إن هدف الكثير من العلماء - ولا أقول كلهم؛ لأن الأنماط الطامعة أو المتطلعة إلى إشباع رغباتها المادية موجودة على الدوام - هو أن يشعروا بأن جهودهم تجد صدى في المجتمع الذي يعيشون فيه، وبأن الحكام يسعون مخلصين إلى التغلب على عوائق التخلف والتخلص من مشكلات الفقر والجهل، في هذه الحالة لن يعود انخفاض مستوى المعيشة في مجتمعاتهم أمرا منفرا، ولن يهرب العالم إلى بلد آخر يتمتع فيه بالمرتب الضخم والحياة الرغدة، ذلك لأنه أصبح يشعر بأن عليه رسالة يؤديها، وهذه الرسالة تعطيه رصيدا معنويا يعوض - في حالة الكثيرين - ما يشعر به العالم من حرمان في حياته المادية.
إن العلماء لا يهربون لأن مجتمعهم فقير فحسب، بل إنهم يهربون لأن هذا المجتمع فقير ولا يريد أن ينتشل نفسه من الفقر، جاهل ولا يبذل جهدا من أجل تخليص نفسه من الجهل، وحين يصبح الجو العام السائد في المجتمع هو جو الكفاح من أجل النهوض والتقدم، وحين يحس كل مخلص بأن صوته مسموع، وبأن جهوده تحدث صداها، وبأن المجتمع بأسره يسير نحو المستقبل بأمل باسم، عندئذ سيتضاءل إلى أبعد حد عدد الهاربين، وأغلب الظن أن نسبة كبيرة ممن رحلوا من قبل سيعودون وهم على وعي تام بصعوبة الظروف التي سيرجعون إليها، ولكن المهم أنهم أصبحوا مقتنعين بأن كل فرد في المجتمع، ابتداء من أعلى المسئولين حتى رجل الشارع العادي، يبذل أقصى جهده من أجل الإصلاح في حدود إمكانات المجتمع المتواضعة.
في أمثال هذه المجتمعات يعود العلماء المهاجرون لكي يشاركوا في تحقيق الأمل، ويبذلون جهودهم من أجل ابتكار أساليب بسيطة وأقل تكلفة، تتيح حل المشكلات المتوطنة في المجتمع، وتمضي المسيرة بخطى سريعة قد تؤدي - في زمن غير بعيد - إلى لحاق المجتمع بركب التطور وإسهامه في خلق عالم أفضل للإنسان. •••
إن جانبا كبيرا من مشكلة هجرة العقول يرتد إلى أخطاء العالم الثالث نفسه، صحيح أن هذا العالم يحمل أكثر مما يطيق، وصحيح أن المجتمعات المتقدمة تنظر إليه من خلال مرآة مشوهة تجعله يبدو في نظر الرجعيين من أبناء هذه المجتمعات أشبه بالبقرة الحلوب، وفي نظر التقدميين منهم أشبه بالقديس الفقير المخلص الذي سيحرر الأغنياء من أخطائهم وهو يحرر نفسه من سيطرتهم عليه ... هذا كله صحيح، ولكن ما لا يقل عنه صحة هو أن العالم الثالث نفسه مسئول عن قدر كبير من أخطائه، وهو مسئول أساسا عن تلك الأخطاء التي تؤدي إلى هروب أمله الوحيد في تعويض التخلف واللحاق بركب المدنية المتقدمة، وأعني به العقل والعلم، ولعل أول مظاهر شعوره بهذه المسئولية هو أن يدرك عن وعي أن العقول لا تهاجر لأنها تتلقى إغراءات من الخارج فحسب، بل إن للمشكلة أبعادا أخرى لا تقل عن هذه أهمية، يقف على رأسها شعور العالم بأن العقل والعلم لم يعد له وزن في بلاده، وعلاج هذا الجانب الأخير ينتمي إلى مسئولية بلاد العالم الثالث ذاتها.
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
إن الحديث عن شخصية الأمة - أيا كانت - يواجه من حيث المبدأ اعتراضات علمية منهجية لا يستطيع المرء أن يستخف بها إلا إذا كان ممن يستخفون بالقيم العلمية ذاتها، وأقل ما يقال في هذا الصدد هو أن من الخطورة بمكان - من وجهة نظر العلم - أن نشبه الأمة بالفرد من حيث وجود سمات ثابتة للشخصية؛ إذ إن مثل هذا التشبيه ينطوي على تعميم لا يقبله العلم إلا إذا أحيط بضمانات وتحوطات تؤدي - آخر الأمر - إلى تضييق نطاقه وتقييده بشروط لا يعود معها ذلك التعميم مجديا، بل إن الملاحظة الدقيقة - حتى لو لم تكن علمية بالمعنى الصحيح - تثبت في كثير من الأحيان بطلان تلك الأحكام العامة التي يشيع إصدارها على شخصيات الشعوب؛ فكل من زار بلدا غير وطنه الأصلي يذهب إليه وفي ذهنه مجموعة من الأحكام المسبقة السريعة التعميم، فإذا أقام في هذا البلد ردحا كافيا من الزمان، وكانت لديه فرصة معقولة لكي يكون لنفسه فكرة صائبة عن أحوال الناس فيه، فإنه يعود من إقامته هذه - في معظم الأحيان - بحكم مختلف عن ذلك الذي بدأ به زيارته، وحتى لو تمسك بحكمه الأصلي فإنه يقرنه بتحفظات شديدة تزيل عنه طابع التعميم الشامل الذي كان يتسم به في البداية، ومجمل القول أن موضوعا كهذا الذي نحن بصدده يثير منذ البداية - ومن حيث المبدأ - اعتراضات منهجية أساسية، لا يجد المرء معها مفرا من أن يعمل لها حسابا قبل أن يخوض في الموضوع ويتعمق في تفاصيله.
على أننا لسنا نتحدث عن شخصية أية أمة، بل إن حديثنا ينصب على أمتنا بالذات، وهو لا ينصب عليها في وقت يستحب فيه التأمل ويتسع فيه المجال للتفكير الهادئ، بل إن هذا الحديث يأتي في فترة ربما كانت من أحرج الفترات التي مرت بها هذه الأمة في تاريخها الطويل، وهنا يحق لأي معترض أن يشير إلى صعوبتين أخريين.
فإن كنا نتوخى في حديثنا هذا أن نكون موضوعيين، فإن الموضوعية عسيرة إلى أبعد الحدود في أوقات المحن والأزمات؛ إذ إن التوتر الانفعالي الذي يصاحب هذه الأزمات، واللهفة الشديدة على التخلص من المحنة والخروج من الأزمة، لا يدع للمرء فرصة لكي يتحدث عن شخصية أمته حديثا موضوعيا يتسم بنزاهة العلم وحياده.
أما إذا كانت الغاية من بحث موضوع كهذا غاية عملية، لا تكتفي بالدراسة النظرية للظواهر، بل تنتقل إلى إيضاح السبل اللازمة لمعالجة النقائص ومداواة العيوب، فلن يكون من العسير أن يعترض المرء بأن وقت المحنة ليس أنسب الأوقات للكشف عن المثالب، ولا هو بأفضل الفرص للبحث عن وسائل الخلاص منها.
وخلاصة القول أن حديثنا هذا عن الشخصية المصرية يواجه اعتراضات متعددة تتلخص - آخر الأمر - في اعتراضين أساسيين: أحدهما ذو طبيعة علمية منهجية، يشكك في إمكان الوصول إلى نتيجة لها قيمتها في موضوع كهذا، ولا يؤمن بإمكان تحقيق الموضوعية في هذا الميدان، والآخر يستمد انتقاده من طبيعة اللحظة التاريخية التي نمر بها، فيؤكد أن مثل هذا الحديث - حتى لو سمح به العلم وأجازه - إنما يأتي في غير أوانه.
Bog aan la aqoon