وأجاب ببراءة: وهذا يا أخي ما هو؟
وضحك الأخ الكبير، ولكن ما لبث أن تملكته الحيرة إزاء سؤال الصغير الساذج: هو إنسان، ببغاء من نوع آخر.
وقال محمود، وهو يضحك بكل ما وسعت طفولته من صفاء: إنه كالببغاء إنه كالبب... وغلبه الضحك السعيد، وضاعت بقية الحروف في ثنايا الحنجرة المنتشية.
وسارا في حديقة الحيوان من جديد يستأنفان جولتهما، ورأى محمود في هذه الجولة كل الطيور، وكل الزواحف وكل الحيوانات، وأحس قلبه الرعدة لصوت الأسد، وطفق يستمع إلى قصص أخيه الضابط عن الأسود التي رآها في السودان، وكان يمتلئ زهوا كلما قص عليه أخوه مغامرة من مغامراته التي صاد فيها الأسود، وعاد من رحلته آخر اليوم بنفس عامرة بالأحاسيس، وصحا في الليل مرات على زئير الأسد ودمدمة رصاص أخيه، وهو يحصد أرواح الأسود كأنه يقطف ثمار شجرة مكتظة بالثمار، ومرت الأعوام وكبر محمود وصار طالبا بالجامعة.
وتعود أن يذهب مع أصدقائه كل أسبوع إلى حديقة الحيوان، يجولون فيها حتى يغلبهم التعب، فيأوون إلى جزيرة الشاي ليريحوا أجسادهم، ويقطعون الوقت حتى موعد الغداء في تسلية بريئة؛ يلقون قطع الخبز الصغيرة للطيور السابحة على سطح البحيرة، ويلقون نظرات للعيون السابحة خلف الموائد، كانت هذه العيون تتجمع حول فتات النظرات العابرة كما يتجمع البط على فتات الخبز، وتبدأ معركة الكسب لحظة ثم تنتهي حين تظفر بطة وحدها بالفتات، وحين تظفر عين وحدها بالنظرة العابرة، وعندما تحين الظهيرة الراكدة كان البط يأوي إلى الصخور قانعا بما كسب من فتات، وتأوي العيون إلى الأجفان قانعة بما نالت من نظرات، وتبدأ فترة خمول، كان محمود ورفاقه يتغلبون عليها بالتجول مرة ثانية في جنبات الحديقة، وينتهي المطاف عند الباب قريبا من أقفاص الببغاوات، هناك كانت تطول وقفتهم، يتأملون الألوان الزاهية كيف تجمعت على جسد واحد، وفي كل مرة كان محمود يذكر أول مرة رأى فيها الببغاء، ورأى الرجل الزاهي الألوان كالببغاء، يذكر جملة أخيه: إنه ببغاء من نوع آخر.
وخرج محمود إلى الحياة بعد سنوات، وعمل موظفا بإحدى الوزارات، وجلس في حجرة مع أحمد أفندي، أشهر شخصية في موظفي الوزارة.
ودهش محمود أول يوم دخل فيه إلى حجرة عمله، حين قال له زملاؤه الجدد كأنهم على ميعاد: ألم تتعرف بأحمد أفندي؟
وكان عهده بهذا الاسم منذ نصف ساعة، حين قال له مدير المستخدمين، وهو يشرح له عمله، وينبئه بالمكان الذي اختير له: إنك سعيد يا بني؛ لأنك ستشتغل في قلم المراجعة، فرئيسك أو على الأصح أكبر زملائك سنا ومرتبا هو الرجل الصالح أحمد أفندي.
لذلك أجاب زملاءه من غير دهشة: لم يحصل لي الشرف بعد، أرجو أن أتعرف إليه قريبا، إنه ليس هنا على ما أظن؟
وأجاب زملاؤه في صوت واحد: إنه في الحج، عقبال عندك.
Bog aan la aqoon