هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهل غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثل في التقدم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدر الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدم التكنولوجي قد وجد ليبقى، وليس ثمة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحة صخرة نعلم مقدما أنها لن تتحطم.
على أن هذا لا يعني أن نقد العصر محرم على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدا لعصره بمعنى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصب على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدال في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيل بأن يوصلنا إلى نتيجة ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.
فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثير إيجابي على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالا تاما، ولنضرب لذلك مثلا واحدا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يدخل في بيته روائع الأعمال الفنية، كالنسخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصة الاستمتاع بتجارب روحية عميقة لم تكن متاحة من قبل إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مثل واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تحدثه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصور تضادا زائفا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلم به - في هذا المجال على الأقل - دون نقد أو تحليل.
على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهد ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقد يوجه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي - في جميع عهوده، أو في عهد واحد منه على الأقل - كان يتصف بكل ما يفتقر إليه الحاضر من قدرة على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عناية بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدد فترة معينة في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجة تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيا قاطعا.
وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبق إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذات طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية - بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل - فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غير سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك - بلا شك - نظرة رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتما إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قورن بأي عصر سابق.
في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كل ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم - في رأي ياسبرز - لا بد أن يكون قاصرا محدودا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسان المعرفة العلمية من أجله لا يستمد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.
وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبين حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجة دائمة إلى إيمان يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانب أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حد يحس معه المرء بأنه يتحول تدريجيا إلى شخص معاد للعلم، وبأنه يسعى عامدا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا - وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبل - بانطباع عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسع من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز - في نقده للعقل العلمي - يعطي المرء إحساسا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.
ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفات من النوع الذي يعاديه، يوجه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهم للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحة في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» - وهو كتيب ينتمي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - يوجه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلا منهما مفتقرا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزا على إيمان متنكر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفة محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.
فكل علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقا، وتعبير «العلم الشامل» تناقض في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوين مركب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوع من المنهجية المنظمة التي تعلمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدما ونوجه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلم أداة للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.
على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوز حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائما من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم ، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلة لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل - في رأي ياسبرز - أشكالا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعا شاعريا عند نيتشه أو علميا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكر أشبه بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدا كبيرا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.
Bog aan la aqoon