وتكبر الأيام ويكبر معها.
وتكبر «سناء»، ويظل هو يذهب إلى المدرسة، وتمكث «سناء» في البيت تتهيأ لكي تكون ربة دار. كان أبوها لا يرى أن تتعلم البنت أكثر من القراءة والكتابة، فاحتجزها حين تمت دراستها الابتدائية. لكنه كان يراها كل يوم عند مآبه من مدرسته، كان يلقاها بعينيه عند الشرفة، كأنما تترقب عودته، وكان يلقاها بعد ذلك بحديثه كلما اجتمعت الأسرتان في المساء تتحدثان، كان يقص عليها كل ما حدث، وكانت وحدها التي تستمع بين خمس نفوس تجلس في الحجرة، وكان لها وحدها يقص، وكانت عيناها فقط هما اللتان ينظر إليهما، وكان في حياته هو و«سناء» كل شيء يعنيه.
ويأخذ عقله ذات يوم في التفكير إثر إحساس غريب؛ فقد اصطدمت يده عفوا بصدر «سناء»، فأحس شيئا لا يدري كنهه، وقد لمست يده يدها مرة ثانية، فأحس الإحساس الغامض نفسه، ثم مرة ثالثة ... جلسا يتصفحان مجلة، وقد أوشك رأساهما أن يتلاصقا، فأحس بأنفاسها تميل نحو وجهه دافئة، فتبعث ذلك الإحساس. وأخذ عقله يفكر، وأخذت حواسه تنمو، وكانت الطبيعة قد عاونته على أن يفهم، وكان الناس قد ساهموا أيضا في ذلك، وترامت إلى أذنيه أقاصيص رجال أحبوا نساء، وقرأ أقاصيص حب، وسمع أغاني تدور حول الرجل والمرأة ...
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم أيضا، حين عاد إلى المنزل وقد أدرك أنه لم يعد طفلا، ولم تعد «سناء» طفلة، عبثا حاول في ذلك اليوم أن يملك صوته المرتعش، وعبثا حاول أن يستعيد نظراته الساذجة الغريرة، بل عبثا حاول أن يرد عينيه عن نظراتهما الملتهبة التي بدأت ترى في «سناء» غير عينيها.
ولمس يدها في ذلك اليوم عن قصد، وأحس بها كما لم يحس من قبل، ومال حديثه عن شئون الدنيا، وحمل تحت ألفاظه كلمات مبهمة أحس أنه يدريها وتدريها، وقال لها دون ألفاظ إنه لم يعد طفلا ولم تعد طفلة ...
وتطور أمرهما سريعا؛ فقد اختطفت منه مجلة وحاول أن يستعيدها . طالما حدث ذلك من قبل، لكنه كان يحدث أمام الأسرة دون أن يثير شيئا. في هذه المرة جرت إلى حجرة أخرى، ولوى ذراعها فالتقى وجهاهما وتلامست شفاههما، وأدركا أنهما يفعلان شيئا لا يجوز أن تراه الأسرة، وأدركا أنهما بحاجة دائمة إلى هذا الشيء، وفي حاجة إلى أن يحدث بعيدا عن الأنظار.
والتقى وجهاهما بعد ذلك كثيرا، والتقى قلباهما أيضا، بل اجتمع هذان القلبان في قلبه هو حينا طويلا، بل وقفا على حافة تفكيره، يصبغان هذا التفكير ويوجهانه. أصبح ذهابه إلى المدرسة لا يعني ما كان يعنيه قبلا من تلقي العلم، وإنما فراق «سناء»، وأصبحت أوبته منها لا تعني انتهاء الدراسة، وإنما نهاية ساعات الفراق.
هل كانت تدري الأسرة شيئا؟
هل تعلم أمها ما بينهما؟ ذلك ما لم يكن يدريه.
أما أمه هو فإنه لا يزال يذكر ذلك اليوم الرهيب، حين وقف يحكم رباط رقبته أمام المرآة، ووقفت هي خلفه وقد بدا وجهها الحبيب أمامه، وارتفع صوتها الحنون هادئا رقيقا كأنما يسير في أخدود خطر: انت بينك وبين «سناء» حاجة يا ابني؟
Bog aan la aqoon