة الأنواع الهزيلة من الإنتاج الفني، والأمر الذي نستطيع أن نؤكده - فقط - هو أن العمل الفني يؤثر في حاستنا الجمالية تأثيرا عاما دون تحديد لاتجاه هذا التأثير، بل إن للعمل الفني العظيم قدرة على أن يؤثر في كل شخص على نحو مختلف، ومع ذلك يظل الجميع - رغم اختلاف طريقة تأثر كل منهم، واختلاف طرقهم جميعا عن طريقة تأثر الفنان نفسه - يشعرون بأنه عمل له قيمته.
وأخيرا فإني أود أن أثير مسألة لا أظن أنها خطرت ببال كروتشه أصلا في حديثه عن التعبير الجمالي؛ فهل يقتصر الفن على التعبير عن مشاعر إنسانية موجودة من قبل أم إنه يخلق مشاعر جديدة؟ يبدو أن هناك أعمالا فنية تفتح أمامنا آفاق مشاعر جديدة كل الجدة، لم نصادفها من قبل في تجربتنا على الإطلاق؛ فهي تخلق مشاعر لا نحس بها في حياتنا، وتحول مجرى حياتنا الانفعالية إلى طريق لم يطرق من قبل، فأرقى أنواع الموسيقى تثير فينا أحاسيس لا نستطيع تحديد كنهها على الإطلاق، وكل ما نستطيع أن نقوله بشأنها هو أنها تكشف لمن يمكنه تذوقها عن أوجه خفية باطنة في العالم، لم يكن قد تنبه إليها في حياته من قبل، ومثل هذا يصدق على أحدث نظريات فن التصوير؛ إذ يرى كثير من المصورين المعاصرين أن على الفنان أن يخلق موضوعات جديدة كان ينبغي أن تكون في الطبيعة، ولكنها لم تكن بالفعل، وأن عليه بالتالي أن يولد مشاعر تفتقر إليها التجربة المألوفة للإنسان، وهم يرون أنه لا جدوى من التعبير عما تحقق بالفعل، وإنما المهم أن نستخلص ما كان ينبغي أن يكون، ونخرجه إلى حيز الوجود، ومن هنا كانت حملة كثير من هذه المذاهب المجددة على كل تصوير أو تمثيل للطبيعة، سواء منها الظاهرة والباطنة، ويؤكد أصحاب هذه الاتجاهات أن النظرية التعبيرية تحد من حرية الفنان، على حين أن مذهبهم هو الذي يضمن له حرية كاملة؛ إذ يستطيع التحكم في مشاعره الأصيلة، بل وفي كل الظروف المحيطة به، والمقترنة بلحظة الخلق الفني، وتحويلها إلى شيء جديد كل الجدة، نابع من عبقريته الخلاقة، وهكذا يبدو أن أعظم ما في الفنان هو قدرته على تشكيل المشاعر الذاتية والمادة الخارجية في صورة جديدة، لا تتقيد بحتمية التعبير عن مشاعر معينة، وإنما هي تعبير عن القدرة الخالقة والطاقة الفياضة للفنان فحسب.
بين الفكر والآلة (1)
الفلسفة والتكنولوجيا في العالم القديم
1
بين الفكر والفعل أو بين الرأس واليد حوار دائم، وقد اتخذ هذا الحوار صورا متعددة طوال تاريخ البشرية؛ فكان أحيانا يتخذ صورة عداء متبادل، أو ترفع من الفكر على الفعل، أو تضافر وتعاون بين عقل الإنسان ويديه. ولقد كانت قصة العلاقة بين الفكر والآلة، وموقف الفيلسوف من التكنولوجيا، انعكاسا واضحا للعلاقات الاجتماعية السائدة في كل عصر، وأستطيع أن أقول إن تتبع المراحل الرئيسية لهذه العلاقة يلقي ضوءا ساطعا على كثير من المسائل الفكرية والحضارية، ويكشف على نحو أعمق عن موقف الإنسان من الطبيعة في مختلف العصور، وسأحاول في سلسلة من المقالات أن أقدم عرضا تاريخيا عاما لهذه المشكلة، فضلا عن تناول بعض جوانبها التي تمس الإنسان المعاصر. وفي اعتقادي أن القارئ سيكون قد أفاد من هذه المقالات على النحو الذي آمله إذا لم ينظر إليها على أنها مقالات فلسفية خالصة، وإذا تأملها على أنها تلخيص لمشكلات لا بد أن يمر بها كل مجتمع بشري عندما تواجهه لأول مرة مشكلة الصنعة أو التصنيع، وتبدأ قوة الآلات فيه تؤدي عملها إلى جانب قوة الإنسان، ويحدث الاصطدام المحتوم بين العقل في انطلاقه الحر وبين الآلة في نظامها الصارم.
كانت فترة ظهور أولى مدارس الفكر اليوناني - وهي المسماة بالمدرسة الأيونية - تبشر بتضافر مثمر بين النشاط الفكري النظري والنشاط العملي الآلي؛ إذ كان كثير من فلاسفة هذه الفترة - أعني من يسمون بالطبيعيين الأولين - مهتمين بالمسائل العملية بقدر اهتمامهم بالمسائل النظرية، وكانت جهودهم تنصب على الميدانين معا دون تعارض. في تلك الفترة كان هناك اتصال رائع بين حضارات الشرق الأوسط القديمة وبين الحضارة اليونانية الناشئة، وكانت الخبرات والمعلومات والتجارب تتبادل إلى جانب المحصولات والمصنوعات ، وأثمر ذلك كله تفكيرا يجمع إلى الممارسة التطبيقية القدرة على البرهان العقلي.
ولقد كان طاليس «أبو الفلسفة» الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد؛ كان مفكرا نظريا ومخترعا عمليا في الوقت ذاته؛ فقد نسب إليه مؤرخو الفكر أول نظرية متكاملة حاول بها الذهن البشري تفسير الكون كله من خلال مبدأ واحد مقنع عقليا، لا من خلال أسطورة أو خرافة، ولكنه كان في الوقت ذاته ذا عقلية علمية وعملية من الطراز الأول، فروي عنه أنه حول مجرى نهر «هاليس» لكي يتيح لجيوش كرسيوس أن تعبره، ونسبت إليه كشوف عديدة في الفلك والملاحة، وليس ما يعنينا هنا أن نعدد الاختراعات والكشوف المنسوبة إلى شخص طاليس، وإنما المهم في الأمر أن أول فيلسوف يذكره التاريخ كان شخصية نظرية وعملية في آن واحد، ولم يكن ذلك الرجل المنعزل الذي يتأمل السماء فتتعثر مشيته ويقع في الوحل كما تصوره القصة المشهورة، وبعبارة أخرى فإن بداية ظهور الفلسفة كانت مرتبطة بالجمع بين الفكر النظري والعلم التطبيقي معا، بل ربما جاز القول إن الاهتمام بالأمور العملية هو الذي أوحى إلى فلاسفة هذه الفترة آراءهم النظرية.
وإذن فقد كان كل شيء يوحي بأن التقدم الفكري والتقدم التكنولوجي سيسيران جنبا إلى جنب في العصر اليوناني الكلاسيكي، وكانت الوسائل كلها ميسرة لذلك؛ فالعلم اليوناني قد أخذ يزدهر، وأسرار الرياضيات بدأت تتكشف للعقل اليوناني، والاتصالات بالحضارات القديمة قائمة لا تنقطع، والمناخ السياسي والاجتماعي يساعد على ذلك دون شك، وفضلا عن ذلك ففي تلك الفترة بعينها وضعت أسس النظرية الذرية من جهة، وظهر مذهب «أبقراط» العلمي التجريبي في الطب من جهة أخرى، وهما كشفان يساعدان على تمهيد الطريق للكشف والاختراع الآلي: الأول إذ يصور الكون كله على أنه آلة ضخمة، والثاني إذ ينظر إلى جسم الإنسان نفسه على أنه آلة معقدة، ومع ذلك فإن هذا التطور المتوقع لم يحدث، وظل العلم اليوناني نظريا لا تطبيقيا، ولم يعرف اليونانيون «الآلة» بمعناها الصحيح، وإن عرفوا مجموعة بسيطة من الأجهزة الآلية كانت في نظرهم مصدرا للتسلية والترويح عن النفس، ولم تكن لها في حياتهم وظيفة جدية.
فما هي أسباب عدم ظهور النزعة الآلية عند اليونانيين؟ ولماذا لم يستخدم العلم اليوناني المزدهر في تطبيقات عملية ترفع مستوى حياة الإنسان؟ من المؤكد - كما قلنا من قبل - أن الجو العام كان مهيأ لذلك، وأن الاهتمام بالتكنولوجيا - الذي لم يظهر بوضوح إلا في عصر النهضة الأوروبية - كان يمكن أن يظهر في تلك الفترة المبكرة (ولنتصور مدى التغير الهائل الذي كان يمكن أن يطرأ على التاريخ البشري لو أن النزعة العلمية التطبيقية قد بدأت قبل موعد بدايتها الفعلية بألفي عام)، فما هي إذن أسباب اختفاء الآلة من حياة الإنسان القديم، ونفور الفكر البشري منها.
إن المتشككين في قيمة التصنيع في عصرنا الحالي، يشيرون إلى الأضرار المادية والمعنوية التي جلبتها النزعة الآلية ولا سيما في الحروب، ويبدو بالفعل أن اليونانيين القدماء قد أخذوا يتساءلون هذه الأسئلة، ولا سيما في صدد الآلات المستخدمة في الحرب، فإذا كانت الآلة تحل محل اليد البشرية في محاربة العدو (كما في حالة المنجنيق مثلا) فما قيمة الشجاعة إذن؟ وفضلا عن ذلك فقد أدرك اليونانيون خطر البطالة الذي يتولد عن التوسع في استخدام الآلة؛ إذ روي عن أحد الأباطرة أن مهندسا عرض عليه جهازا يتيح نقل أعمدة ضخمة بنفقات قليلة حتى قمة الكابيتول، فرفض الإمبراطور استخدام الجهاز شاكرا، وقال لمخترعه: «دع الفقراء يأكلون خبزا!»
2
مثل هذه الأسباب إذن كانت موجودة، ولكن إدراك اليونانيين لها لم يكن من الوضوح بحيث يمكن أن تعد على أي نحو تعليلا لبطء تطور المخترعات الآلية.
أما السبب الحقيقي الذي يمكننا أن نعزو إليه زهد اليونانيين في هذه المخترعات - في الوقت الذي توافرت لهم فيه كثير من الإمكانيات الكفيلة بتحقيق تقدم سريع في هذا المجال - فهو أنهم لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها، نظرا إلى شيوع نظام الرق، فلماذا ينصب تفكير العلماء على الاقتصاد في الجهد البشري، وإحلال الآلة محل اليد العاملة؛ إذ كان لدى المجتمع مصدر لا ينضب من موارد الطاقة، يتمثل في الأرقاء الذين لم يكن يخلو منهم بيت يوناني متوسط؟ لقد كان نظام الرق - في واقع الأمر - حقيقة أساسية من حقائق المجتمع اليوناني، وكان الرقيق الذي ظل محروما من كل حقوق المواطنين الأحرار، والذي كان يعيش على هامش المجتمع بكل معاني هذه الكلمة؛ كان وسيلة زهيدة التكاليف لقضاء الحاجات المادية والقيام بالأعمال اليدوية.
فالرقيق كان يحتل موقعا وسطا بين الإنسان بمعناه الصحيح - أي الإنسان الحر - وبين الحيوان، ولما كانت الحروب اليونانية المستمرة تتيح جلب مزيد من الأرقاء على الدوام، أو على الأصح من أسرى الحرب الذين يحولون إلى أرقاء، فقد كان من الطبيعي ألا تقوم الحاجة أصلا إلى إعفاء الإنسان من متاعب العمل اليدوي المرهق، ومن هنا لم تتقدم التكنولوجيا اليونانية، وبالعكس فإن عدم وجود الآلات قد جعل اليونانيين يتمسكون بنظام الرق، ولا يستغنون عن أرقائهم، وهكذا ظل اليونانيون يدورون - في هذا الصدد - في حلقة مفرغة لم يعرف العالم القديم منها مخرجا.
ومما له دلالته الواضحة في هذا المجال أن الأرقاء - في العصر اليوناني - كانوا يستخدمون في أغراض تتصل بالصناعة لا في الزراعة؛ فالتجربة الأمريكية الحديثة - التي كان يجلب فيها الألوف من العبيد للعمل في المستعمرات الزراعية الكبيرة (
) - لم تكن معروفة عند اليونانيين، أو كانت تطبق بصورة بدائية وعلى نطاق ضيق إلى أبعد حد، وإنما كان الشائع استخدام الأرقاء في الحرف اليدوية الصناعية أو في الأعمال المنزلية؛ فكان الصناع القادرون يجلبون الأرقاء ويدربونهم ، آملين أن يتقاعدوا آخر الأمر ويعيشوا سنوات شيخوختهم على حصيلة عمل أرقائهم، وقد تحدث سقراط عن خمسة من معاصريه كانوا يعيشون عن سعة بفضل استغلالهم لجهود أرقائهم، كذلك كان تشغيل الأرقاء في الصناعة من صور الاستثمار المعروفة التي يلجأ إليها الأغنياء، وقد أدرج سقراط الأرقاء مع الأرض والعقار بوصفها مصادر تجلب دخلا بلا عمل.
3
ولو تأملنا كتابات فيلسوفي اليونان الكبيرين وهما أفلاطون وأرسطو؛ لوجدناها تتضمن دفاعا حارا عن نظام الرق، وهو دفاع إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تأصل هذا النظام في حياة اليونانيين في ذلك العصر؛ ففي محاورة «الجمهورية» يعدد أفلاطون مساوئ الديمقراطية، وهي نظام الحكم الذي كان بغيضا لديه، ويرى أن أبرز هذه المساوئ هو التطرف في الحرية التي تصل إلى حد الفوضى، ثم يقول: «على أن أقصى ما تصل إليه الحرية في مثل هذه الدولة، هو أن يغدو الأرقاء من الرجال والنساء الذين يشترون بالمال متساوين في حريتهم مع أسيادهم الذين اشتروهم.»
فالمساواة بين الرقيق وسيده في النظام الديمقراطي هي - في رأي أفلاطون - أكبر عيوب هذا النظام، أما أرسطو فله نص مشهور في كتاب السياسة (الكتاب الأول، الفصل الرابع) يقول فيه: «إن للآلات أنواعا متباينة؛ فمنها ما هو حي، ومنها ما هو غير حي، ففي الدفة يجد قائد السفينة آلة لا حياة فيها، أما الحارس فهو آلة حية ... والخادم نفسه آلة لها الأفضلية على كل الآلات الأخرى؛ إذ لو كانت كل آلة قادرة على إنجاز عملها، فتطيع إرادة الآخرين أو تتوقعها، كتماثيل ديدالوس أو كراسي هفايستوس الآلية ذات الأرجل الثلاثة، التي يقول الشاعر إنها «دخلت من تلقاء ذاتها مجلس الآلهة»، ولو كان في وسع النول أن ينسج والريشة أن تضرب العود دون أن تمسها يد، لما احتاج أصحاب العمل إلى خدم، ولما احتاج السادة إلى عبيد» (1253ب).
ولقد تصور البعض أن أرسطو - بعبارته الأخيرة - كان يشير إلى أن نظام الرق سيظل ضروريا ما دامت الآلات لم تبلغ المرحلة التي يمكنها فيها القيام بحركاتها تلقائيا، وأنه كان بذلك يبرر الرق على أساس الضرورة العملية البحتة، لا لأنه مقتنع به.
ولكن سياق النص يدل بوضوح على أن أرسطو إنما يشير هنا إلى أساطير خيالية، وأنه يؤكد بذلك نظام الرق ويدعمه؛ لأن هذا النظام في رأيه لا يمكن أن يزول إلا إذا تحقق المستحيل، ودبت الحياة في الجمادات، وأصبحت الأساطير حقائق واقعة.
وإذن فقد كان أفلاطون وأرسطو متحمسين لنظام الرق، وكلاهما حاول أن يقدم له أقوى أساس ممكن من المبررات العقلية، وتلك في واقع الأمر ظاهرة غريبة حقا عند هذين الفيلسوفين الكبيرين؛ ذلك لأنهما لم يتركا صغيرة ولا كبيرة إلا وقاما بتحليل وتشريح دقيق لها، وقد بلغ تفكيرهما درجة من التجريد والقدرة على التحليل لم يبلغها الفكر طوال تاريخ البشرية إلا في حالات نادرة، وكان كل منهما ناقدا لعصره، ولكل منهما أبحاثه العميقة في الأخلاق والسياسة وأمور المجتمع، وكم تحدثا عن الفضيلة والعدالة وكرامة الإنسان وبلوغه كماله وتحقيقه الغاية المقصودة منه، فكيف بعد هذا كله تغيب عن نظرهما ظاهرة واضحة الظلم كالرق؟ وكيف يتحدث أرسطو عن الرقيق بوصفه «ذلك الذي هو بالطبيعة شخص لا يملك ذاته، بل يملكه شخص آخر؟» كيف يتحدث على هذا النحو دون أن تدفعه حاسته الأخلاقية «المرهفة» إلى الوقوف عند هذا الوضع الشائن للإنسان، وكيف يمضي بعدها مباشرة إلى تبرير نظام الرق وإثبات أنه متفق مع الطبيعة؟ لا شك أننا نرى هنا تناقضا أساسيا بين القدرة التحليلية الدقيقة التي لم يفلت من قبضتها شيء، وبين التغاضي العجيب عن نظام مضاد تماما لكل نزعة إنسانية في الأخلاق، ولقد حاول البعض أن يدفعوا عن أرسطو وأفلاطون تهمة التناقض، مؤكدين أن هذا النظام كان متغلغلا في حياة اليونانيين إلى حد كان من الصعب معه على من يعيش في ظله - ومن اعتاده في كل لحظة من حياته - أن يتخذ منه موقف الناقد الموضوعي، وأن يتنبه إلى ما فيه من مظالم، غير أن هذا دفاع واه لا يصمد للتحليل الدقيق؛ ذلك لأنه كانت توجد في اليونان معارضة لنظام الرق ، بدليل قول أرسطو في كتاب السياسة: «إن البعض يرون أن حكم السيد علم ... وأن السيطرة على العبيد والحكم السياسي والملكي - كما قلت في البداية - كلها شيء واحد، وغير هؤلاء يؤكدون أن حكم السيد للعبيد مضاد للطبيعة، وأن التمييز بين الحر والعبد لا وجود له إلا بالقانون لا بالطبيعة، ولما كان ذلك تدخلا في مجرى الطبيعة، فإن فيه ظلما» (الكتاب الأول، الفصل الثالث)، ومن المؤسف أن أرسطو لم يذكر من هم أولئك الذين كانوا يعترضون في عصره على نظام الرق، ولكن اهتمامه بالموضوع وتخصيصه الصفحات الطوال من كتابه هذا للرد على حجج خصوم الرق، يدل على أنه كانت هناك معارضة قوية لهذا النظام، وعلى أن دفاع أرسطو - ومعه غيره من أنصار الرق - كان واعيا مقصودا لذاته.
وإذن فالسبب الأول لعدم تقدم الاختراع الآلي على الرغم من وجود عدد كبير من العوامل التي كانت في بداية العصر اليوناني الكلاسيكي تبشر بخير كثير، هو أن الحاجة لم تكن تدعو إلى توفير طاقة الإنسان؛ لأن هناك إنسانا آخر كان يبذل طاقته بدلا منه، أعني أن الآلات البشرية جعلت المجتمع اليوناني في غنى عن الآلات المادية الميكانيكية.
ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أنه في الفترة الأولى للفلسفة اليونانية، وهي فترة الفلسفة الطبيعية التي كان الفكر النظري يسير فيها مع التطبيق العملي جنبا إلى جنب دون أن يزعم أحد بوجود تعارض بينهما، في هذه الفترة لم يكن نظام الرق قد توطدت دعائمه في المجتمع اليوناني، مما يجعل الارتباط بين الظاهرتين بمنأى عن كل شك.
على أن هناك سببا آخر ترتب على السبب السابق، وكان بدوره من العوامل الرئيسية التي أدت إلى انصراف اليونانيين عن الكشوف العملية التطبيقية؛ فقد ترتب على نظام الرق ظهور قيم معينة معادية للكشف والاختراع التكنولوجي، وكان ارتباط الرقيق بالعمل اليدوي مؤديا إلى نفور الأحرار منه، وابتعادهم عن كل ما له صلة بالسيطرة على الطبيعة المادية، وكما عمل كبار فلاسفة اليونان على تبرير نظام الرق، فقد عملوا أيضا على تأكيد مجموعة القيم التي ترتبت عليه، وهي أن العمل اليدوي لا يليق بالأحرار، وإنما ينبغي أن ينصرف هؤلاء إلى التأمل العقلي المحض، أي إلى نشاط روحي صرف لا تربطه بالمادة أدنى صلة. وهكذا وضع اليونانيون الفنون الميكانيكية في مقابل الفنون الحرة، وأكدوا أن الرجل الحر لا يليق به ممارسة الأولى، وكان أرسطو حاسما في تعبيره عن هذه القيم حين قال: إن المدينة المثلى ينبغي ألا تجعل من الصناع مواطنين فيها، وحين أكد أن المرء لا يستطيع أن يمارس الفضيلة إذا كان يحيا حياة صانع، وبالمثل كان أفلاطون من قبله من أقوى أنصار القيم التقليدية التي تؤكد الفوارق الحاسمة بين أعلى الطبقات وأدناها، وتتخذ من التفلسف النظري أشرف مهنة تليق بالأحرار، بينما تترك كل عمل له صلة بالطبيعة المادية للعبيد، وعلى عكس ما كان سائدا عند اليونانيين الأوائل من تكريم الصناع والمخترعين، فقد رأى أفلاطون أن الحرفي أو الصانع لا يستطيع اختراع شيء إلا بعد أن يتأمل صورته أو مثاله كما صنعته الآلهة، وبذلك انتزع أفلاطون الفضل من كل مكتشف ومخترع، ونسبه إلى الآلهة فحسب، ولم يقتصر على إنكار مكانة الصانع المخترع وفضله في الكشف، بل لقد أنكر عليه أيضا أي علم حقيقي في فن الصناعة؛ إذ برهن - بمنطق خداع - على أن من لديه معرفة حقيقية بأي شيء ليس هو من يصنعه، وإنما هو من يستخدمه، وأن الثاني هو الذي يصحح معلومات الأول ويضفي عليه علمه، ولقد كانت لهذه الفكرة دلالة واضحة في مجتمع قائم على نظام الرق؛ إذ لم يكن من الممكن أن يعزى إلى العبد الذي يصنع الأشياء علم يفوق علم السيد الذي يستخدمها.
4
وكانت نتيجة هذه النظرة الخاصة إلى القيم أن أصبحت كلمة الصانع والعامل اليدوي مرادفة عند اليونانيين القدماء لمعاني الانحطاط والتدهور الأخلاقي، وأصبح كل حرفي محتقرا بحكم مهنته ذاتها لا بحكم شخصه، وأصبح اليونانيون ينفرون من كل ما له صلة بالعمل المادي؛ لأنه - كما يقول أفلاطون - لا يشوه البدن فحسب، بل يشوه الروح أيضا، وأقصى ما يصل إليه من يمارسون هذا النوع من الأعمال هو أن يشبعوا الحاجات المنحطة لدى الإنسان.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض تراهم يعملون ليل نهار، ويركزون كل قواهم في كسب قوتهم يوما بعد يوم، ولا ينصرف تفكيرهم لحظة واحدة عن المسائل المحدودة المرتبطة بعملهم الآلي، أما الرجل الحر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة فهو ذلك الذي لا تشغله هذه الأعمال اليومية التافهة (لأن غيره يقوم بها)، وإنما ينصرف بكليته إلى التأمل العقلي المحض؛ فحياة العقل هي القيمة العليا عند هؤلاء الفلاسفة، وعندما نقول حياة العقل لا نعني بذلك التفكير العقلي في أمور الدنيا واتخاذ البحث العلمي هدفا للحياة، فهذا معنى حديث للكلمة، وإنما كان اليوناني يستخدم هذا التعبير بمعنى الانصراف إلى التأمل الخالص في أمور لا صلة لها بالعالم المادي الزائل، عالم المظهر والخداع والتغير والفناء. إن استخدام العقل هو في ذاته أمر يفخر به الإنسان في كل عصر وكل مكان، ولكنه عند كبار الفلاسفة اليونانيين كان يعني الاقتصار على التفكير على نحو تجريدي صرف، وتحويل الطاقة العقلية عن كل ما له صلة بالعالم الأرضي المتغير، وتعامل الفكر الخالص مع نفسه دون أية محالة لاختبار صحة نتائجه في عالم الواقع أو تطبيقها على المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية. هذه إذن هي القيمة العليا التي اتجه إلى تحقيقها فلاسفة اليونان في ذلك العصر، وهي - بلا شك - قيمة مرتبطة أوثق الارتباط بنظام الرق وعلاقة السيد بالعبد.
ولن تكتمل في أذهاننا صورة هذا النظام الخاص في القيم إلا إذا أدركنا أن الكلمة التي تدل على الصانع كانت في المجتمع اليوناني تمتد إلى نطاق أوسع بكثير من مرادفاتها في المجتمعات الحديثة؛ فالصانع عندهم لم يكن يعني العامل اليدوي فحسب، وإنما يعني ما نسميه اليوم بالعامل الفني والمهندس والمخترع، كل هؤلاء في آن واحد، ومعنى ذلك أن كل ما كان ينتمي إلى مجال التطبيق العملي للعلم من أجل رفع مستوى حياة الإنسان كان يلقى من كبار فلاسفة اليونان احتقارا.
ولم يكن هذا الاحتقار حائلا دون اعترافهم بنفع هذا النوع من المهن وضرورته في الحياة، ولكنه مع نفعه وضرورته ينبغي أن يظل على هامش المجتمع، وأن يقوم به أناس لا يرقون إلى مرتبة المواطنين الأحرار، وأن يتم في السر والخفاء بقدر الإمكان، فلا يبقى ظاهرا إلا مجتمع الأحرار من المفكرين التجريديين.
وقد بلغ من تأصل هذه القيم في نفوس هؤلاء الفلاسفة أنهم كانوا يزدرون العلوم العقلية ذاتها إذا كانت تستهدف في أبحاثها أي نفع عملي؛ فقد روي عن أفلاطون أنه غضب من العالم الرياضي «أرخوطاس»؛ لأنه عمل على حل مسائل هندسية معينة مستعينا بأجهزة ميكانيكية، واتهمه بأنه يحط من مكانة علم الهندسة ويشوه جلاله؛ إذ يهبط به من الأمور العقلية إلى الأمور الحسية المادية، ويستخدم فيه مواد جسمية ينبغي أن يلجأ الإنسان من أجل معالجتها إلى العمل اليدوي الذليل،
5
ومعنى ذلك أن علم الهندسة - كما يراه أفلاطون - كان ينبغي أن يظل منفصلا تماما عن الميكانيكا والعمارة وأي فن آخر من الفنون الهندسية بمعناها التطبيقي الحديث، وأن عالم الهندسة النظرية يسمو على المهندس أو المخترع التطبيقي بقدر ما يسمو الفيلسوف على الصانع اليدوي؛ فالعلم - بمعناه الصحيح - يستهدف إرضاء العقل لا تحقيق منافع أو ضرورات، وأفضل ما يسعى إليه هو تحقيق التناسق والجمال، لا تلبية الحاجات الفعلية، والقوة الدافعة إلى العلم الحقيقي هي الرغبة الحرة في التفكير والتأمل، لا الضرورة الملحة أو السعي إلى حل مشكلة عملية.
وإذا كان هؤلاء الفلاسفة اليونانيون قد ازدروا الغاية التي يسعى إليها كل كشف أو اختراع تطبيقي، فقد احتقروا أيضا المنهج التجريبي المتبع في هذا النوع من الكشف؛ ذلك لأن المخترع يحتاج إلى تطبيق منهج المحاولة والخطأ، وإلى السير ببطء، وتجربة طريقة بعد الأخرى، غير أن مثل هذا المنهج في نظر الفلاسفة العقليين لا يؤدي إلى معرفة حقة، وإنما إلى معرفة وسط بين العلم والجهل، أو ما يسمى بالمعرفة الظنية، والمنهج الذي يفضلونه هو منهج التبصر المباشر الذي يحتاج المرء للوصول إلى نتائجه إلى استنارة وكشف خاطف، ولا يتردد في استخلاص هذه النتائج أو يجرب طريقة بعد الأخرى، وبعبارة أخرى ففلاسفة ذلك العهد لم يكونوا يطيقون صبرا على الملاحظة الدقيقة التي يحتاجها علم الفلك مثلا، أو على التجارب البطيئة التي يقتضيها تطبيق أية نظرية علمية، من أجل حل مشكلة عملية أو التغلب على عقبة مادية، ولم تكن أرستقراطية العقل ترضى لنفسها أن تقف موقف المنتظر المترقب الصابر، مع أن هذا الموقف لا ينفصل أبدا عن العقلية المخترعة القادرة على صنع الآلات. وعلى هذا النحو نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن صاحب الذهن المخترع في العصور القديمة كان في كثير من الأحيان يعمل على إخفاء هذه القدرة لديه، ويصور مخترعاته بأنها نشاط ثانوي الأهمية بالقياس إلى كشوفه العقلية الخالصة؛ فأرشميدس - صاحب أكبر عقلية علمية تطبيقية على العالم القديم - كان ينظر إلى مخترعاته النافعة (كالمضخة مثلا) على أنها مجرد ترويح وتسلية يقوم بها في الأوقات التي يستريح فيها من عناء الأبحاث النظرية في الرياضة والفيزياء، وكان يحرص على أن يذكره الناس على أنه عالم نظري وليس مخترعا.
والنتيجة الحتمية لهذا الازدراء للمنهج التجريبي وللانفصال القاطع بين النظرية والتطبيق، هي أن وجود الرق أدى بهؤلاء العلماء إلى الانصراف عن أية محاولة لتحقيق الشروط الكفيلة بالقضاء على الرق.
أي إن تدرج القيم على أساس وضع البحث النظري الصرف في القمة واحتقار كل ما له صلة بالتطبيق - وهو التدرج الذي نشأ عن نظام الرق - قد ساعد من جانبه على دعم نظام الرق؛ إذ إن انصراف العلماء عن ميدان الاختراع التطبيقي كان يعني عدم تحقيق الشرط الوحيد الذي كان كفيلا بالقضاء على نظام الرق، أعني حلول قوة الآلة محل قوة الإنسان، ومن المؤسف أن البشرية قد اضطرت إلى أن تنتظر أكثر من ألفي عام حتى يتحقق هذا الشرط؛ ففي القرن التاسع عشر وحده بدأت الآلة تحل محل الإنسان على نطاق واسع، فإذا أدركنا أن إلغاء الرق لم يتخذ صبغة قانونية دولية لأول مرة في التاريخ إلا في النصف الثاني من ذلك القرن؛ لاتضح لنا أن هناك ترابطا عكسيا لا شك فيه بين التقدم التكنولوجي الآلي وبين نظام الرق.
إن الإنسان الحديث يرفع لنفسه شعار «العمل شرف»، وينسب بذلك إلى العمل قيمة أخلاقية رفيعة ترتبط بمعاني الفضيلة والمسئولية وأداء الواجب، أما الإنسان في العصر اليوناني فكان يرفع شعار: العمل (المتصل بالمادة) عار ... والشرف في نظره هو الفراغ مع التأمل العقلي، وهو أن يعفيك غيرك من ممارسة أي جهد جسمي لتتفرغ أنت للمناقشة والجدل والحوار و«الديالكتيك»، وأرفع موضوع لهذا الجدل والنقاش هو الفلسفة الإلهية أو الفلسفة الأولى التي لا تبحث في أية مسألة تتصل بالعالم الأرضي المتغير .
ولقد كان الفيلسوف اليوناني - باتباعه هذا الأسلوب في الحياة - يظن نفسه حرا بحق، ونسي أن الطبيعة ظلت تقهره وتغلبه؛ لأنه لم يحاول أن يسيطر عليها بالاختراع التكنولوجي، فحريته كانت إذن سلبية، تنحصر في الانعزال عن العالم الأرضي وتأمل الأمور عن بعد ... وبدلا من أن يمارس هذا الفيلسوف فاعليته ونشاطه في التغلب على مشكلات العالم المحيط به، نراه يظن أنه قد بلغ أقصى درجات الحرية إذ انعزل عن المجال العملي وتفرغ للتفكير النظري البحت، ثم يبرر هذا كله بأنه زاهد في المتع الأرضية وبأنه متعلق بما هو أرفع من ذلك، ولو كان قد خفض بصره قليلا من السماء إلى الأرض، وأزال الهوة الشاسعة التي وضعها بين النظر والعمل؛ لاستطاع بالفعل أن يمارس الحرية الحقيقية - حرية قهر الطبيعة - بدلا من تركيز الجهد على قهر النفس حتى تتحرر من رغباتها وتترفع عن مطالبها الطبيعية.
ولكن هذا كله كان يقتضي جوا فكريا مختلفا كل الاختلاف، ومجموعة من القيم متباينة تماما عما كان سائدا في العصر اليوناني الكلاسيكي، وكان لا بد من عقلية جديدة تدرك أن الاندماج في الطبيعة من أجل كشف أسرارها وإخضاعها لإرادة الإنسان واستغلالها في رفع مستوى حياته هو أرفع مظاهر الحرية الحقيقية، ولكن سيطرة الفكر التجريدي على الأذهان كانت تحول دون تهيئة الظروف التي تساعد على التقدم التكنولوجي، وظل الارتباط واضحا بين ضعف النزوع إلى الاختراع الآلي وبين النظر إلى التفكير المجرد على أنه أسمى غايات الإنسان، ولقد رأينا من قبل أن اليونان قد شهدت في أول عهد حضارتها الفكرية فترة ظهرت فيها بوادر لحركة التقدم التكنولوجي، وكانت في الوقت ذاته فترة تضافر - لا عداوة - بين النظر والعمل، وذلك حين لم يكن الاتجاه التجريدي قد أحرز بعد انتصاره الحاسم على أيدي سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبالمثل انتهت الحضارة القديمة بفترة أخرى من الازدهار النسبي للتكنولوجيا، شهدتها مدرسة الإسكندرية على وجه الخصوص، وظهرت فيها مجموعة من المخترعات المفيدة، وفي هذه الفترة بدورها كانت سطوة التفكير التجريدي قد خفت بعد انهيار المدارس الكبرى الموروثة عن أفلاطون وأرسطو.
ولكن هذه كلها لم تكن إلا فترات انحراف عن الطريق الرئيسي للعصر الكلاسيكي؛ طريق الانفصال بين النظر والعمل. وظلت عقلية أفلاطون وأرسطو هي المسيطرة، وظل الإنسان قرونا طويلة يترفع عن العالم المادي ويتصور الآلة قوة معادية لحياته الروحية، إلى أن حتمت العوامل الموضوعية ذاتها تغيير هذه العقلية في ظروف مختلفة كل الاختلاف.
بين الفكر والآلة (2)
فكرة الآلية في الفلسفة الحديثة
1
لم تكن العصور الوسطى الأوروبية فترة مجدبة عقيمة في اتجاهاتها الفكرية إلى الحد الذي تبدو عليه لأول وهلة، بل إن كثيرا من العناصر التي أصبحت فيما بعد مميزة للحضارة الغربية الحديثة قد ظهرت بوادرها في تلك الفترة التي تتميز بامتدادها الزمني الهائل، والتي نضجت فيها - ولكن ببطء شديد - اتجاهات حضارية لم تجد التعبير الكامل عنها إلا في العصر الحديث.
ولقد ورثت العصور الوسطى عن العصرين: اليوناني والروماني ازدراء العمل اليدوي، والفصل بين مجال الفكر ومجال التطبيق، وظهر في تلك العصور عامل جديد كان خليقا بأن يزيد هذه الهوة اتساعا، هو العامل اللاهوتي الذي أصبحت له المكانة الأولى في حياة الناس في تلك العصور، والذي كان يتضمن دعوة صريحة إلى الزهد وازدراء كل نشاط متعلق بالعالم الأرضي المادي الزائل، ومع ذلك فإن العصور الوسطى قد شهدت تحولا تدريجيا بطيئا غاية البطء - في النظرة إلى قيمة النشاط العملي التطبيقي - بالقياس إلى سائر أوجه النشاط البشري؛ ذلك لأن النصوص الدينية المسيحية لم تكن واضحة تماما في هذا المجال؛ ففي الإنجيل نصوص تحمل على العمل، كما أن المسيح لم يكن يعبأ بالخيرات المادية التي ينتجها العمل، ومع ذلك فإن المسيح ذاته وكذلك الكثير من حوارييه كانوا صناعا، وهو أمر له دلالته الكبرى في هذا الصدد؛ إذ إنه يؤدي إلى الربط بين العمل اليدوي وبين المثل الأعلى لذلك العصر، وهو شخصية القديس.
ومن جهة أخرى فإن طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر كانت تشجع على التحول التدريجي في مركز العمل؛ فبينما نجد أن العمل الزراعي - الذي كان حرا في العصر القديم - قد تحول تدريجا إلى نوع من العبودية بتوطيد دعائم نظام الإقطاع الذي حول الفلاحين إلى أشباه عبيد، نجد من ناحية أخرى أن العمل الحرفي والصناعات اليدوية قد انتقلت إلى التحرر والاستقلال، ولا يمكن القول إن هذا التغير قد حدث دفعة واحدة، بل إن احتقار الصنائع الميكانيكية ظل قائما بعد انتهاء العصور القديمة بفترة طويلة، وكانت قيم الفروسية التي سادت في العصور الوسطى امتدادا لمبدأ ترفع الإنسان الحر عن العمل؛ إذ لم يكن الفارس يقوم بعمل يدوي، بل كان كل ما يقبل أن يشتغل به هو تلك الفنون المسماة بالحرة، وفي حياة الفارس الإقطاعي كان الشرف والنبل قيمتين مضادتين لقيمة العمل المادي، ومع ذلك كان هناك تيار متصل يتجه إلى رد اعتبار العمل بالتدريج، وحين شاهد إنسان العصور الوسطى تلك الكاتدرائيات الشامخة التي أنتجها العمل والصناعة الميكانيكية، لم يملك إلا أن يبدي إعجابه بالصنعة الفنية ونواتجها الرائعة التي يمكنها أن تثري حياة الإنسان الدينية ذاتها، وبدأ يدرك بصورة غامضة مقدار التغير الذي يمكن أن يحدثه امتزاج العلم بالصنعة اليدوية في حياة الإنسان.
ويمكن القول إن نوع الحياة التي كان يحياها الرهبان في الأديرة في العصور الوسطى يعد أنموذجا مصغرا لموقف العصور الوسطى من مشكلة العمل والصناعة بأسرها؛ ذلك لأن فكرة الحياة في الأديرة كانت هي ذاتها تعبيرا عن احتقار العمل والترفع عن كل ما له صلة بالعالم المادي، ومع ذلك فقد ظهر عند القديس أوغسطين وغيره من آباء الكنيسة اتجاه إلى التنديد بالرهبان الذين لا يعملون، وإلى إدخال العمل اليدوي في حياة الدير، وبالفعل أخذت الأديرة تتحول بالتدريج من دور للتأمل والتعبد الخالص إلى أماكن تجرى فيها تجارب رائدة في شتى ميادين الأعمال والصنائع اليدوية.
وعندما أقبل عصر النهضة الأوروبية، ظهر بوضوح أن الاتجاه إلى الاعتراف بقيمة العمل اليدوي قد تغلب على الاتجاه إلى استنكاره والزهد فيه. وكانت حركة الإصلاح الديني من أهم العوامل التي ساعدت على عودة العمل إلى مكانته المشروعة؛ ذلك لأن «مارتن لوثر» كان ينظر إلى العمل على أنه دواء للخطايا والآثام، ويؤكد التزام المؤمنين بالعمل، ويصف حياة التأمل في الأديرة بأنها ناشئة عن أنانية الرهبان، ويطالب كل إنسان بأن يقوم - على قدر وسعه - بالعمل الذي يمكنه أداؤه.
وقد أكد لوثر - معبرا في ذلك عن قيم عصر جديد - أن العمل اليدوي والعمل الروحي سواء في قيمتهما، وامتدح الصانع الفقير الكادح، ووصفه بأنه مقرب إلى الله، ومضى كالفن أبعد من ذلك، فوصف العمل بأنه الصلاة الحقيقية التي يتجه بها الإنسان إلى الله، وعبر كالفن عن القيم التجارية التي أخذت تسود ذلك العصر، حين أكد مشروعية أرباح التجار قائلا: «من أين تأتي أرباح التجار؟ إنها لا تأتي إلا من نشاطهم وكدهم في العمل.» تلك هي الصورة التي رسمتها مذاهب الإصلاح الديني، والتي مهدت بها الطريق لقيم العصر التجاري والرأسمالي الآخذ في الظهور.
وقد أكمل مظهر التطهر (البيوريتانية) رسم ملامح هذه الصورة؛ صورة الإنسان الجديد النشيط الصارم ذي الإرادة الحديدية، الذي يتغلب على كل العقبات بعمله. ومن جهة أخرى فإن الأدب والفن في عصر النهضة الأوروبية قد سارا في نفس الطريق، حين مجدا القيم المرتبطة بهذه الحياة وهذا العالم، واعترفا لأول مرة بكيان الإنسان الكادح العامل، وظهر هذا التحول واضحا في موقف أكبر شخصيات عصر النهضة - وهو ليوناردو دافنشي - من الصنائع الميكانيكية؛ إذ إن هذا الفنان العملاق والمفكر الإنساني العبقري كان في الوقت ذاته مهندسا ومصمما للآلات الميكانيكية، وقد ترك - كما هو معروف - تصميمات لآلات توصلت البشرية إلى اختراع الكثير منها فيما بعد، ولم يكن إبداعه الفني حائلا بينه وبين تمجيد الميكانيكا والنظر إليها على أنها أرفع العلوم وأنبلها.
على أن هذا التطور التدريجي الذي طرأ على مركز الصنعة العملية والأعمال اليدوية في أذهان الناس طوال العصور الوسطى وعصر النهضة، كان لا يزال يفتقر إلى عنصر أساسي لا يمكن بدونه أن يحدث تحول حاسم في نظرة الإنسان إلى الآلة وتحديده للدور الذي تؤديه في حياته، ذلك العنصر هو الجمع بين العلم النظري والعمل المادي في مركب واحد؛ فقد كان التقدم الذي أشرنا إليه تقدما في الخبرة العملية وحدها، أما العلم فكان يسير في طريقه النظري الخاص، منعزلا عن تطور المعارف العملية، وبعبارة أخرى فإن العلم لم يكن مطبقا على الصنائع في تلك العصور، وإنما تحقق التقدم الملموس في هذه الصنائع عن طريق الخبرة والمران وحدهما، دون الاعتماد على معرفة علمية، ومع ذلك كانت هذه الخبرة تنمو وتكتشف وتخترع، وتصل بأبسط الوسائل إلى استحداث أدوات وآلات جديدة، وتحقق في بعض الأحيان نتائج باهرة، وكان لا بد من مضي قرن أو اثنين - في مطلع العصر الحديث - قبل أن يتم الامتزاج بين العلم والعمل، وتزول الحواجز المصطنعة التي وضعتها العصور السابقة بينهما، ويؤمن المفكرون والفلاسفة أنفسهم بأن العلم ينبغي أن يستخدم في النهوض بحياة الإنسان الكاملة، لا بملكاته العقلية وحدها.
ويمكن القول إن فرانسيس بيكن كان أول فيلسوف دعا صراحة إلى اتخاذ العلم سبيلا إلى الارتقاء بحياة الإنسان العملية، وكانت لهجته قاطعة في التنديد بالمعرفة النظرية الخالصة التي لا تستطيع أن تشق طريقها إلى واقع الإنسان، وإذا كانت حملة بيكن على الفلاسفة القدماء قد اشتهرت بأنها دعوة إلى تجديد المنطق وتغيير الأداة العقلية المستخدمة في العلم، فلا جدال في أن أهم عناصر هذه الحملة هو نظرة بيكن الثورية إلى العلاقة بين العلم والعمل أو بين المعرفة والتطبيق؛ فالمثل العليا التي يدعو إليها بيكن مضادة تماما للمثل العليا اليونانية؛ إذ إنه يعزو أرفع قيمة إلى المعارف العملية المثمرة الخصبة، على حين أنه يعد التأمل النظري البحت أمرا عقيما لا يليق بالإنسان، بل هو يكاد يعد العلم تلخيصا أو تعميما أو امتدادا للمعرفة المكتسبة في الميدان العملي.
ولقد كان بيكن يقارن على الدوام بين ركود التفكير الفلسفي النظري الصرف، وبين التقدم المستمر للصنائع والمخترعات التي تستطيع تغيير مجرى حياة الإنسان بالفعل، وهو حين يتحدث عن التأثير الهائل الذي أحدثته هذه الأخيرة في تاريخ البشر يقول: «ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمور تظهر أوضح ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء : الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيرت وجه العالم بأسره، الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغييرات لا حصر لها، بحيث يمكن القول إن أي مذهب سياسي أو ديني أو أي نجم فلكي لم يكن له في شئون البشر تأثير أعظم مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية، وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوتهم الخاصة في بلادهم، وهو طموح وضيع منحط، والثانية طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلادهم وسيطرتها على البشر، وهو طموح أرفع من السابق، ولكنه لا يقل عنه طمعا، أما إذا حاول امرؤ أن يسترجع للجنس البشري كله قوته ويوسعها، ويزيد من سيطرته على الكون، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرف وأنبل من النوعين السابقين، على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدها؛ إذ إن الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها.»
هذه العبارة الأخيرة في كلمات بيكن السابقة تلخص فلسفة عصر بأكمله «الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها»؛ فالهدف هنا هو حكم الإنسان للطبيعة وسيطرته العملية عليها وتغييره لها، والوسيلة هي إطاعة الطبيعة، أي معرفة قوانينها.
وعلى حين أن الفلاسفة القدماء - كالرواقيين مثلا - كانوا يدعون إلى فهم الطبيعة من أجل قبول ما فيها من حتمية وضرورة، فإن شعار العصر الحديث أصبح فهم الطبيعة من أجل تغييرها، فلا غرابة إذن إن كانت الفلسفة القديمة فلسفة تأمل نظري بحت، والحديثة ممهدة لعصر التصنيع، ولقد طبق بيكن في كتاباته شعاره هذا بكل إخلاص؛ إذ حمل في هذه الكتابات على كل علم يعجز عن تغيير حياة الإنسان، ودعا إلى تخطيط البحث العلمي وإنفاق الدولة عليه بسخاء، وطالب بنوع جديد من التعليم تمتزج فيه المعلومات النظرية بالخبرات العملية والصناعات الفنية، وحدد موضوعات يعتقد أن اهتمام العلماء ينبغي أن يتركز فيها، من بينها التبريد الصناعي والمطر الصناعي، وتلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواع جديدة، واختراع سفن تسير تحت الماء، وأخرى تطير في الهواء، وفي هذا البرنامج الذي رسمه بيكن يظهر - بكل وضوح - مدى تغير المناخ العقلي بالنسبة إلى ما كان عليه في العصور القديمة، فها هنا فلسفة تتخذ مثلها الأعلى من تغيير الإنسان للطبيعة، ومن اتخاذ المعرفة سبيلا إلى إحراز الإنسان لمزيد من القوة في هذا العالم، وهو مثل أعلى كان يعد في العصور الوسطى داخلا في باب السحر والشعوذة؛ إذ إن السحرة وحدهم هم الذين يدعون القدرة على تغيير الطبيعة والتحكم في قواها المختلفة، وما كان مفكر مثل بيكن ليخجل من تشبيه غاياته بغايات السحرة، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يدعو إلى تغيير الطبيعة عن طريق خرق قوانينها كما يفعل هؤلاء، وإنما هو يدعو إلى التحكم فيها عن طريق معرفة هذه القوانين.
كانت النزعة التجريبية - كما ظهرت في دعوة بيكن إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات - تمثل أول مظهر من مظاهر التحول الفلسفي الذي هيأ الأذهان لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكري للعصر الصناعي الحديث، ولكن لهذا التحول الفلسفي مظهرا آخر لا يقل تأثيرا عن هذا المظهر الأول في عملية التهيئة العقلية هذه، هو النزعة التجريدية كما تمثلت في تطبيق العلم الرياضي على الأبحاث الطبيعية.
ولقد كانت للتفكير الرياضي في فلسفة الغرب جذور قديمة العهد، ترجع إلى أيام فيثاغورس الذي أعلن - لأول مرة - إمكان تفسير ظواهر الكون كلها تفسيرا رياضيا ، وازدهر هذا التفسير الرياضي للظواهر أيام إقليدس وبطليموس اللذين قاما بأبحاث رائعة كان من الممكن أن تثمر علما طبيعيا ذا صبغة رياضية دقيقة، ومع ذلك فإن العالم القديم كله لم يقدم على هذه المحاولة، وذلك للأسباب التي أوضحناها في المقال السابق.
وكانت نتيجة ذلك أن الفكر اليوناني نظر إلى العالم الذي نعيش فيه على أنه عالم متغير خداع لا يمكن أن ينطبق عليه علم ذو موضوعات «أزلية» ثابتة كالرياضة؛ فللعلم الرياضي مجاله الخاص المترفع على هذا العالم، وهو ينحط ويفقد امتيازه وترفعه إذا ما طبق على عالم الواقع المتغير . إن كل شيء في الرياضة ثابت ودقيق، على حين أن كل ما في هذا العالم «تقريبي» فحسب، فكيف تتفق الدقة مع التقريب؟ وكيف يمكن أن يخضع عالم المحسوسات المتغيرة للرياضيات العقلية الثابتة؟ وكيف تنطبق المجردات الرياضية على العالم العيني الواقعي؟ كل ذلك كان بطبيعة الحال مستحيلا في نظر القدماء؛ إذ إن الهوة الشاسعة بين مجال الفكر ومجال الفعل أدت إلى الفصل القاطع بين مجال عقلي أرستقراطي كالرياضة، ومجال عرضي متغير كمجال الطبيعة، وإذا كان من الجائز أن تنطبق الرياضة على العالم فلا يمكن - في رأيهم - أن يكون ذلك إلا العالم السماوي؛ عالم الأفلاك، أما العالم الأرضي؛ عالم «ما تحت فلك القمر»، فلا مجال فيه للدقة الرياضية على الإطلاق.
وفي العصور الوسطى لم يطرأ تغير حاسم على العلاقة بين الرياضة وبين عالم الطبيعة، ولم يحاول أحد أن يطبق الأعداد والمقاييس والموازين الدقيقة على دراسة العالم المحيط بنا، ويتخذها أساسا لمعرفة علمية دقيقة؛ ذلك أولا لأنه لم تكن هناك أدوات للملاحظة، وإنما كان على الإنسان لكي يلاحظ أن يكتفي باستخدام عينيه فحسب، دون استعانة بأية آلة بصرية، ومن جهة أخرى لم تكن هناك لغة أو نظام من الرموز يتيح التعبير عن الملاحظات بدقة، ويساعد على إضفاء صبغة رياضية على العلاقات بين الظواهر المتغيرة، فحتى عصر النهضة الأوروبية لم تكن العمليات الحسابية العادية شيئا هينا، وإنما كان من الشائع استخدام أجهزة خاصة لإجراء أبسط عمليات العد، ولمساعدة الذهن المجهد على إتمام هذه العمليات، ولم يكن الجميع يستخدمون الأرقام العربية التي بسطت عمليات الحساب إلى حد بعيد، بل كان الكثيرون ما زالوا يستخدمون الأرقام الرومانية البدائية المعقدة. وعلى أية حال فإن الخطأ في هذه العمليات لم يكن يعنيهم كثيرا؛ إذ إن كل شيء كان في نظرهم «تقريبا»، ولم تكن الدقة الرياضية قد تغلغلت بعد في حياة الناس على النحو الشائع في العصر الحديث.
ولقد أدت عوامل معقدة إلى حدوث ذلك التحول الحاسم في أوائل العصر الحديث؛ أعني الانتقال من الفصل التام بين الرياضة والطبيعة إلى التوحيد المثمر بينهما.
ولكن لعل العامل الاجتماعي والاقتصادي من أكثرها أهمية وطرافة؛ فقد كان ظهور طبقة التجار في عصر النهضة الأوروبية، وازدهار هذه الطبقة في المدن الأوروبية على حساب طبقة النبلاء الإقطاعيين، باعثا للحاجة إلى تطبيق الحسابات الرياضية على المعاملات النقدية التي كان يقوم بها هؤلاء التجار؛ ذلك لأن إدارة الأعمال التجارية تقتضي معرفة واسعة بالعد والحساب، وتحتاج من رجل الأعمال إلى نظرة تجريدية صارمة، بدونها لا يكون ناجحا في أعماله، وحين يشيع التعامل بالنقود ويتغلغل في حياة الناس اليومية، ويحل محل المقايضة بالسلع، يكون معنى ذلك مزيدا من التجريد؛ إذ إن النقود أشبه بالرموز الرياضية، من حيث إنها لا تعني في ذاتها شيئا، بل إنها تكتسب معناها كله مما يستعاض به عنها في التعامل النقدي.
وهكذا اكتسبت الأعمال التجارية صبغة مجردة بفضل انتشار المعاملات المالية، واستخدام الكميات والمقادير النظرية الخالصة في حسابات التجار.
ومن جهة أخرى فقد كان العلم ذاته يسير في اتجاه مماثل يرمي إلى الاهتمام بالعلاقات الرياضية بين الأشياء لا بالصفات النوعية أو الكيفية الكامنة فيها، واتجه العلماء تدريجيا إلى اتخاذ الدقة الرياضية والتجريد الكامل مثلا أعلى يهدفون إلى تحقيقه في كل بحث في الطبيعة، ولا شك في أن الأدوات العلمية التي استعان بها علماء القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من أهم الوسائل التي ساعدت على توطيد دعائم النظرة التجريدية إلى الأمور، وبالتالي على تمهيد الطريق - عقليا - للثورة الصناعية الحديثة، ويمكن تقسيم هذه الأدوات - بوجه عام - إلى أدوات مكانية وأخرى زمانية؛ فالميكروسكوب والتلسكوب أداتان تعملان على تقريب المكان وتكبيره واختصار مسافاته، وعلى مضاعفة حدة حاسة الإبصار، وتوسيع نطاق العالم المكاني الذي نتعامل معه. ونتيجة لاستخدام هذه الأدوات المكانية أخذ العقل الإنساني يدرك - لأول مرة - أن الطبيعة المحيطة به امتداد هائل متجانس، لا يوجد فيه تفاوت في القيمة أو المرتبة بين ما هو أعلى وما هو أدنى، أي بين عالم السموات وعالم الأرض، بل إن المادة المنتشرة في الكون بأسره متشابهة، وحركاتها كلها تخضع لقوانين واحدة يمكن التعبير عنها رياضيا.
أما الساعة فهي أداة زمانية أتاحت للإنسان أن يدرك الوقت - لأول مرة - إدراكا دقيقا، وأن يقسمه إلى فترات قصيرة محددة بدقة، والواقع أن اختراع الساعة الميكانيكية كان من أهم العوامل التي مهدت الطريق للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ليس فقط لأنها هي ذاتها أنموذج كامل للآلة المكتفية بذاتها، التي تسير بدقة ونظام دون أن تحتاج إلا إلى أقل قدر من التدخل الخارجي، بل أيضا لأنها كونت في الناس عادات فكرية وعقلية جديدة تساعد على توطيد دعائم فكرة الآلية في الأذهان؛ فاختراع الساعة كان مرتبطا أوثق الارتباط بحياة حضرية أو صناعية تقتضي تنظيما دقيقا للأعمال والمواعيد، أما البيئات الزراعية، أو تلك التي تسودها العقلية الزراعية الريفية، فتكتفي بتحديدات تقريبية للزمان، والمواعيد فيها لا تعدو أن تكون «في ساعة الظهيرة» أو «عند حصاد القطن»؛ فالوقت الذي تعرفه هذه البيئات هو الوقت المعاش لا الوقت المحسوب، ومن هنا فإن الساعة الميكانيكية قد أحدثت تغييرا حقيقيا في حياة الناس وأفكارهم ونظرتهم إلى الأمور، ولا يمكن أن تنحصر أهميتها في كونها اختراعا جديدا مفيدا فحسب؛ فبفضل الساعة دخل الناس عصرا جديدا شعاره أن يكون كل شيء «منتظما كالساعة»، عصرا لا يمكن أن يكتفي فيه الإنسان بالتحديد المرن غير الدقيق للوقت أو المواعيد «التقريبية»، وبفضل الساعة أصبح الزمان شيئا مجردا مقاسا بدقة لا شيئا يحياه المرء، وكما يقول «لويس ممفورد»: «فعندما ينظر المرء إلى النهار على أنه فترة مجردة من الزمان، لا يذهب إلى الفراش في نفس الوقت الذي تأوي فيه الطيور إلى أوكارها في ليل الشتاء، وإنما يخترع الشموع والمداخن والمشاعل وضوء الغاز والمصابيح الكهربائية لكي يستفيد من كل الساعات التي تدخل في نطاق النهار، وعندما ينظر المرء إلى الزمان، لا على أنه تجارب متعاقبة بل على أنه مجموعة من الساعات والدقائق والثواني، تظهر عادات إضافة الوقت وتوفير الوقت ... وهكذا أصبح الزمن المجرد هو الوسيط الجديد للحياة، ونظمت الوظائف العضوية ذاتها على أساسه؛ إذ أصبح المرء يأكل، لا لأنه يشعر بالجوع، بل عندما تنبئه الساعة بذلك، وينام لا لأنه يشعر بالتعب، بل عندما تأذن له الساعة بذلك ... وإذن فنحن قد نستطيع أن نتصور العصر الصناعي الحديث بلا فحم ولا حديد ولا بخار، ولكنا لا نستطيع تصوره بلا ساعات.»
تلك إذن كانت أهم العوامل التي أدت إلى إيجاد الجو العقلي الملائم لقبول فكرة الآلية، وتحويل أذهان المفكرين من الاعتقاد بوجود هوة لا تعبر بين الفكر والفعل، إلى الإيمان باندماج هذين المجالين، وبأن أفضل استخدام للعقل البشري هو تطبيقه على الطبيعة من أجل زيادة رفاهية الحياة الإنسانية في هذا العالم.
ذلك لأن العقل البشري لم يكن يستطيع أن يتهيأ لدخول عصر الآلة إلا إذا اقتنع بأن وظيفته ليست هي التحليق في آفاق منفصلة عن عالمه الواقعي، وأيقن بأن مهمته الحقيقية هي كشف أسرار هذا العالم ذاته، ذلك هو الشرط الأول الذي ينبغي أن يفترض مقدما قبل أن يتسنى للبشرية الانتقال إلى عهد الآلية والتصنيع، وقد يبدو هذا الشرط بديهيا بسيطا، ولكن العالم القديم - بكل ما فيه من فلسفات عميقة - لم يستطع أن يحققه، وظل مقتنعا بأن وظيفة العقل هي مفارقة الطبيعة لا التغلغل فيها، ومن هنا لم يظهر كبلر وجاليليو وكبرنك بعد إقليدس وبطليموس مباشرة، بل كان لا بد من مضي ما يقرب من ألفي عام قبل أن تواصل الحركة العلمية مسيرها.
كذلك لم يكن في وسع العقل البشري أن يتقبل فكرة الآلية ويتعمقها لو لم يكن يتخذ من الرياضيات أنموذجا للعلم الدقيق، ويطبق كشوفها في حل مشكلات الطبيعة، ولا يكتفي بأن يجعل منها ترفا عقليا يعينه في سعيه إلى الترفع عن الطبيعة والانفصال عنها؛ فالرياضة علم لا غناء عنه للقيام بتلك الحسابات الدقيقة التي يفترضها كل اختراع آلي، وفضلا عن ذلك فإن تجرد الرياضة وانضباط سيرها بدقة كاملة يعد هو ذاته أنموذجا للانتظام الذي يجب أن تسير عليه الآلة ذاتها.
وأخيرا فلم تكن الآلة لتحتل موقعها في حياة الإنسان لو لم يكن قد تعلم - في فترة انتقال من العصر الإقطاعي إلى العصر التجاري - كيف ينظم حياته تبعا لتوقيت منظم دقيق لا مجال فيه للاختلافات الفردية، ولو لم تكن الكشوف الطبيعية والفلكية والجغرافية والأدوات العلمية الجديدة التي أتاحت هذه الكشوف، قد علمته كيف ينظر إلى المكان المحيط به على أنه امتداد لا نهائي متجانس، تسري عليه نفس القوانين ويخضع كله لمبادئ علمية واحدة.
وعندما أتيح لهذه الشروط الأساسية أن تتحقق، أصبحت الآلية حقيقة ماثلة في الأذهان، وأصبح الفكر الفلسفي - الذي كان يحاربها بلا هوادة في العالم - يعمل من تلقاء ذاته على تقديم المبررات لها وإعطائها المركز الذي تستحقه في مذاهبه النظرية، وهكذا أصبحت فكرة الآلية سائدة حتى قبل أن تظهر الآلات ذاتها في الأفق، وكان من الواضح أن عقل الإنسان يتهيأ لظهور نمط جديد من الحياة، وأسلوب جديد في الإنتاج تقوم فيه الآلة بالدور الأساسي، ولن يتسع المجال هنا للكلام عن كل ما قاله فلاسفة العصر السابق على الثورة الصناعية في موضوع الآلية، بل يكفينا أن نشير إلى المكانة التي احتلها مفهوم الآلة في ذهن واحد أو اثنين من كبار مفكري ذلك العصر، بوصفه أنموذجا للدور الذي أصبحت هذه الفكرة تؤديه في العصر الجديد.
ففي كتابات الفيلسوف الفرنسي الكبير «رينيه ديكارت» تحتل فكرة الآلة مكانة عظيمة الأهمية؛ إذ إن النماذج البسيطة التي شاهدها منها قد أقنعته بإمكانياتها الهائلة، وهو يصف هذه النماذج بقوله: «إننا نرى ساعات ونافورات صناعية وطواحين وما شابهها من الآلات التي صنعها البشر، ومع ذلك فهي لا تعدم القدرة على التحرك بذاتها على شتى الأنحاء.» فإذا كان في وسع الإنسان أن يصنع آلات على هذا القدر من الدقة، أفلا يكون في استطاعة الطبيعة ذاتها أن تصنع آلات أدق؟ أليس من المحتمل أن يكون جسم الحيوان - بل الإنسان ذاته - آلة دقيقة الصنع؟ ألا يجوز أن تكون الطبيعة ذاتها والكون بأسره آلة هائلة عظيمة التعقيد؟ تلك هي الاحتمالات التي بحثتها فلسفة ديكارت بالتفصيل، والتي تعبر عن جو عقلي مغاير تماما للجو الذي ظهرت فيه فلسفة اليونانيين.
وكان الفيلسوف الألماني «ليبنتس» أشد جرأة من ديكارت ذاته في التنبيه إلى مزايا فكرة الآلية في الفلسفة؛ إذ وصل به الأمر إلى حد الكلام عن اختراع «آلة مفكرة»، وكان يعتقد أن التفكير البشري كله يمكن أن يرد إلى مجموعة أفكار أولية بسيطة يمكن تعدادها، وأن هذه الأفكار تكون «أبجدية العقل البشري»، أي إنها أشبه بالحروف التي تتكون بتجمعها كلمات اللغة بأسرها، فإذا أمكن معرفة صفات كل من هذه الأفكار؛ لاستطعنا تصور كل تجمعاتها، والعلم الذي يبحث في هذه التجمعات الممكنة هو الذي يفتح الباب للمعرفة حتى تتسع إلى أبعد الآفاق، وهو الذي يؤدي في النهاية إلى وضع قواعد ثابتة للغة عالمية هي لغة العقل البشري بوجه عام، وقد طبق ليبنتس بدوره فكرة الآلية على تصوره للكائنات الحية وللكون في مجموعه، وكان متحمسا لفكرة الاختراع، وقد أسهم هو ذاته فيها باختراع آلة حاسبة كان يفخر بها كل الفخر.
ولسنا نود أن نعدد الأمثلة؛ إذ إن الاتجاه واضح لا شك فيه، وهو يدل دلالة واضحة قاطعة على أن الفلسفة في بداية العصر الحديث قد تلاءمت مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة، وأصبحت متمشية مع الظروف المختلفة التي أخذت تلوح في أفق حياة الإنسان الحديث، وعلى الرغم من أن كثيرا من المشكلات التي عالجتها هذه الفلسفة تبدو مجرد امتداد لطريقة التفكير السائدة في العصور القديمة والوسطى، فمن المؤكد أن تغييرا أساسيا قد طرأ على الأذهان، وأن الحياة الجديدة لم تعد تحتمل الفصل بين مجال الفكر ومجال العمل، أو بين العقل والواقع الطبيعي، وأن زوال الحواجز الاجتماعية بالتدريج قد أدى إلى زوال الفروق بين الميدان النظري والميدان العملي، والقضاء على أرستقراطية العقل وتجرده وترفعه عن مشكلات العالم الطبيعي. وفي ظل هذه الفلسفة التي تؤمن بأن العلم ينبغي أن ينفع الحياة، وبأن غاية المعرفة هي السيطرة على الطبيعة؛ أصبح الجو العقلي في بداية العصر الحديث مهيئا لظهور الآلة وبداية المرحلة الصناعية في التاريخ.
بين الفكر والآلة (3)
العمل ومشكلاته الإنسانية
1
في مقالين سابقين حاولنا أن نقدم عرضا للتطورات التي مرت بها فكرة الآلية منذ العصور القديمة حتى أوائل العصر الحديث، وقد اتضح من هذا العرض أن العصور القديمة كانت ترفض فكرة الآلية على أساس أنها تنطوي على اهتمام مفرط بالعالم المتغير، وتحط من قدر الإنسان الحر الذي ينبغي أن يترفع عن الاتصال بكل ما له صلة بالأمور المادية، وهو - كما رأينا - موقف كان يرتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمع القديم المبني على نظام الرق، وعلى تقسيم البشر إلى أحرار وعبيد، كذلك اتضح أن فكرة الآلية قد أخذت تشق طريقها بعد انتهاء العصور القديمة ببطء شديد، وتكتسب لنفسها أنصارا بين المفكرين، حتى إذا جاء القرن السابع عشر، أصبحت الأذهان مهيأة لقبولها، وأصبح الفلاسفة أنفسهم يدافعون عنها ويجعلون لها مكانا في مذاهبهم، متخذين منها أنموذجا لتفسير العمليات الطبيعية والكونية، بل وكثير من العمليات التي تدور داخل الإنسان نفسه. وكان معنى ذلك أن الأذهان قد تهيأت لتحول ضخم، تؤدي فيه الآلة دورا أساسيا في حياة البشر، بعد أن كانت من قبل منبوذة محرمة.
وكان من الطبيعي أن يقترن هذا التحول بتغير مناظر في قيمة العمل؛ ذلك لأن العمل اليدوي أصبح بالتدريج مشروعا بعد أن كان في العصور القديمة نشاطا ثانويا تقوم به فئات محتقرة تعيش على هامش المجتمع، ولعل خير ما يرمز إلى قيمة العمل في العصور القديمة تلك الأسطورة التي شاعت في الأدب اليوناني القديم، وهي أسطورة «العصر الذهبي»، التي تقول إن الإنسان لم يكن مضطرا إلى العمل عندما كانت الأرض فتية تقدم إليه كل ما يحتاجه بسخاء، أما عندما أصابتها الشيخوخة وانتابها الفقر، فقد اضطر الإنسان إلى أن يشقى لكي يحصل بعد عناء على ما كانت تقدمه إليه الأرض من تلقاء ذاتها.
والواقع أن كثيرا من اللغات تحمل ضمن ألفاظها آثار ذلك العصر الذي كان العمل فيه يعد شقاء تفرضه ضرورة قاسية، أو عبودية محتومة لا مهرب منها؛ ففي اللاتينية تدل كلمة
Labor
على العمل وعلى الشقاء والألم في وقت واحد، وفي الإنجليزية تدل كلمة
Labour ، على آلام الوضع، إلى جانب معنى العمل. وفي العربية تدل كلمة «الشغل» على العمل، وعلى الهم أيضا، وحسبنا هذه الأمثلة القليلة للدلالة على مدى التحول الذي طرأ على معنى العمل وقيمته في العصور الحديثة، بعد تغير الظروف الاجتماعية التي جعلته في البداية محتقرا ومكروها.
ولقد كان تهيؤ الأذهان - في أوائل العصر الحديث - لقبول فكرة الآلية والدفاع عنها فلسفيا، دليلا على حدوث تغير أساسي في نظرة المجتمع إلى العلاقة بين العمل اليدوي والعمل العقلي، وبالفعل نجد فيلسوفا مثل «دالمبير
D’Alembert » يؤكد - في تصديره ل «الموسوعة» - ذلك العمل الفكري الضخم الذي لخص علوم القرن الثامن عشر وفلسفاته بطريقة تقدمية مهدت الطريق لقيام الثورة الفرنسية، إنه ليس من الصحيح أن الفنون الحرة أرفع بالضرورة من الفنون الميكانيكية. كذلك قال فولتير: «إن العمل يعصمنا من شرور ثلاثة فادحة: هي السأم والرذيلة والحاجة.» أما روسو فقد أكد فكرة التزام الإنسان بالقيام بعمل ما، وأضاف إلى ذلك أن الصانع أكثر تحررا من الزارع؛ لأن الأخير مقيد بأرضه، على حين أن الأول حر طليق.
وكان لظهور الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أثره الحاسم في رد اعتبار العمل بوصفه نشاطا مميزا للإنسان، وأخذ الأدباء والكتاب يمجدون العمل حتى أصبحت هناك مدرسة فكرية كاملة تعده القيمة العليا في حياة الإنسان، وترى أنه خالق كل ما أنتجته البشرية من أعمال تستحق التمجيد، بل إن الحضارة الحديثة ذاتها أصبحت تسمى «حضارة العمل»، وأصبح الإنسان نفسه يعرف بأنه «صانع
Faber »، بعد أن كان يعرف بأنه عاقل أو ناطق.
ووصل الأمر إلى حد ظهور «عبادة أو عقيدة للعمل»، تعزى فيها إلى العمل صفات القداسة، ويوصف بأسمى العبارات الصوفية، وفي ظل هذه النظرة الحديثة إلى العمل أصبح ينظر إلى الإنسان على أنه - قبل كل شيء - كائن يقهر الطبيعة ويشكلها كما يشكل ذاته، ويمنحها قدرات جديدة بإخضاع الطبيعة لسلطانه.
وهذا ما عبر عنه «برودون
» حين عرف العمل بأنه «امتداد الكائن بنفسه وتوسيعه لها بفضل ممارسة عمله على الطبيعة.» وعبر عن تفضيل العمل المادي على العمل العقلي بقوله: «من كانت فكرته في راحة يده كان على الأرجح إنسانا أعقل، وهو على أية حال إنسان أكمل، ممن يحمل فكرته في رأسه، ولا يستطيع التعبير عنها إلا على شكل صيغة نظرية.»
وإذن ففي بداية العصر الصناعي كانت البشرية تحلم بعهد تتحرر فيه - بفضل العمل - من خضوعها لقوى الطبيعة، وتنتصر على المظالم الاجتماعية التي تجثم فوق صدرها، وظل هذا الشعور ملازما للمفكرين فترة غير قصيرة، غير أن انتشار الآلية على نطاق واسع، وما صاحبه من ظروف أليمة لحياة العمال في العصر الصناعي الجديد، أدى إلى حلول التشاؤم تدريجيا محل التفاؤل المفرط، وإلى خيبة الآمال التي ظلت تداعب البشرية قرابة قرنين من الزمان قبل ذلك العهد؛ فقد أخذ المفكرون يدركون أن تمجيدهم المطلق للعمل كان سذاجة مفرطة، وبدءوا يرفعون أصواتا ساخطة يعلنون فيها أن الآلة التي أتت لتخفيف آلام البشر لم تؤد إلا إلى مضاعفة هذه الآلام، وأن العصر «الذهبي» المزعوم قد اتضح أنه عصر أسود «فحمي»، وبدلا من أن يصبح الإنسان - بفضل الآلة - سيد الطبيعة ومالكها، أصبح عبدا لما خلقه هو ذاته، وبالاختصار ظهرت لهم حقيقة بشعة، هي أن الآلة تنتج البؤس بدلا من الثروة والرخاء.
ولقد وجد المفكرون والشعراء - بوجه خاص - مظاهر متعددة في العصر الصناعي الجديد، تدل على أن هذا العصر قد نشر القبح وقضى على ما في العالم من جمال؛ ذلك لأن الآلات المستخدمة في مستهل العصر الصناعي كانت بالفعل آلات قبيحة؛ لأنها بدائية وناقصة ومعقدة ، ومن جهة أخرى فإن الطبقة الاجتماعية الجديدة التي أدت الثورة الصناعية إلى صعودها وتفوقها على غيرها من الطبقات كانت تفتقر إلى التهذيب وإلى حاسة الذوق والجمال، «فأغنياء الصناعة» الذين أصبحوا يحتلون قمة السلم الاجتماعي في ذلك العصر، كانوا في الأغلب أناسا غير مثقفين، تمكنوا بفضل ثروتهم أو قدرتهم على تحسين آلة معينة من أن يتفوقوا على الطبقات العليا القديمة، ولم يكن لهم من هدف سوى زيادة ثروتهم وتوسيع نطاق أعمالهم فحسب، ولا وجه للمقارنة على الإطلاق بين هؤلاء وبين أقطاب الصناعة الحاليين في البلاد الرأسمالية الكبرى؛ إذ إن بعض هؤلاء الأخيرين قد استطاع أن يكتسب بمضي الوقت نوعا من الثقافة أو الإحساس بالفن والجمال، أما في العصر الذي نتحدث عنه فلم يكن الوقت قد اتسع لهم لاكتساب شيء من هذه الصفات، بل كان هدفهم الأوحد من الحياة هو سحق المنافسين، وكان ذهنهم عاجزا عن استيعاب أي شيء يخرج عن دائرة مصالحهم وأعمالهم، كذلك كان الفارق هائلا بينهم وبين أفراد الطبقة العليا القديمة؛ طبقة الإقطاعيين الوراثيين، الذين كان لديهم من الوقت ومن الفراغ - في حياتهم ذات الإيقاع الهادئ البطيء - ما يسمح لهم بإبداء الاهتمام بكثير من الميادين الثقافية والفنية.
ولسنا في حاجة إلى الاستطراد في بيان مساوئ أحوال العمل الصناعي، من بطالة وسوء أجور وتدهور للأحوال الصحية والنفسية للعامل؛ إذ إن هذه قصة معروفة طالما تناولتها الأقلام، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن عددا كبيرا من المفكرين الذين هاجموا العصر الصناعي - في هذه الفترة - كانوا أناسا مخلصين ثارت نفوسهم على النزعة الآلية بعد أن بدا لهم أنها مصدر كل الشرور في ذلك العصر؛ فتلك النزعة قد أدت - في رأيهم - إلى القضاء على ما في العالم من تنوع وفردية، وأحلت محله الاطراد الممل الرتيب، وهي قد أدخلت لأول مرة عبادة الكم والضخامة العددية الخالصة، واستعاضت بها عن تقدير الكيف والقيم الكامنة للأشياء، وهي قد أدت إلى تدهور الأذواق وانخفاض مستوى الثقافة، وأخضعت الإنسان للسعي وراء الكسب، وعودته اللذات السوقية، وقضت على العمق أو البعد الباطن في حياة الإنسان، ووصل الأمر بالبعض إلى حد القول إن العامل الذي يقف أمام الآلة ليؤدي عملا رتيبا متكررا عددا لا متناهيا من المرات، تنحط إنسانيته إلى حد لا يختلف كثيرا عن حالة الرقيق في العصر اليوناني أو الروماني.
ولا شك أن رد الفعل هذا كان عنيفا إلى حد بعيد، وكان مسرفا في انتقاده للعصر الصناعي؛ إذ نسب إليه أخطاء لم يكن له دور فيها، على حين أنه نسب إلى العصور السابقة عليه مزايا مبالغا فيها إلى حد بعيد، فعصر الحرف - الذي سبق العصر الصناعي في أوروبا - كان بدوره عصر بؤس شديد، ولم يكن العامل فيه حرا على النحو الذي صوره الكتاب الرومانسيون الساخطون على الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، كذلك صور هؤلاء الكتاب مدن العصور الوسطى على نحو مبالغ فيه، وتخيلوها بصورة أجمل بكثير من صورة المدن المزدحمة القبيحة التي نمت بسرعة في العصر الصناعي، ومع ذلك فقد كانت هذه المدن تمثل واحات صغيرة من الرخاء وسط صحراء من البؤس والفقر المدقع في الريف، الذي كانت أحوال الفلاحين فيه تقرب بالفعل من أحوال العبيد.
وإذن فمهما قيل عن مساوئ العصر الصناعي في فترته الأولى، فهو على أسوأ الفروض لم يزد من البؤس الموجود فعلا، بل لقد كان السبب الحقيقي في ذلك الشعور الواضح ببؤس العامل في تلك الفترة هو الإحساس الواعي بوجود الطبقة الدنيا من المجتمع، وبأن لهذه الطبقة مشاكلها التي ينبغي أن تعالج على نحو حاسم؛ فقبل العصر الصناعي كانت مشكلات هذه الطبقة الدنيا تتوارى تماما وراء السطح الظاهري الذي تمثله حياة الطبقات العليا في المجتمع، ولم يكن هناك بالتالي إحساس واضح بطبيعة الحياة البائسة التي تحياها الكثرة الغالبة من المجتمع، أما منذ العصر الصناعي، فقد ازداد الكتاب والأدباء وعيا بالأحوال التي تعيش فيها الطبقات الكادحة، وبدأ ظهور المثل الديمقراطية التي أتاحت لعدد متزايد من الأقلام أن تصف حقيقة الفقر الذي يعانيه العامل، وتقترح مختلف الوسائل لمكافحته، ومعنى ذلك - باختصار - أن ما زاد بالفعل لم يكن بؤس الطبقات الدنيا من المجتمع، وإنما وعي المجتمع بهذا البؤس.
ومن جهة أخرى، فقد أدرك المفكرون الأكثر تعمقا أن انتشار البؤس في العصر الصناعي لم يكن راجعا إلى الآلة ذاتها، أو إلى طبيعة العمل في صورته الصناعية الجديدة، وإنما إلى العلاقات الاجتماعية التي تتحكم في طريقة توزيع الثروة في العصر الجديد؛ فالتنظيم الاجتماعي القائم - بما فيه من استغلال واستعباد للعامل الصناعي - كان مسئولا إلى حد بعيد عن تدهور أحوال الطبقات الدنيا من المجتمع في عصر كان يمكنهم فيه الإفادة إلى حد بعيد من ذلك الشكل الثوري الجديد من أشكال الإنتاج، وأعني به الصناعة. وهكذا كانت محاولات الإصلاح تسير في طريق مزدوج - طريق فني أو تكنولوجي - يتم فيه تحسين الآلات وزيادة كفاءتها وقدرتها الإنتاجية والإقلال من تعقيدها، وطريق اجتماعي يتم فيه تغيير العلاقات الاجتماعية الاستغلالية السائدة، ويستعيد فيه العامل تدريجيا حقوقه المسلوبة.
ونستطيع أن نقول إن العصر الصناعي الحالي قد حقق الثورة الفنية أو التكنولوجية الكفيلة بالقضاء على كثير من مساوئ أحوال العمل في العصر الصناعي المتقدم، وأنه مضى شوطا بعيدا في سبيل تحقيق الثورة الاجتماعية التي تعيد إلى العامل قيمة عمله كاملة، فهل اختفت - نتيجة لذلك - مشكلات العمل؟ وهل أفلحت التطورات التكنولوجية والاجتماعية الحاضرة في إضفاء طابع إنساني على العمل، وإزالة الفوارق بين العمل الآلي أو اليدوي وبين سائر أنواع النشاط التي يشتغل بها الإنسان؟ الواقع أن المشكلة أعقد من أن يمكن الإتيان بجواب مبسط لها، ولا بد لتقدير أبعادها الحقيقية من تقديم عرض مفصل لطبيعة المشكلات الإنسانية التي يواجهها العمل في وقتنا الحالي.
يقسم بعض المفكرين العصر الصناعي إلى فترات منفصلة: الأولى فترة «الفحم والحديد» منذ بداية الثورة الصناعية حتى أواسط القرن التاسع عشر، والثانية فترة الكهرباء، والثالثة فترة الطاقة النووية والآلات الإلكترونية، والواقع أن كل عهد من هذه العهود يمثل ثورة حقيقية على العهد السابق عليه؛ ففي عصر الكهرباء تخلص الإنسان من كثير من مظاهر القبح التي كانت تلازم العمل في العصر الصناعي الأول، وأصبحت الآلة أدق وأبسط وأنظف وأقوى بكثير مما كانت عليه من قبل، غير أن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الثورة الحاسمة؛ ثورة الطاقة النووية والسيبرنطيقا والتسيير الذاتي والعقول الإلكترونية، وكان لهذا النوع الجديد من الآلات مزاياه الهائلة؛ فهي تقتضي حدا أدنى من تدخل الإنسان، وتوفر الطاقة البشرية إلى حد لم يكن أحد يحلم به من قبل، وتستطيع القيام بكثير من الأعمال الرتيبة التي كانت تحط من إنسانية العامل في العصر الصناعي الأول، والأهم من ذلك كله أن قدرتها الإنتاجية الهائلة قد أتاحت زيادة الثروة في البلاد الصناعية المتقدمة إلى حد ارتفع معه مستوى حياة العامل ارتفاعا كبيرا، وازدادت معه قدرة المجتمع الصناعي على توزيع ثمار العمل والإنتاج على عدد متزايد من الناس.
هذه كلها حقائق واضحة لا تحتاج إلى مزيد من التفصيل، ولكن الأمر الذي يبدو أقل وضوحا هو أن هذا العصر الصناعي الجديد قد خلق مشكلاته الإنسانية الخاصة التي لم يعرف كيف يتخلص منها حتى اليوم؛ ففي رأي الباحثين - مثلا - أن الآلات الإلكترونية ستنتزع الإنسان عن عرشه، وتحل محله كائنات آلية تنافسه في القيام بالأعمال التي كان ينفرد بها من قبل؛ فهم يرون أن الإنسان - في عصر السيبرنطيقا - قد أصبح يعهد إلى الآلة بعمليات تزيد على ما ينبغي أن يكلفها به، فأية عملية حسابية معقدة إلى حد ما تترك للآلات الحاسبة، على حين كان العلماء في العصور السابقة يقومون بأنفسهم بكثير من هذه العمليات فيزيد هذا من شحذ أذهانهم وينمي قدرتهم على التفكير، وبعبارة أخرى فإن البعض يخشون من أن تعتاد الأذهان الخلاقة هذا الكسل العقلي إلى حد لا تعود معه قادرة على الاعتماد على قدراتها الخاصة في حل ما يواجهها من المشكلات العقلية.
ومن جهة أخرى، فإن الآلات الإلكترونية الحديثة لما كانت تنظم نفسها بنفسها، وتستطيع الاختيار بين عدة ممكنات، فإنها تبدو كما لو كانت تقوم ببعض الوظائف الفكرية ... وليس هذا اعتقادا يشيع بين عامة الناس فحسب، بل إن بعض الفلاسفة المتخصصين يشاركون فيه؛ فقد خصص أحد أعداد مجلة «الفلسفة» (عدد يناير-أبريل 1957م) للآلات الإلكترونية، وكان السؤال الرئيسي الذي تناوله الباحثون: هل تستطيع هذه الآلات أن تفكر بالفعل؟ وهل يستطيع الإنسان أن يدافع عن نفسه ضد منافسة هذه الآلات؟ وهكذا يقف الإنسان لأول مرة موقف المدافع عن قدرته الفكرية أمام شيء صنعه هو ذاته، وإذا كان هناك من ينكرون جدية هذه المشكلة، فليذكر هؤلاء أن الفترة الصناعية كلها قصيرة العمر جدا بالنسبة إلى تاريخ البشرية، وأن الثورة الصناعية الثالثة - ثورة العقول الإلكترونية - لم تتعد عشرين أو ثلاثين عاما، فما الذي يمكن أن يأتي به التطور في هذا الاتجاه بعد مائة عام مثلا، مع عمل حساب التزايد المستمر في معدلات النمو والتقدم؟
على أن هذه - باعتراف الجميع - ليست أخطر المشكلات الإنسانية التي يواجهها العصر الصناعي، وإنما الخطير هو إدراك كثير من المفكرين أن الهوة بين العمل اليدوي والعمل العقلي ما زالت قائمة، وربما زادت اتساعا، وأن كل ما حدث من تقدم آلي لم يصبغ العمل بالصبغة الإنسانية المنشودة، فما زال كثير من المفكرين الاجتماعيين يؤكدون أن الاتصال المستمر بين العامل وبين المادة أو الآلة يجعله يفقد - بحكم طبيعة عمله ذاتها - شيئا من إنسانيته، ويزداد عجزا عن التكيف مع كل عناصر الحياة الاجتماعية.
فالكاتبة «سيمون فيل» تؤكد أن الإنسان الذي يقف أمام الآلة في مصنع كبير هادر، هو إنسان منعزل تماما، حتى على الرغم من كل ما يحيط به من مظاهر الحياة الصاخبة، وهي تؤكد أنه لا شيء يجعل الإنسان عاجزا عن تهذيب نفسه أكثر من الاتصال المستمر بالآلة؛ إذ إن عليه أن يطيعها في صمت، بل إن هذه الكاتبة لتذهب إلى أن أية ثورة اجتماعية تعجز عن أن تفعل شيئا حيال هذا الوضع؛ «ففي العمل اليدوي ... عنصر ضروري من العبودية لا يمكن أن تمحوه العدالة الاجتماعية الكاملة ذاتها.»
وقد يكون في هذا الرأي نوع من التطرف، ولكن من الواجب ألا يستخف به المرء ويتمسك بالنظرة الرومانسية التي كان اشتراكيو القرن التاسع عشر يمجدون بها العمل ويجعلونه مصدرا للمتعة وللثقافة، بل وللفن والجمال، فهل يستطيع أحد أن ينكر أن هناك مشكلة حقيقية تتمثل في التفاوت الشاسع بين العمل الخلاق الذي يقوم به العالم أو المفكر أو الكاتب أو الباحث، وبين العمل المتكرر الذي يؤديه العامل دون تغيير - أمام رصيف متحرك - آلاف المرات في اليوم، ومئات الأيام في السنة، وعشرات السنين خلال حياته؟ صحيح أن العمل ذاته قد أصبح أبسط، ولم تعد المشكلة مشكلة إجهاد جسمي، وهذا يمكن أن يعد تقدما من وجهة نظر معينة، ولكن هناك الإجهاد النفسي والتوتر العصبي الشديد الذي يتولد عن السأم، وعن سرعة إيقاع العمل، وعدم التنوع فيه، وتلك مشكلات قد لا تقل في نظر البعض خطورة عن المشكلات القديمة.
إن العمل - لكي يكون إنسانيا بحق - ينبغي أن يكون خلاقا متنوعا جذابا، وتلك صفات لا تتوافر في كثير من الأعمال الآلية التي يؤديها الإنسان المعاصر، صحيح أن تقدم الآلية يخفف تدريجيا من وطأة الأعمال المرهقة، ويقتضي تدريب أعداد متزايدة من العاملين المهرة، وإحلال مزيد من الأعمال العقلية محل الأعمال اليدوية، والاستعاضة بالآلات عن الإنسان في كثير من الأعمال التي تتم في ظروف قاسية كالتعدين مثلا، ومع ذلك فما زال الألوف من العمال، في كل بلاد العالم المتقدمة في التصنيع، وفي كل الأنظمة الاجتماعية يقفون أمام الآلة كل يوم ليؤدوا نفس الأعمال المتكررة التي لا تثير خيالا ولا تقتضي أية قدرة خالقة، فهل ينكر أحد مدى اتساع الهوة بين هذه الأعمال وبين الأعمال العقلية الخلاقة؟
إن بعض الباحثين يرون أن الحل إنما يكمن في توزيع الإنسان لجهده بين العمل العقلي واليدوي، وهم يرون أن آلات المستقبل ستبلغ من الكمال حدا يجعل تشغيلها أمرا هينا يستطيع أي إنسان القيام به، وعندئذ يمكن الأخذ بنظام «التناوب» بحيث يقوم المرء بالأعمال الآلية جزءا معينا من الوقت، ثم يتركها إلى الأعمال العقلية أو يتنقل بين أنواع متعددة من الآلات حتى لا يتملكه الملل، وبذلك تزداد طرافة العمل بالنسبة إليه، فهؤلاء يحلمون بانتهاء عهد «التخصص» الضيق نتيجة لبلوغ الآلات مرحلة الكمال، ولتزايد بساطة الدور الذي يقوم به الإنسان إزاءها، ولكن إمكان الاعتماد على هذا الحل يتوقف - بطبيعة الحال - على الاتجاه الفعلي الذي سيسير فيه التطور، وليس هناك أي نوع من الإجماع على الرأي القائل بأن هذا التطور يسير نحو الاستغناء عن التخصص الدقيق، أو القضاء على فكرة تقسيم العمل التقليدية، ويرجح الكثيرون أن الإنسان سيظل يعتمد طويلا - في إتقانه لعمله - على التدريب الطويل في ميدان محدد، وسيظل التخصص هو سبيله لرفع مستوى معرفته النظرية وإنتاجه العملي، وإذن فأقل ما يقال عن هذا الحل أنه غير مضمون.
ولا شك أن الحل الأكثر واقعية هو تعويض ما يفقده العامل عن طريق زيادة أوقات فراغه والإفادة من هذه الأوقات إلى أقصى حد، وبالفعل نجد أن وقت الفراغ في حياة العامل الحديث يزداد اتساعا؛ فبفضل تراكم ثمار العمل استطاع الإنسان أن يقلل ساعات عمله ويزيد أجره ويخترع الوسائل التي تكفل له الاستمتاع بهذا الوقت، وترتب على ذلك أن ازدادت أهمية المشاغل التي يقضي بها الإنسان وقت فراغه كالرياضة واللهو والترويح عن النفس ... وظهرت فنون لا تصلح إلا لعصر يخرج فيه العامل من عمله مكدودا، ويسعى إلى الترفيه بأي ثمن، كموسيقى الجاز الصاخبة والرقص الهستيري الذي يخفف على الأقل من التوتر العصبي للعامل المرهق نفسيا.
ولكن هل يستطيع أحد أن يقول إن الإفادة من وقت الفراغ - حتى لو كان ذلك بطريقة أسلم وأخصب من الطريقة السابقة - تعد حلا حاسما للمشكلات الإنسانية في العمل؟ الواقع أن كل ما يفعله الإنسان في وقت فراغه إنما هو شيء يتعلق بما يترتب على عمله لا بعمله ذاته؛ فنحن في هذه الحالة نعالج مشكلات «ما بعد العمل» لا العمل نفسه، وإذا كنا نعقد آمالنا على الإفادة من أوقات الفراغ في حل مشكلات العمل، فمعنى ذلك أن العامل لا يبدأ في الاستمتاع بوقته ولا يشعر بإنسانيته حقا إلا بعد أن ينتهي يوم عمله، وتلك - بلا شك - ميزة غير قليلة، ولكنها لا تدل على أن مشكلة العمل ذاتها قد حلت؛ إذ يعد العمل في هذه الحالة مجرد وسيلة شاقة مرهقة من أجل غاية أخرى تتجاوزه، دون أن يكون غاية في ذاته، فإذا كان العمل ذاته يزداد رتابة وإملالا، وتزداد آفاقه ضيقا، على حين أن الفراغ يزداد اتساعا، فلا بد أن يحدث توتر آخر بين هذا الضيق وذاك الاتساع. ومن جهة أخرى فمن الواجب أن تقدر قيمة أوقات الفراغ في ضوء الحياة الكاملة التي يحياها الإنسان؛ فمن الصعب أن نتصور إنسانا يشعر بالسأم من عمله المتكرر، ومع ذلك يستطيع أن يقضي أوقات فراغه بطريقة سليمة مثمرة، وإنما الأرجح أن يكون ما يفعله بوقت فراغه رد فعل على عمله الذي يضيق به، أي إن سأمه وملله وضيقه هو الذي يتحكم في طريقة شغله لأوقات فراغه، ومعنى ذلك - بعبارة أخرى - أنه لا بد من حل مشكلة العمل ذاتها حتى يستطيع العامل أن يجني كل الفوائد الممكنة من أوقات فراغه.
وإذن فهل نستطيع - بعد هذه الرحلة الطويلة التي استعرضنا فيها موقف الفكر البشري من الآلة ومن العمل اليدوي على مر العصور - أن نقول إن انتقادات الفلاسفة القدماء للعمل اليدوي قد أصبحت غير ذات موضوع؟ وهل نستطيع أن نجزم بأن الإنسان العامل قد تخلص تماما من كل أنواع العبودية؟
إن الأمر الذي يمكننا أن نؤكده هو أنه قد سار شوطا بعيدا في سبيل التخلص من العبودية الاجتماعية، وتحرير ذاته من النظم الاستغلالية التي كانت تحول بينه وبين التمتع بثمار عمله، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد - بنفس القوة - أنه أصبح - وهو يقوم بعمله - يحس بأنه يمارس نشاطا خلاقا مشوقا، لا يشعر فيه بأن إنسانيته قد أهدرت، صحيح أنه الآن أقوى شعورا بما يمكن أن يعود به العمل من مكاسب، وبمقدار التغير الذي يمكن أن يطرأ على حياته بفضل العمل، ولكن من الصعب أن يجزم المرء بأن العامل يجد متعة كامنة في عمله ذاته، وأنه ليس محتاجا إلى وسائل أخرى - خارجة عن نطاق عمله - لإثارة حماسته للعمل.
وهكذا يبدو للكثيرين أن أدق النظم تطبيقا للاشتراكية ما زالت - حتى الآن - بعيدة عن حل مشكلة رتابة العمل الآلي وشعور الإنسان فيه بالتفتت والتمزق، وما زالت عاجزة عن التخلص من كثير من الأعمال «المهينة» كأعمال النظافة مثلا، وما زال العامل فيها يفتقد في أوقات عمله عنصر الابتكار والخيال وسط الآلية الشاملة المحيطة به. إن تحقيق العدالة الاجتماعية - بمفهومها الراهن - لم يقض على كل المشكلات الإنسانية في العمل، وما زال على البشرية أن تكتشف أبعادا أخرى أشد اتساعا لمفهوم العدالة الاجتماعية، وتبتدع وسائل جديدة لحل مشكلة التقابل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بعد أن قطعت شوطا بعيدا في حل مشكلة التقابل بين العامل وصاحب العمل.
وقد يكون من أهم هذه الحلول إشعار العامل بقيمة عمله ونتيجته؛ ذلك لأن المشكلة الحالية للعامل الصناعي ليست هي الإرهاق الجسمي - كما قلنا من قبل - وإنما الملل والسأم، والشعور بأنه مجرد «ترس» في آلة ضخمة لا يعرف أولها ولا آخرها، وبأنه جزء ضئيل من كل أكبر لا يفهمه ولا يعرف حدوده. وبالاختصار فالمشكلة تنحصر إلى حد بعيد في أن العامل لا يعرف النتيجة الكاملة لعمله، ولا جدال في أن المجتمعات الاشتراكية هي الأقدر على حل هذه المشكلة؛ فبالتوعية تستطيع هذه المجتمعات أن تشرح لعمالها أهدافها العامة، وتربط بين عملهم وبين حياة المجتمع من حيث هي كل شامل؛ فحين يتكشف للعامل نتاج عمله المباشر، وحين يدرك أثر عمله وعمل غيره في حياة المجتمع بوجه عام، ستخف إلى حد بعيد وطأة الجو اللاشخصي الذي تخلقه الآلة، ويزداد العامل شعورا بإنسانيته، أما في المجتمعات الرأسمالية فنادرا ما يدرك العامل طبيعة الهدف الذي تتجه جهوده إلى تحقيقه، ولو أدركه لوجد أنه هدف محدود ينتفع منه غيره، لا المجتمع ككل؛ فالهدف هو دائما زيادة إنتاج المصنع أو أرباح أصحابه، أو إرضاء حاجات الطبقة المترفة من المجتمع.
وإذا كنا قد تحدثنا عن المجتمعات الاشتراكية بوصفها أقدر من غيرها على إضفاء مزيد من الطابع الإنساني على العمل، فمن الواجب أن نضيف إلى ذلك أن المشكلات الإنسانية للعمل أقل ظهورا في الدول النامية بوجه خاص؛ ذلك لأن هذه الدول متأخرة في تطورها، ولم تمر بالتجارب المريرة الأولى التي اقترنت بالعصر الصناعي في مرحلته الأولى، ومن هنا كانت نظرتها إلى التصنيع أكثر تفاؤلا، بل إن التصنيع يمثل - في واقع الأمر - أملها الحقيقي في مستقبل أفضل.
ومن جهة أخرى فإن النهضة الثقافية للدول النامية ترتبط بمرحلة التصنيع ارتباطا وثيقا؛ فالعهود السابقة على التصنيع - وهي الاحتلال الاستعماري وما يرتبط به من استغلال وجهل وتخلف - ليست بالعهود التي تستحق أن تتحسر عليها هذه البلدان، وعلى عكس البلاد الأوروبية التي كانت تجد في ماضيها الإقطاعي عناصر مضيئة تدفع بالبعض إلى التشاؤم من مستقبل المجتمع في ظل الصناعة، فإن البلاد النامية تدخل عهد الصناعة وهي مؤمنة بأن نهضتها الحقيقية متوقفة عليه، ومتحررة تماما من كل قيد يشدها إلى الماضي.
وأخيرا فإن البلاد النامية إذا بدأت دخول عصر التصنيع في ظل نظام اشتراكي، ففي وسعها عندئذ أن تتخلص من كثير من المسائل غير الإنسانية للنظام الرأسمالي، وتمر بتجربة جديدة، هي تجربة يتمشى فيها السير نحو التصنيع مع السير نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، ويدرك فيها العامل - منذ بداية الأمر - نوع الأهداف الاجتماعية الشاملة التي سيشارك في تحقيقها بعمله، وبذلك يصطبغ عمله منذ البداية بصبغة إنسانية واعية.
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
كان ازدهار الدراسات الإنسانية - وما يزال - مرتبطا على نحو وثيق بالأزمات التي يمر بها الإنسان نفسه؛ ففي كل عصر يجد فيه الإنسان نفسه أمام مفرق طرق حاسم، أو يرى نفسه عاجزا عن مواجهة تحديات أقوى منه وأبعد عن سيطرته، أو يشعر بأن زمام الأمور أوشك على الإفلات من يده، وبأن هناك قوى عاتية لا سلطان له عليها، توشك أن تؤدي إلى الدمار، في كل عصر كهذا كان الإنسان يعود إلى نفسه باحثا منقبا، وكان يقنع نفسه بأن حل مشكلاته يكمن في داخله وفي فهمه لنفسه قبل أن يكمن في الطبيعة الخارجية. وهكذا كانت الأزمات السياسية والكوارث المتلاحقة التي مرت بها أثينا في عصر سقراط مرتبطة باتجاهه إلى بحث النفس الإنسانية في عبارته المشهورة «اعرف نفسك»، وكانت أزمة العلم الطبيعي والهزة العنيفة التي أحدثتها الكشوف الفلكية في أوائل العصر الحديث مرتبطة باتجاه ديكارت إلى البحث في أعماق الذات الإنسانية، واستهلال عهد جديد للفكر الفلسفي، يدور حول المعرفة الإنسانية والمنهج الذي ينبغي أن يتبعه العقل الإنساني للوصول إلى الحقيقة، وهو العهد الذي كانت ترمز إليه عبارته المشهورة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وكانت العلاقات الاجتماعية اللاإنسانية التي أدى إليها انتشار الثورة الصناعية في أوروبا، هي الأصل في ظهور ذلك الفهم الجديد للمجتمع الذي نادى به ماركس، وأصبح منذ ذلك الحين عاملا رئيسيا من العوامل التي تحدد شكل مجتمعنا المعاصر، وكانت الأزمة التي أحدثتها العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر، وإدراك الروابط الوثيقة بين طبيعة الإنسان الحالية وبين أصوله الحيوية الأولى، من العوامل التي ساعدت على تحول دراسة النفس الإنسانية في اتجاه جديد بفضل التحليل النفسي عند فرويد، كما كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في الثلاثينيات من هذا القرن قوة دافعة لمزيد من التعمق في الدراسات الإنسانية، ولظهور نظريات ومناهج جديدة فيها، وأخيرا فإن أزمة الحرب والسلام التي يمر بها العالم في أيامنا هذه والتهديد الدائم الذي يتعرض له أول جيل بشري أصبح يملك بالفعل من أدوات الدمار ما يكفي لإفناء الحياة على سطح الأرض، هذه الأزمة قد أدت إلى مراجعة جذرية لكثير من مفاهيم العلوم الإنسانية ونظرياتها، وإلى بذل محاولات دائبة من أجل تحقيق نوع من التوازن بين فهم الإنسان لنفسه، وبين السيطرة الهائلة على الطبيعة التي حققتها التكنولوجيا المعاصرة.
خلال هذا التاريخ الطويل، كانت دراسة الإنسان تزداد تعمقا في كل مرحلة، وكان لا بد للرواد الذين مهدوا الطريق لسير هذه الدراسة في طريق العلم من أن يكافحوا من أجل التغلب على عقبات كانت كفيلة بأن تحول دون ظهور أية معرفة علمية بالإنسان، وعلى الرغم من أن هذه العقبات معروفة، وكثيرا ما يرد ذكرها - كلها أو بعضها - في المقدمات التي تكتب للمؤلفات الخاصة بمناهج البحث في العلوم الإنسانية، فإنا لا نرى بأسا من أن نعرض هنا لأهمها؛ وذلك نظرا إلى ما يلقيه هذا الموضوع من ضوء على المشكلات التي نود أن نناقشها في هذا المقال: (1)
أولى هذه العقبات نوع من الجمود العقلي أدى بالمفكرين إلى أن يرتفعوا بالإنسان فوق مستوى الموضوعات التي يمكن أن تخضع للبحث العلمي المنظم، وحجتهم في ذلك هي الدفاع عن الكرامة الإنسانية، والاحتفاظ للإنسان بمركزه المميز في الكون، وتأكيد ضرورة معاملته على نحو يختلف عن ذلك الذي تعامل به «موضوعات» العالم الطبيعي. على أن مثل هذا الحرص الكاذب على الكرامة الإنسانية كان هو القوة الدافعة من وراء المعارضة التي سبق أن قوبل بها كبرنيكوس عندما أكد أن الأرض - مقر الإنسان - ليست مركز الكون، وليست هي النقطة المحورية التي تدور حولها ومن أجلها كل حوادثه، وبالمثل كان هذا الاهتمام الزائف بمكانة الإنسان «الاستثنائية» و«الفريدة» في الكون من أهم العوامل التي دعت إلى معارضة كل «كاشفي النقاب» عن حقيقة الدوافع الإنسانية، من أمثال فرويد وماركس، وهو نوع من المعارضة لا يقوى على الصمود طويلا في وجه أي كشف جديد حاسم. (2)
ويرتبط بالعقبة السابقة اعتقاد ظل مسيطرا على الأذهان ردحا طويلا من الزمان، يرتكز على حقيقة لا يمكن إنكارها، هي التعقد المفرط للظواهر البشرية، من هذه الحقيقة استنتج الكثيرون أن أية معالجة علمية لتلك الظواهر لا بد أن تكون تبسيطا مفرطا ومخلا، يهبط بها إلى مرتبة «الأشياء» المألوفة المتكررة التي تسير على وتيرة واحدة، ويمكن بسهولة كشف نماذج للاطراد المنتظم في سلوكها، على حين أن أهم ما في الإنسان هو الاختلافات من فرد إلى فرد، لا الصفات المشتركة بين الأفراد، هذه العقبة تفترض مقدمة رئيسية موروثة منذ عهد الفلاسفة اليونانيين الأوائل، هي أنه «لا علم إلا بما هو عام»، ولكن العلوم الإنسانية أثبتت - بفضل مجموعة من المناهج المبتكرة - أن من الممكن قيام علم بما هو خاص، أو أن الفردي يمكن أن يكون موضوعا لدراسة لا تقل في علميتها عن تلك التي تتعلق بما هو عام، وبذلك قضت على الأساس الذي ترتكز عليه هذه العقبة. (3)
وأخيرا فقد اعتقد الكثيرون أن العلوم الإنسانية - حتى لو استطاعت أن تضمن لنفسها مكانة مساوية لمكانة العلوم الطبيعية - ليست بأفضل وسيلة لمعرفة الإنسان؛ فهناك حدود معينة لا تستطيع هذه العلوم أن تتعداها، وهي إذا تمكنت من معرفة الإنسان فإنما يكون ذلك «من الخارج»، أما التعمق الحقيقي في أغوار النفس البشرية، والنفاذ إلى جوهرها الفريد، فإنما يتم على أيدي أوساط أخرى كالأدب والفن والفلسفة، وذهب بعض أنصار هذا الرأي إلى حد القول بأن لمحة من لمحات دستويفسكي قد تفوق - في فهمها لحقيقة الإنسان - مجلدات كاملة في علم النفس، وأن استبصارا فلسفيا عميقا قد يكشف - بطريقة بسيطة مباشرة - عما تعجز عشرات الأبحاث التجريبية عن الوصول إليه.
على أن الفن والأدب لا يمكنهما أن يقدما ما فيهما من معرفة عميقة بالنفس البشرية إلا لمن يمر «بتجربة» من نوع فريد، هي تجربة تذوق العمل الفني أو الأدبي والاندماج فيه؛ فالمعرفة المتضمنة فيهما إذن ليست متاحة للجميع، وإنما هي رهن بتهيؤ المرء لتلقيها، لا عن طريق المران أو التدريب فحسب، بل عن طريق اتصافه بقدر معين من رهافة الحس وشفافية النفس؛ فهي إذن مقرونة بشروط تجعلها بطبيعتها معرفة «خاصة» لا تتوافر إلا لفئة معينة من الناس، وربما كانت تتوافر لكل فرد في هذه الفئة ذاتها على نحو يختلف باختلاف أبعاد تجربته الفنية أو الأدبية الخاصة.
أما الفلسفة فإنها - بالرغم من كل ما أسهمت به في إثراء معرفتنا بالإنسان - تكسب المشتغلين بها قدرا لا مفر منه من الطموح المفرط، يجعلهم يتعجلون إصدار الأحكام العامة التي قد تتجاوز بكثير نطاق المعرفة المحققة؛ فالفيلسوف بطبيعته عاجز عن مجاراة المشتغل بالعلم في تواضعه ورضائه بالقليل، واكتفائه بالسير المتدرج في أبحاثه، وقناعته بالنتائج غير الكاملة، وتذرعه بالصبر والتأني والتمهل في الحكم على الأمور، ومن هنا كان من الصعب أن تترك معرفة الإنسان في أيدي الفلاسفة وحدهم؛ لأنهم - مع عدم امتلاكهم للحصيلة العلمية التي أصبحت أمرا لا غناء عنه عند معالجة أي موضوع طبيعي أو إنساني - ما زالوا متمسكين بعادات عقلية تجعلهم يظنون أنفسهم قادرين على أن يحققوا في استبصار خاطف ما يعجز العلماء عن تحقيقه بعد بحث شاق دءوب، وربما كانت أمثال هذه الاستبصارات قد حدثت بالفعل في حالات متفرقة، ولكنها لم تعد اليوم قاعدة، وهي على أية حال أمر لا يمكن الاعتماد على حدوثه بانتظام، فضلا عن أن احتمالات الإخفاق في هذا المجال أعظم بكثير من احتمالات النجاح.
وإذن فلم يكن من العسير على العلوم الإنسانية أن تتغلب على هذه العقبات، وأن تؤكد نفسها بوصفها علوما تستطيع أن تضيف على الدوام - بطريقة تراكمية منظمة - مزيدا من المعارف المتعلقة بالإنسان ، مستخدمة في ذلك مناهج خاصة تقرب أو تبعد عن المناهج المستخدمة في العلوم الراسخة، التي تعالج موضوعات يسهل كشف الاطراد المنتظم في ظواهرها.
وليس من أهدافنا في هذا المقال أن نتتبع قصة نجاح العلوم الإنسانية في اكتساب هذه المكانة، ولكنا نستهدف - على العكس من ذلك - تنبيه الأذهان إلى بعض الإشكالات التي لا تزال تعوق سير هذه العلوم، وتمنعها من تحقيق ما ترجوه لنفسها من نجاح في فهم الإنسان، ولسنا نود أن نتحدث عن الإشكالات التي تدركها هذه العلوم عن وعي، وتحاول التغلب عليها بجهد دائب منتظم، بل إن هدفنا الحديث عن صعوبات منهجية تعترض طريق العلوم الإنسانية دون أن تكون هذه الأخيرة واعية بها كل الوعي، وخطورة هذا النوع من الصعوبات تكمن في أنه يمكن أن يظل ملازما للعلوم الإنسانية أمدا طويلا، بحيث يظل يهدد موضوعيتها ودقتها بالخطر، وإن كانت هذه العلوم تظل طوال ذلك الوقت معتقدة أنها تحقق لنفسها موضوعية ودقة تتزايدان باطراد.
ذلك لأن تلهف المشتغلين بالدراسات الإنسانية على اكتساب صفة العلمية، واعتقادهم - عن حق - أن هذه الصفة تشريف وتكريم لأي جهد عقلي يقوم به الإنسان؛ قد أدى بهم أحيانا إلى الوقوع في إشكالات منهجية يصعب كشفها؛ لأنها - في مجال العلوم الأخرى - ليست بإشكالات على الإطلاق، وبعبارة أخرى فقد استعيرت من مجال العلوم الطبيعية أو الرياضية مفاهيم معينة، وطبقت بشيء من التسرع في مجال العلوم الإنسانية، فترتب على ذلك نوع من تشويه صورة هذه العلوم، بحيث أصبحت في بعض الأحيان تبدو محاكية لعلوم أخرى ذات موضوعات مغايرة، دون أن تكون قادرة على إدراك الصفات التي تنفرد بها موضوعاتها الخاصة، والتي تحتم عليها استخدام مفاهيم مخالفة، أو تعديل المفاهيم المستعارة من المجالات الأخرى، إن لم يكن من استعارتها بد.
وسوف أكتفي - لإيضاح وجهة نظري - بفكرتين رئيسيتين، يقوم بينهما ارتباط وثيق، هما فكرة الحتمية وفكرة القانون، وسأحاول أن أثبت أن العلوم الإنسانية حين طبقت هذين المفهومين على مجالها الخاص، لم تكن قادرة في كل الأحيان على إدراك ما تقتضيه سماتها المميزة من تعديلات خاصة كان ينبغي مراعاتها عند استخدام مفهومين كهذين ظلا مرتبطين بمجال العلوم الطبيعية أمدا طويلا.
فكرة الحتمية
هناك حقيقة لا يستطيع الكثيرون ممن تشغلهم مشكلات العلم ومناهجه أن يدركوها، على الرغم من وضوحها البين، هي أن الاعتراف بفكرة الحتمية من حيث المبدأ لا يتعارض على الإطلاق مع إدراك صعوبة تطبيقها في مجالات معينة، وأبسط مثل لذلك هو مجال علم الأرصاد الجوية؛ فمنذ عهد بعيد تخلت الإنسانية عن التفسيرات الأسطورية والغائية لتقلبات الجو، وأصبح هناك اعتراف عام بأن ما يطرأ على الجو من تغيرات هو أمر خاضع لحتمية دقيقة، وبأن حالة الجو في أية لحظة معينة هي محصلة عوامل متعددة نستطيع - إذا عرفناها معرفة كاملة - أن نتنبأ بدقة بما ستكون عليه الأحوال الجوية في المستقبل القريب وربما البعيد أيضا، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر - في الوقت ذاته - أن علم الأرصاد الجوية ما زال بعيدا عن إدراك كل العوامل التي تتحكم في حالة الجو في لحظة معينة إدراكا كاملا، وحساب تأثيرها بدقة، بدليل أن التنبؤات الجوية ما زالت معرضة لأخطاء كثيرة، وأن هذه الأخطاء تزداد كلما كان مدى التنبؤ بعيدا، فهل يمكن أن يحكم على الشخص الذي يؤكد وجود حدود لا تتعداها القدرة على التنبؤ بحالة الجو - في الحالة الراهنة لعلم الأرصاد الجوية - بأنه لا يؤمن بسيادة الحتمية في هذا المجال؟ من الواضح أنه لا تعارض على الإطلاق بين الإيمان بالحتمية من حيث المبدأ، وبين إدراك الحدود التي لا تتعداها الحتمية في هذا المجال، ومن جهة أخرى فليس من حق المرء أن يستخدم الإيمان بمبدأ الحتمية مبررا لتأكيد ضرورة الوثوق من التنبؤات الجوية إلى حد يزيد على ما تسمح به الحالة الراهنة لعلم الأرصاد، وليس من حق مثل هذا الشخص أن يقيس مدى «علمية» الآخرين بمقدار إيمانهم أو عدم إيمانهم بصحة التنبؤات الجوية، ما دام من المعترف به أن ظاهرة مثل الحالة الجوية ما زالت من التعقيد بحيث لا يمكن - في ضوء معرفتنا الراهنة - إدراك كل أبعادها وجوانبها والعوامل المتحكمة فيها إدراكا تاما.
وأخشى أن أقول إن شيئا من هذا القبيل يحدث في مجال العلوم الإنسانية؛ ذلك لأن هذه العلوم قد كافحت - في مبدأ الأمر - كفاحا مريرا من أجل تأكيد انطباق مبدأ «الحتمية» على السلوك البشري، وما زال الكثيرون غير معترفين بهذا الانطباق، أي إنهم ما زالوا يتمسكون بشكل من أشكال ذلك التقسيم المشهور الذي قسم به «كانت» مجالات المعرفة إلى عالم للضرورة - هو عالم الطبيعة - وعالم للحرية - هو عالم الإنسان، ولسنا نود أن نخوض الآن هذه المعركة؛ لأنها ستغرقنا في متاهات كفيلة بإبعادنا عن الفكرة الأصلية التي نرمي إلى إثباتها، ولذلك فسوف نسلم بأن الحتمية تسري - من حيث المبدأ - على السلوك الإنساني، وأن هذا السلوك قابل لأن يتنبأ به إذا ما عرفت كل العوامل المتحكمة فيه معرفة دقيقة، ومع ذلك - وبرغم التسليم بهذا المبدأ - فإن الظواهر البشرية تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه - في معظم الأحيان - إدراك كل العوامل التي يمكن بواسطتها تطبيق مبدأ الحتمية تطبيقا مؤكدا.
على أن الأمور التي لا يمكن أن تفوت الملاحظ المدقق أن لدى المشتغلين بالعلوم الإنسانية ميلا إلى تعجل التطبيق يزيد بكثير عن ذلك الميل الذي نجده لدى أصحاب العلوم الأخرى؛ ففي الطب - مثلا - لا يستخدم عقار جديد إلا إذا ثبتت فائدته - في الحالات التي ينطبق عليها - ثبوتا مؤكدا، وصحيح أنه قد تحدث من آن لآخر حالات سوء استخدام للعقاقير الطبية، أو تعجل في تطبيقها، غير أن هذه الحالات تمثل الاستثناء لا القاعدة، فضلا عن أنها لا تعبر عن موقف العلماء في هذا الميدان، بل تمليها المصالح التجارية للشركات الساعية إلى الربح أو أي دافع آخر غير علمي.
أما في حالة العلوم الإنسانية، فإن هذا الميل إلى التطبيق المتعجل - دون أن تكون قد توافرت بعد كل الشروط الكفيلة بالاطمئنان إلى أن كافة شروط الحتمية قد توافرت - ظاهر كل الظهور، وصحيح أن هذه العلوم تتخلى - في كثير من الأحيان - عن المفهوم التقليدي للحتمية، أعني مفهوم العلاقة الحتمية بين سبب ونتيجة، وتستعيض عنه بمفاهيم أكثر ملاءمة لمجال معقد كمجال الظواهر البشرية، مثل مفهوم الارتباط الإحصائي بين الظواهر، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن التلهف على إخضاع دراسة السلوك البشري للمنهج العلمي - وهو تلهف مشروع تماما - قد أدى في أحيان غير قليلة إلى تسرع في التطبيق لم يتوخ علماء الإنسانيات فيه من الحذر بقدر ما يتوخاه علماء الطبيعة أو الطب - مثلا - حين يشرعون في تطبيق كشف جديد.
وربما كان الأهم من هذه الملاحظة أن علماء الإنسانيات كثيرا ما ينظرون بعين الريبة إلى كل من ينبه إلى ظاهرة التعجل هذه، وقد يكون لهم في ذلك بعض العذر؛ ذلك لأن هناك من يشكك في قيمة التطبيقات التي تقوم بها هذه العلوم؛ لأنه غير مؤمن أصلا بإمكان خضوع الظواهر الإنسانية للبحث العلمي الدقيق، وبالتالي فهو غير مقتنع بأن من الممكن استخلاص تطبيقات منها، ولكن الواجب تجنب الخلط بين أصحاب هذا الرأي وأصحاب الرأي المخالف، القائل إن مبدأ قابلية الظواهر الإنسانية للبحث العلمي مبدأ سليم، ومع ذلك فإن تطبيق هذه العلوم ينبغي أن يواكب مستوى التقدم النظري الذي تحققه لا أن يسبقه. ولما كان استكشاف الظواهر البشرية ما زال أمرا حديث العهد، وما زلنا في أول مراحل البحث في هذا الميدان الشديد التعقيد، فإن للمرء الحق في أن يأخذ على بعض العلوم الإنسانية أنها تتسرع إلى حد ما في التطبيق، فتلجأ إلى «العلاج» بمجرد أن تكتشف نظرية جديدة، وتسارع بتقديم «تفسير» دون أن تكون قد توافرت لديها سوى معطيات قليلة.
وحسبنا - في هذا الصدد - أن نضرب مثلا بالجهود التي يبذلها أنصار التفسير الاجتماعي والاقتصادي للظواهر الثقافية والفنية، وكل ما ينتمي إلى «البناء الأعلى
Superstructure » في حياة الإنسان؛ فمن الممكن أن يكون المرء مؤمنا بتأثير البناء الأدنى في البناء الأعلى، ومعترفا اعترافا كاملا بالمبدأ القائل بوجود علاقة متبادلة بينهما، ولكن لا يلزم عن ذلك أن يعترف بتطبيق هذا المبدأ في كل حالة على حدة؛ فلكي يطبق هذا المبدأ تطبيقا صحيحا لا بد أن تكون المعطيات كاملة أو قريبة من الكمال، أما في الحالات التي لا نعرف عنها إلا وقائع قليلة، فإن من حق المرء أن يعترض على التسرع في تطبيق المبدأ، لا لعدم إيمانه به، بل لعدم توافر الشروط الكافية لتطبيقه، ولكن الذي يحدث أن أنصار هذا المبدأ يسارعون بتطبيقه بناء على أبسط المعطيات، كما هي الحال في تطبيقه على عصور سحيقة في القدم، لم تتوافر لدينا عنها سوى معلومات هزيلة، ويظنون أنهم قد وصلوا بذلك إلى كل العوامل المتحكمة في الظاهرة موضوع بحثهم، وكثيرا ما يترتب على ذلك أن تفسر الظاهرة الواحدة تفسيرين مختلفين كل الاختلاف في كتابات مفكرين يؤمن كل منهما بنفس المبدأ، ويطبق نفس المنهج، وما هذا إلا مثل واحد - من بين أمثلة عديدة - لظاهرة التعجل في التطبيق العملي قبل أن يتوافر الأساس النظري الكافي.
فكرة القانون
ترتبط فكرة القانون بفكرة الحتمية - مفهومة بأعم معانيها - ارتباطا وثيقا. ولقد كان من أبرز مظاهر التقدم في العلوم الإنسانية، تأكيدها خضوع الإنسان لقوانين يمكن صياغتها واستخدامها في السيطرة على الظواهر البشرية والتنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل، وصحيح أن هناك علوما إنسانية ما زال يدور بشأنها جدل حول إمكان وجود قوانين - بالمعنى العلمي - فيها، ولكن علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ (في بعض مذاهبه على الأقل) يستخدمون فكرة القانون منذ عهد ليس بالقريب، ويحققون بذلك نجاحا لا بأس به في فهم الظواهر التي يتناولونها بالبحث.
ومع ذلك فإن المعنى الذي يستخدم به مفهوم «القانون» في العلوم الإنسانية، يحتاج إلى تخصيص يلائم طبيعة هذه العلوم، وإن كان كثير من المشتغلين بها ينظرون إلى معنى «القانون» في علومهم كما لو كان مكافئا لمعناه في العلوم الطبيعية والتجريبية، وأساس هذا الإصرار على توحيد معنى «القانون» في الحالتين هو الرغبة في ضمان صفة العلمية للدراسات الإنسانية، وهي في ذاتها رغبة مشكورة، ولكن الأماني والغايات - كما نعلم جميعا - لا ينبغي أن تفرض ذاتها على الواقع أو تحاول تشكيله على هواها، وواقع العلوم الإنسانية يشهد بأن فكرة «القانون» فيها تتخذ - في بعض الحالات على الأقل - معنى لا يمكن أن يكون مساويا كل المساواة لمعناها في العلوم الطبيعية.
ولكي أوضح فكرتي أود أن أضرب لها مثلا بفكرة قوانين التاريخ في النظرية الماركسية، وأول ما ينبغي أن نتنبه إليه هو أن كلمة «التاريخ» ذاتها تجريد لفظي، وأن تجسيم التاريخ - وكأنه شيء أو كيان متحرك - ينطوي في ذاته على قدر غير قليل من التجاوز، كما ينبغي أن نتنبه إلى أن التاريخ - حسب تعريفه - يتعلق بالماضي، وأننا حين نتحدث عن «حركة التاريخ في المستقبل» - على سبيل المثال - فنحن - من الوجهة المنطقية الخالصة - نرتكب خطأين: أولهما استخدام لفظ يرتبط في ماهيته بالماضي، للدلالة على المستقبل، وثانيهما تجسيم المجردات وتشخيصها وتحريكها على النحو الذي أشرنا إليه من قبل.
وإذا تركنا جانبا هذه الملاحظات - التي قد يراها البعض شكلية - وانتقلنا إلى فكرة قوانين التاريخ - كما تصاغ في النظرية الماركسية - لتبين لنا أن القانون يحتم قيام الصراع بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال، نتيجة لاشتداد التناقض بينهما، ويحتم انتصار الطبقة العمالية في نهاية الأمر، ويؤكد حتمية القضاء على رأس المال، هذا القانون يتسم بسمات خاصة، تحول دون تشبيهه - آليا - بالقوانين الطبيعية: (1)
أولى هذه السمات أنه مبني على استقراء ناقص؛ ففي النظرية الماركسية يبرر هذا القانون على أساس أنه كان هناك تناقض مماثل بين الأرقاء ومسترقيهم في العصور القديمة، وبين الفلاحين المعدمين والإقطاعيين في العصور الوسطى، وأن هذا التناقض انتهى - في الحالتين - بانتصار الطبقة المقهورة، وبتحرك التاريخ خطوة إلى الأمام، تسود فيها قيم أكثر تقدمية من تلك التي سادت المرحلة السابقة، وإن كانت بدورها تفضي إلى تناقض جديد، وقياسا على ذلك فإن «قانون التاريخ» ذاته يحتم انتهاء التناقض الثالث بين العمال والرأسماليين بانتصار الأولين وظهور شكل جديد من أشكال علاقات الإنتاج.
ولو سلمنا بكل مقدمات هذا الاستدلال دون مناقشة، فسوف نجد مع ذلك أن هذا «القانون» يرتكز على حالتين سابقتين مماثلتين، ويقيس الثالثة عليهما، ومن الواضح أنه ليس يكفي في حالة العلوم الطبيعية تكوين قانون من ملاحظة حالتين فحسب، وفضلا عن ذلك فإن التماثل ليس تاما بين الحالات الثلاث في المجال التاريخي؛ إذ إن كل حالة تقوم في سياق مختلف عن الحالة الأخرى، وتختلف في تفاصيلها عنها إلى حد غير قليل، فاستقراء الماضي إذن لا يعد في هذه الحالة أساسا كافيا لاستخلاص «قانون»، إذا كنا نود أن نحتفظ لكلمة «القانون» بمعناها العلمي المألوف. (2)
وفي الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب النظرية الماركسية - وهي في هذه الحالة «المادية التاريخية» - أن انتصار الطبقة العاملة أمر مؤكد بحكم «قانون تاريخي» حتمي، فإنهم - حتى أشدهم تحمسا - يؤكدون أن هذه الحتمية ليست آلية تفرضها الحوادث ذاتها سواء شاء الإنسان أم لم يشأ، بل هي حتمية تقوم فيها الإرادة الإنسانية بدور أساسي.
ولقد كان تأكيد أهمية الإرادة الإنسانية على هذا النحو أمرا لا مفر منه؛ إذ إن الكثيرين قد أساءوا فهم المادية التاريخية بحيث تصوروا أن «حركة التاريخ» تسير آليا في صالح الطبقات المغلوبة على أمرها، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو في نظرهم إلى بذل جهد كبير في الكفاح من أجل تحقيق أهدافهم؛ إذ إن «حركة التاريخ» ستحقق لهم هذه الأهداف تلقائيا، وما عليهم إلا أن ينتظروا حتى يحقق لهم التاريخ ما يبتغون؛ لذلك كان لزاما على مفكري المادية التاريخية أن يصححوا هذا الفهم، ويؤكدوا أن للقانون التاريخي معنى خاصا، بحيث يستحيل أن يتحقق هذا القانون ما لم تتدخل الإرادة الإنسانية من أجل ضمان تحقيقه.
على أن هذا التصحيح لمعنى القانون في مجال التاريخ الإنساني كفيل بأن يجعل هذا القانون شيئا فريدا بحق؛ ذلك لأن أهم ما يميز القانون العلمي هو استقلاله عن الإرادة الإنسانية، وحدوثه سواء شاء الإنسان أم لم يشأ؛ فإلى أي حد يستحق أن يسمى قانونا ذلك الذي لا يتحقق إلا بمساعدة الإرادة الإنسانية؟ وأين هي النقطة التي يمكن عندها تحديد دور الحتمية التاريخية المؤدية إلى ظهور القانون، ودور الإرادة الإنسانية التي تساعد على تحقيق القانون؟ وهل هناك حقا - إلى جانب إرادة الإنسان - أي عامل آخر «خفي» يوجه الحوادث في اتجاه معين؟ أم إن الإرادة الإنسانية هي التي تقوم فعلا بكل شيء؟ وإذا صح أن إرادة الإنسان هي العامل الوحيد المتحكم في توجيه دفة التاريخ الإنساني، فما قيمة الإشارة إلى «القانون» في هذه الحالة؟ ألن يكون في وسع هذه الإرادة أن تكسر القانون إذا شاءت وتوجهه في اتجاه آخر؟
ولكي أزيد هذه النقطة الأخيرة إيضاحا، أود أن أشير إلى حقيقة أعتقد أنها غابت عن ذهن كل من قرأت لهم من أنصار المادية التاريخية؛ فتسلسل التفكير في هذه النظرية يسير على النحو الآتي: هناك قانون تاريخي يحتم انتصار الطبقة العاملة في صراعها مع الرأسمالية، ولكن هذا القانون لا يسير على نحو آلي، بل لا بد من أن تتدخل الإرادة الإنسانية - ممثلة في كفاح الطبقة العاملة - من أجل تحقيقه، ولولا هذا الكفاح لما استطاع القانون أن يتحقق، والأمر الذي غاب عن أذهان هؤلاء المفكرين هو أن القول بأن الإرادة الإنسانية هي التي يتحقق من خلالها قانون التاريخ، يترتب عليه أن الإرادة الإنسانية قادرة - لو شاءت - على كسر القانون أو عدم تحقيقه، وبعبارة أخرى فإن القانون إذا كان رهنا بالجهد الذي يبذله الإنسان من أجل وضعه موضع التنفيذ، فإنه يمكن أن يلغى لو اتجه جهد الإنسان إلى عدم تنفيذه، ما دام القانون لا يملك بذاته قوة تمكنه من تحقيق ذاته.
هذه الحقيقة البسيطة لها - في رأيي - أهمية قصوى في فهم تاريخ القرن العشرين؛ ذلك لأن هذا التاريخ إذا كان سجلا لكفاح الطبقات المقهورة من أجل تحقيق الاشتراكية، فهو أيضا سجل لكفاح الطبقات المالكة والرأسمالية من أجل الحيلولة دون تحقيقها، ولم يكن في وسع «قانون التاريخ» في هذه الحالة أن يغلب كفاحا على كفاح، بل إن الانتصار في كل حالة كان يتوقف على مقدار الجهد الذي تبذله إرادة الإنسان، وإذا كنا نعترف بأن تدخل الإنسان قادر على تحقيق حتمية التاريخ، فيجب أن نعترف أيضا بأن التدخل في الاتجاه المضاد قادر على إلغاء تأثير هذه الحتمية أو إبطاله، وليس تاريخ مقاومة الرأسمالية طوال القرن العشرين إلا سلسلة متصلة من المحاولات الواعية التي تبذلها إرادة مضادة، لإلغاء تأثير القانون التاريخي الذي تؤكد نظرية المادية التاريخية أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على الرأسمالية، ومن الواضح أن قدرة الرأسمالية على البقاء قد جاوزت بكثير الحد الذي كان يتوقعه ماركس أو لينين أو غيرهما من أقطاب المادية التاريخية، بل إنه لم تظهر حتى الآن أية بوادر تدل على قرب انهيارها، وربما كان العكس - في السنوات العشر الماضية - هو الصحيح، فعلام يدل هذا كله؟ إنه يدل على تلك الحقيقة التي لم يعمل لها أقطاب المادية التاريخية حسابا، وهي أن إرادة الإنسان إذا كانت هي شرط تحقيق الحتمية التاريخية، فإنها تستطيع - إذا اتجهت وجهة مضادة - أن تغير عن عمد مسار التاريخ في اتجاه مغاير للاتجاه الذي تشاؤه إرادة الطبقة العاملة، أي تستطيع - إذا اكتملت لها القوة الكافية - أن تبطل تأثير «القانون التاريخي»، وليست هذه دعوة إلى اليأس على الإطلاق، بل إنها لا تعدو أن تكون تنبيها للإنسان المكافح إلى أن كل شيء يتوقف على إرادته، وعلى مدى صلابته في الكفاح، وإلى أن «حتمية التاريخ» لن تنفع المتخاذل، ولن تعوض تقصيره في الدفاع عن حقوقه، أو في السعي إلى تحقيق مطالبه، بل إن مسار التاريخ يمكن أن ينقلب عليه إذا لم يبذل الجهد الكافي في توجيهه نحو الغاية التي ينشدها؛ إذ ليست للتاريخ قوة «سحرية» خارج نطاق إرادة الإنسان. (3)
فإذا كان القانون التاريخي «موضوعيا»، فإنه لا يكون كذلك إلا بمعنى خاص تماما؛ فموضوعيته «مصنوعة» بواسطة الإرادة الإنسانية، ومن الممكن أن يثار في هذا الصدد سؤال على قدر كبير من الأهمية، وأعني به: هل يمكن أن تكون هناك موضوعية «تصنع»؟ وماذا يعود للموضوعية من معنى حين لا تعود مفروضة بموجب المنطق الداخلي للحوادث ذاتها؟ هذا - على أية حال - سؤال لا أود أن أخوض فيه الآن - بالرغم من أهميته البالغة - حتى لا يفلت من أيدينا الخيط الرئيسي للمناقشة، ولكني أود أن أتناول المسألة من زاوية أخرى، هي: ما قيمة «القانون التاريخي» - في هذه الحالة - إذا كان حدوثه أو عدم حدوثه متوقفا على إرادة الإنسان؟ أي بعبارة إذا كانت الإرادة الإنسانية هي العامل الحاسم والوحيد المتحكم في توجيه دفة التاريخ؟
قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن - إجابة عن هذا السؤال - هو أن القانون التاريخي لا تعود له في هذه الحالة فائدة، ولكن الواقع أن فكرة وجود قانون تاريخي يحتم انتصار الاشتراكية على الرأسمالية لها فائدة عملية كبرى؛ إذ إنها قوة دافعة تحفز الجماهير على الكفاح وتشجعها عن طريق إقناعها بأن حركة التاريخ تساعدها في كفاحها، أو بأن كفاحها مساير لحركة التاريخ، وهي في هذا الصدد تؤدي وظيفة مشابهة لوظيفة فكرة المشيئة والقدرة الإلهية بالنسبة إلى المؤمنين المجاهدين؛ فالقدرة الإلهية تفعل من خلال كفاح المجاهدين أنفسهم، ومن المستحيل أن تساعد هذه القدرة على انتصار مؤمن متخاذل، أي إن مصير المجاهدين يتقرر - في نهاية الأمر - بالجهد الذي يبذلونه في كفاحهم، ومع ذلك فإن شعور المجاهد بأن القدرة الإلهية في صفه، يقدم إليه قوة دافعة كبرى في كفاحه، كما يشل حركة خصومه إذا اقتنعوا بأن الإرادة الإلهية ليست في صفهم؛ فالمبدأ في الحالتين واحد، وهو في أساسه مبدأ ذو هدف «عملي» قبل كل شيء، وبالاختصار فإن فكرة «القانون التاريخي» فكرة تشجيعية قد لا يكون لها في الواقع نفسه كيان، ولكن تأثيرها يتحقق كما لو كانت ذات وجود وتأثير واقعي؛ بفضل قدرتها الحافزة وحدها. (4)
فإذا صح هذا التحليل كان معناه أن فكرة القانون التاريخي يتداخل فيها ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون، وأنها ليست وصفا لما هو واقع بقدر ما هي إشارة إلى ما هو واجب، أي إنها فكرة غائية أكثر مما هي وصفية؛ فالقانون في هذه الحالة تعبير عما نريده أن يكون، أي إنه نوع من التفكير المبني على الرغبة والتمني
Wishful Thinking ، وكل هذه - في صميمها - معان غير علمية لا صلة لها بالمعاني المألوفة التي تتضمنها فكرة القانون في العلم البحت. وهكذا فإن فكرة القانون التاريخي - التي أملتها الرغبة في تحقيق الموضوعية في مجال الظواهر البشرية، وإخضاعها للمنهج العلمي الدقيق - تتضمن بالضرورة عوامل خارجية عن مجال العلم البحت، وتخدم أغراضا وغايات عملية في صميمها.
هذا التحليل لا يعني على الإطلاق أننا نرفض الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها القائلون بحتمية انتصار الاشتراكية بناء على قانون علمي موضوعي، بل يعني أن الألفاظ المستخدمة في أمثال هذه العبارة - كلفظ الحتمية، أو لفظ القانون - ينبغي أن تفهم على أن لها - في هذا المجال الإنساني - معنى يختلف اختلافا كبيرا عن معناها في العلوم الطبيعية، ومن الواجب أن تستقر في أذهاننا هذه الاختلافات الأساسية حتى لا نحاول اقتباس مفاهيم العلم الطبيعي وتطبيقها آليا على مجال الإنسان، ولو لم تبادر العلوم الإنسانية إلى إدراك هذه الحقيقة عن وعي لظلت إلى الأبد أسيرة «تطلعاتها» إلى العلوم الطبيعية ومحاكاتها لها.
ومجمل القول أنني حاولت في هذا المقال أن أسير - على طريقتي الخاصة - في نفس الاتجاه الذي يبدو أن العلوم الإنسانية كلها تتجه إليه في الفترة الحالية من تاريخها، اتجاه البحث عن مفاهيم خاصة لهذه العلوم، أو تحديد معان جديدة للمفاهيم التي تستعيرها من مجالات العلوم الأخرى، بعد أن اقتربت نهاية ذلك العهد الذي كانت فيه العلوم الإنسانية تنبهر بالعلوم الطبيعية وتقتبس فيه مفاهيمها ومناهجها دون تمييز.
الباب الرابع
أفكار معاصرة
هيجل في ميزان النقد1
ليس النقد الذي أعنيه ها هنا نقدا أود أن أوجهه إلى فلسفة هيجل، أو محاولة لإصدار حكم على هذه الفلسفة من خلال وجهة نظر خاصة بكاتب المقال؛ إذ إن مثل هذا النقد يقتضي من التفرغ والانقطاع لدراسة هذه الفلسفة ما أعترف أنه لم يتوافر لي بعد، بل إن كثيرا من المفكرين قد كرسوا الشطر الأكبر من حياتهم في محاولة للتعمق في فكر هذا الفيلسوف الكبير ولم يصلوا - بعد كل ما بذلوه من جهد - إلى المرحلة التي يستطيعون فيها أن يضعوا فكر هيجل في ميزان النقد، وإنما كنت أعني نقد العصر - عصرنا الذي نعيش فيه - لتلك الفلسفة التي استطاعت أن تواجه تحديات عصور متباينة كل التباين، وأن تجدد نفسها - طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن - في أشد الظروف الحضارية والسياسية والاجتماعية اختلافا.
وإذا كان المفكر الفرد يشعر بالحرج من التصدي لفكر فيلسوف ضخم مثل هيجل، ومن وضعه في ميزان النقد، إن لم يكن قد هيأ نفسه لهذه المهمة عن طريق الدراسة الشاقة المضنية التي تستغرق من العمر وقتا ليس بالقصير، فإن العصر حين ينقد فيلسوفا، لا يمكن أن يشعر بحرج كهذا، بل إنه يمارس - في واقع الأمر - حقا مشروعا؛ ذلك لأن من حق أي عصر أن يتمثل الفكر الفلسفي من جديد، وأن يعيد اختباره في ضوء مقوماته ومتطلباته الخاصة، وحين يضع العصر مفكرا في ميزان النقد، فهو لا يفعل ذلك على سبيل الادعاء والغرور، بل إنه إنما يتخذ عندئذ الموقف الذي يتعين اتخاذه إزاء كل فلسفة، وأعني به إعادة تفسيرها - وربما إعادة خلقها - على أساس تلك الخصائص التي يتميز بها كل عصر عن غيره، وحتى لو أدى ذلك إلى ألا تعود للفيلسوف الواحد صورة واحدة تتخذ مقياسا لغيرها من الصور، وإلى أن تكتسب الفكرة الواحدة ألوانا وسمات متباينة تفقد معها «هويتها» الأصلية، فلن يكون في ذلك ضير؛ إذ إن الفكر الفلسفي - على خلاف الفكر العلمي - لم يظهر أصلا لكي يكشف للناس عن حقائق ثابتة، بل لكي يثير أذهانهم ويدفعها إلى إعادة اختبار مشكلاتها من جديد، ولن يكون ذلك الفكر قد أدى الوظيفة المتوقعة منه، ولا الرسالة التي كرس الفلاسفة أنفسهم حياتهم لها، لو أنه فرض نفسه علينا في صورة واحدة جامدة لا يطرأ عليها تطور، أو طالبنا بأن نحتفظ بطابعه «الأصلي»، ونصونه من تأويلات العصور المتباينة وتحريفاتها.
فلكل عصر - إذن - حق مشروع في أن يضع الفلسفات التي ورثها في ميزان النقد، وهو إذ يفعل ذلك فإنه لا يستهدف تحقيق مصالحه الخاصة وحدها (أعني أنه لا يهدف إلى إعادة اختبار تراثه الفكري من أجل استبقاء ما يعينه على تحقيق فهم أفضل لنفسه وللعالم فحسب)، بل إنه يستجيب بذلك لنداء الفلسفة الحقة، ويعمل على تحقيق رسالتها الأصيلة - التي هي إثارة الأذهان وحفز العقول على التفكير - لا نقل مضمون أو محتوى ثابت من المعارف من جيل إلى جيل.
بهذا المعنى واستهدافا لهذه الغاية يعمل عصرنا على إعادة تفسير هيجل، ويضع فكره في ميزان النقد، وعلى الرغم من أن هيجل قدم فلسفته على صورة مذهب متكامل محكم البناء، لا يمكن أن ينتزع منه أو يضاف إليه شيء، فإن فلسفته هذه قد كشفت لكل العصور التالية - على رأسها عصرنا الحاضر - عن قدرة مذهلة على الاستجابة لمقتضيات أنماط من الحياة تختلف أساسا عن تلك التي صيغت هذه الفلسفة في ظلها، وبالمثل فعلى الرغم من أن هيجل كان من أشد الفلاسفة وعيا بطبيعة العصر الذي عاش فيه، حتى إنه جعل من ذلك العصر محور ارتكاز تدور حوله كل أحكامه على العصور السابقة، وكانت فلسفته تبدو كما لو كانت قد اتخذت طابعا مقفلا على نفسه، مكتفيا كل الاكتفاء بذاته، ويستحيل أن تفهم إلا بالإشارة إلى العصر الذي ظهرت فيه، على الرغم من ذلك فإن هيجل يعد أنموذجا نادرا للفيلسوف الذي يوحي للعصور اللاحقة بأفكار جديدة، ويستطيع أن يخاطبها بلغتها الخاصة، وهذه القدرة وحدها كافية لكي تجعل لهيجل مكانة رفيعة في عصرنا الحاضر، مهما ثقلت موازينه حين يوضع فكره في ميزان النقد.
إن كل فلسفة كبرى تقبل بطبيعتها ألوانا شتى من التفسيرات، بل ربما كان في وسع المرء أن يتخذ من تباين التفسيرات معيارا يقيس به المكانة الحقيقية لفكر الفيلسوف، وبهذا المقياس يظهر هيجل في صورة مارد فكري لا نظير له؛ ذلك لأن فلسفته قد أوحت للشراح بأشد التفسيرات تقدمية ورجعية في آن واحد؛ فهو في نظر البعض فيلسوف تشع من تعاليمه روح الثورة، وفي نظر البعض الآخر داعية متحمس إلى الروح المحافظة، وتارة تتبنى تعاليمه أشد الاتجاهات الفكرية يسارية، وتارة أخرى يرحب بها اليمين ويرى فيها أفضل وسيلة لمحاربة تطرف اليسار، وهي فلسفة مثالية - بمعنى خاص لهذه الكلمة - ومع ذلك فقد انبثق منها أشهر المذاهب المادية في العصر الحديث، وهي في نظر البعض فلسفة متفائلة إلى حد تبرير كل وضع قائم، وفي نظر البعض الآخر فلسفة مأساوية يحركها إحساس الإنسان بتمزق وعيه وشقائه، بل إن صورة الفيلسوف ذاته تتباين، من ذلك الأستاذ الجامعي المهادن الذي أصبح في الطور الأخير من حياته «دكتاتورا فلسفيا» في بلاده، ومعبرا عن مصالح النظام القائم، إلى فيلسوف الثورة والتغير والنفي والرفض.
لقد كان هيجل فيلسوفا محترفا دون أدنى شك، بل إنه ربما كان خير ممثل للفلسفة كمهنة مستقلة قائمة بذاتها، أو إن شئت فقل إنه كان تجسيدا حيا للفلسفة من حيث هي عمل يشغل به الإنسان حياته كاملة، ولم يكن هيجل يخجل من أن يوصف بأنه فيلسوف محترف؛ إذ إن الفلسفة عنده «حرفة» لها قواعدها ولغتها وأصولها، وتقتضي مرانا وتدريبا عقليا خاصا، ولقد كان هيجل في ذلك على النقيض من خصميه المعاصرين له - كيركجورد وشوبنهور - اللذين أراد كل منهما أن «يعيش» فلسفته، وأن يقضي على كل ازدواج بين شخصيته من حيث هو إنسان، وشخصيته من حيث هو فيلسوف، ولعل خير ما يمكن التعبير به عن موقفهما من طريقة هيجل في التفلسف هو أن نستعير لفظا من هيجل ذاته - أعني لفظ «الاغتراب» - فالفيلسوف المحترف إنسان مغترب؛ لأنه يحيا بوصفه صاحب مهنة معينة - أعني «أستاذا» في حالة هيجل - ويحيا من ناحية أخرى بوصفه فيلسوفا، وهو في حياته كفيلسوف يمارس فكرا لا صلة له بحياته اليومية أو بمهنته بوصفه موظفا عاما في الدولة.
ومع ذلك فإن هذا الذي يعد اغترابا قد يكون - من وجهة نظر معينة - مصدر إثراء لفكر الفيلسوف؛ ذلك لأن عمله في الدولة يمكن أن يعني اندماجه في الحياة العامة بوصفه مواطنا، بحيث تثرى تجربته الفلسفية بممارسته للشئون العملية، على حين أن ذلك الذي يحيا فلسفته (ويظن أنه يقضي على الاغتراب في ذاته) قد تكون حياته خاوية هزيلة؛ لأنها لا تخرج عن حدود تفكيره الفلسفي. والحق أننا لو ألقينا نظرة إلى طبيعة عصرنا الحاضر؛ لتبين لنا أن وجهة نظر هيجل هي الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن كثيرا من أنواع النشاط الروحي تتحول إلى «حرف» لها أصولها وقواعدها الخاصة، بحيث أصبحنا نجد شعراء وأدباء وفنانين محترفين، وكاد أن يختفي من حياتنا ذلك النمط من الهواة ومن أصحاب الأمزجة الأدبية أو الشاعرية، الذين يمارسون التفلسف أو غيره من ضروب النشاط الروحي دون أن يعترفوا به مهنة ذات قواعد وأصول تقتضي تدريبا ومرانا شاقا.
على أن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقا هو أن هذه الفلسفة، التي ظهرت أصلا بوصفها مهنة احترافية، على نحو يوحي بأنها تدعو إلى تثبيت الفكر وتمجيده، كانت في واقع الأمر أبعد الفلسفات عن التحجر في أشكال أو قوالب ثابتة؛ ذلك لأن الفلسفة عند هيجل هي أعلى صور وعي الروح بذاتها، وهي أرفع مراحل تجلي هذه الروح، وماهية الروح لا تعدو أن تكون فعلها ونشاطها. وعلى ذلك فإن الصورة الحقة للفلسفة هي ذلك الفعل والنشاط الفكري الذي لا ينقطع، والذي يمارس على كل حصيلة استمدها الذهن البشري من أي ميدان من ميادين نشاطه، وبعبارة أخرى فإن فلسفة «الأستاذ» الذي طالما سخر خصومه من لقبه هذا، هي أبعد ما تكون عن التعاليم الثابتة التي يلقيها «الأساتذة» في عقول تلاميذهم، وهي فاعلية فكرية لا تنقطع، وحركة ذاتية للعقل البشري، لا تتجمد ولا تتحجر في أي مذهب أحادي الجانب.
هذا الطابع الدينامي لمذهب هيجل هو الذي يتيح له أن يعلو على كل الصور الشائعة للمذاهب الفلسفية، بل أن يخرج من إطار كثير من التفسيرات التي قدمت له، والتي لقيت في وقت ما رواجا عظيما.
إن المألوف في المذاهب الفلسفية - وخاصة ما كان منها واسع النطاق، ينتظم عددا كبيرا من مجالات الفكر والواقع - أن تكون مشيدة عن طريق الاستنباط، وعلى هذا النحو شيد «كانت» مذهبه ووضع اسبينوزا فلسفته المستخلصة بمنهج هندسي استنباطي دقيق. ولكن أوضح نماذج التفكير الاستنباطي في الفلسفة كان مذهب ديكارت الذي يبدأ بحقائق بسيطة، ويقيم بناء فلسفيا كاملا على أساس انتقال الوضوح والبداهة من المقدمات إلى النتائج بفضل أحكام عملية الاستنباط، مثل هذه المذاهب الاستنباطية تسير - بطبيعتها - في طريق يزداد تجريدا على الدوام، بحيث تكون كل لحظة لاحقة فيها أبعد عن الطابع العيني من اللحظة السابقة.
على أن مذهب هيجل - بالرغم من أنه، باعتراف الجميع، أشمل المذاهب الفلسفية كلها، وأشدها طموحا في استيعاب كل ظواهر الروح بحيث لا يخرج عنه شيء منها حتى أشدها تنافرا - لم يكن مبنيا على استنباط يتزايد تجريده، ولم يكن الإحكام المنطقي هو وسيلة الانتقال من لحظاته المختلفة، بل إنه قد شيد بطريقة تركيبية تتضمن فيها اللحظة اللاحقة «أكثر» مما تتضمنه اللحظة السابقة، وتكون أقل تجريدا وأقرب إلى العينية منها. إن المذهب ينمو عضويا، ويتوسع تدريجيا ولا يترتب الجديد فيه - بطريقة تحليلية - على القديم، ولا يكون مجرد استخلاص لما كان موجودا فيه بالقوة، بل إن القديم يكون مادة يبنى عليها الجديد بطريقة تركيبية خلاقة. وهكذا يبدأ المذهب من المجرد - الذي كان هيجل يعده هزيلا خاليا من المضمون - إلى العيني، الذي كان في نظره ثريا زاخرا بالتعقيد والتنوع. وبهذا المعنى يمكن أن يقال - على نحو مؤكد - إن هيجل لم يحاول أن يستنبط العالم أو يقدم له تفسيرا منطقيا، وإنما أراد أن يضم كل ما هو موجود، وكل ما هو مغطى، في إطار معقول واحد. وعلى هذا النحو تعد فلسفته واقعية ومثالية في آن معا، فهي واقعية لأنها تضم لحظات الواقع كلها وتجعل كلا منها حقيقة فلسفية في لحظة حدوثها، وهي مثالية لأن الإطار الذي تضع فيه الواقع بأسره إطار عقلي في أساسه.
إن صفة الشمول هي مصدر قوة الفكر الهيجلي ومظهر ضعفه في الآن نفسه؛ فلقد كان يتملك هيجل شعور طاغ بأن عصره يمثل - في جميع الميادين - قمة الأحداث التاريخية التي سبقته، ويمثل أكمل صور تحققها في الوقت ذاته، ومن هنا أحس بالرغبة في تقديم «كشف حساب» للحضارة على حد تعبير «لوفيفر»، وإيجاد مركب يؤلف بين كل عناصرها، وكان الهدف الرئيسي لفلسفته هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع وبين الشكل والمضمون، على نحو يضمن الجمع بين هذه الأطراف وتجاوزها في مركب أعلى؛ ففلسفة هيجل كانت - في نظره - مركبا يضم كل ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل ميادين نشاط الروح الإنسانية، ولم يكن هيجل يسعى إلى تحقيق هذا الضم بطريقة تلفيقية، أو عن طريق الجمع بين عناصر متنافرة فيما بينها، بل كان هدفه هو أن يؤلف منها مركبا عضويا متماسكا، وكان يرى في ذلك لب النزوع الفلسفي الحقيقي وجوهره، ولقد كان يتملكه شعور واضح بأن فلسفته وصلت إلى العمق الباطن للأشياء، وقدمت تفسيرا للواقع في كليته وبجميع جوانبه، وهو شعور يستبعد تماما روح الشك واللاأدرية كما سادت في القرن الثامن عشر، وكما ظلت آثارها واضحة في أول مذهب فلسفي ألماني كبير، وأعني به مذهب «كانت».
لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناء مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجردها - أي من المنطق - ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحو لا يخلو من التأثر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجة أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقة خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلى أولا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولا في الفن ثم الدين وأخيرا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابة تفصيلية متعمقة تستحق أن تعامل على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كل ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعا موسوعيا ينم عن قدرة مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها - في نظر الكثيرين - موطن الضعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد - مهما بلغ تعمقه - أن يحيط بكل ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح - من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة - يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسرها جميعا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعا نهائيا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمد الحاضر فحسب، بل أيضا لأنه يفسر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايته وهدف تطوره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطورات اللاحقة؟
لقد أدت هذه الصعوبة ببعض شراح هيجل إلى أن يحكموا على فلسفته كما لو كانت بناء عقليا أروع ما فيه هو ذلك التناسق الذي تكشف عنه حركته المعمارية، أما المضمون الفكري ذاته فقد أضفوا عليه قيمة نسبية لا تعادل أبدا قيمة البناء المحكم؛ ففي رأيهم أن أعظم ما قدمه هيجل ليس معالجته المنفصلة لكل موضوع من الموضوعات التي يضمها «المذهب» على حدة - برغم ما تتسم به هذه المعالجة من عمق - وإنما هو ذلك التماسك والترابط، وتلك الدراما الحية المتطورة التي عرض هيجل فصولها المتتابعة في المذهب ككل. وخلاصة القول أن تناسق الحركة أعظم - في نظر البعض - من العناصر الثابتة التي تتحقق هذه الحركة فيما بينها.
ولكن ربما كان التعبير الأدق عن هذه المشكلة هو ذلك التضاد المعروف الذي وضعه تلاميذ هيجل - بعد وفاته مباشرة - بين «المذهب» و«المنهج»؛ فعلى حين أن كل ما في المذهب يوحي بأن البناء مكتمل لا يتسع للجديد، وبأن الدائرة قد أغلقت بإحكام في نهاية الرحلة الممتعة التي يقودنا فيها هيجل من الروح المجردة إلى الروح المطلقة، مارا بالروح الموضوعية، فإن المنهج نفسه - أعني «الديالكتيك» الهيجلي المشهور - يوحي بحركة دائمة وصيرورة مستمرة لا يقف في وجهها شيء؛ ففكر هيجل يتسم بتوتر حاد بين الحركة الدينامية متمثلة في الديالكتيك، في المسار الذي لا يتوقف لكل ما هو موجود، في الصيرورة التي يحمل بمقتضاها كل شيء نقيضه في داخله، في السلب الذي يكمن في قلب كل إيجاب، في الآخرية التي ينبغي الإحالة إليها من أجل فهم أية ظاهرة نتصور أنها منعزلة متفردة، وبين الإحساس بالاكتمال الذي يسري في المذهب من بدايته إلى نهايته.
إن المذهب لا يمكن أن يوضع إلا «من أعلى»؛ فالعقل الذي يضع المذهب لا بد أن يكون عقلا أدرك حركة الكل، وتأملها في شمولها، واستبانت له الخيوط الجامعة بين مظاهر الروح جميعا، من أبسط تجلياتها حتى أشدها تعقيدا. هذا العقل الذي يضع المذهب، يضع ذاته خارج المذهب، أعني خارج حركته الديالكتيكية، وخارج التناقض والسلب الذي يسري على كل وجود، إنه عقل أحاط بالكل وأدرك الإطار الذي تندرج فيه كل عناصر ذلك الكل، والنقطة المركزية التي تتلاقى عندها كل خيوطه، والتي لا يفسر تطورها كله إلا من خلالها، ولولا هذه القدرة الشاملة لما أمكن أن يتسم المذهب بالاكتمال والتناسق، ولما أمكن أن يسري ذلك النبض المنتظم - أعني إيقاع الحركة الديالكتيكية - في كل التخطيطات العامة للمذهب، بل في كل فروعه وفروع فروعه، كل ذلك يعطينا إحساسا بالاكتمال، وبأن الصورة العامة قد اتضحت وانتهى الأمر، وبأن العقل المفكر قد تكشف له كل شيء؛ لأنه يقف عند «نهاية الطريق»، وعند القمة العليا التي يتوقف عندها كل مسار.
هذا التوتر بين الإحساس بالحركة الدائمة، والنقص المستمر الذي يحتاج إلى تعويض وتجاوز و«رفع»، وبين الإحساس بالاكتمال والانتهاء، هو صفة من أبرز صفات الفلسفة الهيجلية، إنه التوتر بين فلسفة تنظر إلى الأمور في نموها وتقدمها إلى مراحل أعلى وأعقد، وفلسفة تتأمل الظواهر بنظرة راجعة، بعد أن تكون قد كشفت حقيقتها وغايتها، وسيظل من الأمور التي تثير جدلا لا نهاية له بين قراء هيجل وشراحه، البحث فيما إذا كان في تفلسفه يتطلع إلى الأمام ليفتح الطريق أمام أحداث جسام توشك أن تقع، أم ينظر إلى الخلف ليفسر الماضي كله في ضوء حقيقة بدت له نهائية، هي حقيقة الحاضر؟
وبين طرفي هذا التوتر يتحدد موقف عصرنا من هيجل، فإذا تأملناه من وجهه الدينامي المتحرك، كانت روح هيجل لا تزال سارية فينا، معبرة عن نزوع عصرنا إلى التطور، وإلى الثورة على كل وضع متجمد متحجر، وإذا نظرنا إليه من وجهه المكتمل، الذي يجمد المعرفة في بؤرة ثابتة، ويحقق الفكرة المطلقة في عصره؛ لبدا في نظرنا - على أحسن الفروض - فيلسوفا ميتافيزيقيا وسط مجموعة كبيرة من نظرائه الذين جعل كل منهم من عصره - بل من عقله - مركزا للكون؛ فمن بعد هيجل ظل التاريخ مستمرا، وظلت المتناقضات قائمة، بل لقد ازدادت حدة، وتغيرت صورة العالم، واتخذت نواتج الروح أشكالا مختلفة كل الاختلاف؛ فالفن السائد في عصره أصبح فنا تاريخيا تجاوزه التطور بمراحل، والنظرة السائدة إلى الدين قد اختلفت، أما الفلسفة فقد تعددت مذاهبها، واتخذت وجهات جديدة غير متوقعة. كل شيء إذن - حتى في ميدان الروح - ما زال نابضا بالحياة والحركة والتغير، فإذا كان في ذلك تكذيب «للمذهب»، ففيه ولا شك دعم وتأكيد لصحة «المنهج».
فما هو إذن مصدر حيوية هذا المنهج ؟ وما الذي يجعله قادرا على تأكيد ذاته، حتى من خلال التطورات التي يبدو أنها تنكره؟ إن الديالكتيك الهيجلي هو - قبل كل شيء - طريقة في التفكير، وفي النظر إلى الظواهر من خلال ارتباطها بعضها ببعض، إنه باختصار شديد طريقة التفكير التي تلغي الحواجز بين الجزئيات المنفردة، وتدرك أن فهم أية جزئية على حدة إنما يكون من خلال علاقاتها المعقدة بالجزئيات الأخرى، وبالكل الذي تندرج فيه، على أن هذه النظرة قد تتخذ طابعا سكونيا، كما هي الحال مثلا في منهج «الجشطلت» المشهور في علم النفس، أما عند هيجل فإن أساسها هو فكرة الحركة والدينامية والتطور؛ فالعلاقات التي تفهم من خلالها كل ظاهرة جزئية، ليست فقط علاقاتها بالظواهر الأخرى التي تتزامن معها، وإنما علاقاتها بالمجرى الكامل الذي تطورت فيه حتى وصلت إلى طابعها الراهن.
هذا المنهج يشيع وصفه بأنه منهج ثلاثي الإيقاع؛ أي إنه ينتقل من الوضع
thesis
إلى الوضع المضاد
antithesis
ومنه إلى الوضع المركب
synthesis
وفي اعتقادي أن هذا المقال، إذا لم يكن يتسع لشرح مفصل لمعالم هذا المنهج - وهو على أية حال أمر لم يعد مجهولا في بلادنا بعد ما بذله الباحثون في الآونة الأخيرة من جهود - فلا أقل من أن يقدم «تحذيرات» تعصم القارئ من الوقوع في خطأ سوء الفهم وسوء التطبيق في هذا المجال الذي أصبح الكلام فيه على ألسن الجميع، وازدادت الأذهان بالتالي تعرضا للأخطاء التي قد يؤدي بعضها إلى تشويه في الفكر النظري وانحراف في التطبيق العملي.
ولنبدأ بالطرف الثالث في الحركة الديالكتيكية وهو المركب؛ فكثيرا ما يشيع فهم المركب بأنه حصيلة الوضع الأصلي والوضع المضاد، أو بأنه متضمن فيهما من قبل، ولكن الواقع أن هيجل كان يعني به المركب بمعناه الاشتقاقي الأصيل، أي من حيث هو حقيقة جديدة خلاقة لم تكن موجودة في الطرفين السابقين، بل إن هذين الطرفين لا يفهمان - في الواقع - إلا من خلال علاقتهما بالمركب، وإذا كان هو - بمعنى معين - ناتجا عنهما، فإنهما - بمعنى أعمق - ناتجان عنه، أي إن معنى أي لحظة معينة - في مجال التاريخ مثلا - يتحدد على أساس اللحظات المقبلة، ولا يمكن أن تعني اللحظة في ذاتها شيئا، ومن المؤكد أن هذه النظرة الديالكتيكية تتلاءم إلى أبعد حد مع عصرنا الحاضر في ديناميته وسعيه إلى فهم حاضره، والسلوك فيه، على أساس ما يتوقع أن يحققه في المستقبل من غايات.
ولكن المشكلة الأهم هي التي تتمثل في الطرفين الأولين، أعني الوضع وضده؛ ذلك لأن مجرد تصورهما على أنهما طرفان قد يؤدي إلى تشويه المعنى الحقيقي للديالكتيك كما كان يعنيه هيجل؛ فالضد أو النقيض ليس طرفا قائما بذاته، وإنما هو يكمن في قلب الوضع الأصلي ويضفي عليه معناه، ويعين على إيضاح معالمه، والعلاقة بين الوضع ونقيضه هي التي تتمثل فيها دلالة فكرة «السلب» وفكرة «التوسط» الهيجلية، وعلى الرغم من الطابع التجريدي الذي عبر به هيجل عن موقفه في هذا الصدد، فإن من السهل أن نجد - في حياتنا العينية - ألوف الأمثلة التي تمثل تجسيدا لتفكير هيجل النظري في هذا المجال.
إن قوة تأثير الديالكتيك الهيجلي إنما تكمن في تأكيده لطابع الصراع الذي يسود كل أرجاء الوجود، ابتداء من أشد مظاهر العقل تجريدا - في المنطق - حتى أكثرها عينية - في الفلسفة، هذا الصراع يتمثل في حياتنا اليومية بلا انقطاع، نلمسه في وعينا بذاتنا؛ إذ إن هذا الوعي يتضمن مفارقة معروفة، هي أن المرء لا يعي ذاته إلا عندما يصبح في لحظة مغايرة لتلك التي يريد أن يعيها، وهو يتمثل في علاقة وعيي بوعي الآخرين؛ فأنا لا أعرف نفسي إلا من خلال الآخرين، أي حين أخرج عن ذاتي، ولو قطعت علاقاتي بأسرها، وانطويت على نفسي انطواء تاما، متوهما أنني أهتدي إلى ذاتي في هذه الحالة على نحو أفضل، فسوف أجد أن ذاتي هذه قد أفلتت مني، وأنها لم تعد شيئا، أي إن من ماهية الوعي أن يهتدي إلى حقيقته الداخلية بفقدان ذاته في علاقات خارجية، ولا بد أن يتمايز الوعي في أشكال متعددة متقابلة ومتعارضة، وأن يعيش صراعاتها وتناقضاتها، ويعمل على قهر هذا التناقض، وهذا يعني أن الوعي توحيد وتنظيم لعناصر متعارضة بطبيعتها؛ فليس فيه شيء مباشر، بل إن كل ما فيه يتم عن طريق «التوسط»، أعني توسط النقيض الذي يعيننا على فهم الموقف الأصلي، وكلما توسعت في تنمية متناقضات عناصر هذا الوعي، ازددت فهما لها وقدرة على تجاوزها، وما حياة الروح سوى عملية مستمرة تقوم فيها بشطر ذاتها إلى قوى متضادة، وتعمل على قهر هذا التضاد. هذه القوى التي يحدث فيها هذا الانشطار أو التمايز، هي تعبير عن قوة السلب أو النفي في الحياة.
ولقد كان من أهم أسباب الحيوية المتجددة لفلسفة هيجل أنها طبقت قانون الصراع هذا على كل مستويات الروح؛ ففي المنطق تعد كل مقولة منطقية تأليفا عضويا من عناصر متعارضة ومتكاملة في آن معا، وتكون المفاهيم الأساسية نسقا واحدا، بحيث تترابط أشد الأفكار اختلافا، وتأتلف تحت مفهوم «الفكرة الشاملة» أو الفكر الكلي للعالم. وفي «ظاهريات الروح» يبدأ الفكر من الذات، وينتقل تدريجا - بالتوسع في هذه الذات - حتى يصل إلى الروح المطلقة، مرددا - على جميع المستويات - مفارقة الوعي الأساسية، التي لا تدرك فيها الذات نفسها إلا من خلال التوسط، وبالخروج عن ذاتها، وفي الحياة الأخلاقية لا يكون للفضيلة كيان إلا من خلال صراعها مع الرذيلة وتغلبها عليها (ففي عالم الملائكة لا توجد فضيلة، ما دام الصراع ضد الشر مستحيلا)، وعلى كل المستويات لا تتحقق الذات إلا بقدر ما تتصارع في داخلها المتناقضات، وبقدر ما تبذل من جهد في سبيل قهر هذه المتناقضات.
على أن عصرنا - الذي لم يتأثر بهيجل في شيء قدر تأثره بفكرته عن السلب وصراع المتناقضات وقهرها - كثيرا ما كان يسيء فهم موقف هيجل من فكرة التناقض، ويتصوره فيلسوفا تخلص نهائيا من مبدأ التناقض، ولا جدال في أن للأجيال التي أعقبت هيجل بعض العذر في إساءة فهمه؛ ذلك لأن من الصعب أن يكون لفكرة التناقض في مجال المنطق نفس المعنى في مجال الأخلاق أو الحياة الاجتماعية، وفي وسع المرء - بقدر من التفكير التحليلي - أن يستخلص معاني للفظ التناقض، أكتفي هنا بذكر أهمها: (1)
التناقض بمعنى التضاد، حين يؤكد هيجل أن وجود أي شيء ينطوي على ضده أو على عنصر سالب كامن فيه. (2)
التناقض بمعنى الصراع، وهو معنى درامي ينطبق على مجالات الأخلاق والسياسة والمجتمع، ولكن من الصعب تصوره منطبقا على مجال المنطق، إلا إذا فسر اللفظ تفسيرا مجازيا. (3)
التناقض بمعنى المغايرة أو الانتساب إلى الآخر، وذلك حين يؤكد هيجل أن من ماهية كل شيء أن يكون منسوبا إلى شيء آخر أو أن يتحول إلى الآخر أو يفهم من خلاله، أي أن يخرج عن وجوده المكتفي بذاته.
هذه المعاني كثيرا ما تختلط في أذهان المعاصرين حتى يقتبسون منهج هيجل الديالكتيكي، ويمضون في تطبيقه إلى حد يوحي بأن هيجل كان من أنصار الفوضى والجمع بين المتناقضات كيفما اتفق، ناسين أن هيجل كان - قبل كل شيء - فيلسوفا عقليا، وأن العقل حين يصبح القوة المحركة لمذهب فلسفي، لن يقبل أن يكون القانون السائد في الكون هو التلاعب العشوائي بالمتناقضات.
والحق أننا لو قارنا وجهة نظر هيجل في التناقض بوجهة النظر التقليدية، لوجدناه - من زاوية معينة - أشد نفورا من التناقض من كل من سبقوه، ألم يكن إحساس هيجل بالتناقض - حين جعله صراعا داخليا يحرك كل نمو وتطور، ويدفع الروح بكل مظاهرها إلى الأمام - أقوى من إحساس أولئك الذين جعلوه «علاقة خارجية» بين أشياء يظل كل منها محتفظا بهويته؟ إن العلاقة بين منطق أرسطو ومنطق هيجل كثيرا ما تصور كما لو كان الأول يهدف إلى استبعاد التناقض والثاني يهدف إلى استبقائه، ولكن الواقع أننا لا نستطيع أن نتصور شعورا بالتناقض أقوى من ذلك الذي يتمثل في فيلسوف يجعل من الرغبة في قهر التناقض وتجاوزه قوة تحرك الروح وتدفعها إلى العلو على ذاتها دواما، ولو كان هيجل - كما يصوره الكثيرون - يهدف إلى استبقاء التناقض، لما تحدث عن «الارتفاع» إلى مستوى أعلى، وعن تجاوز التناقض ورفعه بعد الجمع بين أطرافه في مركب أشمل وفي وحدة أعمق. إننا نستطيع أن نتصور فلسفة تؤكد التناقض وتحتفظ به، أما تلك التي تجعل منه قوة دينامية تدفع الروح على الدوام إلى تجاوزه، فهي فلسفة تبلغ فيها الرغبة في استبعاد التناقض حدا يفوق ما كانت عليه في أية فلسفة سابقة تجعل منه علاقة خارجية شكلية سكونية عاجزة عن تحريك أي شيء.
وأخيرا فإن أكبر المحاذير التي ينبغي أن يتجنبها عصرنا الحاضر - حين يستخدم المنهج الديالكتيكي - هو أن يعامل الديالكتيك على أنه قانون، أو مجموعة من القوانين، ويعمل على تطبيق هذه القوانين آليا، صحيح أننا نستطيع أن نستخلص من فكر هيجل مبادئ ديالكتيكية، مثل «نفى النفي» أو «وحدة المتناقضات» أو «تحول الكم إلى الكيف»، ولكن الديالكتيك هو - قبل كل شيء - أسلوب ومنهج في التفكير وفي التطبيق. إن القانون يمثل نهاية المسار في كل بحث، أما الأسلوب والمنهج فهو قوته الدافعة المحركة، وتحويل الديالكتيك إلى مجموعة من القوانين - مهما كانت مشروعيتها - هو خروج على الروح الحقيقية التي تستوحيها فكرة الديالكتيك، وتجميد له في قوالب ثابتة، وبالفعل تتمثل في عصرنا الحاضر - بوضوح تام - محاولات متناقضة يبذلها بعض الدجماطيقيين لتطبيق الديالكتيك كما لو كان قانونا ثابتا، فيبحثون في كل موقف عن «نفى النفي» أو عن الكم الذي سيتحول إلى كيف ... إلخ، وينسى هؤلاء أن الديالكتيك - قبل كل شيء - منهج يعلمنا المرونة الفكرية والعملية؛ إذ يكشف لنا عن التعقد الهائل للواقع، وينهانا عن رده إلى صيغ مبسطة وقوالب جامدة. هذا هو «القانون» الأول للديالكتيك (إن جازت تسميته بالقانون)، وهو الذي تتضاءل إلى جواره كل قوانين أخرى جزئية.
ولو استوعبنا روح الديالكتيك - لا نصه الحرفي - لأدركنا أننا لا نستطيع أن نجد في كل المواقف انتقالا ثلاثيا من وضع إلى نقيضه إلى وضع مركب؛ ففي تاريخ عصرنا كثيرا ما يتم الانتقال من وضع إلى وضع آخر أسبق عليه بكثير كما في حالة الانقلابات الرجعية، التي تتميز أساسا بأنها «رجوع» إلى الوراء، وليست مجرد تضاد مع ما كان موجودا من قبل، وكثيرا ما يكون المركب أكثر هزالا من أطرافه المتناقضة، كما هي الحال في الصيغ التي استطاعت بها الأنظمة الرأسمالية أن تحتفظ ببقائها منذ أزمة الثلاثينيات حتى اليوم، وكثيرا ما تخف حدة التناقض دون الوصول إلى مركب، كما يتضح من مقارنة العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال ربع القرن الأخير، والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن أهم ما يستخلص منها هو أن روح الديالكتيك تتمثل في الشعور بالتعقد الشديد للواقع، ولا تقدم إلينا صيغا ثابتة نرد إليها تطور هذا الواقع ونحشره في قوالبها حشرا، ولو استطعنا أن نستخلص من الديالكتيك هذا الدرس البليغ، وعرفنا كيف نطبقه على المواقف الجديدة التي لا يكف عصرنا الحاضر عن مواجهتنا بها، لكنا بذلك نحتفظ بما هو حي بحق في تفكير هيجل .
الجدل بين الوجودية والماركسية1
في التفكير الفرنسي المعاصر يتمثل التقابل بين الوجودية والماركسية أوضح ما يكون، بحيث إن المرء لا يكون مغاليا إذا شبه هذين التيارين العقليين بقطبين يتجاذبان عقول المثقفين الذين يهدفون إلى اتخاذ موقف إيجابي - لا موقف المتفرج السلبي - من حوادث العالم الراهنة؛ ففي فرنسا إذن نجد أفضل ميدان للصراع الفكري بين هذين المذهبين الرئيسيين من مذاهب الفكر المعاصر، ومع ذلك فإن هذا الصراع قد أخذ يسفر - في الآونة الأخيرة - عن نوع من التقارب والتقدير المشترك لوجهات النظر المتبادلة، ولعل من أوضح مظاهر هذا التقدير المتبادل، تلك المناظرة التي دارت بين سارتر وجان إيبوليت
Jean Hypolite
وهما يمثلان الجانب الوجودي، وبين روجيه جارودي
Roger Garaudy
وبعض الممثلين الآخرين للتفكير الماركسي الفرنسي - في 7 ديسمبر عام 1961م - حول الموضوع الآتي: «هل الديالكتيك قانون للتاريخ فحسب، أو هو أيضا قانون للطبيعة؟» وقد نشرت هذه المناظرة في كتاب أصدرته دار «بلون»
للنشر في عام 1962م، بعنوان «الماركسية والوجودية: جدال حول الديالكتيك»، ولعل أجمل ما في هذا الكتاب - إلى جانب المستوى الرفيع للتفكير وطريقة معالجة الموضوعات - تلك الروح الموضوعية التي تجلت بوضوح في المناقشة، والتي جعلت كلا من الطرفين - مع تمسكه بموقفه الأساسي - يقدر نواحي القوة والضعف في آراء الآخر بنزاهة تامة.
وليس هذا البحث عرضا للجدال الذي دار بين الطرفين بقدر ما هو محاولة لتلخيص الحجج العامة التي استند إليها كل منهما في تأكيده لرأيه، دون التزام لترتيب هذه الحجج أو تسلسلها في المناقشة، وفضلا عن ذلك فإن البحث يتضمن تعليقا خاصا للكاتب ومحاولة للوصول إلى رأي في المشكلة موضوع البحث، وهو رأي تمليه علينا الاعتبارات الموضوعية وحدها. وعلى أية حال فالمشكلة أعقد وأعمق من أن يستوعب بحث كهذا جميع أطرافها، وللقارئ المفكر في نهاية الأمر أن يكون لنفسه رأيا خاصا بعد اختبار وجهات النظر الممكنة في الموضوع.
الموقف الوجودي
يبدو أن فكرة الديالكتيك قد توطدت دعائمها في مجال التاريخ الإنساني؛ فبفضل النظرة الديالكتيكية إلى التاريخ أمكن تجاوز الفهم الآلي المحدود للتاريخ، الذي تعبر عنه «نظرية أنف كليوباترا»، وإحلال فهم آخر «شامل» محله؛ ذلك لأن تطبيق مفهوم الديالكتيك على التاريخ يعني إدراك «الصفة الكلية» لمجرى التاريخ البشري، والنظر إلى كل حادث جزئي من خلال الكل الشامل الذي يجد الحادث معناه بوصفه جزءا منه، وبعبارة أخرى فالفهم الديالكتيكي للتاريخ يعني توسيع أفق النظرة إلى الحوادث الفردية بحيث تندرج تحت «كليات» أعم منها، وبحيث لا يعود لمعنى «الجزئية» أو «الخصوصية» مجال في أحداث التاريخ؛ فالمقولة الأساسية في الديالكتيك التاريخي هي مقولة «الكلية
Totalité »، ولا بد أن تتحكم هذه المقولة في كل تفكير بشري في التاريخ، ولم يكن تأكيد ماركس لأهمية «علاقات الإنتاج» في تفسير التاريخ إلا تطبيقا لفكرة «الكلية» هذه؛ فعلاقات الإنتاج هي ذلك الكل الذي ينبغي أن ترد إليه كل ظاهرة جزئية، حتى لو كانت «أنف كليوباترا»، وما كان من الممكن أن يفهم الإنسان تاريخه على أنه يكون كلا شاملا لو لم يكن الإنسان ذاته «كلا»، أعني شخصية عضوية متماسكة؛ فعلى صفة «الكلية» في كل فرد ترتكز كلية الواقع الاقتصادي أو واقع الإنتاج آخر الأمر. ولما كان التاريخ ظاهرة بشرية قبل كل شيء، أعني ظاهرة أسهم الإنسان نفسه في إحداثها وفي تطويرها، فمن الطبيعي في هذه الحالة أن تقوم بين الذهن البشري وبين الواقع التاريخي علاقة ديالكتيكية تعبر عن تغلغل الفكر في هذا الواقع وعما يقوم بينهما من علاقات متبادلة.
أما تطبيق فكرة الديالكتيك في مجال الطبيعة فأمره مختلف؛ ذلك لأن الرغبة في تحقيق وحدة المعرفة - أعني تطبيق مبادئ واحدة على كل مظاهر المعرفة - تدفع الماركسيين إلى القول بالمادية الديالكتيكية، لا المادية التاريخية فحسب؛ أعني إلى تطبيق الديالكتيك على الطبيعة، لا على التاريخ وحده، ولكن هل يحق لنا في المرحلة الراهنة من تطور العلم أن نتحدث عن ديالكتيك للطبيعة؟ وهل يعد تطبيق فكرة الديالكتيك على الطبيعة كشفا حقيقيا، أم إنه مجرد تشبيه وإقحام لمبدأ نجح في تفسير الظواهر في مجال معين، على جميع المجالات الأخرى دون تمييز؟ وهل يمكن القول إن الطبيعة ذاتها - وكل ما فيها من عمليات - لها طابع ديالكتيكي ، وأن ديالكتيك التاريخ البشري ما هو إلا تطبيق جزئي لمبدأ أعم يسري على الكون بأسره؟
إن المقولة الرئيسية في الديالكتيك - كما قلنا من قبل - هي مقولة «الكلية»، فهل تتألف الطبيعة من «كليات» حتى يمكن القول بانطباق الديالكتيك عليها؟ إن وجود هذه الكليات يكاد يكون أمرا معترفا به في المجال البيولوجي، حيث تكون الكائنات العضوية الفردية - وكذلك الحياة في تطورها - كليات واضحة، أما في المجال الفيزيائي الكيميائي، فلا يمكن تطبيق هذه الفكرة إلا على سبيل التشبيه أو التمثيل؛ إذ إن فكرة «الكل» - عندما تطلق على الحقائق الفيزيائية - تقال بمعنى مختلف عن معنى تلك الكلية المتغيرة النامية التي يكشفها لنا التاريخ؛ فنحن في مجال الطبيعة لا نشارك في أحداث الواقع ولا نكون جزءا منه - مثلما نكون بالنسبة إلى الوقائع التاريخية - وإنما ندركها ونحكم عليها من الخارج فحسب، وهناك حد فاصل أو مسافة بيننا وبينها، تحول دون اندماجنا فيها ودخولنا معها في علاقة ديالكتيكية باطنة. إننا عندما نتحدث عن التاريخ فإنما نتحدث عن مجال نعيش فيه ونصنعه، أي نتحدث عن أنفسنا في واقع الأمر، أما عندما نتحدث عن الطبيعة فنحن إنما نصف مجالا غريبا عنا لا نستطيع أن نرتبط به إلا بعلاقة خارجية فحسب.
وإذن فلا يمكن الكلام عن صفة «الكلية» في الحوادث الطبيعية إلا على سبيل التمثيل، أما الطبيعة في مجموعها فليست كلا بالمعنى المألوف؛ إذ إنها لا متناهية تفتقر إلى الوحدة الجامعة، واللامتناهي لا يمكن أن يكون بطبيعته ديالكتيكيا.
ولننتقل إلى مبدأ أو «قانون» آخر من قوانين الديالكتيك، وهو التناقض أو التعارض الداخلي، هذا القانون لو طبق على العمليات الطبيعية لكان له معنى مختلف تماما عن معنى الصراع بين القوى التاريخية؛ ففي مجال التاريخ يقوم التعارض بين كل جماعة والأخرى، ويكون وجود كل جماعة - في الوقت ذاته - مرتبطا بوجود الجماعة المتعارضة معها، وتركيبها الباطن يفترض هذا التعارض مقدما، أما في مجال الطبيعة فإن هذا التعارض بين القوى - إذا وجد - لا يكون جزءا من تركيب القوى المتعارضة، ولا يمكن في هذا الصدد الكلام عن «سلب» إلا من وجهة نظرنا نحن. وإذن فمعنى التناقض ذاته مختلف تماما في الحالتين، وهو لا يوجد في الطبيعة إلا بمعنى مجازي أو تشبيهي فحسب.
وهكذا يمكن القول إن قوانين الديالكتيك بأسرها - وهي قانون «الكلية» ونفي النفي، وتداخل الأضداد ووحدتها، والانتقال من الكم إلى الكيف - يختلف معناها اختلافا أساسيا في مجال الطبيعة عنه في مجال التاريخ، وليس لنا أن نحكم مقدما بأن الطبيعة تنطبق عليها مبادئ أو قوانين ديالكتيكية معينة، بل إن هذا متروك للعلماء أنفسهم؛ فعلى قدر كشوف العلماء نستطيع أن نتحدث عن وجود هذه القوانين في الطبيعة أو عدم وجودها، ومن الواضح أننا كلما بعدنا عن المجال البشري، كان تطبيق هذه المبادئ أكثر تعسفا، وكان من المستحيل أن ننسب إليها نفس طابع اليقين الذي نستطيع أن نعزوه للصيغ الديالكتيكية في ذلك المجال الذي شاركنا في صنعه إيجابيا، مجال التاريخ البشري. وهكذا فإن القول بوجود ديالكتيك تاريخي في مجال كالجيولوجيا أو في علم الفلك، لا يعدو أن يكون تشبيها بلاغيا فحسب، وليست محاولة فرض هذه القوانين مقدما على الطبيعة إلا نوعا من اللاهوت الذي ظهرت فكرة ديالكتيك الطبيعة أصلا لمحاربته؛ ذلك لأن تأكيد وحدة الكون، ووجود اتصال واستمرار بين مجال الطبيعة ومجال الإنسان، على نحو لا يسمح بوجود الهوة المفاجئة التي تبرر فكرة «الخلق الإلهي»، هذا التأكيد الذي كان يهدف أصلا إلى سد الطريق أمام كل تدخل لاهوتي؛ قد أدى إلى نتيجة مشابهة لتلك التي أراد تجنبها؛ إذ إننا في هذه الحالة نستعيض عن الفاعلية الإلهية بقانون كوني شامل تام الدقة، يخلق من المادة كل الصور التي يمكن أن نصادفها، وهذا - بتعبير سارتر - «لاهوت جديد؛ إذ لا يمكن أن يعرف وجود قانون كهذا سوى إله، ولا يمكن أن يكون قد خلقه سوى إله.»
الموقف الماركسي
ليس صحيحا - في رأي الماركسيين - أن فكرة ديالكتيك الطبيعة إنما هي تطبيق تال لفكرة نجحت في المجال البشري على مجالات أخرى غريبة عنه، وإنما الصحيح أن فكرة وجود ديالكتيك للطبيعة أسبق - في تاريخ الفكر البشري - من التعبير الواعي عنها في القرن التاسع عشر بكثير؛ فمن الممكن القول إن بذورها قد ظهرت لدى الفلاسفة السابقين على سقراط - ولا سيما هرقليطس - ثم تأكد ظهورها في كل تقدم أحرزه العلم منذ عصر النهضة، فاتجاه العلم في العصر الحديث يؤكد لنا مجموعة من المبادئ الرئيسية التي تشترك فيها العلوم جميعا، وهي: (أ)
أن كل سكون أو قصور ذاتي
inertie
إنما هو أمر نسبي، وأن كل شيء يتحرك ويتحول. (ب)
وأن هذه الحركة ليست مجرد إعادة ترتيب لعناصر ثابتة، وإنما هي حركة تتضمن ظهور الجديد؛ فهي ليست مجرد إضافة، وإنما تكشف عن تركيبات يكون الكل فيها مغايرا لمجموع العناصر المكونة له وزائدا عنها. (ج)
وهذا الظهور للجديد يتيح تحديد تاريخ الأشياء وعمرها، لا في حالة الكائنات الحية فحسب، بل في حالة الجوامد أيضا؛ فللطبيعة كلها تاريخ.
وتظهر هذه المبادئ بوضوح تام في النظرية الداروينية، التي عدها ماركس تحليلا ديالكتيكيا بالمعنى الصحيح لتطور الأنواع الحية؛ فعليها تنطبق بدقة مفاهيم الديالكتيك الرئيسية؛ لأنها تؤكد وجود تاريخ للحياة، يتطور على أساس ديالكتيكي واضح من خلال التناقض والصراع بين الأضداد، ويتحول فيه التغير الكمي إلى تغير كيفي، ولكن تطبيق مبدأ التطور لم يقتصر على العلوم البيولوجية وحدها، بل إن الفكرة قد غزت مجالات متعددة في العلوم المختلفة بالتدريج، وأصبح لها دورها في علوم الفلك والكيمياء والفيزياء.
ويمكن القول إن كل تقدم علمي إنما يسير في اتجاه التخلي عن الأوصاف الكونية للواقع في سبيل تأكيد تحليلاته الحركية، أعني في اتجاه المنطق الديالكتيكي بدلا من المنطق الصوري، بل إن ما يبدو لنا ساكنا متجانسا على مستوى علمي معين - كالكتل المادية الكبيرة مثلا - يتضح على مستوى علمي أعمق أنه مليء بالحركة والتعقيد والتناقض؛ ففي كل تقدم جديد للعلم تأييد لعبارة هرقليطس العميقة، القائلة إن كل شيء يتحرك ويتحول، وهي العبارة التي تكون الأساس الأول للديالكتيك، وربما كان إنكار وجود ديالكتيك للطبيعة راجعا إلى الاعتقاد بأن للعالم عناصر أو مكونات نهائية - كالجزئيات والذرات - وهو اعتقاد يكذبه العلم كلما اكتشف داخل هذه المكونات مزيدا من التعقيدات والتناقضات.
وإذن فتقدم العلوم الطبيعية يدفعنا إلى التخلي عن المنطق التقليدي - في مستوى معين - والالتجاء إلى نوع آخر من التفسير لا يخضع لذلك المنطق ولا لمبادئ الآلية المرتبطة به، وما دمنا ننجح في تطبيق قوانين الديالكتيك على الطبيعة، فكيف كان يتسنى ذلك لو لم تكن الطبيعة نفسها ذات طابع ديالكتيكي؟ إن التفكير الديالكتيكي لا يمكنه السيطرة على موجود ما لم يكن ذلك الموجود ذاته ديالكتيكيا بطبيعته، وإذا كنا نعترف بأن مجال التاريخ البشري يخضع للديالكتيك، وكذلك مجال علم الحياة؛ فمن غير المعقول أن نتوقف في منتصف الطريق لنقول إن الديالكتيك لا ينطبق على تركيب الذرة، أو أن النواة الذرية لا تؤلف كلا ينطوي في ذاته على سلب وتناقض؛ لذلك فإن ديالكتيك الطبيعة ليس مجرد إسقاط لفكرة بشرية على المجال الطبيعي، وإنما هو الصورة الأعم والأبسط لذلك المبدأ الذي يكون الديالكتيك التاريخي تطبيقا جزئيا له على مجال شديد التعقيد، هو مجال العلاقات الإنسانية.
ولكن الاعتراف بقوانين ديالكتيكية خارج مجال التاريخ البشري لا يعني فرض مصير محتوم على الإنسان، أو جعل التاريخ مجرد ملحق أو تذييل لمسار طبيعي أوسع منه وأشمل؛ ذلك لأن الماركسية - مع حرصها على تحقيق وحدة المعرفة - تؤكد في الوقت ذاته أن لكل مجال طابعا خاصا مميزا، بحيث يكون من المستحيل رد مستويات المعرفة بعضها إلى البعض؛ فلكل من مجال الإنسان ومجال الطبيعة خصائصه المميزة التي لا تسمح برد الواحد منهما إلى الآخر، على الرغم من سيادة الديالكتيك في كلا المجالين في آن واحد.
والعلاقة الحقيقية بين مجالي الطبيعة والإنسان هي علاقة اتصال وانفصال في نفس الوقت؛ فلو لم تكن هذه العلاقة إلا اتصالا فحسب، لكنا إزاء مادية آلية تفسر كل ما يحدث في مجال الإنسان بحوادث طبيعية خالصة، ولو لم يكن يوجد إلا انفصال، لكنا إزاء مذهب روحاني يؤكد استقلال ماهية الإنسان عن كل ما له صلة بالمادة أو الطبيعة. أما الماركسية فتؤكد وجود الاتصال والانفصال بين المجالين في آن واحد؛ إذ إن الإنسان يكون جزءا من الطبيعة، ومع ذلك فإن للتاريخ البشري قوانينه الخاصة التي لا تسمح برد الإنسان إلى مجموع الظروف المحيطة بحياته فحسب.
ولا شك في أن النقد الوجودي يدفع كثيرا من الماركسيين إلى تعديل مواقفهم الأصلية إلى حد ما، بحيث يسلمون - بناء على ما قاله سارتر - بأن الطبيعة لا تكون كلا واحدا، وإنما تتضمن «كليات» متعددة فحسب، ومثل هذا يصدق على التاريخ بدوره؛ لأن التاريخ ليس كلا واحدا متصلا، بل إن فيه «كليات» كثيرة، يكون كل مجتمع واحدا منها، وقد يكون الواحد منها منفصلا عن الباقين، كذلك يسلمون بأن فكرة وجود مجموعة تامة مقفلة محددة من قوانين الديالكتيك هي فكرة باطلة تؤدي إلى خلق نوع جديد من اللاهوت، وكل ما يؤكدونه هو أن المنطق الأرسطي ومبادئ الميكانيكا ليست إلا حالات خاصة داخل تفكير ديالكتيكي أعم وأوسع نطاقا، يترك فيه المجال مفتوحا لتقدم العلم ولما تكشفه العلوم المختلفة من أوجه جديدة للطبيعة؛ فالقوانين الديالكتيكية إذن تخضع للتغيير المستمر، والمصدر الوحيد الذي يستمد منه كل جديد في هذا المجال هو العمل الاجتماعي والتجربة العلمية.
هل يوجد ديالكتيك للطبيعة؟
اتضح لنا من المناقشة السابقة أن من الممكن أن تتفق آراء بعض الوجوديين - مثل سارتر وإيبوليت - مع الماركسيين حول موضوع الديالكتيك البشري أو التاريخي، أما في موضوع ديالكتيك الطبيعة - وهو الذي يسمى عادة بالمادة الديالكتيكية - فهناك اختلاف أساسي بين الموقفين.
وفي اعتقادي أن أية مناقشة جدية لموضوع ديالكتيك الطبيعة ينبغي أن تبدأ بالسؤال الآتي: أيهما أسبق، الواقع أم الفكر؟ من الواضح أن الإجابة الماركسية عن هذا السؤال تؤكد أسبقية الواقع على التفكير، وهذا بدوره رأي قد لا يختلف عليه الوجوديون من أمثال سارتر، ولكني أعتقد أن الالتزام الدقيق لمبدأ أسبقية الواقع على الفكر كفيل بالتشكيك في فكرة ديالكتيك الطبيعة، أو على الأقل يجعلها فكرة عقيمة أو إطارا فارغا غير مثمر، وسوف أحاول في هذا الجزء النقدي من المقال أن أثبت هذا الرأي.
إن القول بأن الديالكتيك قانون للطبيعة، يعني أن فهمنا للطبيعة يصبح متوقفا على قانون فلسفي، أي إن العلاقة بين الفكر والواقع قد انعكست، بحيث أصبح المبدأ الفكري أساسا وشرطا لفهم الواقع، وهذا يستتبع تغييرا مناظرا في فهمنا للعلاقة بين العلم والفلسفة؛ إذ إن المعرفة العلمية تصبح عندئذ متوقفة على المعرفة الفلسفية ومعتمدة عليها، بحيث لا يتمكن العلم الطبيعي من السير في طريقه إلا بعد استيعابه لمبدأ رئيسي في الفلسفة، ومعنى ذلك أن الفلسفة لا تعود لاحقة أو تالية للعلم، وإنما تصبح متغلغلة في صميم العلم، تكون شرطا سابقا للعمل العلمي ذاته، وهكذا يبدو أن هناك تعارضا أساسيا بين مبدأ أسبقية الواقع على العقل، وبين مبدأ «ديالكتيك الطبيعة»، الذي يفترض مقدما وجود صيغة فلسفية تعد شرطا ضروريا لكل كشف علمي لأوجه الواقع، وكلا المبدأين السابقين ماركسي كما هو معلوم، فهلا يحتم الاتساق الفكري إذن التضحية بأحدهما في سبيل الآخر؟
إن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر يعني - في رأيي - شيئا أساسيا واحدا، هو أن يقوم العالم ببحثه العلمي بذهن متفتح لا تتحكم فيه أية فكرة سابقة، ولا يستهدف إثبات أي مبدأ بعينه مقدما، بل يدع الواقع نفسه - كما يتكشف له تدريجيا خلال عمله العلمي - يحدد الصيغة الفكرية التي تنطبق عليه، وقد تكون هذه الصيغة ديالكتيكية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تعمم، أو ينظر إليها على أنها هي الصيغة التي سيؤدي إليها كل كشف علمي مقبل، أو هي التي تصلح منهجا يساعد العلم على كشف أسرار الكون بنجاح، إلا إذا كنا على استعداد للتنازل عن مبدأ أسبقية الواقع على الفكر.
فمن الواجب - في رأينا - أن يترك العالم احتمالات المستقبل مفتوحة على الدوام، حتى لو كان البحث العلمي قد أيد صيغة معينة طوال المراحل السابقة لتطوره، وعلى العالم دائما أن يسأل نفسه: لنفرض أن موقفا معينا قد ظهر في المستقبل يتعارض مع الصيغة السائدة حتى اليوم، فهل أعيد تفسير الوقائع من أجل دعم هذه الصيغة، أم أتنازل عن الصيغة احتراما للواقع؟ فإن كان هذا العالم ممن يؤمنون بأن الواقع هو الأصل والأساس، فلا جدال في أنه سيكون على استعداد لطرح أية صيغة جانبا إذا اقتضى الواقع ذلك، ولنتأمل مثالا أقل تجريدا كحالة عالم اتضح له أثناء بحثه لتطور الصخور مثلا أن الظاهرة التي يبحثها لم تخضع لقانون أساسي في الديالكتيك هو قانون التناقض، أي إن تكوين الصخر مثلا لم يعقبه تحلل وتفكك له، فهل يعيد تفسير الظاهرة لكي تتمشى مع القانون الديكالكتيكي أم يمضي في أبحاثه غير ملق بالا إلى مبادئ الديالكتيك؟ من الجلي أن الروح العلمية الصحيحة تقضي عليه بأن يترك مجال البحث مفتوحا لتلقائية الطبيعة، ولما يمكن أن تأتي به من عناصر جديدة غير متوقعة، بدلا من أن يحدد طريقه مقدما بصيغة معينة، ومن المؤكد أن كل عالم أصيل يؤمن بفكرة التفتح الذهني هذه ويطبقها عمليا في أبحاثه، والدليل على ذلك عدم وجود اختلافات أساسية بين المبادئ التي يسير عليها العلماء، على الرغم من اختلاف المعسكرات السياسية التي ينتمون إليها.
على أن مثل هذه الخلافات كانت تحدث في وقت من الأوقات، وكان حدوثها عندئذ مظهرا من مظاهر عدوان العقل الجامد على الواقع الحي؛ فقد كان عالم الأحياء السوفييتي «ليسنكو» في أيام ستالين يشترط في أبحاث العلماء مقدما أن تكون مؤيدة للمادية الديالكتيكية، ويندد بكل بحث يبدو مخالفا لها، وفي مقابل ذلك كان «مورجان» في العالم الغربي يسعى مقدما إلى إثبات وجود مقاصد لاهوتية تتحكم في تطور الحياة، ويهدف إلى إثبات إمكان تدخل قوى فوق الطبيعة في مجرى الحوادث الطبيعية، والموقفان معا على خطأ؛ لأن الروح العلمية تحتم استقلال العلم عن كل فلسفة تفرض عليه مقدما.
وإذن فالديالكتيك - بوصفه منهجا يستعين به الباحث العلمي - هو في واقع الأمر عائق فكري يقف في وجه تلقائية الواقع، وحتى لو كانت قوانينه صحيحة، فإنها تبلغ من العمومية حدا لا تعود معه مفيدة في شيء، إن قوانين الديالكتيك تمثل منطقا جديدا أوسع وأرحب وأكثر مرونة من منطق أرسطو، ولكن هل تمت كشوف العلم الكلاسيكي بفضل منطق أرسطو، أو هل كان لهذا المنطق أي فضل في أي كشف تم في العهد الذي كان سائدا فيه؟ إذا أجبنا على هذا السؤال بالنفي، فمن الواجب أيضا أن ننفي قيمة أية صيغة ديالكتيكية في توجيه دفة العلم الطبيعي في أي مجال؛ فالمنطق بكل صوره عاجز عن أن يدفع العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وليست الصيغة المرنة الموسعة للمنطق بأسعد حظا - في هذا المجال - من أية صيغة جامدة سابقة، وسواء أكان المنطق قائما على مبدأي الهوية وعدم التناقض، أم على مبدأي الكلية والجمع بين الأضداد فإن قوانينه تظل على الدوام إطارات أو قوالب تبلغ من الاتساع والعمومية حدا يحول دون الإفادة منها في أي موقف عيني محدود، وكل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها تتيح وضع الكشف العلمي في إطار معين أو في صيغة منظمة «بعد» أن يكون هذا الكشف قد تم فعلا، والدليل الواضح على ما نقول هو نظرية داروين؛ فقد اتخذ ماركس من هذه النظرية مثالا لكشف ديالكتيكي من الطراز الأول، ولكن أهم ما في الأمر هو أنها تمت دون الاستعانة بأي نوع من الديالكتيك أو من المنطق، وحتى لو كان ذهن دارون ينطوي على فكرة فلسفية عن قوانين الديالكتيك، فمن المشكوك فيه إلى أبعد حد أن تكون هذه الفكرة قادرة على أن تجعله يخطو في بحثه خطوة واحدة تزيد عما كان يستطيع الوصول إليه بذهنه التلقائي المتفتح لملاحظة الواقع ، ومثل هذا يقال عن كل كشف علمي هام، وإن كان بعض العلماء ميالين إلى ربط كشوفهم بصيغ فلسفية أوسع، «بعد» أن يكونوا قد أتموا هذه الكشوف بنفس الطريقة المستقلة عن كل مبدأ منطقي أو ديالكتيكي مجرد.
إن كل محاولة للمبالغة في أهمية الصيغ المنطقية المجردة إنما تنطوي على إقلال من أهمية الواقع الحي في نفس الوقت وبنفس المقدار، ولو تصورنا الديالكتيك على أنه يسري على الطبيعة في جميع أوجهها، ويصلح منهجا يعيننا على كشف جوانبها المجهولة؛ لكان معنى ذلك أننا نجعل من الديالكتيك كيانا يسير بقوة تلقائية، ويتبع قانونه الخاص، ويتحكم في مجرى الأشياء دون أن يتحكم فيه هو ذاته شيء، وبين هذا التصور وبين اللاهوت خيط رفيع، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يجد سارتر في أقوال بعض المؤمنين بديالكتيك الطبيعة ما يذكره بنفس المبادئ اللاهوتية التي حاولوا القضاء عليها عن طريق الديالكتيك، كذلك فإن في هذه القوة التلقائية للديالكتيك ما يذكرنا بهيجل، أعني بذلك الفكر الذي وصف بأنه يفرض مقولاته على الواقع بصورة قاهرة، ويجعل من تصورات العقل قوالب يرغم الطبيعة على التشكل بصورها.
على أن الواقع المتطور المتجدد أرحب وأغنى من أية صيغة نحاول أن نضفي عليها طابع الشمول، وإذا كان هذا الحكم يصدق على مجال العلم فإنه يصدق أيضا على مجال المجتمع، أعني أن واقع المجتمع يتجاوز كل المحاولات التي تهدف إلى فرض نظرية موحدة عليه، ولنتأمل في هذا الصدد تلك الملاحظة العميقة التي وصف بها «إيبوليت» زيارة قام بها للاتحاد السوفييتي في الآونة الأخيرة: «لقد أعجبت بعمق وحيوية شعب يستحق أن يدرس في تراثه وإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أملي خاب إلى حد ما في الفلسفة التي تزعم أنها تعبر عن هذه التجربة، صحيح أن هذه الفلسفة آخذة في التفتح، وأنني أفدت من الاتصال بالفلاسفة هناك، ومع ذلك فقد راعني التعارض بين الإطار الديالكتيكي الجامد وبين التجربة الحية ذاتها؛ فقد كانت هناك هوة سحيقة بين التاريخ الفعلي وبين النظرة الديالكتيكية الموحدة.»
وكل الدلائل تشير إلى وجود اتجاه متزايد القوة - في ذلك البلد الذي اتخذ من الديالكتيك من قبل فلسفة رسمية - إلى عبور هذه الهوة بين واقعه الحي الزاخر وبين القالب الفكري الذي يعبر به عن ذلك الواقع، وإذا كانت هذه النظرة التوحيدية الجامدة - التي لا تقبل عن الصيغة الديالكتيكية الشاملة بديلا في جميع المجالات - قد ظهرت في مرحلة كان للاعتبارات العملية فيها دور أساسي في تأكيد ضرورة التشبث بمبدأ موحد، فإن تغير الظروف العملية في المرحلة الراهنة، وما ينتظر حدوثه في المستقبل من تطورات أعظم أهمية، كفيل بأن يزيل المخاوف التي تشجع على الجمود؛ فقد يقبل الإنسان مؤقتا أن يحصر ذهنه في إطار ضيق من أجل هدف عملي يعتقد أن له الأهمية الأولى، ولكن تحقق هذا الهدف لا بد أن يؤدي آخر الأمر إلى تحرير الذهن من هذا الإطار، وخصوبة التجربة ذاتها كفيلة بأن تطغى على النظرية وتفيض على جوانب الصيغة الجامعة.
من الذي صنع الأخلاق؟1
المشكلة
صنعها الضعفاء ليحدوا بها من سيطرة الأقوياء. (نيتشه)
صنعها الأقوياء ليسيطروا بها على الضعفاء. (ماركس)
كيف يمكن أن يبلغ التضاد هذا الحد بين مفكرين عاشا في عصر واحد، وتحدثا عن ظاهرة واحدة، واتخذ كل منهما إزاء هذه الظاهرة موقف التحليل والتشريح والنقد؟ هل يعقل أن تكون الأخلاق من صنع الضعفاء ومن صنع الأقوياء في آن واحد، وأن تكون أداة للسيطرة وللحد من السيطرة في نفس الوقت؟ أليست هناك هوة عميقة لا تعبر بين موقف كل من نيتشه وماركس من الأخلاق؟
أود أولا أن أصرح للقارئ بأن القضيتين اللتين بدأت بهما هذا المقال ليستا نصين حرفيين مقتبسين من نيتشه وماركس، ولكنهما تعبران عن الروح التي تسود تفكيرهما في موضوع الأخلاق، وتلخصان بإيجاز شديد موقفهما من هذا الموضوع، وأود ثانيا أن أدعو القارئ إلى أن يمعن النظر في هاتين القضيتين، ويرى إن كان من الممكن إيجاد جسر موصل بين كل من الطرفين؛ ذلك لأن الأفكار في الموضوع الواحد قد تتعارض فيما بينها، ولكن لا بد أن تكون هناك جسور توصل بينها، ما دام هناك نوع من المنطق يحكم التفكير في كلتا الحالتين، ومن يدري، فلعلنا نهتدي - من وراء هذا التناقض الحاد - إلى أوجه شبه أو نقاط التقاء بين الموقفين، على أننا لن نستطيع أن ننكر لو اهتدينا إلى نقاط الالتقاء هذه أن ثمة اختلافا أساسيا بين الموقفين، وعلينا أن نوضح طبيعة هذا الاختلاف ونبرز معالمه، ومع ذلك فمن واجبنا ألا نتوقف عند هذا الحد، فأمامنا آخر الأمر مهمة أشق وأصعب، هي أن نعلل هذا الاختلاف، ونبحث عن تلك الأرض المشتركة التي يقف كل من الرأيين السابقين في طرف منها، ونحاول الإتيان بتفسير للظاهرة الفريدة التي كانت نقطة البدء في هذا المقال؛ ظاهرة التعارض الأساسي بين مفكرين ناقدين لعصر واحد، حول موضوع أصل الأخلاق وغايتها، وهكذا يسير هذا المقال بعد عرض المشكلة التي حفزت إلى كتابته في مرحلتين: الأولى محاولة الاهتداء إلى نقاط الالتقاء بين نيتشه وماركس، والثانية تحديد مظاهر اختلافهما، ومحاولة تعليل التعارض الحاد بينهما.
نقاط الالتقاء
أول ما يتكشف لنا من تحليل قضيتي نيتشه وماركس السابقتين، أنهما متفقان على أن الأخلاق «مصنوعة»، وهذا وحده اتفاق لا يستهان به، وعن طريقه يتحدد موقفهما إزاء تراث أخلاقي كامل، كان يتخذ من هذه المسألة موقفا مخالفا؛ فقد ظل الناس دهورا طويلة يعتقدون أن الأخلاق ليست «مصنوعة» بل «مطبوعة»، ويؤكدون أن الأخلاق ليست من صنع البشر، بل هي «موحى بها»، وكان الموقف الذي اتخذه نيتشه وماركس ثورة حاسمة على هذين الاعتقادين.
إن الإنسان ميال بطبيعته إلى صبغ القيم التي يؤمن بها بصبغة أزلية، وتأكيد انبثاقها عن «طبيعة» ثابتة، وقد عملت طرق التفكير العقلية النظرية - منذ عهد سقراط - على دعم هذا الاتجاه، حتى أصبح من العلامات المميزة للتفكير الفلسفي في الأخلاق أن يضع تقابلا ما بين قواعد السلوك المؤقتة التي تصدر عن هوى عارض أو مصلحة ذاتية، وبين مجموعة من المبادئ التي تتصف بالأزلية والثبات؛ لأنها تنتمي إلى «ماهية» الإنسان، وتنبثق من «طبيعته»، وتتفق مع ما يقضي به «عقله الخالص»، وكان لا بد من ثورة عقلية شاملة لكي ينتزع الإنسان من عقله وهم الطبيعة الثابتة التي لا تتغير في كل الأزمان، والقيم الأزلية التي تعيش بها البشرية في كل مكان، ومن المؤكد أن نيتشه وماركس كانا من أقوى دعائم هذه الثورة، كل من جانبه الخاص.
وإذا كان العقل النظري قد عمل على دعم الرأي القائل بوجود مجموعة من المبادئ الأخلاقية الثابتة التي تمتد جذورها إلى طبيعة «الإنسان» بمعناها العام المجرد، فإن الإيمان قد أدى من جانبه إلى ظهور رأي له مصدر مختلف، ولكنه يسفر عن نتيجة مماثلة إلى حد بعيد، هي أن مبادئ الأخلاق آتية من وحي إلهي، أي من مصدر يعلو على البشر، ومن ثم فإن أوامرها لا تناقش، وليست مما يجوز للإنسان - بعقله المحدود - أن يجادل فيه، وحتى لو بدا تعارض ظاهري بين الأمر الأخلاقي الإلهي وبين مصالح الإنسان، فعلى الإنسان أن يظل ممتثلا لهذا الأمر الذي صدر عن حكمة إلهية تفوق إدراكه. وأقول إن هذا الرأي يؤدي إلى نتيجة مماثلة للرأي السابق؛ لأنه بدوره يجعل الأخلاق الأزلية لا تتبدل، ويرتفع بقيمها فوق مستوى التحول والتطور والتباين والتعدد، وكان لا بد من جرأة ثورية هائلة لكي ينكر نيتشه وماركس الأصل الإلهي للقيم الأخلاقية، ويؤكدان أنها ظاهرة «إنسانية، وإنسانية أكثر مما ينبغي»، تنتمي إلى عالم التغير والصيرورة، لا إلى مجال إلهي يعلو على الطبيعة.
ويؤدي تأكيد الطابع الإنساني للأخلاق إلى نتيجة مباشرة، هي أنه ليس ثمة «أخلاق» واحدة، بل هناك كثرة من النظم الأخلاقية، أما الأخلاق التي كانت تعد أزلية لأنها مرتبطة بطبيعة إنسانية ثابتة، أو بوحي يعلو على تقلبات أحوال البشر، فليست في حقيقتها إلا أخلاق المجتمع أو الحضارة التي يعيش فيها المرء، والتي يميل دائما إلى تعميمها بحيث يتصورها صالحة لكل زمان ومكان، والواقع أن كلا من نيتشه وماركس قد جعل للأخلاق نوعا من الإيقاع الثنائي تتطور بمقتضاه؛ فنيتشه لم يقل إن أخلاق الضعفاء هي وحدها السائدة، وإنما أكد وجود نوع من التناوب الدوري بين «أخلاق السادة» و«أخلاق العبيد»، بحيث تسود هذه تارة وتلك تارة أخرى، بل لقد حدد نوعا من التاريخ الدوري للأخلاق، ذهب فيه إلى أن العصر الكلاسيكي القديم كانت تسوده أخلاق السادة، والعصور الوسطى اليهودية والمسيحية تسودها أخلاق العبيد، ويستمر التناوب بينهما إلى أن نصل إلى أخلاق السادة في عصر نابليون، ثم إلى أخلاق العبيد في عصر «الديمقراطية» المعاصر لنيتشه، ولكنه مع ذلك أكد أن الطابع الغالب على الأخلاق الأوروبية - منذ العصر المسيحي - كان طابع أخلاق العبيد، وأن أخلاق السادة كانت تظهر في فترات قصيرة وسرعان ما يطغى عليها التيار الرئيسي، تيار الضعفاء الذين يفرضون قيمهم الخائرة على الأقوياء ليحدوا من سطوتهم ويأمنوا جانبهم ويقضوا على امتيازهم. ونستطيع أن نلمح إيقاعا ثنائيا مماثلا في الحركة الديالكتيكية التي تضمنتها فلسفة التاريخ (وفلسفة القيم) عند ماركس، وكل ما في الأمر أن التقابل في هذه الحالة بين طبقة مستغلة وطبقة مضطهدة، منذ عصر الرق اليوناني إلى عصر الإقطاع، ثم الرأسمالية المعاصرة، وبعبارة أخرى فلما كانت علاقات الإنتاج هي الأساس الأول لكل ما يسود المجتمع من القيم، وكانت هذه العلاقات بطبيعتها متغيرة وصاعدة من مرحلة إلى أخرى، فمن الطبيعي أن يسري هذا التغير والتطور على النظم الأخلاقية بدورها.
ومن الواجب أن نلاحظ أن الاهتداء إلى هذا الإيقاع الثنائي كان في حالتي نيتشه وماركس معا نتيجة بحث تجريبي لا تأمل نظري؛ فنيتشه يستهل عرضه لفكرة ثنائية أخلاق السادة وأخلاق العبيد، في كتابه «بمعزل عن الخير والشر» بفقرة مشهورة يقول فيها: «خلال جولاتي بين العديد من النظم الأخلاقية - العميقة منها والسطحية - التي سادت الأرض من قبل، أو ما تزال سائدة فيها، لاحظت سمات معينة تتردد سويا بانتظام ويرتبط بعضها ببعض، حتى توصلت آخر الأمر إلى نوعين رئيسيين يفرق بينهما اختلاف أساسي؛ فهناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد.» وتدل هذه الفقرة على أن نيتشه قد اتبع نوعا من المنهج الاستقرائي في كشفه لهذا الإيقاع الثنائي لتطور الأخلاق؛ إذ إنه استعرض العديد من النظم في كل بقاع الأرض، وانتهى من استعراضه هذا إلى السمات العامة للنوعين الرئيسيين، ولسنا بحاجة إلى القول بأن ماركس قد اتبع منهجا مماثلا لهذا؛ إذ إن صفة «المادية» التي كان حريصا على أن ينسبها إلى نظرياته إنما تدل على انبثاق هذه النظريات من عالم التجربة الفعلية، لا من عالم التأمل المجرد، ولم يكن التطور الأخلاقي الذي أشرنا إليه من قبل عنده سوى تعبير عن تطور القيم المصاحب لتحولات فعلية في علاقات الإنتاج. والحق أن نيتشه وماركس كانا معا ابنين بارين للقرن التاسع عشر، الذي أسماه البعض عن حق «قرن التاريخ»؛ لأنه هو القرن الذي اتضحت فيه فكرة التاريخ للأذهان بأجلى صورة ممكنة، وأصبحت فيه الظواهر ترد على الدوام إلى أصولها التاريخية، ونزعت هالة القداسة عن كل ما كان يعد ثابتا لا يتغير، ابتداء من الأنواع الحية حتى القيم المجردة.
فهناك إذن تحول أساسي في طريقة النظر إلى موضوع الأخلاق، هو الذي أفضى إلى النسبية التاريخية التي اشترك فيها نيتشه وماركس معا. هذا التحول يتمثل في التخلي التام عن التفكير في «نظرية» الأخلاق، وتركيز الاهتمام على «واقع» الأخلاق؛ فلم يكن نيتشه من أولئك الفلاسفة الباحثين عن «أساس» عقلي للخير الأخلاقي؛ لأن نسبية الأخلاق تحول دون أي بحث كهذا، ونستطيع أن نطبق على موقف نيتشه من الأخلاق كلمة قالها في مجال آخر، هو مجال تفنيد فكرة الألوهية، وأعني بها عبارته المشهورة: «من قبل كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمة إله، أما اليوم فإن المرء يبين كيف أمكن أن «ينشأ» الاعتقاد بوجود إله.» هذه الكلمة لا تنطبق على فكرة الألوهية وحدها، بل تنطبق على كل ما له في نفوس الناس منزلة الألوهية والقداسة كالقيم الأخلاقية؛ فمن قبل كان الناس يبحثون عن تفنيد (أو تأييد) عقلي للقيم الأخلاقية، أما الآن فيكفي أن نبين أن لهذه القيم أصلا تاريخيا، فيكون في ذلك أقوى تفنيد للاعتقاد بوحدتها وثباتها، دون حاجة إلى إضاعة الجهد في بحث عقلي تجريدي عقيم. وبالمثل كان تفكير ماركس الأخلاقي عمليا في أساسه، ولم يكن للنظريات فيه من دور سوى أن تساعد آخر الأمر على تحقيق النشاط العملي، وتصب في نهر الواقع، وبمثل هذه الروح كان من المستحيل أن تكون للنظرية الأخلاقية أهمية حاسمة في تفكيره، ومجمل القول أننا نجد ها هنا نقطة التقاء أخرى تجمع بين هذين المفكرين اللذين يبدو رأيهما في الأخلاق - لأول وهلة - متنافرا إلى حد التناقض؛ فكل منهما يتجاهل الأخلاق المنتزعة من إطارها الواقعي الأوسع، والتي تبحث في مبادئ مجردة، وتنفصل عن الإنسان في واقعه العيني، وكل منهما لا يعرف من الأخلاق إلا وجهها العملي، أو الذي يمكن أن يندمج آخر الأمر في المجال العملي.
بل إننا نستطيع أن نمضي في التحليل أبعد من ذلك، فنقول إن الأخلاق عند كل من هذين المفكرين ليست ظاهرة أصيلة مكتفية بذاتها، وإنما هي «بناء علوي
Superstructure » يرتكز على أساس آخر أعمق منه، وهذه الصفة واضحة كل الوضوح في تفكير ماركس؛ إذ إن العوامل التي ترتد إلى أصل اقتصادي - وأهمها علاقات الإنتاج - هي التي تتحكم في كل ما يعلوها من التركيبات الذهنية والمعنوية وضمنها الأخلاق، وقد لا تبدو هذه الصفة في الأخلاق واضحة لأول وهلة عند نيتشه، ولكنها تتمثل لديه بالفعل، وإن كان الأساس الذي يرتكز عليه البناء العلوي عنده أساسا حيويا ونفسيا، وليس أساسا اقتصاديا؛ فكل أخلاق في نظر نيتشه مظهر من مظاهر «إرادة القوة» التي هي الدافع الأصلي والمحرك الأول لكل فعل إنساني، إننا نبحث عن الخير، وندعو إلى الفضيلة والعدالة والشفقة، لا لأننا كائنات أخلاقية، بل لأننا نجد في هذه المعاني ما يساعد على اكتسابنا مزيدا من القوة، وحتى عندما تتجه دعوتنا إلى المسالمة والتنازل عن القوة، يكون هذا مظهرا تستتر وراءه «إرادة القوة» بخفاء ودهاء؛ فالأخلاق إذن ليست مقصودة لذاتها، والقوة المحركة لها ليست مستمدة من مجالها الخاص، بل هي القوة التي تحرك كل نشاط إنساني، أعني «إرادة القوة» التي يرتكز عليها كل بناء علوي في مجال القيم.
وقد يعتقد المرء أن دور الأخلاق يغدو ثانويا حين تصبح «بناء علويا» على هذا النحو، ولكن الواقع أن للقيم الأخلاقية دورا أساسيا عند كل مفكر ثائر على عصره، وهذا يصدق على نيتشه وماركس بنفس المقدار؛ فبقدر ما كان نيتشه قاسيا في نقد الروح الأخلاقية لعصره - بل في نقد الروح الأخلاقية بوجه عام - كان الدافع الذي أدى به إلى هذا النقد أخلاقيا في صميمه، إنه يحمل على قيم العصر ويشمئز منها ويصفها بالانحلال، ويدين كل مجتمع سابق، بل يعتقد بأن فكرة «الأخلاقية» ذاتها ينبغي أن تدان؛ لأن كل أخلاقية إنما هي تكبيل لقوى الإنسان الخلاقة، ومحاولة لحصر روحه المتوثبة في إطار من النظم التي تسري على المجموع، ولا تترك للفرد منطلقا، ولكن من وراء هذا النقد المرير للأخلاق - سواء أكانت أخلاق العصر أم الأخلاقية بوجه عام - دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ ففي كلتا الحالتين يستهدف المفكر نوعا أفضل من الإنسان يؤمن بأنه سيظهر في المستقبل، وما دام الهدف إنسانا «أفضل»، فإن الأخلاقية تكون هي القوة الدافعة إلى هذا النقد، وإلى هذا الإيمان بالمستقبل.
فهل نستطيع أن نقول مثل هذا عن ماركس؟ أيمكن أن يوصف تفكيره بأنه أخلاقي في أساسه؟ إن أول إجابة تتبادر إلى الذهن هي أن فلسفة ماركس تتعلق أساسا بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنها بهذا الوصف واهية الصلة بالأخلاق، وبالفعل فإن الكتاب الذين بحثوا عن آراء أخلاقية في كتابات ماركس، لم يستطيعوا أن يستخلصوا إلا عبارات بسيطة متناثرة، لا تكفي على الإطلاق لإعطاء القارئ أية فكرة عن اتجاه محدد المعالم في الأخلاق، ومع ذلك فإذا لم تكن الأخلاق عنده واضحة في صورتها الصريحة المباشرة، فإنها ماثلة في كل كتاباته بصورة هي حقا ضمنية، ولكنها تمثل قوة دافعة رئيسية له، فإدانته للرأسمالية تحمل طابعا أخلاقيا لا تخطئه العين، والعبارات التي استخدمها في حملته عليها تظهر فيها الروح الأخلاقية واضحة؛ إذ هو ينعى عليها ما فيها من ظلم واستغلال واضطهاد وقضاء على إنسانية الإنسان. وبهذا المعنى يمكن القول إن هدفه النهائي من دعوته الاشتراكية إنما هو إعادة الأمور إلى نصابها أخلاقيا ومعنويا قبل كل شيء، وهنا تتمثل لنا مفارقة غريبة؛ إذ إن هذه الأخلاق - التي هي في عصرنا الحاضر وفي العصور السابقة - مجرد بناء علوي يرتكز على أساس أصلي من العلاقات الاقتصادية، ستصبح هي ذاتها الغاية القصوى من الثورة الاجتماعية التي كان يحلم بها ماركس؛ فبعد أن تتحقق هذه الثورة، وتختفي كل صور استغلال الإنسان للإنسان، سيكون الهدف النهائي للإنتاج الاقتصادي وللمخترعات العلمية والتكنولوجية هو تحقيق أفضل تنظيم ممكن للعمل الإنساني، ولوقت الفراغ الإنساني أيضا، على النحو الذي يضمن تنمية المواهب الخلاقة للإنسان إلى أقصى حد ... أي إن القيم الأخلاقية والمعنوية التي كانت «بناء علويا» في مرحلة الصراع والكفاح ستصبح «غاية قصوى» في مرحلة الانتصار.
وما دمنا قد تحدثنا عن آمال هذين المفكرين في المستقبل، فإن هذا الحديث يقودنا إلى سمة أخرى مشتركة بينهما، هي أن هذا المستقبل الذي يعلقان عليه آمالهما ليس «عالما آخر» مغايرا لهذا العالم الذي نعيش فيه، بل إن على الإنسان أن يحقق في عالمه هذا كل ما يسعى إلى تحقيقه؛ فليس ثمة ازدواج بين عالمين، وليست هناك حملة على هذه الحياة ودعوة إلى التعلق بحياة أخرى تعوض الإنسان عما فاته في هذه الدنيا، بل إن من أقوى أسباب نقد نيتشه وماركس معا للأخلاق الشائعة، أنها تنطوي على بذور «أخروية»، ولا تدفع الإنسان إلى التعلق بحياته هذه والوقوف منها موقفا إيجابيا.
ولا جدال في أن انتشار هذه الأخلاق «الأخروية» - التي تصرف جهود الإنسان عن نفسه وعن العالم الذي يعيش فيه - يرجع إلى تأثير المسيحية التي اشترك نيتشه وماركس معا في مهاجمتها بكل ما أوتيا من قوة وإن اختلفت الأسباب؛ فالأول يهاجم القيم المستمدة من المسيحية؛ لأنها تكبت كل الدوافع الحية في نفس الفرد، وتدعو إلى إنكار الحياة بل إماتتها، والثاني يهاجمها لأنها تتستر على الظلم الاجتماعي، بل تنادي - بصورة غير مباشرة - بأن الوضع القائم في العلاقات بين البشر - بما فيه من تفاوت طبقي ومظالم اجتماعية - هو قانون إلهي أو مشيئة عليا لا يستطيع أحد أن يعترض عليها.
بل إننا لو تجاوزنا نطاق هذا التشابه الواضح في حملة هذين المفكرين على المسيحية؛ لأمكننا أن نهتدي إلى تشابه أعمق منه بين موقف نيتشه من المسيحية من جهة، وموقف ماركس من الرأسمالية من جهة أخرى؛ فليس خافيا أن نيتشه جعل من المسيحية خصمه الأول، وكرس للصراع معها الجانب الأكبر من كتاباته، وفي مقابل ذلك لم تكن المسيحية هي الخصم الرئيسي لماركس، بل إن الاستغلال الطبقي - الذي يعني الرأسمالية في عصرنا الحاضر - هو العدو الذي اتجهت كتابات ماركس كلها إلى محاربته، ولكن أليس في وسعنا أن نلمح توازيا بين هاتين الحملتين؟ إن نيتشه يهاجم المسيحية بقسوة وعنف، لا من أجل عداء باطن يحمله لها، بل لأنها تقتلع الإنسان من جذوره، وتجعله يخلق أصناما ثم يعبدها، إن الإنسان في رأي نيتشه يستخلص أرفع ما فيه من قوى ومن معان روحية ومن آمال وغايات ويضفي عليه طابعا مشخصا ويضعه خارجا عنه، وأعلى منه، بعيدا في السماء، ثم يخر له ساجدا. ولكن أليس هذا بعينه ما تفعله الرأسمالية في نظر ماركس؟ إنها تخضع الإنسان لتلك القوة الغاشمة اللاإنسانية التي تقهره وتستذله؛ قوة رأس المال. أليس رأس المال هذا إلها اصطنعه الإنسان ثم عبده؟ إن رأس المال المتراكم - آخر الأمر - ما هو إلا حصيلة جهد العامل، وفائض قيمة عمله؛ فهو بدوره مستخلص من داخل الإنسان العامل ومن كده وعرقه، ولكنه في النظام الرأسمالي يصبح موضوعا خارجيا، يظل يرتفع ويعلو على الأصل الذي جاء منه، حتى يغدو آخر الأمر قوة غاشمة تسلب العامل (الذي خلقه) إنسانيته، وتجعل من عمله سلعة تباع وتشترى، بل تجعله هو ذاته «شيئا» لا إنسانا، إن رأس المال بدوره إله استخلصه الإنسان من دخله ثم رفعه بعيدا في السماء، وخر أمامه ساجدا.
أما الهدف من «إعادة تقويم القيم» فهو - في كلتا الحالتين - «تحطيم الأصنام» وإعادة الإنسان إلى جذوره التي اقتلع منها، واسترداد ما سلب منه واغترب عنه حتى طغى عليه، إن كلا منهما يعلن - في كل ما كتب - أن شمس الآلهة المصطنعة في أفول، وأن مملكة الإنسان لا بد أن تعود.
مظاهر التناقض وطريقة تجاوزه
لقد بدأت مقالي بقضيتين متناقضتين لمفكرين متعاصرين حول موضوع واحد، ولكن التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء التناقض الظاهر كشف لنا - رويدا رويدا - عن عدد كبير من نقاط الالتقاء بين هذين المفكرين، حتى ليحسب القارئ - بعد الصفحات السابقة - أن نيتشه وماركس متفقان - في موضوع الأخلاق - على كل شيء، ولكني لا أود أن أترك لدى القارئ أي انطباع كهذا؛ فالتضاد بين موقف هذين المفكرين قائم، وكل ما في الأمر أن من ورائه نقاط التقاء هامة يستطيع التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء ظاهر أقوالهما أن يتوصل إليها، ومع ذلك فإن نقاط الالتقاء هذه لا تنفي التعارض الأساسي بينهما، وبالتالي فإنها - حتى لو استطاعت أن تخفف من حدة التناقض الذي نبهنا إليه في مستهل هذا المقال - لا يمكنها أن تقدم حلا للإشكال الأساسي، وهو: كيف وصل مفكران يعيشان في عصر واحد وتدفعهما روح نقدية واحدة، إلى مثل هذين الرأيين المتعارضين بصدد موضوع واحد؟
أما أن الاختلاف بين نيتشه وماركس يظل - على الرغم من نقاط الالتقاء السابقة - اختلافا أساسيا، فهذا ما يتضح من أن كل ما اتفق فيه المفكران لا يمس موقفهما الأساسي، وهو أن الأخلاق - عند أحدهما - من صنع الضعفاء للحد من سيطرة الأقوياء، وعند الآخر من صنع الأقوياء للسيطرة على الضعفاء.
ولعل أول خطوة ينبغي أن نخطوها في هذا الصدد هي أن نتساءل: من هم الأقوياء والضعفاء في كلتا الحالتين؟ إن الأقوياء عند نيتشه هم «الممتازون بطبيعتهم»، أما عند ماركس فهم الطبقة المسيطرة اقتصاديا وبالتالي سياسيا، وهذا اختلاف أساسي، اختلاف «الطبيعة» عن «العرف»، إن جاز أن نستخدم هذا التقابل المشهور لدى فلاسفة اليونان؛ فالأقوياء عند نيتشه هم أصحاب الامتياز الكامن، الذين تؤهلهم طبيعتهم لأن يسيطروا، أما عند ماركس فامتيازهم يرجع إلى وضع اجتماعي معين، لا إلى أية صفات كامنة فيهم، وفي مقابل ذلك فإن الضعفاء عند ماركس هم المضطهدون الذين كان يمكن أن يصبحوا أفرادا ممتازين لو أتيحت لهم الفرصة، وكل ما في الأمر أن ظروفا خارجة عن إرادتهم وضعتهم في مركز الضعف، ولكن الأمل في خلاص البشرية كلها منعقد على ثورتهم، أما عند نيتشه فإن الضعفاء «وضيعون» بطبيعتهم، وضعفهم ذاته يولد فيهم شرا كامنا، وربما كان هو ذاته متولدا عن الشر الكامن فيهم.
وعلى أساس هذا الإيضاح نستطيع أن نضع مشكلتنا الأصلية بصورة أكثر تحددا، فنقول إن الضعفاء - في رأي نيتشه - يخشون سطوة الأقوياء الذين هم بطبيعتهم ممتازون، ويبغضون كل ما هو رفيع وكل ما يبرز فوق المستوى العادي «للمجموع»، فيصطنعون نظاما من الأخلاق يكفل الحد من هذه السيطرة، والقضاء على كل امتياز طبيعي؛ نظاما يدعو إلى «العطف» و«المشاركة» و«الرحمة » وغيرها من القيم التي لا تهدف - آخر الأمر - إلا إلى حماية الضعفاء من الأقوياء بانتزاع مخالبهم، إنهم ينشرون قيم «الكثرة» و«المجموع»؛ لأنهم يخشون «الفردية» التي تكشف ضعفهم، وتجعلهم يبدون أقزاما. أما ماركس فيرى - على العكس من ذلك - أن الأقوياء المسيطرين هم الذين يعملون على نشر أخلاق الاستكانة والرضا والزهد لكي يضمنوا سكوت المضطهدين ورضاءهم بالظلم الواقع عليهم. إنهم يحتمون وراء هذه الأخلاق ويستترون خلفها؛ لأنها تدفع عنهم نقمة المظلومين، وتسلبهم روح الثورة، فهل تقدمنا بعد هذه الخطوة كثيرا إلى الأمام؟ إن التضاد أصبح أكثر وضوحا بلا شك، ولكن حدته لم تخف على الإطلاق، فما زلنا نعجب كيف جعل أحد المفكرين من الأخلاق وسيلة للحد من ثورة الأقوياء، وجعلها الآخر وسيلة للحد من ثورة الضعفاء، وما زال الموقف في عمومه وفي تفصيلاته محيرا كما كان منذ البداية.
فلقد قلنا من قبل إن نيتشه وماركس متفقان في موقفهما إزاء المسيحية، ولكن هل هما متفقان إلى الحد الذي بدا لنا للوهلة الأولى؟ إن المسيحية عند نيتشه تقيم نوعا من المساواة المصطنعة بين الناس «فالكل إزاء الله سواء»، وهي على هذا النحو تكبل الامتياز الطبيعي وتقضي على القيم الأرستقراطية، التي تقوم على الشعور بالترفع عن العامة والوقوف بمبعدة عنهم. وعلى العكس من ذلك يتهمها ماركس بأنها تتستر على الفوارق الطبقية واللامساواة الاجتماعية، وتدافع عن التفاوت بين الناس، بل إنها حين تجعل هذا التفاوت أمرا مقدرا بقوة إلهية، تعمل في واقع الأمر على تثبيته وجعله منتميا إلى «طبيعة الأشياء»، وليس هناك تضاد أقوى مما يعبر عنه هذان الموقفان، ويترتب على ذلك أن القيم الواحدة تتخذ في كلا الموقفين دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالزهد واحتقار الجسد والعالم الأرضي هي عند نيتشه أخص صفات أخلاق الضعفاء، وهي وسيلتهم إلى إثبات وجودهم إزاء تفوق الأقوياء، أما عند ماركس فهي سمة أساسية لأخلاق الأقوياء والحاكمين يفرضونها على المحكومين ليضمنوا خضوعهم وسكوتهم، وفكرة الازدواج بين عالمين - عالم فان وعالم أزلي - هي في رأي نيتشه سمة مميزة لأخلاق العبيد، بينما هي عند ماركس أداة هامة من الأدوات التي يسيطر بها أصحاب السلطان على المعدمين والمحرومين.
إنه إذن تضاد كامل في النظر إلى نفس القيم، ولا بد لهذا التضاد من تفسير، ولا جدال في أن هناك تفسيرا ألح على ذهن القارئ - طوال العرض السابق - هو أن هذا التضاد تعبير عن تعارض أساسي بين فلسفتين: إحداهما أرستقراطية والأخرى ديمقراطية بطبيعتها؛ فنيتشه من حيث هو مفكر يتجه بطبيعته إلى تأكيد الفوارق بين الأذهان، ويعجب بكل ما هو فخور مترفع متكبر يتعالى على «المجموع»، ويعيش في القرن التاسع عشر بروح مفكر أرستقراطي ينتمي إلى العصر التراجيدي اليوناني، كان لا بد أن يحمل بكل قواه على نفس القيم التي أعلاها ورفع من قدرها مفكر مثل ماركس، تتجه دعوته قبل كل شيء لصالح الجماعات لا الأفراد، ويرى أن رسالة الفكر هي تغيير المجتمع البشري من «الطبقية» إلى «اللاطبقية»، ويؤمن بأن الأمل في تحقيق هذه الرسالة معقود على نفس الطبقات المضطهدة ذات المصلحة في هذا التغيير.
ولكن هل يكفي هذا التفسير، الذي يرجع التضاد بين آراء هذين المفكرين في الأخلاق إلى التعارض الأساسي في مزاجهما وفي اتجاههما الفلسفي العام؟ هل ينبغي أن نطمئن تماما إلى هذه النتيجة، ونحكم بأن نيتشه وماركس قد وصلا إلى رأيين متنافرين في مصدر القيم الأخلاقية وفي الغاية التي تستهدفها هذه القيم؛ لأن نظرة كل منهما إلى العالم كانت مختلفة، وموقف كل منهما إزاء مشكلات العصر كان متباينا؟ في اعتقادي أننا قد نستطيع أن نحل بهذا التفسير جزءا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل مع ذلك قائما دون حل؛ ذلك لأن نيتشه وماركس لم يكونا يعبران فقط عما يفضلانه، وعما يودان أن تكون عليه الأمور، بل كانا يصفان أيضا ما هو واقع بالفعل؛ ففي كل ما عرضناه قبل الآن من آراء، كان هذان المفكران يتخذان موقف العالم الذي يستقرئ تاريخ القيم الأخلاقية البشرية ليصل من هذا الاستقراء إلى حكم على تطورها الماضي واتجاهها في المستقبل، ولو كان كل منهما قد اقتصر على التعبير عما يتمنى أن تكون عليه القيم الأخلاقية؛ لجاز عندئذ أن يكون في اختلاف مزاجهما الفكري تفسير كاف للتعارض الأساسي في وجهتي نظرهما، ولكنهما كانا يتحدثان أيضا من وجهة نظر الواقع لا المثل الأعلى، وكان كل منهما يحاول أن يجيب - بطريقة الباحث العالم لا بطريقة المتأمل الحالم - عن سؤالنا الأساسي: «من الذي صنع الأخلاق؟» فكيف تعارضا إلى هذا الحد في وصف ظاهرة واحدة؟ إننا نسلم بأن مزاج المفكر واتجاهه الفكري العام له - دون شك - دوره حتى عندما يتخذ المرء لنفسه هدف الوصف المجرد، لا عندما يحلم بما يتمنى تحقيقه فحسب، ومن المؤكد أن الموضوعية الكاملة في هذا المجال مستحيلة، وأن تصور كل منا لما ينبغي أن يؤدي إليه التطور في المستقبل يتحكم - إلى حد ما - في تشكيل نظرته إلى ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر، ولكنا نقول: «إلى حد ما»؛ لأن هذا التأثر بالاتجاه الفكري الذاتي يمكن أن يحدث نوعا من التباين بين المفكرين حين يصفان ظاهرة واحدة، ولكنه لا يكفي لإيجاد تناقض كامل بين أوصافهما هذه؛ ولهذا قلنا من قبل، إننا قد نستطيع أن نحل بهذا التفسير جزءا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل بلا حل. •••
أما التعليل الصحيح لهذا التضاد فيكمن - في رأيي - في حقيقة أساسية ينبغي أن تتضح للأذهان بصدد كل أخلاق، وهي أن من يصنعها ليس هو بالضرورة من يستخدمها أو يطبقها في حياته، بل إنه قد يصنعها لكي يطبقها طرف آخر مغاير له تماما، بحيث لا تكون القيم عندئذ تعبيرا عن المصدر الذي أتت منه، بل تعبيرا عن الطرف الذي تتجه إليه، ولنقل بتعبير آخر، إن كل أخلاق مسيطرة تخلق أخلاقا أخرى نقيضة لها، توجهها إلى من تمارس عليهم هذه السيطرة، فإذا كانت العلاقات في فترة معينة علاقات قوة واستغلال واضطهاد، فإن القيم التي تنتشر على أوسع نطاق لا تكون عندئذ قيم القوة والسيطرة، بل قيم الخضوع والاستكانة، أو لنقل - مستخدمين تعبيرات نيتشه - إن العصر الذي يسيطر عليه «السادة» ليس هو عصر أخلاق السادة كما توهم، بل هو عصر أخلاق العبيد؛ لأن أيسر طريق يضمن للسادة الاحتفاظ بتميزهم وتفوقهم هو أن تنتشر «أخلاق العبيد».
ولنطبق هذا الحكم العام على فترات محددة في تاريخ الأخلاق كما حدد معالمه نيتشه؛ لنرى إلى أي حد تختلف الصورة التي تتكون نتيجة لهذا التطبيق عن الصورة التي رسمها نيتشه.
فالمجتمع اليوناني الكلاسيكي كانت تسوده - في نظر نيتشه - قيم السادة وأخلاق الأقوياء، ولكن إذا صح هذا فكيف نستطيع أن نفسر أن الاتجاه الأخلاقي الرئيسي عند سقراط وأفلاطون - وأرسطو إلى حد ما - كان اتجاها تظهر فيه معاني الزهد وإعلاء القيم الروحية - بمعناها التجريدي المنفصل عن العالم المادي - فوق كل ما عداها من القيم؟ كيف نفسر قول أفلاطون «أو سقراط» إن «الجسم مقبرة النفس»، وتأكيد أرسطو أن الحالة المثلى لحياة الإنسان هي حالة التأمل العقلي المجرد؟ إن هذه - دون شك - سمات أساسية لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، فكيف يحل هذا التناقض؟ إن الحل الوحيد الذي يهتدي إليه نيتشه هو أن يعد تيار سقراط وأفلاطون وأرسطو - هذا التيار الرئيسي في الفكر اليوناني - شذوذا يخرج عن طبيعة الروح اليونانية، وهكذا يخفق في الربط بين أقوى اتجاه فكري في المجتمع اليوناني وبين «أخلاق السادة» التي رآها مميزة لهذا المجتمع، وتعليل هذا الإخفاق هو أنه يأخذ الأخلاق حسب قيمتها الظاهرة، أما لو طبقت عليها القاعدة العامة التي أوضحناها من قبل، وهي أن كل أخلاق مسيطرة تخلق نقيضها؛ لأصبح كل شيء واضحا ومتسقا؛ فأخلاق هؤلاء الفلاسفة هي بدورها أخلاق للسادة، ولكنها خلقت نقيضها؛ فإلى جانب دعوتهم إلى الزهد واحتقار الجسد، هناك تبرير لنظام الرق ومحاولة لإثبات أنه ينتمي إلى «طبيعة الأشياء»، وتلك في صميمها أخلاق الطبقة المسيطرة المنتفعة بهذا النظام، إن السادة يدافعون عن النظام الذي يكفل لهم عبيدا يخدمونهم، ولكنهم - بوصفهم سادة - لا يمكن أن يقفوا ليعلنوا صراحة قيم الاستعلاء والكبر والتفوق والامتياز، بل إنهم ينشرون أخلاق الزهد؛ لأنها كفيلة بتغطية الامتهان الأساسي للإنسان، الذي دافعوا هم أنفسهم عنه وحرصوا على تبريره.
ولننتقل إلى مرحلة أخرى في تاريخ الأخلاق، وهي مرحلة الأخلاق اليهودية المسيحية. إن نيتشه يصف هذه المرحلة بأنها انتصار لأخلاق العبيد، أخلاق الشفقة والمحبة والرحمة والمساواة التي ينتزع بها الضعفاء مخالب الأقوياء، ولكن هل كانت هذه التعاليم بعينها هي التي سادت بالفعل مجتمع العصور الوسطى؟ ألم يكن الإقطاعيون والبابوات وكبار رجال الكنيسة يمارسون أشد أنواع الاضطهاد على عامة الناس، وينعمون بامتيازاتهم وتفوقهم؟ ألم يكونوا بالفعل «سادة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان؟ ألم تكن أخلاق العبيد - في هذه الحالة - مجرد نقيض يخلقه السادة لكي يحتفظوا بسيطرتهم؟ إن نيتشه ذاته ينبهنا إلى ذلك الانقلاب في القيم، الذي بدأ بالديانة اليهودية، واستمر في المسيحية، والذي كان انقلابا ضد الأرستقراطية الوثنية، في هذا الانقلاب أصبح هناك تكافؤ في المعنى بين ألفاظ: الغني والقوي والشرير والفاجر، وتكافؤ آخر بين الضعيف والطيب والقديس، ويفسر نيتشه هذا التحول في القيم بأنه مظهر لأخلاق «العبيد»، ولكن هل العبيد بالفعل أصحاب المصلحة في هذه القيم الجديدة؟ وهل تعد هذه القيم تعبيرا عن انتصارهم؟ لا شك أن نيتشه كان ساذجا حين تصور ذلك، ولو تعمق فيما وراء السطح الخارجي لهذه الظاهرة لوجد أن الأمر على عكس ما اعتقد؛ فحين تقول إن الغني والقوي هو الشرير والفاجر، تريد إبعاد الناس عن الغني، وبث النفور في نفوسهم منه، حتى لا يطمعوا في أن يحققوا الغنى أو القوة في أنفسهم، وحتى يتركوا الغني وشأنه (وكفاه عقابا أنه شرير وفاجر، وأن العذاب الأبدي ينتظره في العالم الآخر)، فأنت إذن تحمي الغني والقوي بطريق غير مباشر، وحين تقول إن الفقير والضعيف هو الطيب والقديس، تعني بذلك أن الفقر والضعف حالة مثلى ينبغي الرضا بها، بل السعي إليها، وبذلك تشجع الفقير على أن يظل فقيرا، أليس هذا بعينه هو ما يريده «السادة»؟ لنتأمل صورة كاهن العصور الوسطى وهو يعظ الناس بالزهد في متاع الدنيا، ويمنيهم بحياة أبدية ينعمون فيها بكل ما حرموا منه في هذا العالم ... هذا الكاهن الذي هو ذاته قوي مسيطر يستمتع بعيش رغد ، ويعيش من كد الآخرين، أهو يتحدث عندئذ بلسان السادة أم بلسان العبيد؟ ألم يكن مصدر الخطأ - في هذه الحالة بدورها - أن نيتشه أخذ الأخلاق بقيمتها الظاهرية، ولم يفرق بين أولئك الذين صنعوا الأخلاق وأولئك الذين تخاطبهم هذه الأخلاق وتوجه إليهم؟
وآخر مرحلة نشير إليها هي تلك التي كان يعيش فيها نيتشه ذاته، أعني أواسط القرن التاسع عشر، إن هذه المرحلة - بدورها - هي في رأيه مرحلة أخلاق للعبيد تسودها قيم الشفقة والعطف على الغير وحب الجار، ولا يجد الفرد المنعزل ذو الروح المستقلة فيها مكانا لنفسه. ولكن أكان القرن التاسع عشر كذلك بالفعل؟ ألم تكن العلاقات الاجتماعية في هذه الفترة المبكرة من فترات العهد الصناعي أشبه بشريعة الغاب في ابتعادها التام عن كل إنسانية وتعاطف بين البشر؟ صحيح أن هناك أخلاقا رسمية - أو ظاهرية - مشابهة لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، ولكن ألم تكن الممارسة الفعلية أقرب كثيرا إلى أخلاق السادة كما حددها هو ذاته؟
هناك إذن تفاوت أساسي بين الأخلاق كما ينادي بها، أو كما تظهر على السطح، وبين الأخلاق كما تمارس بالفعل. ومن الواضح أن نيتشه حينما تحدث عن الأخلاق على أساس أنها «من صنع الضعفاء» كان المقصود في هذه الحالة هو الأخلاق كما تظهر على السطح، أما حين وصف ماركس الأخلاق بأنها من صنع الأقوياء، فإن حديثه كان منصبا على الأخلاق كما تمارس فعلا ، أعني الأخلاق التي يوجهها الأقوياء إلى الفقراء لتخديرهم، ولكي يظلوا هم أنفسهم أحرارا في ممارسة سيطرتهم كما يشاءون، وعلى أساس هذا التقابل نستطيع أن نفهم بسهولة لماذا كانت القيم الأخلاقية الواحدة - في العصر الواحد - تعد تارة قيما يفرضها الأقوياء على الضعفاء (وجهة النظر الفعلية)، وتارة أخرى قيما يفرضها الضعفاء على الأقوياء (وجهة النظر الرسمية).
هذا التضاد بين الأخلاق «الرسمية» والأخلاق «الفعلية» - في داخل المجتمع الواحد - يعبر عنه عادة بأنه تضاد بين «الواقع» و«المثل الأعلى»، وما دام هذا التضاد قائما فلا يمكن القول إن الإنسان أصبح أخلاقيا بحق. إن هذا التضاد تعبير عن نفاق أساسي ما زال يشوب نظم الإنسان الأخلاقية، وقد اعتدنا أن نعده ضرورة محتومة، ولكنه ليس في حقيقة الأمر ضروريا على الإطلاق، فلماذا لم يكن الواقع مثلا أعلى؟ ولماذا لم يكن المثل الأعلى واقعا؟ أليس معنى بقاء هذا التضاد أن هناك تداخلا بين الأخلاقية واللاأخلاقية، بحيث تكون دراسة تاريخ الأخلاق هي في الوقت ذاته دراسة لتاريخ اللاأخلاقية في نفس الإنسان؟
إن الإنسان لا يصبح أخلاقيا بحق إلا بقدر ما تخف حدة التعارض بين الواقع والمثل الأعلى. ولن تبلغ الأخلاق أعلى مراحلها إلا باندماجها في السلوك العملي، وتلاشيها في مجال العلاقات الإنسانية الفعلية. وبعبارة أخرى فإن الأخلاق تبلغ أعلى درجات اكتمالها باندماجها في كل أوسع منها، هو مجال السلوك العملي في كل صورة، إنها تكتسب - بهذا الفناء في مجال العمل - أقصى ما تطمح إليه من حياة.
ولكن هذه مرحلة لا تقبل التفسير من خلال المقدمات النظرية للمفكرين اللذين اتخذنا من آرائهما محورا لهذا المقال؛ فلو تحققت الأخلاقية المثلى كما كان يدعو إليها نيتشه، ووصل الإنسان إلى مرحلة «ما فوق الإنسان»، أو إذا بلغ المجتمع تلك المرحلة التي تطلع إليها ماركس، وأصبح مجتمعا لا طبقيا بحق؛ فعندئذ لن يكون في وسعنا أن نفسر هذه الحالة المثلى من خلال مفاهيم كل من هذين المفكرين، ولنختم مقالنا هذا بسؤال كما بدأناه بسؤال:
إذا كان ما يميز «الإنسان الأرقى» عند نيتشه هو السمو والعلو والامتياز، فكيف سيشعر بترفعه هذا حين يأتي عهده، ويختفي من يمارس عليهم هذا الترفع؟
وإذا كانت الطبقية الاجتماعية - عند ماركس - هي مصدر كل قيمة أخلاقية، فعلى أي شيء سترتكز الأخلاق حين يصبح المجتمع لا طبقيا؟
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
كنت على الدوام أجد في تفكير كارل ياسبرز شيئا يستفزني ويثير في «غريزة القتال»، وربما لم يكن في وسعي أن أصف هذا الشيء على وجه التحديد، ولكني أستطيع أن أعبر عنه - على نحو لا يخلو من الغموض - بأنه ذلك التناقض بين نزعة إنسانية يدعيها في كتاباته ويحرص على أن يؤكد إيمانه بها، ونزعة غير إنسانية تؤدي إليها هذه الكتابات إذا ما نظر إليها المرء بعين النقد والتحليل، ولم يكتف بأخذ أقواله على علاتها، أو قل إنه التناقض بين كلمات ظاهرة تفيض اعتزازا بالعقل، ومعان باطنة تهدم ما يستند إليه العقل من ركائز عميقة.
ولقد كان من الطبيعي أن يظل حكمي هذا على ياسبرز غامضا؛ لأن الأساس الوحيد الذي كان يرتكز عليه هو تلك الكتابات التي تنتمي إلى مرحلته الفلسفية الرئيسية، وهي المرحلة التي توقفت عند أوائل الثلاثينيات، وتتميز هذه المرحلة بأن كتاباته فيها كانت نظرية في الغالب، تنتمي إلى مجال علم النفس أو الفلسفة. ولكن ظهور وانتشار مؤلفات المرحلة الثانية من حياته الفكرية - وهي المرحلة التي بدأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي يعالج جزء غير قليل منها موضوعات سياسية أو حضارية - ساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الاتجاهات الحقيقية لتفكير ياسبرز ولطريقته في النظر إلى المشكلات التي تهدد عالمنا المعاصر. وعلى الرغم من أن مؤلفات هذه المرحلة الثانية ليست أهم ما كتب، فإنها قد كشفت عما كان مستورا، وأظهرت بصورة صريحة ما لم يكن يتوصل إليه المرء من قبل إلا بصورة ضمنية. •••
في كتاب «الموقف الروحي للعصر» - الذي ألفه ياسبرز عام 1930م - يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلا يردد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله - في رأيه - عصر الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيم الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدد شكل حياته في المستقبل.
وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذر في إغفاله كل ما عدا الغرب في الفترة التي ألف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحده هو المحور الذي تدور حوله كل أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عاما بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل - أعني في الصين - وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، روح جديدة سرت في شعوب ذات حضارات عريقة، وهي روح لا يعود من الصعب معها - لكل مفكر فاحص - أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوج ازدهارها.
وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدد - في مقدمة كتابه هذا - المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمة تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.
وحين يحدد ياسبرز السمات التي تميز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمة تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمع العفوي العابر المفتقر إلى التنظيم، الذي يسهل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفراده ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملقها الحكام ويتقرب إليها قادة الرأي العام.
ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها - في عصرنا الحاضر - تنظم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتم كل شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباء، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تعد الآلة أسلوبا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضا أسلوبا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.
لقد أصبح العمل اليومي رتيبا متكررا مملا لا هدف له، «أصبح الإنسان محروما من العالم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة - مهما اتسع معناها - لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.
إن العصر الحاضر يرد الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسان لذة الاستمتاع بالتجارب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تتاح للإنسان في عالم كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقب أشبه ما يكون بلقطات متقطعة في شريط سينمائي يعرض في سرعة لاهثة.
فهل نجد للفرد مكانا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلا لأن يستغنى عنه، ويمكن أن يحل أي فرد آخر محله، ما دامت ماهيته لم تعد شخصيته الفريدة المميزة، أو كيانه الحق الذي لا يستبدل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتحل الكفاءة والفعالية - أي حسن أداء الوظيفة - محل العبقرية.
ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنان للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناس أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلق ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهوة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه. •••
لست أود أن أستطرد طويلا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز - في أول الثلاثينيات - للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالم لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها - على أية حال - صورة مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرا مستطيرا يهدد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آن واحد.
هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهل غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثل في التقدم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدر الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدم التكنولوجي قد وجد ليبقى، وليس ثمة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحة صخرة نعلم مقدما أنها لن تتحطم.
على أن هذا لا يعني أن نقد العصر محرم على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدا لعصره بمعنى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصب على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدال في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيل بأن يوصلنا إلى نتيجة ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.
فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثير إيجابي على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالا تاما، ولنضرب لذلك مثلا واحدا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يدخل في بيته روائع الأعمال الفنية، كالنسخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصة الاستمتاع بتجارب روحية عميقة لم تكن متاحة من قبل إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مثل واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تحدثه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصور تضادا زائفا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلم به - في هذا المجال على الأقل - دون نقد أو تحليل.
على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهد ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقد يوجه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي - في جميع عهوده، أو في عهد واحد منه على الأقل - كان يتصف بكل ما يفتقر إليه الحاضر من قدرة على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عناية بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدد فترة معينة في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجة تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيا قاطعا.
وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبق إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذات طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية - بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل - فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غير سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك - بلا شك - نظرة رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتما إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قورن بأي عصر سابق.
في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كل ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم - في رأي ياسبرز - لا بد أن يكون قاصرا محدودا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسان المعرفة العلمية من أجله لا يستمد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.
وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبين حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجة دائمة إلى إيمان يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانب أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حد يحس معه المرء بأنه يتحول تدريجيا إلى شخص معاد للعلم، وبأنه يسعى عامدا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا - وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبل - بانطباع عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسع من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز - في نقده للعقل العلمي - يعطي المرء إحساسا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.
ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفات من النوع الذي يعاديه، يوجه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهم للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحة في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» - وهو كتيب ينتمي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - يوجه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلا منهما مفتقرا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزا على إيمان متنكر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفة محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.
فكل علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقا، وتعبير «العلم الشامل» تناقض في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوين مركب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوع من المنهجية المنظمة التي تعلمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدما ونوجه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلم أداة للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.
على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوز حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائما من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم ، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلة لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل - في رأي ياسبرز - أشكالا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعا شاعريا عند نيتشه أو علميا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكر أشبه بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدا كبيرا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.
ولكن هل يحق لياسبرز - في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم - أن يوجه إلى خصومه نقدا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدما إيمانا بالعلم يتجاوز بكثير نطاق الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرا من مظاهر ضعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصوما ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني - على أية حال - هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز. •••
مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم - في أغلب الأحيان - مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداة لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجز في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزا، فلو حكمنا على ياسبرز بناء على فلسفته النظرية وحدها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.
على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحو لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهات تندرج قطعا ضمن الفئة التي يطلق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.
ولسنا نود أن نتحدث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابا آخر يلقي على آرائه السياسية ضوءا ساطعا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يعد من أواخر ما كتب.
كان ياسبرز قد أدلى بحديث تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ
Thilo Koch »، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرا إلى ما تضمنه من آراء غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة
Die Zeit
الألمانية عام 1960م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات - بالإضافة إلى الحديث الأصلي - هي التي تؤلف مادة هذا الكتاب.
ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدم إلى الجماهير الغفيرة وعودا لا تحققها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.
والموضوع المباشر الذي يتصدى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك - على أية حال - حدود حديثة نسبيا، لا ترجع إلى أكثر من سبعين عاما (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.
إن ياسبرز ينظر إلى ألمانيا الشرقية لا على أنها دولة، بل على أنها «إقليم اعتدت على استقلاله سلطة أجنبية»، ثم يتساءل: «كيف يمكن إنقاذ إخواننا في الشرق من العبودية؟ أليس هناك طريق سوى إعادة التوحيد؟» إن هذا الطريق يؤدي إلى ظهور النزعات الوطنية المتطرفة التي عانت منها ألمانيا في أيام هتلر؛ ولذلك يرد ياسبرز بقوله: «إن الوحدة التي تهمنا اليوم هي الوحدة الكونفدرالية لأوروبا، ووحدة أوروبا مع أمريكا» (ص25 من الترجمة الفرنسية).
وفي رأي ياسبرز أن الوضع الحالي في ألمانيا، وإن كان قد ترتب على الحرب، فإنه لا يمكن أن يتغير بالحرب؛ لأن القنبلة الذرية ستقضي عندئذ على الجميع (ومعنى ذلك أنه لو لم تكن هناك قنبلة ذرية، لكان من الجائز أن يدعو ياسبرز إلى تغير هذا الوضع بالحرب!) إن وضع التقسيم هذا هو الجزاء الذي استحقه الألمان نتيجة لتعاونهم مع هتلر، وعلى الألمان أن يتحملوا مسئوليتهم من ذلك، ولا يحاولوا إعادة دولة بسمارك، وإلا تسببوا في فناء البشرية، كما كانوا منذ عام 1933م سببا في تعاستها.
وفي هذا الصدد ينبغي أن نعود إلى الرأي الذي عرضه ياسبرز في كتاب آخر ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هو «الذنب الألماني». في هذا الكتاب يفرق ياسبرز بين مفهومين رئيسيين متعلقين بفكرة الذنب؛ فهناك الخطأ الأخلاقي والجريمة من جهة، والمسئولية السياسية من جهة أخرى، أما الخطأ الأخلاقي فلا يمكن أن ينسب إلا إلى عدد قليل من الألمان، والجريمة بالذات لم يقترفها إلا عدد قليل جدا منهم! وأما المسئولية السياسية فشيء يختلف عن ذلك كل الاختلاف، «فمن كان يعيش في بلد، ولم يهاجر بحيث لا يعود متضامنا مع الدولة، ومن لم يتصد لمنع الجريمة في هذا البلد مسئول سياسيا، ويجب أن يتحمل تبعات مسئوليته مع المذنبين الآخرين.» وإذن فعلى الألمان أن يتحملوا انقسامهم بوصفه نتيجة ضرورية لمسئوليتهم السياسية عن العهد النازي.
فإعادة التوحيد إذن مطلب ثانوي نسبي، أما الحرية فهي المطلب المطلق، وإذا لم يكن ثمة مفر من الاختيار بين الأمرين، فإن للحرية الأولوية دون أدنى شك، ومع ذلك فإن الألمان في رأي ياسبرز يحتاجون إلى مران طويل على الحرية؛ لأنهم اعتادوا الاستبداد وأيدوه طويلا، وقد أورد ياسبرز في كتابه نص محادثة عجيبة دارت بينه وبين أحد المسئولين الأمريكيين، سأله فيها هذا الأخير عن رأيه في إدخال نظام برلماني في ألمانيا بعد الحرب مباشرة، فكان من رأي ياسبرز أن الحرية ينبغي أن تمنح بالتدريج لشعب لا يقدرها ولم يعتدها بعد، وأن الحرية المفاجئة قد تؤدي إلى هدم بذور الحرية الأولى في نفس هذا الشعب، بينما كان رد الأمريكي (الذي وجدها فرصة لا تعوض) هو أن الأمريكيين لا يستطيعون الانتظار طويلا في منح الحرية؛ لأن هذا «ضد مبادئهم» (ص103-105).
ويلخص ياسبرز موقفه في هذا الصدد فيقول: «لو تعاونا دون قيد أو شرط مع الغرب بأكمله - تحت السيطرة الفعلية لأمريكا - لأمكننا أن نضمن الحرية السياسية الداخلية، وأن نضمن كذلك أمنا نسبيا، هو الوحيد المتاح لنا في الموقف العالمي الراهن؛ فالحد من سيادتنا هو شرط بقائنا، وهو وحده الذي يحمينا من روسيا، وكذلك من القوى التي تفجرت داخلنا أيام حكم هتلر» (ص111). ومن هنا كان ياسبرز يعارض الأصوات التي دعت - من بين صفوف اليمين ذاته - إلى وقوف أوروبا ضد أمريكا، أو استقلالها عنها مثل ديجول، ويتخذ من أديناور في تهالكه على أمريكا مثلا أعلى له.
والحق أن الضجة التي أثارتها آراء ياسبرز هذه إنما تدل على أنه برغم خضوعه الذليل للغرب ولأمريكا بالذات، التي يؤكد أنها هي مصدر نعمة ألمانيا الغربية («أننا في ألمانيا الغربية أحرار بفضل كرم المنتصرين لا بفضلنا نحن»)؛ برغم هذا كله، لم يستطع أن يحظى باحترام مواطنيه أنفسهم، حتى لقد علق مراسل إحدى الصحف على آرائه بقوله: «لقد أطلق كارل ياسبرز في مقابلته التليفزيونية قوى المعارضة الساخطة من الأحزاب والمنظمات السياسية والجرائد اليومية في الجمهورية الاتحادية، والواقع أن خروشوف نفسه لم ينجح أبدا في أن يثير ضده مظاهرة إجماعية كهذه!»
تلك المقارنة بينه وبين خروشوف - الخصم الأكبر لألمانيا الغربية في ذلك الحين - ليست مجرد مبالغة كلامية، بل هي تحمل دلالة ضمنية عميقة، هي الفرق بين الاحترام الذي يلقاه الخصم العنيد المتمسك بموقفه، والازدراء الذي يقابل به النصير حين يكون متهالكا متداعيا، «ملكيا أكثر من الملك». ألم يصل حقد ياسبرز إلى حد التفكير في أمور لا تجلب عليه سوى السخرية والازدراء؟ لقد أعرب مثلا عن خوفه من أن تؤدي قلة الأيدي العاملة في ألمانيا الشرقية (التي يسميها دائما بالمنطقة المحتلة أو ما شابه ذلك من الأسماء) إلى قيام الروس بجلب عدة ملايين من الصينيين للعمل فيها، فيكون في ذلك أيضا حل لمشكلة زيادة السكان في الصين (ص129). •••
إن مشكلة ياسبرز الكبرى في هذا الصدد هي أنه - برغم كل قدراته الفكرية التحليلية - لم يحاول لحظة واحدة أن يتوقف ليسائل نفسه عن معنى «الحرية» السائدة في العالم الغربي، ولم يبذل أي جهد لتحليل هذا المفهوم، وهو الذي كتب من الصفحات ألوفا مؤلفة في تحليل مفاهيم أقل أهمية بكثير من هذا المفهوم الحيوي. حقا إنه حلل معنى الحرية في مواضع أخرى، ولا سيما في كتابه الأكبر «الفلسفة»، ولكن ما كان يعنيه عندئذ كان الحرية الوجودية، التي هي جزء من كيان الإنسان، لا الحرية السياسية أو الاجتماعية التي يكتسبها بعض الناس ويفقدها البعض الآخر، والتي يحتاج بلوغها إلى جهد وكفاح.
ولم يحاول ياسبرز أن يتجاوز نطاق الحرية الشكلية الظاهرية في العالم الغربي لينفذ إلى العوامل الخفية المعقدة التي تتحكم في تشكيل الرأي العام الغربي دون وعي منه، بحيث يبدو هذا الرأي العام معبرا عن نفسه وهو في حقيقة الأمر يردد آراء القوى الخفية التي تتحكم في الصحافة والإذاعة ووسائط التعبير المختلفة، عن طريق الإعلان والسيطرة المالية والإدارية.
لم يحاول ياسبرز أن يقارن بين حرية الغرب المزعومة داخل بلاده، وبين استعباده للشعوب المستعمرة، واستنزافه لموارد الشعوب شبه المستعمرة، ولم يرتفع له صوت يندد بهذا النوع من العبودية والاسترقاق، بل إن بكاءه كله لم ينصب إلا على «مواطنيه في الشرق»!
لم يحاول ياسبرز أن يفكر بعمق في معنى تلك الحرية التي تكون حصيلتها النهائية هي شن الحروب وإحاقة الكوارث بالشعوب. وإنصافا له أقول إنه تنبه في أحد مواضع كتابه إلى الفارق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية، وكان ذلك في صدد الحديث عن تلك الأغلبية التي اقترعت في ألمانيا لصالح هتلر، فقال: «عندما تقوم أغلبية بهدم الحرية ذاتها، وتجعل شخصا خارجا عن القانون يفعل ما يحلو له، لا تعود تلك الأغلبية ديمقراطية.» وهذا رأي صحيح كل الصحة، ولو طبقناه على تلك الأغلبية التي اقترعت لصالح جونسون؛ لأصبح الكلام متسقا كل الاتساق، ولانطبق بدقة على موقف الناخب الأمريكي الذي يظن نفسه «حرا» إزاء سفاح فيتنام، ومنكر الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكن ياسبرز - للأسف البالغ - لم يقم بهذا التطبيق.
وعلى أية حال فقد عاش ياسبرز ليشهد أعنف مراحل حرب فيتنام وأكثرها وحشية، ولم يرتفع له صوت باستنكارها، وكذلك عاش ياسبرز ليشهد أبشع فصول المأساة الفلسطينية، ولكن هذه - على أية حال - قصة أخرى؛ فقد كانت زوجته يهودية، وكان لها عليه - فيما يبدو - سلطان غير قليل. •••
إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من قراء هذه المقال سوف يحتجون بصمت لأني حاسبت ياسبرز فيه على آرائه السياسية في الوقت الذي كانت رسالته فيه - طوال الجزء الأكبر من حياته الفكرية - فلسفية قبل كل شيء، على أن ياسبرز ذاته كفيل بالرد على هذا الاحتجاج؛ إذ هو يدافع بقوة عن تدخل الفلسفة في السياسة، مؤكدا أن الفيلسوف قد لا ينجح في أمور السياسة اليومية التفصيلية، ولكنه قادر على أن يلقي ضوءا ساطعا على السياسة البعيدة المدى، والاتجاهات العامة لشئون الحكم، وهو يرفض بشدة الرأي الذي يتهم الفلسفة بأنها خيالية واهمة، تشيد قصورا في الهواء، ويدافع عن حق الفيلسوف في أن يتدخل في الأمور السياسية، بل يؤكد أن من واجب الفلسفة أن تواجه الواقع وتتغلغل في صميم الحياة (ص18، 19).
ولقد أكد ياسبرز - في مستهل الحديث التليفزيوني الذي أشرت إليه من قبل - أن الفلاسفة كانوا على الدوام يبدون آراءهم في السياسة، وأن هذا يصدق على أعظم الفلاسفة في التاريخ، مثل «كانت» وهيجل ونيتشه (ومن قبلهم أفلاطون بالطبع)، ولنستمع إليه وهو يقول: «لقد بدت لي الفلسفة منذ شبابي شيئا مختلفا كل الاختلاف عن مجرد قراءة كتب بديعة أو البقاء بمعزل عن العالم؛ فهي - على عكس ذلك - بدت لي شيئا يرشدني ويبعث في القوة عن طريق فهم الواقع الحاضر لعالمي ولذاتي ... ففي الوقت الحالي - وبالنسبة لي على الأقل - يبدو لي من الواضح أن الأرستقراطية (الفكرية) أصبحت اليوم عتيقة بالية، وأن الإنسان الذي يفكر ويريد أن يفعل شيئا ينبغي له أن يسير في الطرقات إن جاز هذا التعبير، وأن الفلسفة يجب أن تثبت - من الآن فصاعدا - أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس» (ص195-6).
ذلك هو رأي ياسبرز في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، فهل يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة التي توصل إليها فلسفة «تسير في الطرقات» هي أن الغرب - بزعامة أمريكا - هو وحده حامي حمى الحرية في العالم المعاصر؟ هل هذه هي الصيغة التي يمكن حقا أن «تنتشر بين الناس»؟ ذلك - على أية حال - هو المدى الذي بلغه تفكير ياسبرز السياسي.
الثورة والتمرد عند ألبير كامي1
بعض الكتاب يطيلون الحديث عن الثورة دون أن يكون في نفوسهم إيمان عميق بها، وبعضهم يكتبون عن التمرد وفي أذهانهم معان تقضي على كل ما فيه من أصالة، وتزيف قيمته الحقيقية، ومن هؤلاء - في رأيي - ألبير كامي، الذي كرس لهذا الموضوع كتابا كبيرا - ربما كان أهم كتبه كلها - باسم «الإنسان المتمرد» (باريس 1951م)؛ ففي الكتاب هجوم على كل ثورة باسم حب الإنسانية، ودعوة إلى الاتزان والاعتدال باسم التمرد، وإنكار للتاريخ باسم الرجوع إلى الطبيعة، وتزييف لمعاني التقدم باسم القضاء على الاستعباد والدفاع عن التحرر.
وكتاب «الإنسان المتمرد» لا يمكن أن يوصف بأنه كتاب فلسفي نظري، وإنما هو - في واقع الأمر - كتاب سياسي في المحل الأول، يتضمن محاولة لفهم العصر وللتعبير عن ماهيته الباطنة، في ضوء النظرة الخاصة التي كونها كامي عنه، وفي الكتاب اعتراف بأن التمرد حقيقة ملازمة للإنسان تقتضيها طبيعته المتغيرة والمتطورة، ومع ذلك فهو يضع لعملية التمرد الأصيلة قيودا تقصرها على المجتمعات الغربية وحدها؛ فهو يتفق مع الفيلسوف الألماني ماكس شيلر في التفرقة بين التمرد والكراهية الحاسدة؛ ففي الثانية يعتمل الشر في النفوس ويظل في داخلها مكتوما، معبرا عن عجز وقصور لا مخرج منهما، أما التمرد فهو منطلق متحرر متغير، يعبر عن فيض من القوة والطاقة، ومن جهة أخرى فإن التمرد لا تكتمل شروطه حيث تكون اللامساواة هائلة أو حيث توجد مساواة مطلقة، وإنما يمكن أن يقوم التمرد «في مجتمع تختفي فيه مظاهر التفرقة الواقعية الصارخة وراء المساواة النظرية.» ومن هذا كله يستنتج كامي أن «مشكلة التمرد لا معنى لها إلا في حدود مجتمعنا الغربي.»
وهكذا يتخذ فعل التمرد عند كامي منذ البداية معنى يصبح فيه وقفا على مجتمعات الغرب في القرنين الأخيرين من تاريخها فحسب، ويفسر التاريخ السابق كله على نحو تصبح فيه الثورات القديمة العهد تعبيرا عن أي شيء سوى التمرد الأصيل، كذلك ينظر إلى المجتمعات الأخرى كلها - ما عدا المجتمع الغربي - على أنها عاجزة عن بلوغ مرحلة التمرد، وسواء أكان ذلك راجعا إلى عجز كامي نفسه عن التوغل في روح هذه المجتمعات غير الغربية، أو إلى نوع من التعصب اللاشعوري للحضارة التي ينتمي إليها، فمن المؤكد أن نظرته هذه - التي يستهل بها كتابه عن التمرد - نظرة تفتقر إلى الموضوعية وسعة الأفق. •••
في عصرنا هذا لم يعد التمرد - في رأي كامي - تمرد العبد على سيده، ولا تمرد الفقير على الغني، وإنما أصبح تمردا ميتافيزيقيا، أعني تمرد الإنسان على وضعه وموقفه الإنساني ذاته؛ فالتمرد الميتافيزيقي هو احتجاج على أوضاع الإنسان وعلاقته بالكون، وهو تأكيد لفردانية الإنسان وإنكار للأخلاقية، وهو سعي إلى تأكيد الذات إزاء عوامل اليأس ومظاهر الموت، ولكن على مستوى إنساني شامل، لا على المستوى الفردي وحده. هذا التمرد الميتافيزيقي يشجع على «الجريمة»، أي على مظاهر القسوة والتنكيل والقتل التي حفل بها عصرنا الحاضر، والتي بلغت قمتها في الفاشية والنازية، فهو يتمثل عند المركيز دي ساد الذي حبذ الجريمة صراحة، وفي أدب دستويفسكي يظهر دفاع عن النزعة العدمية التي يصبح فيها «كل شيء مباحا» وضمنه الجريمة بطبيعة الحال، وأخيرا فإن نيتشه لم يكن من دعاة الجريمة صراحة، ولكنه دعا إليها ضمنا حين جعل مثله الأعلى هو «الإيجاب والتأكيد»، فقبول المصير - بكل ما فيه من خير وشر - ينطوي ضمنا على قبول الجريمة.
وقبل أن ننتقل إلى مرحلة أخرى في تفكير كامي في هذا الموضوع، يجدر بنا أن نشير إلى مجموعة المقدمات الباطلة التي ارتكز عليها في آرائه السابقة؛ فهو يفترض أن تمرد العبد على السيد، والفقير على الغني، قد انتهى عهده، مع أن هذا التمرد ما يزال قائما، بل إنه هو الشكل الرئيسي للتمرد في عصرنا هذا، وهو الذي يضفي على كل شكل آخر من أشكال التمرد في أيامنا هذه طابعه المميز، أما التمرد الميتافيزيقي للإنسان على وضعه وموقفه، ومركزه في الكون، فقد كانت دواعيه منذ أقدم العصور قائمة على الدوام؛ لأن وضع الإنسان من الوجهة الميتافيزيقية لم يتغير في شيء، وإذا كان هذا النوع من التمرد قد ازدهر بصورة خاصة في الفترة التي تحدث عنها كامي، فلا بد أن ذلك راجع إلى أسباب غير ميتافيزيقية، أعني أسبابا تتعلق بطبيعة الحياة في القرنين الأخيرين على وجه التحديد، أما الأمثلة التي ساقها كامي للتمرد الميتافيزيقي - وأهمها «ساد» ودستويفسكي ونيتشه - فلن نقف عندها طويلا، وإنما يكفينا أن نشير إلى أنه لم يستخلص من تفكير دستويفسكي أو نيتشه إلا الدلالة السلبية فحسب، أعني التشجيع على ما يسميه «بالجريمة»، مع أن جزءا كبيرا من أفكارهما كان موجها في الواقع إلى الحيلولة دون وقوع «جرائم» أكبر. •••
على أن كل تمرد ينتهي إلى ضده، وذلك عندما يتحول التمرد إلى «ثورة سياسية» تدعم سلطة الدولة وقوتها؛ فالنمو الغريب المرعب للدولة الحديثة يمكن أن يعد نتيجة منطقية لمطامح فلسفية واقتصادية غير منظمة، بعيدة عن الروح الحقيقية للتمرد، ولكنها تؤدي مع ذلك إلى بعث الروح الثورية المميزة لعصرنا؛ فالأحلام التنبؤية عند ماركس، والتنبؤات المبالغ فيها عند هيجل أو نيتشه قد انتهت، بعد أن قوضت أركان مدينة الله إلى تشييد دولة قائمة على العقل أو على نقيضه، ولكنها في كلتا الحالتين كانت مبنية على الإرهاب.
وعلى ذلك فالثورة في رأي كامي نتيجة منطقية لا مفر منها للتمرد، وعلى حين أن التمرد هو في حقيقته موقف ذهني أو عقلي فحسب، فإن الثورة إنما هي تطبيق غير سليم لمفاهيم التمرد، وهو تطبيق ينتهي في رأيه حتما إلى عكس الغاية الأصلية للتمرد، أي إلى تقييد الحرية بدلا من توسيعها، وهنا أيضا ينطوي تفكير كامي على مقدمات ينبغي التنبيه إليها حتى لا ينساق الذهن في تيارها دون تمييز؛ فهو يفترض أن دعم قوة الدولة شر في جميع الظروف، وصاحب هذا الرأي لا بد أن يكون ذا ميول فوضوية، وبالفعل نجد كامي يبدي اهتماما كبيرا بشخصية باكونين، داعية الفوضوية الأكبر، ويبدي عطفا حقيقيا على الفوضويين من أمثال كيلاييف، أولئك الذين يقتلون ويموتون دون أن يسعوا في أية مرحلة في حياتهم إلى إقامة دولة أو دعمها؛ فهؤلاء في نظره هم «المتمردون» الحقيقيون، الذين يرفضون تمجيد أنفسهم في نظام للحكم، أو التنازل عن حريتهم في سبيل الدولة، مع هؤلاء يتعاطف كامي، وفي هذا الإطار الذي تجاوزه التاريخ المعاصر إلى غير رجعة يدور تفكيره. •••
وعلى أساس هذا الفهم لطبيعة الثورة - في علاقتها بالتمرد الأصيل الذي نبعت عنه - يحكم كامي على الثورات السياسية التي عرفها الغرب في القرنين الأخيرين؛ فالثورة الفرنسية عندما قتلت الملك، كانت في واقع الأمر قضاء على الآلهة، وتحريرا للإنسان من ربقتها؛ لأنها قضت على «فكرة» الملك، أي على رمز السلطة الإلهية. وهكذا لا ينظر كامي إلى هذه الثورة الحاسمة إلا من خلال هذه الصورة الرمزية، ويتجاهل أبعادها الاجتماعية الهائلة الأخرى، إن لويس السادس عشر - في واقع الأمر - لم يكن أول ملك يقتل، ولكنه كان أول ملك تقتله الجماهير، والثورة ذاتها لم تكن أول محاولة لتغيير نظام الحكم بالقوة، ولكنها كانت أول محاولة ناجحة قامت بها جموع شعب مضطهد جائع للاستيلاء على السلطة، وإقرار حكم مبني على قيم جديدة، وحين يستعرض المرء أمام ناظريه مجموعة الأحداث الضخمة التي صاحبت قيام هذه الثورة، ينبغي أن يكون أقل الأمور شأنا بالنسبة إليه هو صورة قتل الملك بوصفه رمزا لسلطة الألوهية، وإنما الواجب أن تحل محلها صورة الملك من حيث هو رمز لطبقة اجتماعية ظلت تتحكم في التاريخ الغربي كله حتى ذلك الحين؛ فالدلالة الاجتماعية لمقتل الملك، ولاستيلاء الطبقة الدنيا - لأول مرة - على مقاليد الحكم - ولو بصفة مؤقتة - هي أبرز الصور التي توحي بها الثورة الفرنسية، أما الصورة التي استحوذت على تفكير كامي، فأهميتها ثانوية إلى حد بعيد.
على أن كامي لا يكتفي بذلك في حكمه على الثورة الفرنسية، بل إنه ينظر إلى قتل الملك على أنه رمز «للجريمة»؛ فهو في رأيه دليل على التطرف الذي يصيب الإنسان عندما تتحول روح التمرد فيه من حالة ذهنية إلى ثورة سياسية، ومن المؤكد أن هذا الحكم على قتل الملك بأنه رمز للجريمة ومظهر للتطرف لا يصدر إلا عن ذهن يتجاهل كل المظاهر الأخرى «للجريمة» قبل قتل الملك، أعني الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، والفقر والجوع والمرض، وكل ما كان يعانيه الذين قتلوا الملك من ويلات، وما وقع عليهم من جرائم حقيقية، تفوق تلك التي أصابت الملك وكل ضحايا الثورة الفرنسية، الظالمين منهم والأبرياء ألوف المرات، فأقل ما يمكن أن يحكم به على نظرة كامي هذه إلى الثورة هو أنها نظرة أرستقراطية محدودة أو ضيقة الأفق. •••
ولكي نتابع تفكير كامي في النتائج التي ترتبت على «الجريمة» الأولى - التي أذنت بانبثاق عهد الثورة السياسية في العصر الأخير - علينا أن نتساءل: ما دلالة هذا الحادث الرمزي الضخم، حادث مقتل الملك، أي القضاء على رمز السلطة الإلهية، في مطلع الفترة التي سادتها روح التمرد؟ لقد كان القضاء على السلطة الإلهية، وبالتالي التحرر من قيود الدين، إيذانا ببدء تحول ضخم؛ ففي العصور الدينية ، يسود معنى الأزلية، ويتضاءل تأثير التاريخ والزمانية. وإذن فقد كان مقتل الملك - وهو رمز السلطة الإلهية - إيذانا باستهلال عهد جديد، اختفت فيه فكرة الأزلية، وتحكمت فيه فكرة التاريخ، وفي ظل سيطرة «التاريخ» هذه استبيحت الجريمة وانتهى عهد المسالمة الذي ساد البشرية عندما كان كل شيء يقاس بمقاييس أزلية. ولا جدال في أن تفكير كامي في هذا الصدد يبدو غامضا، وربما استغلق تماما على الفهم، إن لم نوضح معنى «التاريخ» عنده، ونحدد طبيعة الارتباط الذي يقول به بين التاريخ وبين سيطرة العنف على سلوك البشر.
إن اختيار الإنسان للتاريخ يعني اختياره للعدمية الأخلاقية؛ ففي ظل الأزلية كان كل شيء يخضع لقواعد محتمة لا يضل الناس طريقهم إليها، أما في ظل التاريخ، فإن صرامة الحركة الزمانية تجرف أمامها كل شيء، وهكذا يصبح الهدف هو «الفعل» بلا قواعد ولا مبادئ أخلاقية، وعندما أصبح التاريخ هو المسيطر على أذهان البشر - في القرن التاسع عشر - أصبحت روح التمرد فيهم تستهدف الفعل المطلق، دون أن يحدها حد أو يقف في وجهها عائق.
ولقد اتخذت سيطرة التاريخ شكلين، أدى كل منهما إلى نوع مختلف من «الجريمة»؛ فالتاريخ إما أن ينظر إليه على أنه قوة عاقلة، أو على أنه قوة لا عاقلة، في الحالة الأولى أدى التاريخ إلى الثورة الشيوعية، وفي الثانية إلى النازية.
فبفضل تأثير هيجل، أصبح ينظر إلى العقل على أنه القوة المحركة للتاريخ، وترتب على ذلك سيادة النزعة المادية العلمية والنزعة الإلحادية واللاأخلاقية، ووضعت للتاريخ غايات حددها العقل مقدما، ثم أصبح كل شيء يستباح في سبيل تحقيق هذه الغايات. وهكذا تم التحالف بين هذه النزعة العقلية في تفسير التاريخ، وبين الحركة الثورية التي قادها مثقفو القرن التاسع عشر، والتي كانت قبل ذلك الحين حريصة كل الحرص على الارتباط بأصلها الأخلاقي المثالي، وكانت سيطرة أفكار هيجل - بما فيها من معقولية تاريخية صارمة، على هذا الاتجاه الثوري، وتحويلها إياه من منابعه النقية إلى تاريخ العنف - إيذانا بانتصار الأيديولوجية الألمانية، التي سارت في طريق التطرف حتى بلغت قمتها في الثورة الشيوعية الروسية في القرن العشرين؛ «فالقيم لا توجد إلا في نهاية التاريخ، وإلى أن يأتي ذلك الحين لا يوجد معيار ملائم يبنى عليه أي حكم للقيمة، وإنما ينبغي أن يسلك المرء ويعيش من أجل المستقبل، وهكذا تصبح كل أخلاق مؤقتة.» وإذن فالخطر الأكبر - الذي فتحت أبوابه على مصراعيها بفضل تعاليم هيجل - هو أن نعهد إلى التاريخ وحده بمهمة خلق القيم وإقرار الحقيقة، «فعندما يكون من المستحيل فهم أي شيء بوضوح قبل أن تظهر الحقيقة في ضوء باهر - عند نهاية الزمان - فعندئذ يصبح كل فعل مستباحا، وتصبح السيادة للقوة لا ينافسها شيء.»
ويعتقد كامي أن النازية بدورها نتيجة لسيادة فكرة التاريخ على تفكير الإنسان المعاصر، وإن تكن تنظر إلى التاريخ على أنه قوة لا عاقلة؛ «فهتلر» هو التاريخ في أنقى صوره؛ ذلك لأن هتلر كان يمجد الفعل المحض، دون أي أساس أو أي مبدأ يستهدفه ذلك الفعل، وما كانت حياة هتلر، بوصفه حاكما إلا سلسلة من الأفعال، ومن الحركة المتصلة التي لا تتخذ لنفسها أي هدف؛ فالنازية عدم محض بلا أفكار ولا أهداف، وإنما هي سلسلة من «الأفعال» الوحشية فحسب. ومنذ بداية هذه الحركة لم تكن قد رسمت لنفسها خطة محددة، بل كانت تنتقل من فعل إلى فعل، ومن نجاح إلى نجاح ، غير هادفة إلى شيء سوى المزيد من المغامرات فحسب، وفي ظل هذه العدمية المطلقة عاشت النازية حياتها وهي تتصور التاريخ على أنه قوة لا عقل فيها ولا هدف لها، قوة أشبه بالسيل الجارف الذي ينطلق وينطلق ويهدم في طريقه كل شيء، دون غاية توجهه أو خطة تتحكم في مساره.
ومن هنا كانت النازية - في رأي كامي - هي التاريخ في صورته الخالصة، أي من حيث هو فعل محض لا عقل له ولا غاية من ورائه.
وإذن، فسواء أنظرنا إلى التاريخ على أنه يستهدف غاية أحكم وضعها، ويسير بقوانين عقلية صارمة نحو هدف محدد، أم نظرنا إليه على أنه قوة لا عقلية تستهدف الفعل بلا معنى أو غاية، فنحن في الحالتين واقعون في قبضة الإرهاب؛ فالتاريخ المعقول يفرض علينا إرهاب الغاية التي يسعى إلى تحقيقها بأي ثمن، ويستبيح في سبيل بلوغها أي شيء، وينظر إلى مسلكنا الذي نعبر به الهوة بيننا وبين الهدف النهائي على أنه مجرد مرحلة انتقالية ينبغي أن نستحل فيها لأنفسنا كل إرهاب وطغيان من أجل تحقيق هدف التاريخ، والتاريخ اللامعقول - من حيث هو فعل محض - أشبه بجسم ضخم لا رأس له، وفيه يستوي كل شيء طالما أنه يطلق طاقتنا الكامنة، التي تسير في طريق أهوج لا مكان فيه للمبادئ أو القيم، وبالاختصار فسيطرة التاريخ تعني الوقوع في قبضة الإرهاب، سواء أكان هذا الإرهاب عقليا منظما مخططا، أم كان لا عقليا متخبطا أهوج.
على هذا النحو إذن يبدو التاريخ لكامي قوة طاغية تستخدم الثورة السياسية أداة تسحق بها الإنسان، وتقضي بها على روح التمرد الأصيلة فيه، أي على سعي الإنسان إلى التحرر، واحتجاجه على الطغيان في كل صوره؛ فالتاريخ يعني العبودية، وسيطرته على الإنسان في القرنين الماضيين هي التي أدت إلى استباحة «الجريمة» واستفحالها، ومنذ اللحظة التي قضى فيها الإنسان على الآلهة، وأنهى عهد «الأزلية»، واختار بدلا منها أن يخضع لحكم التاريخ، منذ هذه اللحظة شهدت الإنسانية جريمة تلو الأخرى، وأصبح القتل هو وسيلة الإنسان الكبرى للتعبير عن نفسه . •••
هذه الخواطر التي دارت بذهن كامي عن معنى التاريخ هي في رأيي سلسلة متصلة من المغالطات، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود، لكنها كلها تنم عن فكر يفتقر إلى الموضوعية، توقعه تحيزاته في أخطاء لا حصر لها.
فهل بدأ عهد الجريمة وعهد استباحة القتل على نطاق عالمي شامل، منذ اللحظة التي قوض فيها عرش الأزلية الدينية لتحل محلها تاريخية الإنسان؟ وماذا نقول عن جرائم محاكم التفتيش، وغيرها من الجرائم الرهيبة التي كانت ترتكب على أوسع نطاق، وكلها باسم الدفاع عن الأزلية ودعم سلطة الدين؟ وهل كانت جرائم النخاسين وهم يختطفون العبيد وينقلونهم إلى المزارع الأمريكية ليعملوا بلا أجر؛ هل كانت هذه جرائم ارتكبت في ظل سيطرة التاريخ أو روح الثورة التاريخية؟ من المؤكد أن القتل والجريمة قد ارتكبا على نطاق واسع منذ أقدم العهود، دون أن يكون لعهد سيطرة التاريخ أدنى تأثير في نشرها، صحيح أن كامي يفرق بين الجريمة الحديثة وبين الجرائم السابقة، على أساس أن الأولى تتم عن روية وتدبير، وأنها محسوبة ومنظمة، على حين أن الجريمة السابقة كانت انفعالية هوجاء فحسب، ومع ذلك فإن هذه التفرقة تسقط حالما نفكر في طبيعة «الجريمة» في العصور الوسطى الأوروبية مثلا؛ فهناك كان القتل يرتبط بالقداسة، وكان يتم بناء على أحكام ومبررات «منطقية» تصدر من أعلى السلطات؛ فالتاريخ إذن ليس مسئولا على الإطلاق عن الجريمة المدبرة، بل هو وريثها منذ أقدم العهود، وفضلا عن ذلك فليست الجريمة هي القتل وحده، حتى لو كان ذلك القتل جماعيا، بل إن هناك أنواعا من الجرائم لا تقل قسوة عن القتل، ترتد كلها إلى الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي، وبهذا المعنى الأخير يكون عصر سيطرة التاريخ هو العصر الذي بذل فيه الإنسان أولى محاولاته للتخلص من «الجريمة» بمعناها الواسع.
ومن جهة أخرى، فإن مفهوم «التاريخ» عند كامي مشوه إلى حد بعيد؛ ذلك لأنه يحمل التاريخ بمعنييه، المعقول واللامعقول، أوزارا هو منها براء؛ فاللامعقولية عند النازية - من حيث هي فعل محض وسلسلة لا تنتهي من المغامرات الهوجاء - لا صلة لها بمعنى التاريخ على الإطلاق، ولم تكن النازية جزءا من تلك الحركة التي استهدفت إقامة مملكة الإنسان على الأرض، بل إن الفلسفة النازية كانت تتضمن عنصر الأزلية، وتدعي الدفاع عن القيم الدينية، وتؤكد أنها ستقيم عالما يدوم إلى الأبد، أما المعقولية التاريخية عند هيجل وتلاميذه - مثل ماركس - فلم تكن تتضمن أية دعوة إلى استباحة كل شيء من أجل تحقيق غاية التاريخ؛ ذلك لأن فكرة «نهاية التاريخ أو غايته» (ولنلاحظ أن كامي في هذا الصدد يتلاعب بمعنيين لكلمة
fin
التي تعني الغاية بمعنى الهدف، وتعني النهاية أيضا) هذه الفكرة هي ذاتها تناقض في الألفاظ؛ لأن التاريخ من حيث هو ظاهرة متطورة دائمة الحركة لا يقبل غاية يتوقف عندها ، قد تكون هذه غاية لمرحلة معينة في التاريخ، ولكنها لا يمكن أن تكون حدا نهائيا تتوقف عنده حركة التاريخ، ومن جهة أخرى فإن ما يسميه كامي باستباحة كل شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، ما هو إلا السعي إلى قهر العقبات التي تحول دون تطور المجتمع نحو تنظيم إنساني أفضل. •••
وإذن فكل تحول للتمرد إلى ثورة سياسية تاريخية هو في رأي كامي انتكاس لروح التمرد الأصيلة في الإنسان، وارتداد من الرغبة في التحرر إلى الوقوع في براثن الطغيان والاستبداد، فما الذي يفعله المتمرد الحر إذن؟ يجيب كامي عن هذا السؤال بقوله: «لو كان للمتمرد أن يشيد فلسفة، لكانت هذه فلسفة الحدود والجهل المحسوب والمخاطرة؛ فمن لا يعرف كل شيء لا يستطيع أن يقتل كل شيء. إن المتمرد بدلا من أن يجعل من التاريخ قوة مطلقة، يرفضه ويعترض عليه باسم مفهوم يكونه عن طبيعته الخاصة، وهو يرفض موقفه، وهذا الموقف تاريخي إلى حد بعيد ... ومن المؤكد أن المتمرد لن يستطيع أن ينكر التاريخ المحيط به؛ فمن خلاله يسعى إلى تأكيد ذاته، غير أنه يشعر إزاءه بمثل ما يشعر به الفنان إزاء الواقع الذي يواجهه، فهو يزدريه دون أن يهرب منه.»
فالخلاص من المشكلات التي جلبها علينا طغيان التاريخ إنما يكون إذن في «الاعتدال»، أي نبذ التطرف الذي يدعي معرفة كل شيء، والذي يحدد لكل شيء غاية ثم يستبيح لنفسه كل شيء في سبيل بلوغها، ولا بد للتمرد من أن تكون له حدوده، ويعود إلى الأصل الروحي الذي استلهمه في البداية، والواقع أن كامي يمجد فكرة «الاعتدال» أعظم التمجيد، ويرى أنها هي ما يحتاج إليه الإنسان المعاصر حقا، وهو في هذا الصدد يضع تقابلا بين روح البحر الأبيض المتوسط - بما تتسم به من اعتدال وسعة أفق - وبين الروح أو الأيديولوجية الجرمانية بما تتسم به من تعصب وتطرف، وعلى حين أن الكثيرين يتوهمون أن التمرد نقيض الاعتدال، فإن كامي يؤكد أن المتمرد الحق هو ذاته المعتدل، فهو يأبى أن يؤله ذاته، أو أن يمضي في أي شيء إلى حد التطرف، وهو لا يصل أبدا في تمسكه بوجهة نظره - أو في ادعائه المعرفة - إلى حد السعي إلى القضاء ماديا على كل من يخالفه، أو يقف في وجه آرائه.
وبهذا المعنى يمكن القول إن كتاب «المتمرد» بأسره إنما هو رد فعل على النظريات «الشمولية» في الأيديولوجيات المعاصرة؛ فمن السهل على الإنسان في عصرنا هذا أن يكون متطرفا، وأن ينحاز بكل عنف إلى طرف معين ويعادي الأطراف الأخرى، ويحاربها بكل ما يملك من قوة، ولكن أصعب الأمور هي أن يكون المرء معتدلا، وأن يعيش داخل حدود تفرضها إرادته، ويعرف هذه الحدود عن وعي يلتزمها على الدوام، وكما احتج المفكر الدنمركي «سورين كيركجورد» على شمولية المذهب العقلي عند معاصره الألماني هيجل، فإن كامي يعبر في كتابه هذا عن احتجاج مماثل على الأيديولوجيات الموروثة عن هيجل، والتي تأثرت بالفيلسوف الألماني الكبير في نظرته الشمولية إلى العالم؛ ذلك لأن الغاية القصوى لهذه الأيديولوجيات هي تحويل روح التمرد الأصيلة في الإنسان إلى ثورة سياسية لا تعرف حدودا إلا ما تقتضيه حركة التاريخ، وفي سبيل ذلك يستحيل كل شيء، وتستباح «الجريمة» التي أصبحت الطابع المميز للسياسة المعاصرة.
ومن المؤكد أن روح «الاعتدال» التي يدعو إليها كامي، لو كانت ممكنة في عصرنا الحالي، لكانت بالفعل شيئا يستحق الإعجاب، غير أن التجارب العملية للثورات الحديثة أثبتت أن هذا «الاعتدال» مستحيل التحقيق في كثير من الأحيان، فماذا يفعل الثائر حين يجد خصوم الثورة يسلكون مسلك الوحوش الضارية في التنكيل بالأحرار، وفي الدفاع عن مصالحهم الأنانية، والوقوف في وجه كل اتجاه إلى التحرر؟ وماذا يفعل الثائر حين توصد أمامه كل أبواب الاعتدال؟ من المؤكد أن الجزء الأكبر من التطرف الذي يعيبه كامي على الثورات الحديثة إنما يرجع إلى طبيعة المقاومة التي تواجهها هذه الثورات، لا إلى انحراف في الثورات ذاتها، وغالبا ما يكون التجاء الثائر إلى العنف أمرا تمليه عليه طبيعة الخصم الذي يواجهه، ويفرضه عليه هذا الخصم رغما عنه، أما الثائر نفسه فهو - في معظم الأحيان - ذو نفس مفعمة بحب الإنسانية، ولو وجد سبيلا يتسم بالاعتدال لتحقيق أهدافه النبيلة لما تردد لحظة واحدة في أن يسلكه. فالعنف إذن صفة طارئة عليه، تفرضها عليه المقاومة التي يلقاها، وشراسة الخصوم أنفسهم، وفداحة الظلم الذي يتعين عليه أن يحاربه، وعلى أية حال فمهما اتصفت به تصرفات الثائر من قسوة، فلن تكون قسوته هذه شيئا مذكورا بالقياس إلى فظاعة الأوضاع التي يثور عليها.
وبالاختصار فإن التجاء الثائر إلى العنف إنما هو التجاء إلى أسلوب فرض عليه فرضا، وهو في قرارة نفسه يؤثر الاعتدال ويميل إليه، ولكنه لو ظل يتخذه سبيلا إلى تحقيق أهدافه، في مواجهة خصوم خلت نفوسهم من كل روح إنسانية، لكان في ذلك مقصرا في خدمة الرسالة التي آلى على نفسه أن يحققها، ولما استطاع أن يحقق شيئا من مبادئ ثورته وتمرده الأصيل.
«الحلم والواقع» لبرديايف1
قد يكون في وسع التفسيرات الاجتماعية أن تعلل ظهور مذهب فلسفي كالوجودية من حيث هو ظاهرة فكرية عامة تتمثل في عصر معين، ولكن هذه التفسيرات تعجز قطعا عن أن تعلل سبب إيمان هذا الشخص أو ذاك بالمذهب الوجودي؛ فتحمس شخص معين - دون غيره - للمذهب الوجودي هو أمر لا يعلله إلا التكوين الفردي لهذا الشخص، والظروف الفردية التي مر بها في حياته، ومن المؤكد أن مؤلف هذا الكتاب - وهو الفيلسوف الروسي نيكولاي برديايف - هو شخص توافرت له جميع الصفات التي تحتم على المرء - إن كان مفكرا - أن يسير في الطريق الوجودي، والأهم من ذلك أنه يشعر شعورا تاما بوجود هذه الصفات فيه، ويحللها ويعرضها بطريقة دقيقة في كتابه هذا الذي هو ترجمة ذاتية لحياته، وتحليل فكري وفلسفي ونفساني عميق لذاته في نفس الوقت.
فالنزعة الفردية - التي هي من أهم خصائص التفكير الوجودي - تتمثل في برديايف منذ اللحظة الأولى لحياته؛ إذ إنه أرستقراطي النشأة، عرف أفراد كثيرون من أسرته حياة الرهبنة، ويصف هو نفسه نزوعه إلى الفردية وصفا دقيقا، حتى لقد اعترف بأنه يكره التشابه العائلي ويكاد يراه أمرا مشينا (ص14)، وهو اعتراف غريب يكشف لنا عن نفسية بلغ من كراهيتها لأي عنصر مشترك بين الناس أنها تأنف من أن يكون الشخص شبيها بأخيه أو أبيه!
ولكن ربما كان الأغرب من ذلك قول برديايف أنه شعر منذ اللحظة الأولى لولادته بأنه نزل عالما غريبا عنه، وأحس بالتصدع في موقفه من العالم والحياة، وخاض معاركه مع العالم «لا بوصفي إنسانا يريد أو يستطيع أن يغزو هذا العالم ويخضعه لنفسه، بل باعتباري شخصا يريد أن يحرر نفسه من هذا العالم، ويرفض تسلط هذا العالم على حياة الناس» (ص22). وبعبارة أخرى فأنت تشعر منذ اللحظة الأولى أن نزعة برديايف الفردية تصل إلى حد أنه يتمنى ألا يكون إنسانا يعيش في عالم الناس، وإنما كان يود لو كان مخلوقا ملائكيا أو شيئا آخر غير البشر، وليس هذا الذي نقوله مبالغة، وإنما هو أمر يطالعك مرارا على صفحات الكتاب؛ فهو ينفر من الجسد الإنساني ويقول: «وأنا أتمتع بجسد قوي حسن البناء، ولكن أشعر بنفور من وظائفه الفسيولوجية» (ص33). ويقول أيضا: «إن احتياجات الجسد لم تبد لي ذات أهمية على الإطلاق» (ص35). وهو يصف الجنس بأنه «غير صحي وغير نقي»، وكذلك بأنه «دليل على الوضع الساقط للإنسان» (ص75). ويلخص موقفه في هذه المسألة كلها بقوله: «لم أشعر إطلاقا بأنني جزء من العالم الموضوعي، أو بأنني أحتل فيه مكانا محددا أو مركزا معينا» (ص43). وهذا هو موضع الغرابة في هذا النوع من الكتاب، وهو أيضا موضع الطرافة في قراءة مؤلفاتهم؛ ذلك لأن من صفات الإنسان الحق أنه يود أن يعلو على إنسانيته، غير أن الشخص السوي يفعل ذلك من خلال إنسانيته ذاتها، أعني أنه يتجاوز الإنسان بقدرات الإنسان ذاتها، أما الشواذ من ذوي النزعات الفردية فإنهم يرفضون الوضع الإنساني بأكمله، ويتمنون لو كانوا شيئا أعلى من الإنسان، ولما كانت وظيفة كل فلسفة وكل نشاط روحي بوجه عام، هي أن تحلل مشكلات الإنسان ذاته، بكل جوانبه المادية والروحية، الجسدية والعقلية، وتحاول الإتيان بحلول تلائم الإنسان في وضعه الحالي؛ فإنا نستطيع أن ندرك إلى أي حد تبتعد الفلسفات الفردية المتطرفة عن الهدف الصحيح للفلسفة ذاتها، ومع ذلك فإن هذا الابتعاد ذاته من أسباب طرافة هذه الطريقة في التفكير؛ فهي تمثل تجربة غير مألوفة يستمتع الإنسان بالاطلاع عليها حتى لو لم يكن يقبل كل ما فيها من مضمون فكري.
ويطبق برديايف موقفه العام - وأعني به «رفض العالم» - على مختلف المجالات التي يندمج فيها؛ فهو أولا متباعد عن الحياة: «كنت أشعر دائما بأنني على مسافة مما يدعونه عادة بالحياة، والحق أنني أبغض تلك الحياة المزعومة بغضا إيجابيا» (ص33). وهو ثانيا متباعد عن الناس نفور منهم: «ولقد قطعت صلتي دائما بكل جماعة انتميت إليها، ولم أستطع قط التكيف مع أي تجمع، كما لم أتمكن إطلاقا من مجاراة التيار السائد حولي، أو الخضوع لأي إنسان أو لأي شيء» (ص26). وعندما اندمج - رغما عنه - في تلك التيارات الاجتماعية العاصفة التي اجتاحت روسيا في الربع الأول من القرن العشرين، تصارع في نفسه من المتناقضات ما جعل من المستحيل عليه أن يندمج في أية جماعة أو أي مذهب؛ فهو أولا أرستقراطي يعتز بأرستقراطيته «ولا مناص من الاعتراف ... بأن طريقة الحياة الوحيدة التي خلقت لها هي حياة الجنتلمان الروسي الريفي، فما زلت - بمعنى من المعاني - أعتز بهذه الحياة وأشعر بالحنين إليها حتى اليوم» (ص27). ولكن لديه من جهة أخرى ميولا اشتراكية حتمتها طبيعة العصر الذي عاش فيه، ولم يستطع برديايف أن يتغلب قط على هذا التعارض بين النزعات المحافظة والارتباطات الإقطاعية، وبين الميول التقدمية الاشتراكية في تفكيره. وفي هذا التعارض نمت شخصيته، وإليه ترجع مأساة حياته.
فهو من جهة عدو للثورة الشيوعية التي نفته من بلاده، ولكنه من جهة أخرى لا يعطف على النظام القديم، ويؤمن بأن ذلك النظام كان يجب أن يزول، وهو أثناء إقامته في ظل النظام الشيوعي، يهاجم الشيوعية بعنف في سبيل الدين، أو في سبيل حرية الروح بوجه عام: «فإذا كنت أعارض الشيوعية، فما ذلك إلا على أساس حرية الروح، لا لأنني أرغب في الإبقاء على هذا النظام الاجتماعي أو السياسي أو ذاك» (ص234). ومع ذلك فإن هذا الذي طرد من روسيا السوفييتية بسبب ميوله الدينية التي كان يدعو إليها علنا في كل اجتماع يقصده، لم يشعر بالراحة في الاجتماعات التي كانت تقيمها الطوائف الدينية في المنفى (ص255). وبالمثل فإنه رغم كونه قد نفي لميوله اليمينية في السياسة، يتحدى شعور المهاجرين أو المنفيين اليمينيين بآرائه اليسارية، ويقف منها موقفا مضادا معاندا، فيقول إن «الموقف الذي اتخذته الغالبية العظمى من المهاجرين يجعل الاتجاه نحو اليسار بالنسبة إليها لا يزيد عن كونه مجرد احترام أولي للذات» (ص270).
وهذه الفقرة الأخيرة تكشف عن صفة أساسية في شخصيته، هي المخالفة لأجل المخالفة؛ فهو مع الماديين متدين، ومع المتدينين مخالف للدين، وهو بالنسبة إلى عائلته المحافظة الرجعية ثائر سياسي، وبالنسبة إلى الثوار محافظ رجعي، والذي يحدث عادة هو أن النقاد يصفون هذا النمط من الناس بأنه لا يريد أن يكون في هذا الجانب أو ذاك، وإنما يريد أن يكون نفسه فحسب، ومع ذلك فالأمر يصل ببرديايف إلى حد ألا يكون نفسه أيضا؛ فهو في كل أوصافه لذاته يبدي عدم الرضا عن نفسه، ولا يفخر بشيء من خصاله، وكتبه كلها لا تعجبه فيؤكد «أن شيئا منها لا يرضيني في نهاية الأمر»؛ فهو إذن شخص نافر حتى من نفسه، ولعل هذا ما يفسر قوله إن ميوله الحقيقية تتجه نحو الفوضوية (ص307)، وتأكيده قرب نهاية الكتاب أنه يجد نفسه «ممزقا»، ولا يرى حلا قاطعا حاسما (ص312).
فإذا حاولنا أن ننفذ إلى شيء من المضمون الفعلي لتفكيره من وراء هذا التمزق والتناقض الذي لا يحل؛ لوجدنا فكرة أساسية تتردد في كل تعبير له عن فلسفته الخاصة، هي فكرة الحرية، ومن الطبيعي - بعد كل ما رأيناه عن تكوين برديايف النفسي ومزاجه الشخصي ونظرته العامة إلى الحياة - أن تكون فكرته عن الحرية فكرة غير مألوفة على الإطلاق؛ فهو أولا يحدد موقعها العام في فلسفته فيقول: «فالحرية هي المصدر الأول للوجود وشرطه، ولقد وضعت الحرية بدلا من الوجود في أساس فلسفتي» (ص55). ثم يبدأ في تحديد مفهوم الحرية عنده فيقول: «وقد وجدت من نفسي الشجاعة في الإعراض عن أشياء كثيرة في الحياة، ولكنني لم أتخل مطلقا عن أي شيء باسم الواجب أو خضوعا للأوامر والنواهي»؛ ففهمه الخاص للحرية إذن يعد الخضوع للواجب قيدا ثقيلا يتنافى مع الحرية الصحيحة، ويبدو هذا الفهم غريبا من الوجهة الفلسفية إذا أدركنا أن فيلسوفا مثل «كانت» يرى أن الحرية تتمثل أوضح ما تكون في أداء المرء للواجب، ويضع مجال الواجب والحرية في مقابل مجال الطبيعة والحتمية، ويزداد العجب إذا أدركنا أن برديايف - الذي ينادي بحرية يعد أداء الواجب عبودية بالنسبة إليها - من أشد المعجبين ب «كانت»، وبتمييزه الأساسي بين نظام الطبيعة ونظام الحرية.
وهو ينزع عن الحرية أي مضمون سياسي أو اجتماعي؛ فالحرية عنده «ليست ديمقراطية بل أرستقراطية، (وهي) لا تعني الجماهير الثائرة وليست ضرورية لها، بل إن عبء الحرية أثقل من أن تحتمله تلك الجماهير، والوجود الإنساني خاضع لرمزي الخبز والحرية ممزق بهما، والثورات في أغلب الأحيان ترفض الحرية باسم الخبز» (ص223). ولا مفر لي هنا من أن أتساءل: لماذا نضع هذا التقابل الأساسي بين الخبز والحرية؟ أليس الخبز ذاته حرية؛ أعني تحررا من الجوع، وهو أول أنواع التحرر، والشرط الذي لا غناء عنه لاكتساب أي نوع آخر من الحرية؟ وما قيمة الحرص على حرية الثقافة وحدها إن لم يكن الخبز موجودا، أعني إذا كانت الأغلبية جائعة؟ لنفرض أن مثقفا مخلصا خير بين هذا الأمر وذاك، فأيهما ينبغي عليه أن يختار؟ إن أفضل الأمور - بطبيعة الحال - هو الجمع بين الحريتين، ولكن ينبغي أن نذكر على الدوام أن الخبز ليس مضادا للحرية وإنما هو شرطها الأساسي، وإن على المثقف أن يحارب في سبيله مثلما يحارب في سبيل أية حرية أخرى.
ومن الطبيعي - ما دامت هذه هي طريقة برديايف في فهم فكرة الحرية - ألا يجد مكانا لنفسه بين كل جماعات الثائرين الذين نادوا بشعار الحرية في أوائل القرن العشرين. والواقع أن كتابه هذا وثيقة هامة في تاريخ الفترة التي سبقت الثورة الروسية، وكذلك الأعوام الأولى من هذه الثورة. صحيح أن هذه الوثيقة قد كتبها شخص له ميول فردية واضحة، ولكن الأهم من ذلك أنه شخص شارك في الأحداث ذاتها إلى حد ما، كتب بإخلاص وأمانة يندر أن يكتب بهما من شهد تلك الأيام العصيبة من تاريخ روسيا الحديث، ولا أدل على ذلك الإخلاص من شعور الحنين الذي يظهر في كتابه بصورة ضمنية مستترة، والذي يأبى أن يعلنه في ذلك الكتاب جهرا - أعني الحنين إلى بلاده، والرغبة الخفية في مشاركتها مصيرها أيا كان - وولائه لهذه البلاد أيام محنتها أثناء الهجوم النازي، على عكس معظم المهاجرين الروس، ونفوره الواضح من التعقيدات النفسية التي تتحكم في سلوك هؤلاء المهاجرين.
ومع ذلك فإن برديايف لم يكن من النوع الذي يقبل أن تستقر الأمور في أي وضع، حتى لو كان وضعا ثوريا تمناه هو ذاته منذ البداية، إن في نفسه عنصرا فوضويا اعترف به هو ذاته حين قال: «إن ميولي الكامنة في أعماق نفسي تتجه نحو الفوضوية» (ص307). وهذه الميول الفوضوية تجعله ينزع إلى المضي في الثورة إلى ما لا نهاية، ويرى أن الثورة التي تنجح شيء مناقض لذاته؛ لأنها ستصبح نظاما قائما ثابتا، وتفقد طبيعتها من حيث هي ثورة، ولكن الشيء الذي فاته هو أن الثورة المستمرة بدورها مناقضة لذاتها؛ إذ إنه سيتعين عليك أن تثور على ما كنت تتخذه في البداية هدفا ومثلا أعلى تسعى إلى تحقيقه، إنه يود أن يثور على كل نظام، حتى لو كان ذلك الذي دعا إليه طوال حياته؛ إذ إن لديه ميلا شخصيا إلى التمرد على كل ما هو ثابت «وقد انبثق الدافع الثوري عن عجز فطري عن الخضوع لنظام العالم والانصياع لمطالبه؛ فلهذا الدافع إذن دلالة شخصية في المقام الأول لا دلالة اجتماعية. لقد كنت معنيا بثورة الشخص الإنساني لا بثورة الشعب أو الجماهير» (ص113). وهو يزيد فكرته هذه إيضاحا فيقول: «كل ثورة سياسية تنهار بسبب انتصارها نفسه؛ فلا بد أن يكون موضوع الثورة الحقيقية هو الإنسان لا الجماهير أو السلطة السياسية، والثورة الشخصية هي وحدها التي يمكن أن تسمى ثورة»، ولكن كيف يترجم هذا الكلام إلى لغة الناس والمجتمع؟ وماذا تكون قيمته إذا حاولنا أن نطبقه على مستوى الشعوب أو الدول؟ ألا يرحب أكثر الناس رجعية بهذا الرأي الذي يريد أن يحصر الثورة في نفس الفرد وحده، ولا يقبل أي مظهر اجتماعي أو جماهيري من مظاهرها؟ لا شك أن هذه الآراء كانت كفيلة بإسعاد قيصر روسيا إلى أقصى حد، لو كانت هي التي طبقت بالفعل؛ فالثورة الفردية قد لا تتعارض قط مع الرجعية الاجتماعية، وهي دعوة لا تقبل الترجمة إلى لغة المجتمع.
على أن أكمل تعبير عن موقف برديايف من العالم هو ما يسميه بنزعته الأخروية؛ فالقوة الدافعة الأولى إلى هذه النزعة هي شعور بالسخط على العالم والسأم منه: «أهذا العالم الساقط المنكوب ... يمكن أن يمتلك واقعا صادقا أصيلا؟ أليس الإنسان مدفوعا بطبيعة الأشياء نفسها للبحث عن واقع يعلو على هذا العالم؟» وهكذا ترتبط النزعة الأخروية والدينية برفض أساسي للعالم، وبإحساس قوي بأنه لا يجد لنفسه مكانا فيه، وهو إحساس ولده الإخفاق في التكيف مع أي وضع وأي مذهب؛ فمن الطبيعي أن يلجأ ذلك المغترب في هذا العالم، إلى عالم آخر يلوذ به ويركز أفكاره فيه، ويتخذه مهربا من كل ما يراه في عالمنا من «الحقد والقسوة والأنانية» (ص286).
إن عنصر الطرافة والتشويق في هذا الكتاب هو أنه وصف بليغ دقيق وتحليل بارع لنفسية شخص أخفق تماما في التكيف مع أسرته ومجتمعه وعصره، بل مع الحياة ذاتها، ولقد ذكرت من قبل أن في كتاباته شواهد تدل على أنه كان يتمنى ألا يكون إنسانا، ويود في قرارة نفسه لو كان ينتمي إلى عالم يعلو على عالم الإنسان، ومع ذلك ففي نفسيته عنصر يصعب تعليله، وهو حبه للحيوانات، الذي وصل إلى حد بكائه بشدة عند موت قطه الأليف، وموضع الغرابة هنا أن يتمثل هذا الحب الهائل للحيوان لدى ذلك الذي كان يكره الجسد ووظائفه الفسيولوجية وينفر منهما أشد النفور، ولكن ربما كانت هذه الظاهرة تخضع لنفس التعليل، أعني كراهيته لعالم الإنسان ، ورغبته في الهروب منه إلى مستوى أعلى أو مستوى أدنى من مستويات الحياة.
أفق جديد للفلسفة1
سوزان لانجر والفلسفة الوضعية
لا يتمثل تقدم التفكير الفلسفي في كشف حقائق جديدة، بقدر ما يتمثل في إلقاء ضوء جديد على الحقائق الموجودة المعروفة من قبل؛ ذلك لأن قدرة الفلسفة لا تمتد إلى مجال الخلق والإبداع، بقدر ما تنصب على التحليل والتفسير والفهم، وإذا كانت عهود التفكير الفلسفي القديمة والوسيطة قد أخطأت في شيء، فإنما كان خطؤها في عدم إدراك هذه الحقيقة الأساسية، بحيث توهمت أن الفكر وحده قادر على أن يخلق بقواه الخاصة معرفة جديدة، وظنت أن العقل إذا مارس فاعليته على ذاته وحدها - في التفكير الفلسفي المجرد - كان كفيلا بأن يستخلص من ذاته علما كافيا بالعالم، على أن انتهاء هذه العهود الغابرة كان إيذانا بارتداد العقل إلى صوابه، وبإدراك الفلسفة لحدودها ولطبيعته الحقة، وهي أنها ضوء كشاف يلقيه العقل على ظواهر كانت موجودة من قبل، أو استمدت من أحد المصادر المتعددة للتجربة البشرية.
ومنذ ذلك الحين، اعتادت أذهاننا أن تقيس كل فلسفة جديدة تبعا لقدرتها على تفسير جوانب متعددة من التجربة البشرية، أو على إلقاء الضوء على مظاهر متباينة للنشاط الإنساني.
وهكذا توجه الفلسفة في كل عصر أسئلتها وتحدد مشكلاتها على النحو الملائم لذلك العصر ذاته، أما ردودها على هذه الأسئلة أو حلولها لهذه المشكلات؛ فليست في واقع الأمر «لب» فلسفة العصر.
إن طريقة وضع المشكلة وصياغتها - أعني طريقة النظر إلى الحقائق المعروفة من قبل - هي التي تحدد روح الفلسفة، وتعبر عن عبقرية العصر، وقد تظل المشكلة الفلسفية واحدة على مر عصور متعاقبة، ولكن طريقة التساؤل واتجاه الذهن الباحث عن حل لها تختلف من عصر إلى آخر، ويعبر اختلافها عما هو أصيل في روح كل عصر.
فلكل فترة رئيسية من فترات التفكير الفلسفي أفكارها الخصبة القادرة على التوليد، وهذه الأفكار ليست حلولا للمشكلات، وإنما هي الإطار الذي تصاغ فيه المشكلات وتحدد خلاله معالم تفكير الفيلسوف؛ ففي العهد اليوناني منذ سقراط كانت فكرة «الغائية » و«الخير الأقصى» هي المحور الذي يدور حوله التفكير، ولم تكن هذه الفكرة تمثل إجابة محددة على الأسئلة التي تطرأ على ذهن الفيلسوف، وإنما كانت هي القالب الذي يشكل طريقة الفيلسوف في خوض المشكلات ويوجه حلولها. وفي العصر المسيحي كانت معاني الخطيئة والخلاص واللطف الإلهي - مثلما كانت معاني العقل والنقل والحكمة والشريعة في العصر الإسلامي - هي التي تلهب في الفلاسفة حماسة التفكير، وعن طريقها صيغت المشكلات صياغة جديدة، واكتسبت الحقائق المعروفة لونا لم يكن معهودا من قبل، وكان من الضروري أن تتأثر الحلول بهذه الوجهة الجديدة التي سار فيها العقل بفضل هذه الأفكار السائدة، وفي العصر الديكارتي أصبحت المشكلات تصاغ من خلال فكرة الذات والموضوع، وثنائية الفكر والامتداد، والتجربة الباطنة والظاهرة، وصارت الفلسفة تنويعا لهذه النغمة السائدة، أو عزفا على هذا الوتر الرئيسي. •••
فما هي الأفكار التوجيهية السائدة في العصر الحالي، وما هي القوالب الجديدة التي يشكل بها الإنسان تجاربه المألوفة في هذا العصر، لكي يمارسها على نحو يتلاءم مع طبيعة حياته الجديدة؟ حول هذا الموضوع يدور كتاب المؤلفة الألمانية الأصل الأمريكية الجنسية، سوزان لانجر بعنوان «الفلسفة من منظور جديد».
2
وقد ظهر الكتاب لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت الشهرة التي اكتسبها منذ ذلك الحين دليلا على أنه أشار بالفعل إلى منظور جديد للفلسفة أو إلى زاوية جديدة إذا تأملنا من خلالها مشكلاتنا المألوفة أصبحت تبشر بعهد جديد من التفكير الخصب الخلاق.
ولكي ندرك طبيعة هذا المنظور الجديد، ينبغي أن نتأمل أولا طبيعة الاتجاه الفكري السائد في عصرنا هذا. إن حضارتنا في هذا العصر حضارة علمية قبل كل شيء، وفي هذه الحضارة العلمية أصبحت الفكرة التوجيهية المسيطرة على الأذهان هي فكرة «الواقعة»، وأصبحت ملاحظات الحواس التي كان الأقدمون ينبذونها ويعدونها أساسا خداعا للمعرفة هي أداتنا الرئيسية للاتصال بالعالم. إنه عصر تسيطر عليه النزعة التجريبية، وتعبر عن روحه تلك الفلسفات التي ترد كل شيء إلى ما يمكن ملاحظته أو تحقيقه بالتجربة.
ومن هنا كانت الوضعية المنطقية معبرة عن كل شيء أساسي في حياة الإنسان الحديث: هو رفضه الاعتراف بأي شيء سوى ما يتمثل للملاحظة بوضوح، أو ما يمكن تحقيقه بالتجربة على نحو حاسم؛ فكل ما لا يمكن تحقيقه أو تفنيده، هو - في رأيها - كلام لا معنى له، أو «قضايا مزعومة» لا يصح أن نصفها بأنها خطأ أو صواب؛ لأنها كلام يستحيل التفكير فيه.
على أن صفة التجريبية أو الوضعية المتطرفة هذه - في العصر الذي نعيش فيه - إنما هي انعكاس لنوع من الهزال الروحي للإنسان الحديث؛ فمن نتائجها أن يصبح الفن والشعر والميتافيزيقا مجرد تعبيرات عن انفعالات ومشاعر رغبات خارجة عن عالم المعنى ولا تدل على أفكار، وإنما هي أغراض معينة للحياة الباطنة، شأنها شأن الضحك والبكاء، إنها صيحات انفعالية، تعبر عن مشاعر معينة لدى صاحبها، وتثير فينا مشاعر مماثلة، ولكنها لا تمدنا بأية معرفة، ولا تفتح أمامنا أفقا جديدا في فهم العالم أو الإنسان، ولا تقرر في واقع الأمر شيئا له مدلول.
وهكذا تبلغ عقيدة «الوقائع» وعبادة التحقيق والملاحظة حدا يؤدي إلى استبعاد أوجه للنشاط الروحي كانت لها في حياة الإنسان - وما تزال - أهمية قصوى.
وعلى ذلك فإن أية نظرة متكاملة إلى الإنسان - أعني نظرة تضم أوجه النشاط الإنساني كلها في وحدة واحدة، ولا تضع بينها حواجز ولا تفرق بين مراتبها - ينبغي أن تدخل الفن والشعر والميتافيزيقا وطقوس العبادة في عالم المعنى، عالم التجارب التي تضفي ثراء على حياة الإنسان، وتوسع أفقه الروحي، وتزيد من فهمه لنفسه وللعالم المحيط به، ولكي يتحقق هذا الهدف، فلزام علينا أن نعيد النظر في فكرة المعنى والدلالة ذاتها، وفي المجال الذي يصح أن يقال إن نشاطنا فيه يوسع نطاق معرفتنا وفهمنا للأمور، أي أن نتأمل عقل الإنسان ونشاطه الروحي من منظور جديد. •••
إن الإنسان كائن يعيش في عالم من الرموز والمعاني، أكثر مما يعيش في عالم من الإحساسات؛ «ففي استطاعة شخص مثل هيلين كيلر، حرم السمع والبصر، بل شخص لا يملك إلا حاسة واحدة هي اللمس، أن يعيش في عالم أوسع وأغنى من ذلك الذي يعيش فيه أي حيوان يملك كل حواسه المرهفة.»
وهكذا يمكن القول إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو قدرته على صنع الرموز، وهي القدرة التي تتبدى أساسا في اللغة، التي خلقت للإنسان عالما فريدا لا يشاركه فيه كائن آخر، وفتحت أمامه أبواب السيطرة على الكون. إن عملية صنع الرموز هي النشاط الرئيسي المميز للإنسان، وهي العملية الذهنية الأساسية التي تستمر بلا انقطاع.
وإذا كانت عملية خلق الرموز وإضفائها على العالم مستمرة لا تنقطع، فليس لنا أن نقصرها على وجه واحد من أوجه فاعلية الذهن البشري كالتفكير؛ ذلك لأن للذهن أوجه نشاط أخرى غير التفكير، وإن يكن هذا الأخير هو أهم هذه الأوجه وأبعدها أثرا في حياة الإنسان، وكل هذه الأوجه الأخرى حافلة بالمعاني، وإن تكن هذه المعاني من نوع مخالف لذلك الذي ينتجه الذهن المفكر؛ فالإنسان في سعي دائم إلى التعبير عن نفسه، وإذا كان التعبير الفكري هو أوضح مظاهر هذا السعي فليس معنى ذلك أنه الوحيد، وإنما يعبر الإنسان عن نفسه في مظاهر أخرى متعددة، منها ما يتم في اليقظة، ومنها ما يتم في المنام، وقد لا يكون لنشاطه هذا أي غرض عملي ملموس؛ لأن الطاقة الذهنية الفائضة، والثروة المختزنة في الروح الإنسانية ستنطلق، سواء أكان لانطلاقها هدف علمي أم لم يكن.
وعلى ذلك فإن عالم المعاني أوسع نطاقا بكثير من عالم اللغة؛ فمع اعترافنا بأن اللغة هي أهم مظاهر نشاط الذهن البشري في اتجاهه إلى التعبير عن نفسه تعبيرا ذا معنى، ينبغي أن نعترف في الوقت ذاته بأن نطاق التعبير ذي المعنى - في الإنسان - أوسع كثيرا من نطاق اللغة. إن الحلم ذاته قد يكون تعبيرا له معناه - من خلال رموز معينة - عن تجارب بشرية حقيقية، وما كشوف التحليل النفسي بأسرها إلا تأكيد لهذه الفكرة، أعني فكرة ضرورة إدخال الأحلام ضمن أوجه النشاط البشري ذات المعنى والدلالة، وعدم الاستخفاف بها أو استبعادها بحجة أنها أخيلة جوفاء متخبطة لا دلالة لها.
صحيح أن تعبير الحلم لا يقاس بمقاييس المنطق اللغوي؛ لأنه لا يتضمن «قضايا» يمكن تطبيق معايير التحقيق عليها، غير أن المنطق اللغوي كما قلنا لا ينتظم مجال المعنى بأسره، وبالتالي فإن معاييره ليست هي الحدود القصوى للمعقولية، وهكذا يتفتح أفق جديد ضخم أمام العقل البشري في اللحظة التي يبحث فيها احتمال كون عالم المعنى أوسع من عالم الفكر اللغوي أو المقالي
discursive ، وحين يبدأ في تأمل نواتج الروح البشرية على أنها تعبيرات لها معناها، ولكن بطريقة خاصة غير لغوية، عن تجارب إنسانية أصيلة، وليست مجرد رجوع إلى حالة سابقة على المنطق، أو مظاهر لعالم غامض مبهم من التجارب المجهولة التي لا يدركها وعينا، ولا يمكن نقلها إلى وعي الغير. •••
فلنتأمل ما يحدث بين الشعوب البدائية حين يقوم أفرادها بنشاط مثل أداء الشعائر والطقوس، إن هذا النشاط ليس في هذه الشعوب لهوا ولا مرحا على الإطلاق، وإنما هو نشاط جاد تماما، وقد يتخذ صورة قاسية عنيفة، كما في احتفالات الوصول إلى سن البلوغ، حيث يمر الشبان بمحن أليمة قد تودي أحيانا بحياتهم، كذلك فإنه ليس نشاطا يستهدف غاية عملية مباشرة في حياة هذه الشعوب، وإنما هو أساسا محاولة بدائية ساذجة لفهم العالم والتماس التوجيه في السلوك، وهو مظهر لبداية التفكير الجاد في العالم، وعلامة على بزوغ التبصر الخلاق للناس بالحياة، إنه ينبثق عن حاجة أساسية لدى الإنسان، وهو نشاط تلقائي صرف، لا يدفعه شيء سوى النزوع إلى التعبير الرمزي عن تجارب لا يمكن التعبير عنها بأية وسيلة أخرى؛ فهو إذن حافل بالدلالة، جدير بالانتماء حقا إلى عالم المعنى.
ومثل هذا يقال عن الأساطير؛ فهي ليست مجرد مظاهر لقصور العقل أو لسيادة الجهل في شعب بدائي، وإنما هي محاولة للإطلال على الحياة والكون من خلال أفكار سياسية كالقوة والإرادة والموت والحياة. وهكذا يرى الإنسان البدائي في كل موضوع يحيط به معاني رمزية، فينسب إلى هذا الموضوع دلالة صوفية، ويراه بالفعل معبرا عن مخاوفه أو آماله أو مثله العليا.
إن العالم يتحول - من خلال الأسطورة - إلى مجموعة من المعاني الذاتية التي هي أساسا مظاهر لنزوع الذهن - في أول مراحله - إلى الفهم.
ولو بحثنا في أية أسطورة عن دلالات حرفية مباشرة؛ لوجدناها بالطبع مدعاة إلى السخرية، ولكن هذه الطريقة في تأمل الأسطورية تفوت علينا فهم دلالتها الحقيقية، وهي الدلالة «الرمزية»، التي تتحول فيها قوى الطبيعة إلى رموز حافلة بالمعاني المعبرة عن أعمق ما في النفس البشرية في هذه المرحلة من تاريخها. •••
أما الميتافيزيقا، فقد قيل عنها إنها لا تقرر شيئا، وأكد كارناب
Carnap
وفتجنشتين
Wittgenstein
أن قضاياها ليست صادقة ولا كاذبة، وأنها بالتالي تخرج عن نطاق عالم المعنى، وإنه لعسير على الإنسان أن يرى ميدانا كاملا من ميادين الفكر البشري - هو في الوقت ذاته واحد من أقدم ميادين هذا الفكر - يستبعد بهذه السرعة وهذه السهولة، من مجال ما له معنى من نواتج الذهن الإنساني، فهل كان النشاط الذي مارسه العقل البشري طوال هذه القرون، والمذاهب العديدة التي عبر فيها عن أفكاره الميتافيزيقية؛ هل كان ذلك كله شيئا لا معنى له؟ لنفرض أن قضايا الميتافيزيقا ذاتها تفتقر إلى المعنى؛ لأن العقل لا يستطيع تحقيقها أو تفنيدها، فلا تكون لهذا النشاط ذاته - بغض النظر عن مضمونه من القضايا الخاصة - دلالة ما؟ ألا نستطيع أن نستخلص معنى من محاولات الذهن الدائمة خوض هذا الميدان، بغض النظر عما يحرزه من محاولاته هذه من النتائج؟ ألا يبدو لنا أن الفيلسوف الألماني الأكبر «كانت» قد وضع أصبعه على حقيقة بالغة الخطورة، حين قال في السطور الأولى من تصدير الطبعة الأولى لكتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص»:
إن للعقل البشري هذا المصير الغريب، وهو أنه في أحد أنواع معرفته (يقصد الميتافيزيقا) تلح عليه أسئلة لا يستطيع تجاهلها؛ لأن طبيعة العقل ذاتها تفرضها، ولكنه أيضا لا يستطيع الإجابة عنها؛ لأنها تتجاوز جميع قواه.
في هذه الأسطر القليلة، أدرك «كانت» السر، وكأني به يقول: لا تستهينوا بالميتافيزيقا مهما تخبطت، ومهما عجزتم عن تحقيق قضاياها إيجابا أو سلبا؛ إذ إن هناك «سرا» في تلك القوة التي تفرض بها الميتافيزيقا ذاتها على نفس الأذهان التي تعلم أنها لن تصل فيها إلى نتيجة، وأنها ستنتهي حتما - كغيرها من الأذهان السابقة عليها - إلى طريق مسدود، وما كان كتابه هذا بأسره إلا محاولة لكشف هذا السر، وللرد - قبل قرن ونصف من الزمان - على محاولة استبعاد الميتافيزيقا من مجال النشاط الذهني ذي المعنى.
ولو شئنا أن نعبر عن سر الميتافيزيقا بلغتنا الحديثة لقلنا إن أهميتها كلها إنما تكون في «نزوعها» ذاته، وفي سعيها الدائم الذي لا يثبطه إخفاقها المستمر؛ فها هنا شيء لا بد أن تكون له دلالته، وما هذه الدلالة إلا سعي العقل إلى ملء حياته بالمعاني، التي لا يستمدها كلها من العلم.
إن العلم - في تقدمه المستمر - يحول أفكارا معينة من مجال التأمل الميتافيزيقي إلى مجال الوقائع، ولكن عملية التحويل هذه تتناول نطاقا محدودا، مهما أحرز العلم من تقدم؛ لأن حركة العلم وسعيه إلى مزيد من المعقولية دليل على أن كل شيء لم يتحول بعد إلى وقائع علمية، أعني أنها دليل على أن للسعي الميتافيزيقي مجالا في تجربة الإنسان، صحيح أننا لو افترضنا أن العلوم كلها قد استقرت، وأن اللغة البشرية قد بلغت حد الدقة الكاملة، وأن حركة المعرفة قد توقفت لأنها لم تعد تجد ما تتجه إليه؛ فعندئذ لن يعود للميتافيزيقا مجال، غير أن هذا افتراض للمستحيل، وبالتالي فسوف تظل الميتافيزيقا تغطي تلك الأرض التي لم يمتد إليها ظل العلم بعد.
والأهم من ذلك أن «النزوع» الميتافيزيقي سيظل له مبرره، حتى على الرغم من إدراك الإنسان عدم جدواه؛ إذ إن من صفات العقل البشري ألا يترك مجالا للتجربة دون أن يضفي عليه معنى، وهو لا يقبل أن يترك «فراغات» خالية من الدلالة في عالمه، هذه هي طبيعته، وعلى هذا فطر. •••
والفن، ماذا نقول عنه؟ أهو مجرد صيحات انفعالية، ولكن على مستوى عال؟ أم هو نظام رمزي يعبر عن معان تنتمي إلى مجال أوسع من مجال اللغة الكلامية، ويكون تجربة أصلية تقف إلى جوار تجربة التفكير اللغوي، وينبغي أن تقاس بمقاييسها؟
إن الفن أولا ليس تجربة تبعث اللذة أو ترضي الحواس مباشرة؛ لأنه لو كان كذلك لأمكن أن يتذوقه الجميع بمقدار متساو، على حين أن الفن - في أيامنا هذه التي أصبحت فيها روائعه متاحة لأكبر عدد من الناس - لا يجد استجابة إلا لدى القلة منهم فحسب، مع أن ما يبعث الرضا في الحواس يلقى من الجميع نفس الاستجابة، وفضلا عن ذلك، فحسبنا أن نتأمل اتجاهات الفن المعاصر لندرك أن الفن لا يجلب في كل الأحوال لذة الحواس أو يبعث السرور في النفس، وإذن فدلالة الفن لا تنقل إلينا مباشرة؛ لكي تدركها حواسنا على نحو ما تدرك موضوعاتها المألوفة، فهل تكون الأعمال الفنية - كما تقول نظرية التحليل النفسي - رموزا لأشياء محبوبة أو مرغوب فيها، ولكنها ممنوعة أو محرمة علينا، بحيث تكون هذه الأعمال تعبيرا عن رغبات لا شعورية تستخدم الموضوعات التي تمثلها أداة لتصوير الأخيلة الخفية في نفس الفنان؟ إن نظرية كهذه لا تقدم أساسا للتفرقة بين العمل الفني الجيد والعمل الفني الرديء؛ فهي قد تعلل سبب ظهور العمل الفني عند الفنان، أو سبب إقبال الناس عليه، ولكنها لا تمدنا بمعيار «للامتياز» الفني؛ لأن ما تتحدث عنه إنما هو سمات تظهر في أي عمل فني، قيما كان أو تافها.
وأخيرا فليس الفن مجرد تعبير انفعالي عن ذات الفنان، الذي يحس بمشاعر معينة ويبعثها فينا عن طريق إثارة مشاعر مماثلة في نفوسنا.
فالرسالة التي ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلي للفنان. إن الفن يفتح لنا آفاق عالم من المعاني التي يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد لا تشاركه إياه وسيلة أخرى من وسائل التعبير.
ولو شئنا أن نتأمل الصفة الرمزية للفن على أوضح صورة ممكنة، فلنركز بحثنا في الموسيقى التي وصفت بأنها فن الصورة الخالصة بلا مادة، وبأنها الفن الذي لا يستمد مضمونه من أي موضوع خارجي مباشر.
إن لتركيب الموسيقى كثيرا من الخصائص التي تتيح استخدامها رمزيا، وتقترب بذلك من طبيعة تركيب اللغة؛ فهي تتألف من وحدات منفصلة (هي أصوات السلم الموسيقي) يمكن الجمع بينها على أنحاء مختلفة كل الاختلاف، كما أن لهذه الوحدات القدرة على أن يغير بعضها طبيعة بعض عند تجمعها، كما يحدث للكلمات عندما تتجمع في بيت من الشعر مثلا، ومع ذلك فإن هناك فارقا أساسيا بين الموسيقى وبين اللغة؛ إذ ليست للموسيقى مفردات ذات معنى ثابت؛ لأن الأصوات والأنغام الموسيقية ليست لها أية دلالة ثابتة، على عكس الحال في الكلمات اللغوية.
وإذن فالموسيقى هي عالم من المعاني المستقلة عن المعاني اللغوية، ومن العبث أن نلوم الموسيقى على عجزها عن التعبير عن مشاعر كالحزن أو الفرح بنفس الدقة التي تعبر بها اللغة الكلامية عنها؛ إذ لو كانت الموسيقى تستهدف مثل هذه الدقة والوضوح لكان عملها مجرد ازدواج للوظيفة اللغوية، على حين أنها هي وسائر الفنون إنما تكشف عن أوجه أخرى من عالم المعنى، غير تلك التي تختص بها اللغة.
إن الموسيقى لا تقبل «الترجمة» إلى اللغة؛ فهي وسيلة للمعرفة أو لكشف المعنى تقف مع اللغة جنبا إلى جنب.
فعلى أي نحو إذن تعبر الموسيقى عن عالمها الخاص من المعاني؟ إنها تعبر عنه بطريقة رمزية؛ إذ إن القالب أو الصورة
form
التي تصاغ بها الموسيقى إنما هي العنصر الأساسي في تركيبها؛ فتاريخ الموسيقى إنما هو تاريخ الابتعاد التدريجي عن الاتجاه التعبيري المباشر، والاقتراب من المثل الأعلى للصورة الكاملة، وازدياد أهمية القالب أو الصورة يدل على أن صلة الموسيقى بموضوعاتها ليست صلة محاكاة مباشرة؛ إذ إن المرء لا يكون بحاجة إلى اصطناع صورة أو قالب معين لكي يحاكي مباشرة موضوعا خارجيا يتمثل أمامه، أو لكي ينقل إلينا انفعالاته الذاتية، إن مادة الصوت الموسيقي وصورته تنفيان عنه تماما فكرة محاكاة الموضوعات الخارجية، أما المشاعر التي تعبر عنها الموسيقى، فليست هي المشاعر الذاتية للفنان وحده؛ فالرموز الموسيقية تكشف لنا عن عالم من المعاني أشمل من ذلك كثيرا، إنها تكشف عن مدى معرفة الموسيقار بالنفس البشرية ومشاعرها، وبذلك تكون الموسيقى معبرة عما هو أزلي، وعما يتجاوز الوقت واللحظة المناسبة، إنها تقدم إلينا نوعا من الاستبصار والمعرفة الجديدة بعالم المشاعر في ذاتها، ذلك العالم الذي يمكن القول بأن أبوابه تظل مغلقة أمام أنواع التعبير الأخرى كالتعبير اللغوي مثلا؛ فالانفعالات التي تنفذ أذهاننا إلى ماهيتها بفضل الموسيقى ليست انفعالات فردية أو ذاتية، وإنما هي «الصورة المنطقية» للانفعالات (إن جاز هذا التعبير)، كما تتكشف لنا من خلال هذا الوسط الخاص من وسائط نقل المعاني إلى الأذهان.
ففي الموسيقى إذن يجد المرء تأييدا واضحا للرأي القائل إن اللغة ليست هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة المعاني، وإن الوظائف اللغوية لا يتعين أن تتكرر بالضرورة في الوسائل الأخرى لهذه المعرفة؛ لأن هذه الوظائف ليست نهائية ولا مطلقة.
وإذا كانت اللغة تعبر عن وجه معين للواقع، فإن الفنون - ولا سيما الموسيقى - تعبر عن أوجه أخرى لا يمكن كشف النقاب عنها على أي نحو مخالف. إن حدود اللغة ليست هي آخر حدود التجربة البشرية، وقد تعجز اللغة عن الوصول إلى تجارب معينة، وتظل للذهن مع ذلك وسائله الخاصة في الوصول إلى هذه التجارب، ومن الواجب أن تفسح نظرية المعرفة مجالا لهذه الوسائل الأخرى - كالفن والموسيقى بوجه خاص - إذا شاءت هذه النظرية أن تكون شاملة لكل أطراف عالم المعاني. •••
فما الذي يترتب على اتساع نطاق نظرية المعرفة إلى الحد الذي يتيح لها استيعاب المعنى الفني في داخلها؟ إن أفقا جديدا يتجلى لنا عندما نتخلى عن تلك النزعة العلمية المتطرفة، التي تكون فيها نظرية المعرفة مجرد نقد للعلم، مقيد بحدود اللغة وبالمظاهر «الخارجية» لتجارب الإنسان، في هذا الأفق الجديد يتسع نطاق المعاني التي تتناولها الفلسفة فيشمل التجارب «الداخلية» التي تنقلها إلينا نظم رمزية أخرى غير اللغة، وعندما نتحرر من إسار اللغة وشروط صحة التفكير المرتبط بالصيغة اللغوية، يتسع نطاق حياتنا الروحية ذاتها إلى حد لم يطرأ ببالنا من قبل.
إن الإنسان الحديث يعيش في أزمة روحية وحضارية؛ فالحياة الآلية قد ضيقت نطاق عالم المعاني الذي يعيش فيه، وأفقدته الإحساس بتلك الرمزية الحيوية التي تحفل بها الطبيعة؛ ذلك لأن مجتمع المدنية الصناعية قد فصل الإنسان عن الطبيعة فصلا كاد أن يكون تاما؛ فلم تعد تجربته تتضمن الإحساس بالقوى الطبيعية المباشرة وبما تنطوي عليه من رموز تثري حياته الروحية.
إنه يعيش في عالم صنعه هو بكل تفاصيله، وبالتالي فقد كل دلالة رمزية له؛ لأن ما يصنعه الإنسان يتكشف كله له، ولا يعود فيه سر ولا غموض، ولا يصلح لكي يتخذ رمزا لمعنى غير مباشر.
ولم يعد العمل الذي يمارسه الإنسان موقظا لذهنه أو مثيرا لخياله، وإلا فأين الخيال في حياة الصانع الذي يدير مسمارا معينا ألوف المرات كل يوم أمام الرصيف المتحرك في مصنعه؟ وأين المعاني الموحية في عمل كاتب السجلات الذي يتلقى كل يوم ألوف الأوراق ويقتصر نصيبه في العمل الاجتماعي على ترقيمها برقم مسلسل؟ إن معين الخيال في هذا النوع من الأعمال - الذي تحفل به الحضارة الحديثة - لا بد أن يجف وينضب، وليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن تنتشر في هذا العصر فلسفة ترى في التحقيق الواقعي معيارا نهائيا «للمعنى»، وتتخذ من القضايا اللغوية ميدانا أوحد لنشاط الذهن، وتصف كل ما عدا ذلك من نواتج الروح بأنه من قبيل الانفعال الغامض الذي لا يقبل التعبير عنه، والذي يظل إلى الأبد متخلفا عن ركب العقل الظافر.
إن مثل هذه الفلسفة إنما هي المقابل الفكري لحياة حضارية خلت من كل محتوى رمزي حي، وانفصل فيها الإنسان عن الطبيعة حتى لم يعد يرى منها إلا أشباحا من صنعه هو.
على أن نفس الحضارة التي اقتلعت الإنسان من جذوره الطبيعية، كفيلة في الوقت ذاته بإثراء حياة الروح على نحو لم يحلم به الإنسان طوال تاريخه من قبل؛ فالإنتاج الصناعي الذي يهدد بأن يحيل عمل الإنسان إلى نشاط آلي يقتل كل خيال خلاق، هو ذاته الذي يمنح الإنسان من الفراغ ما يتيح له تنمية أسمى مواهبه وأرفعها، والآلات التي تحجب عن الإنسان وجه الطبيعة هي ذاتها التي تضع في متناول يديه - في سهولة ويسر - روائع الإنتاج الثقافي والفني كما تراكمت على مر الأجيال.
وهكذا فإن لحياة الإنسان الحديث وجها آخر غير ذلك الوجه الذي يقيده بعالم الوقائع المحققة ويرى فيه المجال الوحيد لنشاطه الفعال. في ذلك الوجه الآخر يتسع أفق العقل البشري، ويمتلئ بشتى أنواع التجارب التي تسهم كلها في فتح أبواب المزيد من المعاني أمام الإنسان.
وإذا كان الأمل الأعظم للبشرية - في كفاحها الحاضر - هو أن تتخذ من الحضارة الصناعية الحديثة أداة لإثراء حياة الإنسان بدلا من إفقارها، فلا جدال في أن الفلسفة الجديرة بأن تعبر عن هذا الأمل، هي تلك التي تفتح أبوابها أمام شتى ألوان التجارب البشرية، من شعر وفن وتأمل، وترى في هذه التجارب كلها محاولات على مستويات مختلفة لفهم الإنسان وعالمه، محاولات لها دلالتها ومعناها؛ لأن عالم المعنى والدلالة في الإنسان أوسع وأرحب من أن تستوعبه اللغة العلمية وحدها.
Bog aan la aqoon