ما هي «الروحانية»؟
إن قدرا كبيرا من سوء الفهم، يرجع إلى الافتقار إلى الدقة في تحديد معنى «الروحانية»؛ فالكثيرون يتصورون أن الروحانية هي الاعتراف النظري بعقيدة معينة، وأداء شعائرها وطقوسها، ومثل هذا المعنى شكلي بحت، وهو لا يمثل إلا السطح الظاهري مما تدل عليه الروحانية الصحيحة، وقد يظن من يعترف نظريا بمثل هذه العقيدة ويؤدي شعائرها، أنه قد حقق بذلك القيم الروحية في نفسه. ولكن هل من الصحيح أن مثل هذا المسلك يوفي القيم الروحية حقها؟
إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الروحانية هي - قبل كل شيء - جهاد وكفاح ومغالبة، وذلك الذي يقتصر على الاعتناق الشكلي للعقائد لم يكافح ولم يغالب شيئا، ولو وضعت مصالحه الحقيقية في كفة وجوهر عقيدته في كفة أخرى، لسعى بكل قواه إلى ترجيح الأولى. على أن جانب الخطورة لا يتمثل في الوجه الفردي لهذه الظاهرة ، بل يكمن في وجهها الاجتماعي؛ ذلك لأن المجتمع بدوره يقر مثل هذا السلوك ويعده أمرا طبيعيا لا غبار عليه، خذ مثلا ذلك التاجر الذي يؤدي فروض الدين كلها كأحسن ما يكون الأداء، ثم يعلم أن بضاعة مختزنة لديه قد شحت في الأسواق، فلا يتردد لحظة واحدة في رفع سعرها، مثل ذلك السلوك الفردي ينطوي على تجاهل تام للروحانية الحقيقية، ولكن الأهم من ذلك أن المجتمع لا يجد في هذا المسلك مأخذا؛ فسلوك هذا التاجر في نظر المجتمع مشروع ما لم يكن الأمر متعلقا بسلعة محددة السعر، وهو في نظر معارفه دليل على الفطنة وبعد النظر، ولا تعارض بينه على الإطلاق وبين المظهر «الروحي» الخارجي الذي عرف به صاحبه بين الناس.
على أن هذا الفهم الباطل للروحانية قد اتخذ في عالمنا المعاصر مظهرا أخطر بكثير، هو المظهر الأيديولوجي، الذي أصبحت فيه الروحانية وسيلة لمقاومة الاشتراكية في صورتها المكتملة، وهذا المظهر الأيديولوجي هو الذي ينبغي التنبه إليه وتحليل أسبابه وتحديد مدى البطلان فيه.
ذلك لأن من أعجب المفارقات في عالمنا المعاصر أن الدفاع عن القيم الروحية أصبح هو الشعار الذي تنادي به أشد النظم الاجتماعية إغراقا في الماديات، وأبعدها عن كل ما تسمو به الروح وتزهو به الفضيلة والأخلاق؛ ففي عالمنا هذا تتكرر مرة أخرى، قصة التاجر الذي يسرق عملاءه، ويظهر أمامهم برغم ذلك بمظهر الغيور على التقوى والإيمان، فكيف وصل فكرنا إلى الوقوع راضيا في هذا التناقض؟
إننا نعلم جميعا أن أشد الدول الرأسمالية إغراقا في استغلال الإنسان - داخل بلادها وخارجها - وفي العدوان على كل القيم التي تعتز بها البشرية، تتباكى من الوجهة الأيديولوجية على القيم الروحية التي تقضي عليها الاشتراكية المتطرفة، وتعلن على البسطاء والسذج أن هذه القيم لا حياة لها إلا في ظل نظامنا الاجتماعي والاقتصادي الخاص، وفي كل يوم يتفاخر الدعاة الأيديولوجيون للنظام الرأسمالي بتميزهم عن «الماديين» من الاشتراكيين، ويتباهون بأن «الروحانية» لا حياة لها إلا بين ظهرانيهم، وربما عقدوا محالفات صريحة أو ضمنية مع هيئات دينية - كالكنيسة الكاثوليكية مثلا - يضفون بها على هذه المزاعم بركة «سماوية»، وإنك لتجد الجندي الأمريكي يقتل النساء والأطفال في فيتنام، ويلقي القنبلة الذرية في هيروشيما، وينقض على ثورات التحرر في أمريكا اللاتينية، ثم يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد راضيا، دون أن يشعر بوجود أي تناقض بين هذا المسلك وذاك، وقد يكون هذا نفاقا تمليه المصالح الخاصة لشعب أو لنظام اجتماعي معين، ولكن العجيب حقا هو أن تبادر هيئات دينية واسعة النفوذ إلى الاعتراف بأن القيم الروحية لا تجد من يحميها إلا بين أنصار النظام الاجتماعي الذي يرتكب كل هذه الشرور، والأعجب من هذا وذاك أن يصدق هذه المزاعم قطاع لا بأس به من الرأي العام في العالم، بل وفي عالمنا العربي بدوره، فيسلم بالتعارض بين القيم الروحية وبين الاشتراكية المكتملة التحقق.
ولكي تكتمل لدينا صورة الزيف الفكري الذي يسيطر على أذهان كثير من الناس في عالمنا المعاصر، ينبغي أن نتأمل نماذج من سلوك أولئك الاشتراكيين «المتطرفين»، الذين يشيع وصفهم بأنهم أعداء للقيم الروحية، وبأنهم لا يبنون سلوكهم إلا على أساس من المادية اللاإنسانية.
خذ مثلا سلوك شعب فيتنام، أيشك أحد في أن البطولات الأسطورية التي يسجلها هذا الشعب الصغير ضد أعتى جهاز عسكري وحربي عرفه الإنسان طوال تاريخه، هي انتصار قاطع وحاسم للروح على المادة؟ إن السلاح الحديث الوفير الذي تدعمه أعظم البحوث العلمية، والأموال التي تصل إلى أرقام فلكية، والثراء وكثرة العدد وضخامة الأجسام وحسن التغذية والعقول الإلكترونية، كل هذه تقف عاجزة حائرة أمام شعب فقير ضئيل العدد قليل العدة، يحيا حياة ريفية بسيطة، ولا يعتمد في تدبير أموره إلا على موارد شحيحة لا تكفي سكان بلدة متواضعة في أشد ولايات أمريكا تأخرا.
فما هي القوة التي تحرك الجسد النحيل الهزيل لتجعله يصرع أضخم جبابرة الأرض؟ أيستطيع أحد أن يزعم لحظة واحدة أن قوة المادة هي التي تمنح الفيتنامي القدرة على الصمود والانتصار على أشد أجهزة القتل والدمار كمالا، وتعطي عقله البسيط المباشر مقدرة التفوق على أدهى ما تتفتق عنه أذهان محترفي العسكرية، مقترنة بأعقد خطط العقول الإلكترونية؟ إن الفيتنامي الفرد - في هزاله وضآلة جسمه وفقره وبساطة حياته - ما هو إلا كتلة متحركة من القيم الروحية - بأرفع ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان - تقف بإصرار وإباء أمام جبروت المادة وتقهرها دون عناء؛ لأن الروح المتفانية أقوى - في نهاية الأمر - من كل مادة فجة غاشمة.
وقل مثل هذا عن أفراد كثيرين عاشوا في عالمنا هذا مثالا للتفاني في سبيل أسمى ما تعتز به البشرية من القيم: هوشي منه، الذي يأبى إلا أن يكون عظيما حتى بعد لحظة مماته، فيطلب في وصيته ألا تقام له إلا جنازة بسيطة قصيرة، «حتى لا يكون في ذلك مضيعة للجهد والمال»! وجيفارا الذي يأخذ على عاتقه تحقيق رسالة الثورة ضد الظلم في كل مكان، ويترك جاه الحكم ونفوذه ونعمه جانبا ليعود مرة أخرى مناضلا بسيطا يحارب في أقسى الظروف التي يمكن أن يتصورها إنسان.
Bog aan la aqoon