ولعل تعقد هذه العلاقة يتكشف بوضوح لو ضربنا لها مثلا مستمدا من بلد التعصب المتسق والمنظم، أعني من الولايات المتحدة؛ فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيرا من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، ويتجنبون الأحياء والمساكن التي يسكنها «الملونون»، مع أن بلادهم الأصلية تتخذ موقفا مستنيرا من مشكلة الاضطهاد العنصري، وتنتقد الأمريكيين البيض انتقادا مرا على تعصبهم، وحين أتيحت لي فرصة الاطلاع عن كثب على أحوال الزنوج، تكشف لي السبب بوضوح؛ فقد وجدت في حياتهم بالفعل عناصر منفرة، وكانت الأحياء التي يسكنونها أقذر من أحياء البيض إلى حد يدعو الاشمئزاز، كما كان مسلك الكثيرين منهم - على المستوى الشخصي - ينم عن قدر غير قليل من الانحلال.
عند هذا المظهر الانحلالي يتوقف التفكير الذي يسير في اتجاه واحد، فيحكم على الأقلية الزنجية بالشر الكامن، ويجد مبررا للتفرقة التي تمارسها الأغلبية البيضاء ضدها، ولكن التفكير الجدلي يستطيع أن يتوصل - من وراء هذا المظهر السطحي - إلى التعقد والتشابك الحقيقي الذي تنطوي عليه علاقة التعصب؛ فانحطاط الزنجي ليس سببا للتعصب ضده فحسب، بل هو قبل ذلك نتيجة لهذا التعصب، وممارسة التعصب تزيد من تدهور الجماعة التي يمارس ضدها التعصب، وبذلك تكتمل عناصر الحركة الجدلية في علاقة التعصب؛ إذ إن من يمارس الاضطهاد يعمل - عن وعي أو بغير وعي - على إبقاء من يضطهده في حالة يكون فيها جديرا بأن يضطهد، وكلما ازداد الاضطهاد وطال أمده، اشتد التدهور الذي يبرر الاضطهاد ويخلق له المعاذير، وازداد التباعد والاستقطاب بين طرفي علاقة التعصب.
ومثل هذا يقال عن شكل آخر من أشكال التحامل، هو اتهام الأقليات بالتقوقع والتساند والتكاتف فيما بينها على حساب تعاونها وتضامنها مع الأغلبية؛ ففي هذه الحالة بدورها تؤدي ممارسة الأغلبية للاضطهاد إلى رد فعل لدى الأقلية يتمثل في مزيد من الانطواء على ذاته والحرص الشديد على مصالح أفرادها، وهذا الحرص يدفع الأغلبية إلى مزيد من الاضطهاد، فتقابلها الأقلية بمزيد من الأفعال «الدفاعية» التي تزيد من كراهية الأغلبية لها، وهكذا تتوالى الحركة الجدلية حتى تصل إلى تضاد بين قطبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
فهل لا يوجد سبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهل يتحتم أن يظل طرفا هذه العلاقة في تباعد وتنافر يتزايدان بلا انقطاع؟ إن المنطق السليم يقنعنا بأن المشكلة ليست مما يستعصي حله، وبأن هذا الحل لا بد أن يبدأ بجهود تبذلها الأغلبية لا لأنها هي الأفضل، بل لأنها هي المسيطرة، وهي التي تملك زمام المبادرة؛ فمن الممكن أن تسير الحركة الديالكتيكية في الاتجاه العكسي، وأن يتضاءل التباعد والتنافر إذا خطت الأغلبية خطوة تقربها من الأقلية، وتعيد إليها ثقتها بنفسها، وعندئذ يحق لنا أن نتوقع خطوة مماثلة من الطرف الآخر، ويستمر التقارب باطراد، فيسحق في طريقه بذور التعصب. •••
إن من الشائع - عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب - أن يقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولا، وإن تعصب هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية، ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية، غير أن هناك حالات قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف؛ أعني حالات يبدأ فيها التعصب لدى الأقلية، وتضطر الأغلبية إلى القيام بردود فعل دفاعية ضدها، أو إلى ممارسة تعصب مضاد أشد وأعنف من التعصب الأصلي.
وقد شهد عصرنا الحاضر نموذجا فريدا لهذا اللون من التعصب في روديسيا وفي جنوب أفريقيا؛ حيث تمارس أقلية بيضاء من أصل أوروبي اضطهادا جماعيا شاملا ضد أغلبية أفريقية من سكان البلد الأصليين؛ ذلك لأنه على الرغم من وجود أوجه تشابه قوية بين هذا النوع من الاضطهاد العنصري وبين نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بينهما فارقا بنائيا لا يصح تجاهله، هو أن الأول تعصب عدواني من الأقلية تجاه الأغلبية، على حين أن الأغلبية في الحالة الثانية هي التي تمارس التعصب على أقلية مغلوبة على أمرها، ولا شك في أن تعصب الأقلية ضد الأغلبية أشد ألوان التعصب شراسة؛ إذ إن هذه الأقلية تدرك أنها - من الوجهة العددية على الأقل - في مركز الضعف، ومن ثم فهي تعوض ضعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالة لا تسمح لها بالانقضاض عليها، ومن هنا كانت أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر هي تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب أفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين.
على أن تاريخ اليهودية يمكن أن يعد مثلا صارخا - امتد عبر مئات طويلة من السنين - لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية، ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن - في أية حالة من الحالات - أقلية حاكمة مسيطرة على زمام الدولة كما هي الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب أفريقيا، وإنما كانت أقلية ضعيفة من الوجهة السياسية، ومع ذلك فقد كانت - وهي في حضيض الضعف - تمارس نوعا من الاستفزاز يدفع المجتمع الذي توجد فيه إلى اضطهادها رغما عنه.
ذلك لأن أسطورة شعب الله المختار - مهما قيل عنها - تقوم بدور حقيقي في التراث اليهودي، صحيح أن المستنيرين من أبناء هذا التراث يحاولون تفسيرها بمعان غير عنصرية، ولكن هناك شواهد قاطعة على أن هذه الأسطورة تكون جزءا لا يتجزأ من التكوين العقلي لليهودي العادي، وتدفعه إلى أنواع من السلوك لا بد أن تؤدي آخر الأمر إلى التصادم بينه وبين مجتمعه.
وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبش فداء» يفرغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الإخفاق - وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه في حالات معينة على الأقل - فإن وقوع الاختيار على الأقلية اليهودية بالذات طوال ألوف السنين لكي تكون «كبش الفداء» هذا؛ هو أمر يدعو إلى التأمل العميق، ويدفعنا إلى البحث عن جذور التعصب في هذه الأقلية ذاتها قبل أن نبحث عنها في المجتمع المحيط بها.
فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر رد فعل من جانب الأغلبية على الأقلية، إنه في حقيقته اضطهاد مضاد، أما الاضطهاد الأصلي فهو ذلك الذي تمارسه الأقلية اليهودية، وهو - بطبيعة الحال - اضطهاد صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضعف، ولكنه ينقلب إلى وحشية مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، كما هي الحال في مذابح فلسطين المشهورة. وعلى ذلك فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، لقلنا عنه إنه تعصب مضاد، أو إنه في معظم حالاته رد فعل، أما الفعل الأصلي والتعصب الأساسي، فيرجع إلى خرافات وأساطير استفزازية عنيدة على الدوام تكون جزءا لا يتجزأ عن التراث اليهودي.
Bog aan la aqoon