ولنبدأ أولا ببحث المشكلة من زاوية الفنان أو الأديب الخالق، عندئذ تتخذ المشكلة طابع الإنتاج المستمر الذي لا ينقطع من جانب فئة محدودة من المؤلفين، ولهذه الظاهرة أسباب متعددة، منها افتقار الميدان الفني والثقافي إلى العدد الكافي من المنتجين الخلاقين، ومنها الرغبة في الحصول على مجد أو ثراء شخص عن طريق تضخيم الإنتاج وزيادة كميته، وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فلا جدال في أن من أوضح العيوب التي ينبغي أن نعمل على تلافيها في الحقل الثقافي بكل فروعه، نزوع الكثير من المشتغلين في هذا الحقل إلى الإكثار من إنتاجهم دون أن يلقوا بالا إلى نوع هذا الإنتاج أو مستواه.
فما زال عدد غير قليل من المثقفين يقيس قدرة المؤلف في أي ميدان بمقدار إنتاجه، وما زال كثير من المؤلفين يظنون أن غمر الأسواق بإنتاجهم هو أفضل وسيلة تضمن لهم الشهرة وعلو المكانة في الأوساط الأدبية؛ ففي مجال التأليف نرى الكاتب يفخر بعدد ما ينتج أكثر مما يباهي بمستوى إنتاجه، ونرى مؤسسات تتخذ لنفسها شعارات «كمية» خالصة لا تخدم الثقافة الحقيقية في شيء. وفي ميدان الترجمة يقتصر الإنتاج على عدد قليل يكاد أفراده يحتكرون هذا الميدان الحيوي ولا تتاح لغيرهم فرصة الإنتاج فيه، حتى أصبح من أعقد مشكلات الترجمة تزاحم الأعمال على هذه القلة المحدودة وما يستتبعه ذلك من ضعف في مستوى إنتاجها، أما في الميادين الفنية على التخصص - كالتمثيل والموسيقى والسينما - فإن هذه المشكلة أوضح وأفدح بكثير؛ إذ إن الوجوه المعروفة تتكرر على الدوام، وما دام إنتاجها مطلوبا بلا انقطاع فإنها لا تبذل أية محاولة جادة لتنويع أسلوبها أو تجديد فنها أو النهوض بمستواها، بحيث يمكن القول إن هناك احتكارا حقيقيا للإنتاج الفني في هذا المجال، يؤدي إلى زيادة إنتاج البعض إلى حد الإفراط الشديد، وعجز البعض الآخر عن الحصول على «جواز مرور» يتيح لهم اختراق الحاجز الكثيف الذي فرضه الأولون على الميدان الفني.
ولا جدال في أن الأمور ستظل تسير على هذا النحو إلى أن تتسع قاعدة الإنتاج الأدبي والفني إلى الحد الذي يكفي لاستبعاد العناصر الضعيفة أو المستغلة من هذا المجال، فلا سبيل إلى القضاء على هذا الطوفان الكمي الذي تقتصر على إنتاجه فئة محدودة إلا بأن يزيد عدد المشتغلين في ميدان الفن والثقافة بوجه عام، بحيث لا يعود الإنتاج الهزيل قادرا على الصمود في الميدان، ويتجه الفنانون والأدباء تلقائيا إلى إتقان عملهم «كيفيا» حتى يكتب له البقاء، أما إذا ظل الميدان مقتصرا على فئة قليلة، فإن الإلحاح المستمر على أفرادها وخلو الميدان من المنافسة الحقيقية يدفعهم حتما إلى الابتذال، ويؤدي إلى خفض مستوى مقاييسهم على الدوام، على أن اتساع قاعدة الإنتاج في المجالات الثقافية مرتبط أوثق الارتباط بالأحوال الاجتماعية العامة للبلاد، بحيث يمكن القول إن النهوض في هذا الميدان لا يمكن أن ينفصل عن النهوض الحقيقي في المرافق التي تتحكم في حياة المجتمع، ولا سيما في جانبها الثقافي. وبعبارة أخرى فظاهرة تغليب الكم على الكيف من وجهة نظر الفنانين أو الأدباء، ليست ظاهرة منعزلة، وإنما هي ظاهرة وثيقة الارتباط بعوامل تزداد عمومية بالتدريج حتى تنتظم المجتمع بأسره. •••
أما الوجه الآخر من مشكلة الكم والكيف في الثقافة، فهو ذلك الذي يتعلق بالجمهور، أو بمن يتجه إليهم العمل الفني، ومن الواجب أن نشير منذ البداية إلى الصلة الوثيقة بين هذا الوجه والوجه السابق؛ إذ إن ضعف حساسية الجمهور يشجع الفنان على الابتذال ويهبط بمستوى إنتاجه، كما أن هبوط مستوى الفنان يؤدي بدوره إلى زيادة ضعف الحساسية الفنية للجمهور وإفساد الأذواق فيه، ومثل هذا يقال بطبيعة الحال عن التأثير المتبادل بين ارتفاع مستوى الفنان وارتفاع مستوى جمهوره. وإذن فهذان الوجهان للمشكلة مرتبطان أوثق الارتباط، ومن المستحيل تصور أحدهما منفصلا عن الآخر.
إن الأمر المشاهد فعلا هو أن كثيرا من الأعمال الفنية والأدبية الضعيفة تلقى رواجا كميا هائلا، صحيح أنه قد يظهر - من آن لآخر - عمل فني كبير يلقى رواجا ضخما بين الجمهور، غير أن من السهل تحقيق رواج أكبر بعمل تافه مبتذل، ولهذه الظاهرة تعليلات واضحة؛ ذلك لأن العمل قد يتعمد إثارة غرائز الجماهير كما في القصص الجنسية الصريحة أو أغاني «الصالات» بما فيها من تصريحات أو تلميحات، وقد يقدم ذلك العمل إلى الجمهور وسيلة يروح بها عن نفسه ويضيع بها وقت فراغه، كما في حالة أفلام الجريمة والروايات البوليسية، والأهم من هذه الأسباب كلها أن العمل التافه لا يقتضي إلا مجهودا ذهنيا ضئيلا، ومن هنا كان من السهل انتشاره بين أكبر عدد ممكن من الناس، ولكي يتضح للقارئ معنى هذه النقطة الأخيرة، فما عليه إلا أن يقارن بين حالة جمهور المستمعين إلى أغنية سطحية أو قطعة موسيقية خفيفة راقصة، وبين حالتهم عندما يستمعون إلى فن موسيقي رفيع، إنهم في الحالة الأولى يستمعون وهم يتحدثون أو يأكلون، وقد يرددون الأنغام من آن لآخر خلال انشغالهم بأعمال أخرى بعيدة عن حالة التذوق الفني كل البعد، أما في الحالة الثانية فلا بد لهم من التركيز والانصراف عن أية مشاغل أخرى، ولا بد لهم من أن يهبوا أنفسهم للعمل الفني ولا ينشغلوا إلا به، وهذا أمر يحتاج إلى جهد غير قليل، وإذا كان من الصحيح أن هذا الجهد يقدم إلى المتذوق جزاء ومكافأة كبرى في صورة ممتعة فنية أرفع وأعمق بكثير من تلك التي يوصله إليها العمل السطحي، فإن من الصحيح أيضا أن هذه الآفاق البعيدة للمتعة الجمالية بما تقتضيه من جهد وتركيز ذهني لا تتيسر للجميع؛ إذ إن الجزء الأكبر من الناس يؤثرون الراحة ويفضلون متعة سطحية بجهد قليل على متعة عميقة بجهد كبير، ومن هنا كان رواج الأعمال المبتذلة وانتشارها بين الجماهير على أوسع نطاق.
وإذن فالواقع نفسه يثبت أن الثقافة التي يغلب فيها الكم على الكيف، هي ثقافة لا تدافع عن أية قيمة إنسانية شريفة، وإنما ثقافة تخدر حواس الإنسان وتشل تفكيره وتجذب خياله إلى مجال أحلام اليقظة، وتبدد طاقته في أمور لا تجديه ولا تسهم في تقدم حياته، والواقع نفسه يشهد بأن مثل هذه الثقافة - إن كانت تستحق هذا الاسم - هي التي تزدهر وتنتشر حين تكون القيم التجارية هي وحدها المتحكمة فيما يقدم إلى عقول الناس وأرواحهم من إنتاج فني وأدبي، أما الثقافة الرفيعة فلا بد لكي تزدهر من حماية ورعاية يكفلها سيادة قيم إنسانية تعلو على دوافع الربح وتتجاوز مقتضيات السوق وعوامل العرض والطلب. وبعبارة أخرى، فهناك ارتباط لا يمكن إنكاره بين القيم الرأسمالية وبين ثقافة الكم من جهة، وبين القيم الاشتراكية وثقافة الكيف من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن هذه هي النغمة الرئيسية التي تتردد في مشروع الدستور الثقافي، فإن هناك مبادئ معينة تبدو - في ظاهرها - متعارضة مع هذه النغمة الرئيسية، أي إنها تنطوي على نوع من الدفاع عن الكم أو تغليبه على الكيف، ولكن التحليل الدقيق لهذه المبادئ يثبت أن هذا التعارض ظاهري فحسب، وأن من الممكن إدماج هذه المبادئ ضمن القاعدة الرئيسية - وهي تغليب الكيف على الكم - دون أي تناقض.
أما المبدأ الأول:
فهو قبول الفن الدعائي - ذي الأهداف الواضحة المباشرة - في الريف، وذلك - كما جاء في مشروع الدستور - من أجل تخليص الفلاح من عادة سيئة، أو غرس مادة طيبة في نفسه أو محيطه، مثل هذا الفن هو بطبيعته فن كمي، يضحى فيه بالكيف في سبيل ضمان نشر المعاني المتضمنة فيه على أوسع نطاق ممكن، غير أن لهذه التضحية طابعا مؤقتا، ولا بد أن ينتهي الأمر - على المدى الطويل - إلى عودة الاهتمام بالكيف، والعمل على رفع مستوى الشكل الفني إلى جانب المضمون. وعلى أية حال فإن هذا النوع من التوسع الكمي يختلف كل الاختلاف عن ذلك النوع الآخر الذي استهدف المشروع محاربته؛ فليس الهدف من التوسع في هذه الحالة تخدير الجماهير أو تضليلها أو إبعادها عن أهدافها الحقيقية، وإنما هو يرمي - على العكس من ذلك - إلى زيادة وعي الجماهير وتنبيهها إلى حقوقها المشروعة، وهكذا يمكننا أن نتصور - في هذه المرحلة المؤقتة - نوعا من الفن الذي يعتمد على الكم قبل الكيف، دون أن يكون ذلك الفن رجعيا على الإطلاق.
وأما المبدأ الثاني:
Bog aan la aqoon